88

تعريف المستدركات وبيان كم حال أحاديث  مستدرك الحاكم النيسابوري إذ كل الضعيف160.حديثا وقد احصاها الذهبي فقال 100 حديث وذكر ابن الجوزي في الضعفاء له 60 حديثا أُخر فيكون  كل الضعيف في كل المستدرك 160 حديثا من مجموع 8803=الباقي الصحيح =8743.فهذه قيمة رائعة لمستدرك الحاكم

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

السبت، 20 أغسطس 2022

مجلد1.و2.كتاب: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام. للذهبي

 

1. تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام.
تأليف: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
في آخر الجزء الحادي الخمسون في الصفحة 442 وجد النص التالي:
(بعون الله وتوفيقه، انتهى تحقيق هذه الطبقة التاسعة والستين من هذا السفر الجليل ' تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام ' للمؤرخ الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز المعروف بالذهبي، المتوفى بدمشق 748 هـ. رحمه الله، وضبط النص، وتخريج الأحاديث والأشعار، وتوثيق مادته، والتعليق عليه، والإحالة إلى المصادر، وشرح المصطلحات، وصناعة الفهارس، على يد خادم العلم وطالبه، راجي عفو ربه، والفقير إليه، الحاج الأستاذ الدكتور أبي غازي عمر عبد السلام تدمري، الطرابلسي مولدا وموطنا، الحنفي مذهبا، أستاذ التاريخ الإسلامي في الجامعة اللبنانية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، المشرف على رسائل الماجستير والدكتوراه بالفرعين الأول والثالث، عضو الهيئة العربية العليا لإعادة كتابة تاريخ الأمة في اتحاد المؤرخين العرب، وتم إنجاز التحقيق مساء الأربعاء في الثاني عشر من شهر رمضان المبارك سنة 1419هـ، الموافق للثلاثين من شهر كانون الأول (ديسمبر) 1998 م. وذلك في منزله بساحة السلطان الأشرف خليل بن قلاوون (النجمة سابقا) بمدينة طرابلس الشام المحروسة، جعلها الله ثغرا ورباطا مطمئنا بحفظه ورعايته وسائر بلاد المسلمين. ويسر الله لي إنجاز تحقيق الطبقة السبعين الأخيرة من هذا الكتاب، وختم لي بخير، منه استمد العون، وعليه الاتكال، وهو الموفق والمعين، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد أشرف المرسلين). تم تحقيق هذا الجزء على نسختين هما: نسخة المتحف البريطاني رقم (4810) ونسخة المتحف البريطاني رقم (1540/51) المصورة بدار الكتب المصرية رقم (42) تاريخ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(/)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 11
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
قال الشيخ الإمام العالم العامل الناقد البارع الحافظ الحجة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي رحمه الله تعالى وأدام النفع به وغفر له ولوالديه: الحمد لله [موفق من] توكل عليه القيوم الذي ملكوت كل شيء بيديه حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله رحمة للعالمين وخاتما للنبيين وحرزا للأميين وإماما للمتقين بأوضح دليل وأفصح تنزيل وأفسح سبيل وأنفس تبيان وأبدع برهان. اللهم آته الوسيلة وابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المجاهدين وأزواجه أمهات المؤمنين. أما بعد فهذا كتاب نافع إن شاء الله ونعوذ بالله من علم لا ينفع ومن

(1/11)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 12
دعاء لا يسمع جمعته وتعبت عليه واستخرجته من عدة تصانيف يعرف به الإنسان مهم ما مضى من التاريخ من أول تاريخ الإسلام إلى عصرنا هذا من وفيات الكبار من الخلفاء والقراء والزهاد والفقهاء والمحدثين والعلماء والسلاطين والوزراء والنحاة والشعراء ومعرفة طبقاتهم وأوقاتهم وشيوخهم وبعض أخبارهم بأخصر عبارة وألخص لفظ وما تم من الفتوحات المشهورة والملاحم المذكورة والعجائب المسطورة من غير تطويل ولا استيعاب ولكن أذكر المشهورين ومن يشبههم وأترك المجهولين ومن يشبههم وأشير إلى الوقائع الكبار إذ لو استوعبت التراجم والوقائع لبلغ الكتاب مائة مجلدة بل أكثر لأن فيه مائة نفس يمكنني أن أذكر أحوالهم في خمسين مجلدا. وقد طالعت على هذا التأليف من الكتب مصنفات كثيرة ومادته من: دلائل النبوة للبيهقي. وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن إسحاق. ومغازيه لابن عائذ الكاتب. والطبقات الكبرى لمحمد بن سعد كاتب الواقدي.

(1/12)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 13
وتاريخ أبي عبد الله البخاري. وبعض تاريخ أبي بكر أحمد بن أبي خيثمة. وتاريخ يعقوب الفسوي. وتاريخ محمد بن المثنى العنزي وهو صغير. وتاريخ أبي حفص الفلاس. وتاريخ أبي بكر بن أبي شيبة. وتاريخ الواقدي. وتاريخ الهيثم بن عدي. وتاريخ خليفة بن خياط. والطبقات له.

(1/13)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 14
وتاريخ أبي زرعة الدمشقي. والفتوح لسيف بن عمر. وكتاب النسب للزبير بن بكار. والمسند للإمام أحمد. وتاريخ المفضل بن غسان الغلابي. والجرح والتعديل عن يحيى بن معين. والجرح والتعديل لعبد الرحمن بن أبي حاتم. ومن عليه رمز فهو في الكتب الستة أبو بعضها لأنني طالعت مسودة (تهذيب الكمال) لشيخنا الحافظ أبي الحجاج يوسف المزي ثم طالعت المبيضة كلها. فمن على اسمه (ع) فحديثه في الكتب السنة ومن عليه (4) فهو في السنن الأربعة ومن عليه (خ) فهو في البخاري ومن عليه (م) ففي مسلم ومن عليه (د) ففي سنن أبي داود ومن عليه (ت) ففي جامع الترمذي ومن عليه (ن) ففي سنن النسائي ومن عليه (ق) ففي سنن ابن ماجه. وإن كان الرجل في الكتب إلا فرد كتاب فعليه (سوى ت) مثلا أو (سوى د).

(1/14)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 15
وقد طالعت أيضا عليه من التواريخ التي اختصرتها. تاريخ أبي عبد الله الحاكم. وتاريخ أبي سعيد بن يونس. وتاريخ أبي بكر الخطيب. وتاريخ دمشق لأبي القاسم الحافظ. وتاريخ أبي سعد بن السمعاني. والأنساب له. وتاريخ القاضي شمس الدين بن خلكان. وتاريخ العلامة شهاب الدين أبي شامة. وتاريخ الشيخ قطب الدين بن اليونيني وتاريخه ذيل على تاريخ مرآة الزمان للواعظ شمس الدين يوسف سبط ابن الجوزي وهما على الحوادث والسنين. وطالعت أيضا كثيرا من: تاريخ الطبري.

(1/15)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 16
وتاريخ ابن الأثير. وتاريخ ابن الفرضي. وصلته لابن بشكوال. وتكملتها لابن الأبار. والكامل لابن عدي. وكتبا كثيرة وأجزاء عديدة وكثيرا من: مرآة الزمان. ولم يعتن القدماء بضبط الوفيات كما ينبغي بل اتكلوا على حفظهم فذهبت وفيات خلق من الأعيان من الصحابة ومن تبعهم إلى قريب زمان أبي عبد الله الشافعي فكتبنا أسماءهم على الطبقات تقريبا ثم اعتنى المتأخرون بضبط وفيات العلماء وغيرهم حتى ضبطوا جماعة فيهم جهالة بالنسبة إلى معرفتنا لهم فلهذا حفظت وفيات خلق من المجهولين وجهلت وفيات أئمة من المعروفين. وأيضا فإن عدة بلدان لم يقع إلينا أخبارها إما لكونها لم يؤرخ علماءها أحد من الحفاظ أو جمع لها تاريخ ولم يقع إلينا. وأنا أرغب إلى الله تعالى وأبتهل إليه أن ينفع بهذا الكتاب وأن يغفر لجامعه وسامعه ومطالعه وللمسلمين آمين.

(1/16)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 17
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر نسب سيد البشر
محمد رسول الله أبو القاسم سيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم. هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب - واسم عبد المطلب شيبة بن هاشم - واسمه عمرو بن عبد مناف - واسمه المغيرة بن قصي - واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة - واسمه عامر - بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليهما وعلى نبينا وسلم - بإجماع الناس. لكن اختلفوا فيما بين عدنان وبين إسماعيل من الآباء فقيل بينهما تسعة آباء وقيل سبعة وقيل مثل ذلك عن جماعة. لكن اختلفوا في أسماء بعض الآباء وقيل بينهما خمسة عشر أبا وقيل بينهما أربعون أبا وهو بعيد وقد ورد عن طائفة من العرب ذلك.

(1/17)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 18
وأما عروة بن الزبير فقال: ما وجدنا من يعرف ما وراء عدنان ولا قحطان إلا تخرصا. وعن ابن عباس قال: بين معد بن عدنان وبين إسماعيل ثلاثون أبا قاله هشام بن الكلبي النسابة عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس ولكن هشام وأبوه متروكان. وجاء بهذا الإسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتهى إلى عدنان أمسك ويقول: (كذب النسابون) قال الله تعالى: {وقرونا بين ذلك كثيرا} . وقال أبو الأسود يتيم عروة: سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة وكان من أعلم قريش بأنسابها وأشعارها يقول: ما وجدنا أحدا

(1/18)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 19
يعلم ما وراء معد بن عدنان في شعر شاعر ولا علم عالم. قال هشام بن الكلبي: سمعت من يقول: إن معدا كان على عهد عيسى ابن مريم عليه السلام. وقال أبو عمر بن عبد البر: كان قوم من السلف منهم عبد الله بن مسعود ومحمد بن كعب القرظي وعمرو بن ميمون الأودي إذا تلوا {والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله} قالوا: كذب النسابون قال أبو عمر: معنى هذا عندنا على غير ما ذهبوا إليه وإنما المعنى فيها والله أعلم: تكذيب من ادعى إحصاء بني آدم. وأما أنساب العرب فإن أهل العلم بأيامها وأنسابها قد وعوا وحفظوا جماهيرها وأمهات قبائلها واختلفوا في بعض فروع ذلك. والذي عليه أئمة هذا الشأن أنه: عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور ابن تيرح ين يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل بن آزر - واسمه تارح - بن ناحور بن ساروغ بن راغو

(1/19)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 20
ابن فالخ بن عيبر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام بن لمك بن متوشلخ بن خنوخ - وهو إدريس عليه السلام - ابن يرد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شيث بن آدم أبي البشر عليه السلام قال: وهذا الذي اعتمده محمد بن إسحاق في السيرة وقد اختلف أصحاب ابن إسحاق عليه في بعض الأسماء. قال ابن سعد: الأمر عندنا الإمساك عما وراء عدنان إلى إسماعيل. وروى سلمة الأبرش عن ابن إسحاق هذا النسب إلى يشجب سواء ثم خالفه فقال يشجب بن يانش بن ساروغ بن كعب بن العوام ابن قيذار بن نبت بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهم السلام. وقال ابن إسحاق: يذكرون أن عمر إسماعيل بن إبراهيم الخليل مائة وثلاثون سنة وأنه دفن في الحجر مع أمه هاجر. وقال عبد الملك بن هشام: حدثني خلاد بن قرة بن خالد السدوسي عن شيبان بن زهير عن قتادة قال: إبراهيم خليل الله هو ابن تارح بن ناحور بن أشرع بن أرغو بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ ابن يرد بن مهلاييل بن قاين بن أنوش بن شيث بن آدم.

(1/20)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 21
وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبه أنه وجد نسب إبراهيم عليه السلام في التوراة: إبراهيم بن تارح بن ناحور ابن شروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن متشالخ بن خنوخ - وهو إدريس - بن يارد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم. وقال ابن سعد: ثنا هشام بن الكلبي قال: علمني أبي وأنا غلام نسب النبي صلى الله عليه وسلم محمد الطيب المبارك ولد عبد الله بن عبد المطلب - واسمه شيبة الحمد - بن هاشم - واسمه عمرو - بن عبد مناف - واسمه المغيرة - بن قصي - واسمه زيد - بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. قال أبي: وبين معد وإسماعيل نيف وثلاثون أبا وكان لا يسميهم ولا ينفذهم.

(1/21)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 22
قلت: وسائر هذه الأسماء أعجمية وبعضها لا يمكن ضبطه بالخط إلا تقريبا. وقد قيل في قوله تعالى: {وفصيلته التي تؤويه} : فصيلة النبي صلى الله عليه وسلم بنو عبد المطلب أعمامه وبنو أعمامه وأما فخذه فبنو هاشم قال: وبنو عبد مناف بطنه وقريش عمارته وبنو كنانة قبيلته. ومضر شعبة. قال الأوزاعي: حدثني شداد أبو عمار حدثني واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصطفى الله كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى هاشما من قريش واصطفاني من بني هاشم رواه مسلم. وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب فهي أقرب نسبا إلى كلاب من زوجها عبد الله برجل.
مولده المبارك صلى الله عليه وسلم
أخبرنا أبو المعالي أحمد بن إسحاق نا أحمد بن أبي الفتح والفتح ابن عبد الله قالا: أنبأ محمد بن عمر الفقيه أنا أبو الحسين أحمد بن محمد ابن النقور أنا علي بن عمر الحربي ثنا أحمد بن الحسن الصوفي ثنا يحيى بن معين ثنا حجاج بن محمد ثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم الفيل صحيح.

(1/22)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 23
وقال ابن إسحاق: حدثني المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قيس بن مخرمة بن المطلب قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل. كنا لدين أخرجه الترمذي وإسناده حسن. وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي: ثنا سليمان النوفلي عن أبيه عن محمد بن جبير بن مطعم قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل وكانت عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة وبني البيت على رأس خمس وعشرين سنة من الفيل. وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة من الفيل. قال شباب العصفري: ثنا يحيى بن محمد ثنا عبد العزيز بن عمران حدثني الزبير بن موسى عن أبي الحويرث سمعت قباث بن أشيم يقول: أنا أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أكبر مني وقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل.

(1/23)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 24
يحيى هو أبو زكير وشيخه متروك الحديث. وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة وكان بينه وبين مبعثه وبين أصحاب الفيل سبعون سنة. كذا قال. وقد قال إبراهيم بن المنذر وغيره. هذا وهم لا يشك فيه أحد من علمائنا. إن رسول الله ولد عام الفيل وبعث على رأس أربعين سنة من الفيل. وقال يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن ابزى قال:

(1/24)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 25
كان بين الفيل وبين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين. وهذا قول منقطع. وأضعف منه ما روى محمد بن عثمان بن أبي شيبة وهو ضعيف قال: ثنا عقبة بن مكرم ثنا المسيب بن شريك عن شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده قال: حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء المحرم وولد يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل وهذا حديث ساقط كما نرى. وأوهى منه ما يروى عن الكلبي - وهو متهم ساقط عن أبي صالح باذام عن ابن عباس قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفيل بخمس عشرة سنة. قد تقدم ما يبين كذب هذا القول عن ابن عباس بإسناد صحيح. قال خليفة بن خياط: المجمع عليه أنه ولد عام الفيل. وقال الزبير بن بكار: ثنا محمد بن حسن عن عبد السلام بن عبد الله عن معروف بن خربوذ وغيره من أهل العلم قالوا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل وسميت قريش آل الله وعظمت في العرب ولد لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول وقيل: من رمضان يوم الإثنين حين طلع الفجر. وقال أبو قتادة الأنصاري: سأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقول في صوم يوم الاثنين؟ قال: ذاك يوم ولدت فيه وفيه أوحي إلي. أخرجه مسلم.

(1/25)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 26
وقال عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي عن الزهري عن سعيد بن المسيب وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد في ليلة الاثنين من ربيع الأول عند ابهرار النهار. وروى ابن إسحاق قال: حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة قال: حدثني من شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت قال: إني لغلام يفعة إذ سمعت يهوديا وهو على أطمة يثرب يصرخ: يا معشر يهود فلما اجتمعوا إليه قالوا: ويلك ما لك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي يبعث به الليلة. وقال ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن حنش عن ابن عباس قال: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين ونبئ يوم الإثنين. وخرج من مكة يوم الإثنين وقدم المدينة يوم الإثنين وفتح مكة يوم الإثنين ونزلت سورة المائدة يوم الإثنين وتوفي يوم الإثنين. رواه أحمد في مسنده وأخرجه الفسوي في تاريخه. وقال شيخنا أبو محمد الدمياطي في السيرة من تأليفه عن أبي

(1/26)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 27
جعفر محمد بن علي قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لعشر ليال خلون من ربيع الأول وكان قدوم أصحاب الفيل قبل ذلك في النصف من المحرم. وقال أبو معشر نجيح: ولد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول. قال الدمياطي: والصحيح قول أبي جعفر قال: ويقال: إنه ولد في العشرين من نيسان. وقال أبو أحمد الحاكم: ولد بعد الفيل بثلاثين يوما. قاله بعضهم: قال: وقيل بعده بأربعين يوما. قلت: لا أبعد أن الغلط وقع من هنا على من قال ثلاثين عاما أو أربعين عاما فكأنه أراد أن يقول يوما فقال عاما. وقال الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عبد المطلب ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه وصنع له مأدبة وسماه محمدا. وهذا أصح مما رواه ابن سعد: أنبأ يونس بن عطاء المكي ثنا الحكم بن أبان العدني ثنا عكرمة عن ابن عباس عن أبيه العباس قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم مختونا مسرورا فأعجب ذلك عبد المطلب وحظي عنده وقال: ليكونن لابني هذا شأن. تابعه سليمان بن سلمة الخبائري عن يونس لكن أدخل فيه بين

(1/27)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 28
يونس والحكم: عثمان بن ربيعة الصدائي. قال شيخنا الدمياطي: ويروى عن أبي بكرة قال: ختن جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طهر قلبه. قلت: هذا منكر.

(1/28)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 29
أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وكنيته
الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن لي أسماء: أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب قال الزهري: والعاقب الذي ليس بعده نبي. متفق عليه. وقال الزهري: وقد سماه الله رؤوفا رحيما. وقال حماد بن سلمة عن جعفر بن أبي وحشية عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا محمد وأنا

(1/29)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 30
أحمد وأنا الحاشر وأنا الماحي والخاتم والعاقب. وهذا إسناد قوي حسن. وجاء بلفظ آخر قال: أنا أحمد ومحمد والمقفي والحاشر ونبي الرحمة ونبي الملحمة. وقال عبد الله بن صالح: ثنا الليث حدثني خالد بن يزيد عن سعيد ابن أبي هلال عن عقبة بن مسلم عن نافع بن جبير بن مطعم: أنه دخل على عبد الملك بن مروان فقال له: أتحصي أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان جبير يعدها؟ قال: نعم هي ستة: محمد وأحمد وخاتم وحاشر وعاقب وماح. فأما حاشر فبعث مع الساعة نذيرا لكم وأما عاقب فإنه عقب الأنبياء وأما ماحي فإن الله محا به سيئات من اتبعه. فأما عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: أنا محمد وأحمد والحاشر والمقفي ونبي التوبة والملحمة رواه مسلم.

(1/30)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 31
وقال وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا قال: أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة. ورواه زياد بن يحيى الحساني عن سعير بن الخمس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة موصولا. وقد قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} . وقال وكيع: عن إسماعيل الأزرق عن ابن عمر عن ابن الحنفية قال: يس محمد صلى الله عليه وسلم. وعن بعضهم قال: لرسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن خمسة أسماء: محمد وأحمد وعبد الله ويس وطه. وقيل: طه لغة لعك أي يا رجل فإذا قلت لعكي: يا رجل لم يلتفت فإذا قلت له: طه التفت إليك. نقل هذا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس والكلبي متروك. فعلى هذا القول لا يكون طه من أسمائه.

(1/31)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 32
وقد وصفه الله تعالى في كتابه فقال: رسولا ونبيا أميا وشاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ورؤوفا رحيما ومذكرا ومدثرا ومزملا وهاديا إلى غير ذلك. ومن أسمائه: الضحوك والقتال. جاء في بعض الآثار عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أنا الضحوك أنا القتال. وقال ابن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق وفي التوراة فيما بلغنا أنه حرز للأميين وأن اسمه المتوكل. ومن أسمائه الأمين. وكانت قريش تدعوه به قبل نبوته. ومن أسمائه الفاتح وقثم. وقال علي بن زيد بن جدعان: تذاكروا أحسن بيت قالته العرب فقالوا: قول أبي طالب في النبي صلى الله عليه وسلم:
وشق له من اسمه ليجله..... فذو العرش محمود وهذا محمد)
وقال عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن عبد الله قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة فقال: أنا محمد وأنا أحمد وأنا نبي الرحمة ونبي التوبة والمقفي وأنا الحاشر ونبي الملحمة قال:

(1/32)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 33
المقفي الذي ليس بعده نبي رواه الترمذي في الشمائل وإسناده حسن وقد رواه حماد بن سلمة عن عاصم فقال عن زر عن حذيفة نحوه. ويروى بإسناد واه عن أبي الطفيل قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لي عشرة أسماء فذكر منها الفاتح والخاتم. قلت: وأكثر ما سقنا من أسمائه صفات له لا أسماء أعلام. وقد تواتر أن كنيته أبو القاسم. قال ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم: صلى الله عليه وسلم: سموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي متفق عليه. وقال محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجمعوا اسمي وكنيتي أنا أبو القاسم الله يعطي وأنا أقسم.

(1/33)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 34
وقال ابن لهيعة عن عقيل عن الزهري عن أنس قال: لما ولد إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية كاد يقع في نفسه منه حتى أتاه جبريل عليه السلام - قال: السلام عليك يا أبا إبراهيم. ابن لهيعة ضعيف.

(1/34)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 35
ذكر ما ورد في قصة سطيح وخمود النيران ليلة المولد وانشقاق الإيوان
قال ابن أبي الدنيا وغيره: ثنا علي بن حرب الطائي أنا أبو يعلى أيوب بن عمران البجلي حدثني مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه وكان قد أتت عليه مائة وخمسون سنة قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة وغاضت بحيرة ساوة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها فلما أصبح كسرى أفزعه ما رأى من شأن إيوانه فصبر عليه تشجعا ثم رأى أن لا يستر ذلك عن وزرائه ومرازبته فلبس تاجه وقعد على سريره وجمعهم فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ قالوا: لا إلا أن يخبرنا الملك. فبينا هم على ذلك إذ ورد عليهم كتاب

(1/35)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 36
بخمود النار فازداد غما إلى غمه فقال الموبذان: وأنا قد رأيت - أصلح الله الملك - في هذه الليلة رؤيا ثم قص عليه رؤياه فقال: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ قال: حدث يكون في ناحية العرب وكان أعلمهم في أنفسهم فكتب كسرى عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر أما بعد فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه. فوجه إليه بعبد المسيح بن حيان بن بقيلة الغساني فلما قدم عليه قال له: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليسألني الملك فإن كان عندي علم إلا أخبرته بمن يعلمه فأخبره بما رأى فقال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح قال: فائته فسله عما سألتك وائتني بجوابه فركب حتى أتى على سطيح وقد أشفى على الموت فسلم عليه وحياه فلم يحر سطيح جوابا فأنشأ عبد المسيح يقول:
أصم أم يسمع غطريف اليمن..... أم فاد فازلم به شأو العنن)
(يا فاصل الخطة أعيت من ومن..... أتاك شيخ الحي من آل سنن)
(وأمه من آل ذئب بن حجن..... أزرق نهم الناب صرار الأذن)
(أبيض فضفاض الرداء والبدن..... رسول قيل العجم يسري للوسن)

(1/36)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 37
تجوب بي الأرض علنداة شزن..... ترفعني وجنا وتهوي بي وجن)
(لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن..... كأنما أخرج من جوف ثكن)
(حتى أتى عاري الجآجي والقطن..... تلفه في الريح بوغاء الدمن)
فقال سطيح: عبد المسيح جاء إلى سطيح وقد أوفى على الضريح بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وظهر صاحب الهراوة وفاض وادي السماوة وخمدت نار فارس فليس الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت. ثم قضى سطيح مكانه وسار عبد المسيح إلى رحله وهو يقول:
شمر فإنك ماضي الهم شمير..... لا يفزعنك تفريق وتغيير)

(1/37)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 38
إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم..... فإن ذا الدهر أطوار دهارير)
(فربما ربما أضحوا بمنزلة..... تهاب صولهم الأسد المهاصير)
(منهم أخو الصرح بهرام وإخوته..... والهرمزان وسابور وسابور)
(والناس أولاد علات فمن علموا..... أن قد أقل فمحقور ومهجور)
(وهم بنو الأم إما إن رأوا نشبا..... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور)
(والخير والشر مصفودان في قرن..... فالخير متبع والشر محذور)
فلما قدم على كسرى أخبره بقول سطيح فقال كسرى: إلى متى يملك منا أربعة عشر ملكا تكون أمور فملك منهم عشرة أربع سنين وملك الباقون إلى آخر خلافة عثمان رضي الله عنه. هذا حديث منكر غريب. وبالإسناد إلى البكائي عن ابن إسحاق قال: كان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة فرأى رؤيا هالته وفظع منها فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه فقال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني فأخبروني بها وبتأويلها قالوا: أقصصها علينا نخبرك بتأويلها قال: إني إن أخبرتكم عنها لم أطمئن إلى خبركم عن

(1/38)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 39
تأويلها إنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها فقيل له: إن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق فإنه ليس أحد أعلم منهما فبعث إليهما فقدم سطيح قبل شق فقال له: رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة. قال: ما أخطأت منها شيئا فما تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش ليهبطن أرضكم الحبش فليملكن ما بين أبين إلى جرش. فقال الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائط موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده؟ قال: بل بعده بحين أكثر من ستين أو سبعين من السنين ثم يقتلون ويخرجون هاربين. قال: من يلي ذلك من إخراجهم؟ قال: يليه إرم ذي يزن يخرج عليهم من عدن فلا يترك أحدا باليمن.

(1/39)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 40
قال: أفيدوم ذلك؟ قال: بل ينقطع بنبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي. قال: وممن هو؟ قال: من ولد فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم يوم يجمع فيه الأولون والآخرون يسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرني؟ قال: نعم والشفق والغسق والفلق إذا اتسق إن ما أنبأتك به لحق. ثم قدم عليه شق فقال له كقوله لسطيح وكتمه ما قال لسطيح لينظر أيتفقان قال: نعم رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة فلما قال ذلك عرف أنهما قد اتفقا فوقع في نفسه فجهز أهل بيته إلى العراق وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ فأسكنهم الحيرة فمن بقية ولد ربيعة بن نصر: النعمان بن المنذر فهو في نسب اليمن النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر.
باب منه
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خرجت من لدن آدم من نكاح

(1/40)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 41
غير سفاح. هذا حديث ضعيف فيه متروكان: الواقدي وأبو بكر بن أبي سبرة. وورد مثله عن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي بن الحسين عن علي وهو منقطع إن صح عن جعفر بن محمد ولكن معناه صحيح. وقال خالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق عن ابن أبي الجدعاء قال: قلت: يا رسول الله متى كنت نبيا؟ قال: وآدم بين الروح والجسد. وقال منصور بن سعد وإبراهيم بن طهمان واللفظ له: ثنا بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم متى كنت نبيا؟ قال: وآدم بين الروح والجسد. وقال الترمذي: ثنا الوليد بن شجاع ثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة سئل النبي صلى الله عليه وسلم: متى وجبت لك النبوة؟ قال: بين خلق آدم ونفخ الروح فيه قال الترمذي: حسن غريب. قلت: لولا لين في الوليد بن مسلم لصححه الترمذي.

(1/41)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 42
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال: أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي حين حملت بي كأن نورا خرج منها أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام. وروينا بإسناد حسن - إن شاء الله - عن العرباض بن سارية أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إني عبد الله وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم عن ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى لي ورؤيا أمي التي رأت. وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام. رواه الليث وابن وهب عن معاوية بن صالح سمع سعيد بن سويد يحدث عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض فذكره. ورواه أبو بكر بن أبي مريم الغساني عن سعيد بن سويد عن العرباض نفسه. وقال فرج بن فضالة: ثنا لقمان بن عامر سمعت أبا أمامة قال قلت: يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال: دعوة إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام. رواه أحمد في مسنده عن أبي النضر عن فرج.

(1/42)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 43
قوله: لمنجدل أي ملقى وأما دعوة إبراهيم فقوله: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم} وبشارة عيسى قوله: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} . وقال أبو ضمرة: ثنا جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قسم الله الأرض نصفين فجعلني في خيرهما ثم قسم النصف على ثلاثة فكنت في خير ثلت منها ثم اختار العرب من الناس ثم اختار قريشا من العرب ثم اختار بني هاشم من قريش ثم اختار بني عبد المطلب من بني هاشم ثم اختارني من بني عبد المطلب هذا حديث مرسل. وروى زحر بن حصن عن جده حميد بن منهب قال: سمعت جدي خريم بن أوس بن حارثة يقول: هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك فسمعت العباس يقول: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك. قال: قل لا يفضض الله فاك فقال:
من قبلها طبت في الظلال وفي..... مستودع حيث يخصف الورق)
(ثم هبطت البلاد لا بشر..... أنت ولا مضغة ولا علق)
(بل نطفة تركب السفين وقد..... ألجم نسرا وأهله الغرق)
(تنقل من صالب إلى رحم..... إذا مضى عالم بدا طبق)
(حتى احتوى بيتك المهيمن من..... خندف علياء تحتها النطق)

(1/43)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 44

وأنت لما ولدت أشرقت الأرض..... وضاءت بنورك الأفق)
(فنحن في ذلك الضياء وفي النور..... وسبل الرشاد تخترق)
الظلال: ظلال الجنة قال الله تعالى {إن المتقين في ظلال وعيون} . والمستودع: هو الموضع الذي كان فيه آدم وحواء يخصفان عليهما من الورق أي يضمان بعضه إلى بعض يتستران به ثم هبطت إلى الدنيا في صلب آدم وأنت لا بشر ولا مضغة. وقوله: (تركب السفين) يعني في صلب نوح. وصالب لغة غريبة في الصلب ويجوز في الصلب الفتحتان كسقم وسقم. والطبق: القرن كلما مضى عالم وقرن جاء قرن ولأن القرن يطبق الأرض بسكناه بها؟ ومنه قوله عليه السلام في الاستسقاء: اللهم اسقنا غيثا مغيثا طبقا غدقا أي يطبق الأرض. وأما قوله تعالى {لتركبن طبقا عن طبق} أي حالا بعد حال. والنطق: جمع نطاق وهو ما يشد به الوسط ومنه المنطقة. أي أنت أوسط قومك نسبا. وجعله في علياء وجعلهم تحته نطاقا. وضاءت: لغة في أضاءت. وأرضعته ثويبة جارية أبي لهب مع عمه حمزة ومع أبي سلمة

(1/44)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 45
ابن عبد الأسد المخزومي رضي الله عنهما. قال شعيب عن الزهري عن عروة إن زينب بنت أبي سلمة وأمها أخبرته أن أم حبيبة أخبرتهما قالت: قلت: يا رسول الله انكح أختي بنت أبي سفيان. قال: أو تحبين ذلك؟ قلت: لست لك بمخلية وأحب إلي من يشركني في خير أختي. قال: إن ذلك لا يحل لي فقلت: يا رسول الله إنا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة فقال: والله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن. أخرجه البخاري. وقال عروة في سياق البخاري: ثويبة مولاة أبي لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله في النوم بشر حيبة يعني حالة. فقال له: ماذا لقيت؟ قال: لم ألق بعدكم رخاء غير أني أسقيت في هذه مني بعتاقتي ثويبة. وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها. ثم أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وأخذته معها إلى أرضها فأقام معها في بني سعد نحو أربع سنين ثم ردته إلى أمه.

(1/45)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 46
قال يحيى بن أبي زائدة: قال محمد بن إسحاق عن جهم بن أبي جهم عن عبد الله بن جعفر عن حليمة بنت الحارث أم رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدية قالت: خرجت في نسوة نلتمس الرضعاء بمكة على أتان لي قمراء قد أذمت بالركب وخرجنا في سنة شهباء لم تبق شيئا ومعنا شارف لنا والله إن تبض علينا بقطرة ومعي صبي لي لا ننام ليلنا مع بكائه فلما قدمنا مكة لم يبق منا امرأة إلا عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه وإنما كنا نرجو كرامة رضاعة من أبيه وكان يتيما فلم يبق من صواحبي امرأة إلا أخذت صبيا غيري. فقلت لزوجي: لأرجعن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه فأتيته فأخذته فقال زوجي: عسى الله أن يجعل فيه خيرا. قالت: فوالله ما هو إلا أن جعلته في حجري فأقبل عليه ثديي بما شاء من اللبن فشرب وشرب أخوه حتى رويا وقام زوجي إلى شارفنا من الليل فإذا بها حافل فحلب وشربنا حتى روينا فبتنا شباعا رواء وقد نام صبياننا قال أبوه: والله يا حليمة ما أراك إلا قد أصبت نسمة مباركة ثم خرجنا فوالله لخرجت أتاني أمام الركب قد قطعتهن حتى ما يتعلق بها أحد فقدمنا منازلنا من حاضر بني سعد بن بكر فقدمنا على أجدب أرض الله فوالذي نفسي بيده إن كانوا ليسرحون أغنامهم ويسرح راعي غنمي فتروح غنمي بطانا لبنا حفلا وتروح أغنامهم جياعا فيقولون لرعاتهم: ويلكم ألا تسرحون حيث يسرح راعي حليمة؟ فيسرحون في الشعب الذي يسرح فيه

(1/46)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 47
راعينا فتروح أغنامهم جياعا ما بها من لبن وتروح غنمي لبنا حفلا. فكان صلى الله عليه وسلم يشب في يومه شباب الصبي في الشهر ويشب في الشهر شباب الصبي في سنة قالت: فقدمنا على أمه فقلنا لها: ردي علينا ابني فإنا نخشى عليه وباء مكة قالت ونحن أضن شيء به مما رأينا من بركته قالت: ارجعا به فمكث عندنا شهرين فبينا هو يلعب وأخوه خلف البيوت يرعيان بهما لنا إذ جاء أخوه يشتد قال: أدركا أخي قد جاءه رجلان فشقا بطنه فخرجنا نشتد فأتيناه وهو قائم منتقع اللون فاعتنقه أبوه وأنا ثم قال: ما لك يا بني؟ قال: أتاني رجلان فأضجعاني ثم شقا بطني فوالله ما أدري ما صنعا فرجعنا به. قالت: يقول أبوه يا حليمة ما أرى هذا الغلام إلا أنه أضيب فانطلقي فلنرده إلى أهله. فرجعنا به إليها فقالت: ما ردكما به؟ فقلت: كفلناه وأدينا الحق ثم تخوفنا عليه الأحداث فقالت والله ما ذاك بكما فأخبراني خبركما فما زالت بنا حتى أخبرناها. قالت: فتخوفتما عليه كلا والله إن لابني هذا شأنا إني حملت به فلم أحمل حملا قط كان أخف منه ولا أعظم بركة ثم رأيت نورا كأنه شهاب خرج مني حين وضعته أضاءت لي أعناق الإبل ببصرى ثم وضعته فما وقع كما يقع الصبيان وقع واضعا يديه بالأرض رافعا رأسه إلى السماء دعاه وألحقا شأنكما.

(1/47)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 48
هذا حديث جيد الإسناد. قال أبو عاصم النبيل: أخبرني جعفر بن يحيى أنا عمارة بن ثوبان أن أبا الطفيل أخبره قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلت إليه امرأة حتى دنت منه فبسط لها رداءه فقلت: من هذه؟ قالوا: أمه التي أرضعته. أخرجه أبو داود. قال مسلم: ثنا شيبان ثنا حماد ثنا ثابت عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق قلبه فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه ثم أعاده في مكانه وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني مرضعته فقالوا: إن محمدا قد قتل فاستقبلوه منتقع اللون. قال أنس: قد كنت أرى أثر المخيط في صدره. وقال بقية عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن ابن عمرو السلمي عن عتبة بن عبد فذكر نحوا من حديث أنس. وهو

(1/48)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 49
صحيح أيضا وزاد فيه: فرحلت - يعني ظئره - بعيرا فحملتني على الرحل وركبت خلفي حتى بلغنا إلى أمي فقالت: أديت أمانتي وذمتي وحدثتها بالذي لقيت فلم يرعها ذلك فقالت: إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام. وقال سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيت وأنا في أهلي فانطلق بي إلى زمزم فشرح صدري ثم أتيت بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فحشي بها صدري - قال أنس: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرينا أثره - فعرج بي الملك إلى السماء الدنيا. وذكر حديث المعراج. وقد روى نحوه شريك بن أبي نمر عن أنس عن أبي ذر وكذلك رواه الزهري عن أنس عن أبي ذر أيضا. وأما قتادة فرواه عن أنس عن مالك بن صعصعة بنحوه. وإنما ذكرت هذا ليعرف أن جبريل شرح صدره مرتين في صغره ووقت الإسراء به.
ذكر وفاة عبد الله بن عبد المطلب
وتوفي عبد الله ابوه وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهرا. وقيل: أقل من ذلك. وقيل: وهو حمل.

(1/49)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 50
توفي بالمدينة غريبا وكان قدمها ليمتار تمرا وقيل: بل مر بها مريضا راجعا من الشام فروى محمد بن كعب القرظي وغيره: أن عبد الله ابن عبد المطلب خرج إلى الشام إلى غزة في عير تحمل تجارات فلما قفلوا مروا بالمدينة وعبد الله مريض فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار فأقام عندهم مريضا مدة شهر فبلغ ذلك عبد المطلب فبعث إليه الحارث وهو أكبر ولده ؛ فوجده قد مات ؛ ودفن في دار النابغة أحد بني النجار ؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ حمل على الصحيح. وعاش عبد الله خمسا وعشرين سنة. قال الواقدي: وذلك أثبت الأقاويل في سنه ووفاته. وترك عبد الله من الميراث أم أيمن وخمسة أجمال وغنما فورث ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وتوفيت أمه آمنة بالأبواء وهي راجعة به - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة من زيارة أخوال أبيه بن عدي بن النجار وهو يومئذ ابن ست سنين ومائة يوم. وقيل: ابن أربع سنين. فلما ماتت ودفنت حملته أم أيمن مولاته إلى مكة إلى جده فكان

(1/50)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 51
في كفالته إلى أن توفي جده وللنبي صلى الله عليه وسلم - ثمان سنين فأوصى به إلى عمه أبي طالب. قال عمرو بن عون: أنبا خالد بن عبد الله عن داود بن أبي هند عن عباس بن عبد الرحمن عن كندير بن سعيد عن أبيه قال: حججت في الجاهلية فإذا رجل يطوف بالبيت ويرتجز يقول
رب رد إلي راكبي محمدا..... يا رب ردة واصطنع عندي يدا)
قلت: من هذا؟ قال عبد المطلب ذهب إبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها وقد احتبس عليه فما برحت حتى جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - وجاء الإبل فقال: يا بني لقد حزنت عليك حزنا ؛ لا تفارقني أبدا. وقال خارجة بن مصعب عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده أن حيدة بن معاوية اعتمر في الجاهلية فذكر نحوا من حديث كندير عن أبيه.

(1/51)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 52
وقال إبراهيم بن محمد الشافعي عن أبيه عن أبان بن الوليد عن أبان بن تغلب حدثني جلهمة بن عرفطة قال: إني لبالقاع من نمرة إذ أقبلت عير من أعلى نجد فلما حاذت الكعبة إذا غلام قد رمى بنفسه عن عجز بعير فجاء حتى تعلق بأستار الكعبة ثم نادى يا رب البنية أجرني ؛ وإذا شيخ وسيم قسيم عليه بهاء الملك ووقار الحكماء. فقال: ما شأنك يا غلام فأنا من آل الله وأجير من استجار به؟ قال: إن أبي مات وأنا صغير وإن هذا استعبدني وقد كنت أسمع أن لله بيتا يمنع من الظلم فلما رأيته استجرت به. فقال له القرشي: قد أجرتك يا غلام قال: وحبس الله يد الجندعي إلى عنقه. قال جلهمة: فحدثت بهذا الحديث عمرو بن خارجة وكان قعدد الحي فقال: إن لهذا الشيخ ابنا يعني أبا طالب. قال: فهويت رحلي نحو تهامة أكسع بها الحدود وأعلوا بها الكدان حتى انتهيت إلى المسجد الحرام وإذا قريش عزين قد ارتفعت لهم ضوضاء يستسقون فقائل منهم يقول: اعتمدوا اللات والعزى ؛ وقائل يقول: اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى. وقال شيخ وسيم قسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم عليه السلام وسلالة إسماعيل؟

(1/52)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 53
قالوا له: كأنك عنيت أبا طالب. قال: إيها. فقاموا بأجمعهم وقمت معهم فدققنا عليه بابه فخرج إلينا رجل حسن الوجه مصفر عليه إزار قد اتشح به فثاروا إليه فقالوا: يا أبا طالب قحط الوادي وأجدب العباد فهلم فاستسق ؛ فقال: رويدكم زوال الشمس وهبوب الريح ؛ فلما زاغت الشمس أو كادت خرج أبو طالب معه غلام كأنه دجن تجلت عنه سحابة قتماء وحوله أغيلمة ؛ فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ بأضبعه الغلام وبصبصت الأغيلمة حوله وما في السماء قزعة فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واغدودق وانفجر له الوادي وأخصب النادي والبادي ؛ وفي ذلك يقول أبو طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه..... ربيع اليتامى عصمة للأرامل)
(تطيف به الهلاك من آل هاشم..... فهم عنده في نعمة وفواضل)
(وميزان عدل لا يخيس شعيرة..... ووزان صدق وزنه غير عائل)
وقال عبد الله بن شبيب - وهو ضعيف - ثنا أحمد بن محمد

(1/53)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 54
الأزرقي حدثهم سعيد بن سالم نا ابن جريج قال: كنا مع عطاء فقال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت أبي يقول: كان عبد المطلب أطول الناس قامة وأحسنهم وجها ما رآه أحد قط إلا أحبه وكان له مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره ولا يجلس عليه معه أحد وكان الندى من قريش حرب بن أمية فمن دونه يجلسون حوله دون المفرش ؛ فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غلام لم يبلغ فجلس على المفرش فجبذه رجل فبكى ؛ فقال عبد المطلب - وذلك بعد ما كف بصره -: ما لابني يبكي؟ قالوا له: إنه أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه فقال: دعوا ابني يجلس عليه فإنه يحس من نفسه شرفا وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده. قال: ومات عبد المطلب والنبي - صلى الله عليه وسلم - ابن ثمان سنين وكان خلف جنازة عبد المطلب يبكي حتى دفن بالحجون.
وقد رعى الغنم
فروى عمرو بن يحيى بن سعيد عن جده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من نبي إلا وقد رعى الغنم قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة. رواه البخاري.

(1/54)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 55
وقال أبو سلمة عن جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران نجتني الكباث فقال: عليكم بالأسود منه فإنه أطيب قلنا: وكنت ترعى الغنم يا رسول الله؟ قال: نعم وهل من نبي إلا قد رعاها. متفق عليه.
سفره مع عمه - إن صح
قال قراد أبو نوح: ثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه محمد صلى الله عليه وسلم وأشياخ من قريش ؛ فلما أشرفوا على الراهب [بحيرى] نزلوا فخرج إليهم وكان قبل ذلك لا يخرج إليهم فجعل يتخللهم وهم يحلون رحالهم ؛ حتى جاء فأخذ بيده - صلى الله عليه وسلم - وقال: هذا سيد العالمين [هذا رسول رب العالمين] هذا يبعثه الله رحمة للعالمين ؛ فقال أشياخ قريش: وما علمك بهذا؟ قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا ولا يسجدون إلا لنبي لأعرفه بخاتم النبوة أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة. ثم رجع فصنع لهم طعاما ؛ فلما أتاهم به [و كان - صلى الله عليه وسلم - في رعية الإبل قال: فأرسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله فلما دنا

(1/55)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 56
من القوم وجدهم قد سبقوه - يعني إلى فيء شجرة - فلما جلس مال فيء الشجرة عليه فقال: انظروا [إلى] فيء الشجرة مال عليه. قال: فبينا هو قائم عليه يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم فإن الروم لو رأوه عرفوه بصفته فقتلوه ؛ فالتفت فإذا بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم الراهب فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا إن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا قد بعث إليه ناس وإنا قد أخبرنا فبعثنا إلى طريقك هذا فقال لهم: هل خلفتم خلفكم أحدا هو خير منكم؟ قالوا: لا. إنما أخبرنا خبره بطريقك هذا ؛ قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا. قال: فتابعوه وأقاموا معه قال: فأتاهم فقال: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قال أبو طالب: أنا ؛ فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وبعث معه أبو بكر بلالا وزوده الراهب من الكعك والزيت. تفرد به قراد واسمه عبد الرحمن بن غزوان ثقة احتج به

(1/56)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 57
البخاري والنسائي ؛ ورواه الناس عن قراد وحسنه الترمذي. وهو حديث منكر جدا وأين كان أبو بكر؟ كان ابن عشر سنين فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم - بسنتين ونصف ؛ وأين كان بلال في هذا الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث ولم يكن ولد بعد ؛ وأيضا فإذا كان عليه غمامة تظله كيف يتصور أن يميل فيء الشجرة؟ لأن ظل الغمامة يعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها ولم نر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أبا طالب قط بقول الراهب ولا تذاكرته قريش ولا حكته أولئك الأشياخ مع توفر هممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك فلو وقع لاشتهر بينهم أيما اشتهار ولبقي عنده - صلى الله عليه وسلم - حس من النبوة ؛ ولما أنكر مجيء الوحي إليه أولا بغار حراء وأتى خديجة خائفا على عقله ولما ذهب إلى شواهق الجبال ليرمي نفسه - صلى الله عليه وسلم -. وأيضا فلو آثر هذا الخوف في أبي طالب ورده كيف كانت تطيب نفسه أن يمكنه من السفر إلى الشام تاجرا لخديجة؟ وفي الحديث ألفاظ منكرة تشبه ألفاظ الطرقية مع أن ابن عائذ قد روى معناه في مغازيه دون قوله: وبعث معه أبو بكر بلالا إلى آخره فقال: ثنا الوليد بن مسلم أخبرني أبو داود سليمان بن موسى فذكره بمعناه.

(1/57)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 58
وقال ابن إسحاق في السيرة: إن أبا طالب خرج إلى الشام تاجرا في ركب ومعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو غلام فلما نزلوا بصرى وبها بحيرا الراهب في صومعته وكان أعلم أهل النصرانية ؛ ولم يزل في تلك الصومعة قط راهب يصير إليه علمهم عن كتاب فيهم فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر ؛ قال: فنزلوا قريبا من الصومعة فصنع بحيرا طعاما وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم فنزل بظل شجرة فنزل بحيرا من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ثم أرسل إليهم فجاءوه فقال رجل منهم: يا بحيرا ما كنت تصنع هذا فما شأنك؟ قال: نعم ولكنكم ضيف وأحببت أن أكرمكم فاجتمعوا وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لصغره في رحالهم. فلما نظر بحيرا فيهم ولم يره قال: يا معشر قريش لا يتخلف عن طعامي هذا أحد.

(1/58)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 59
قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا. قال: فلا تفعلوا ادعوه. فقال رجل: واللات والعزى إن هذا للؤم بنا يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن الطعام من بيننا ثم قام واحتضنه وأقبل به فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته حتى إذا شبعوا وتفرقوا قام بحيرا فقال: يا غلام أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه فزعموا أنه قال: لا تسألني باللات والعزى فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا قط. فقال له: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه فجعل يسأله عن أشياء من حاله فتوافق ما عنده من الصفة. ثم نظر فيه أثر خاتم النبوة فأقبل على أبي طالب فقال: ما هو منك؟ قال: ابني. قال: ما ينبغي أن يكون أبوه حيا قال: فإنه ابن أخي. قال: ارجع به واحذر عليه اليهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفته ليبغنه شرا فإنه كائن لابن أخيك شأن فخرج به أبو طالب سريعا حتى

(1/59)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 60
أقدمه مكة حين فرغ من تجارته. وذكر الحديث. وقال معتمر بن سليمان: حدثني أبي عن أبي مجلز: أن أبا طالب سافر إلى الشام ومعه محمد فنزل منزلا فأتاه راهب فقال: فيكم رجل صالح ثم قال: أين أبو هذا الغلام؟ قال أبو طالب: هأنذا وليه. قال: احتفظ به ولا تذهب به إلى الشام؟؟ إن اليهود قوم حسد وإني أخشاهم عليه. فرده. وقال ابن سعد: أنا محمد بن عمر حدثني عبد الله بن جعفر وجماعة عن داود بن الحصين أن أبا طالب خرج تاجرا إلى الشام ومعه محمد فنزلوا ببحيرا الحديث. روى يونس عن ابن شهاب حديثا طويلا فيه: فلما ناهز الاحتلام ارتحل به أبو طالب تاجرا فنزل تيماء فرآه حبر من يهود تيماء فقال لأبي طالب: ما هذا الغلام؟ قال: هو ابن أخي قال: فوالله إن قدمت به الشام لا تصل به إلى أهلك أبدا ليقتلنه اليهود إنه عدوهم فرجع به أبو طالب من تيماء إلى مكة. قال ابن إسحاق: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - يحدث عما كان الله تعالى يحفظه به في صغره قال: لقد رأيتني في غلمان من

(1/60)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 61
قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب الغلمان به كلنا قد تعرى وجعل إزاره على رقبته يحمل عليه الحجارة فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراها لكمة وجيعة وقال: شد عليك إزارك فأخذته فشددته ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي.
حرب الفجار
قال ابن إسحاق: وهاجت حرب الفجار ولرسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون سنة سميت بذلك لما استحلت كنانة وقيس عيلان في الحرب من المحارم بينهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت أنبل على أعمامي أي أرد عنهم نبل عدوهم إذا رموهم. وكان قائد قريش حرب بن أمية.

(1/61)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 62
فارغة.

(1/62)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 63

شأن خديجة
قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهي أقرب منه صلى الله عليه وسلم إلى قصي برجل كانت امرأة تاجرة ذات شرف ومال وكانت تستأجر الرجال في مالها وكانت قريش تجارا فعرضت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج في مال لها إلى الشام ومعه غلام لها اسمه ميسرة فخرج إلى الشام فنزل تحت شجرة بقرب صومعة فأطل الراهب إلى ميسرة فقال: من هذا؟ فقال: رجل من قريش قال: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي. ثم باع النبي صلى الله عليه وسلم تجارته وتعوض ورجع فكان ميسرة - فيما

(1/63)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 64
يزعمون - إذا اشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير. وروى قصة خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الشام تاجرا المحاملي عن عبد الله ابن شبيب وهو واه ثنا أبو بكر بن شيبة حدثني عمر بن أبي بكر العدوي حدثني موسى بن شيبة حدثتني عميرة بنت عبد الله بن كعب بن مالك عن أم سعد بنت سعد بن الربيع عن نفيسة بنت منية أخت يعلى قالت: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة. فذكر الحديث بطوله وهو حديث منكر. قال: فلما قدم مكة باعت خديجة ما جاء به فأضعف أو قريبا. وحدثها ميسرة عن قول الراهب وعن الملكين وكانت لبيبة حازمة فبعثت إليه تقول: يا بن عمي إني قد رغبت فيك لقرابتك وأمانتك

(1/64)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 65
وصدقك وحسن خلقك ثم عرضت عليه نفسها فقال ذلك لأعمامه فجاء معه حمزة عمه حتى دخل على خويلد فخطبها منه وأصدقها النبي صلى الله عليه وسلم عشرين بكرة فلم يتزوج عليها حتى ماتت. وتزوجها وعمره خمس وعشرون سنة. وقال أحمد في مسنده: حدثنا أبو كامل ثنا حماد عن عمار ابن أبي عمار عن ابن عباس - فيما يحسب حماد -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه فصنعت هي طعاما وشرابا فدعت أباها وزمرا من قريش فطعموا وشربوا حتى ثملوا فقالت لأبيها: إن محمدا يخطبني فزوجني إياه فزوجها إياه فخلقته وألبسته حلة كعادتهم فلما صحا نظر فإذا هو مخلق فقال: ما شأني؟ فقالت: زوجتني محمدا فقال: وأنا أزوج يتيم أبي طالب ! لا لعمري فقالت: أما تستحي؟ تريد أن تسفه نفسك معي عند قريش بأنك كنت سكران فلم تزل به حتى رضي. وقد روى طرفا منه الأعمش عن أبي خالد الوالبي عن جابر بن سمرة أو غيره. وأولاده كلهم من خديجة سوى إبراهيم وهم: القاسم والطيب

(1/65)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 66
والطاهر وماتوا صغارا رضعا قبل المبعث ورقية وزينب وأم كلثوم وفاطمة - رضي الله عنهم - فرقية وأم كلثوم تزوجتا عثمان بن عفان وزينب زوجة أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس وفاطمة زوجة علي - رضي الله عنهم - أجمعين.
حديث بنيان الكعبة وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش في وضع الحجر
قال ابن إسحاق: فلما بلغ صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها وإنما كانت رضما فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها. وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جده فتحطمت فأخذوا خشبها وأعدوه لتسقيفها وكان بمكة نجار قبطي فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت يطرح فيها ما يهدى لها

(1/66)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 67
كل يوم فتشرف على جدار الكعبة فكانت مما يهابون وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها فبينا هي يوما تشرف على جدار الكعبة بعث الله إليها طائرا فاختطفها فذهب بها قال: فاستبشروا بذلك ثم هابوا هدمها. فقال الوليد بن المغيرة: أنا ابدؤكم في هدمها فأخذ المعول وهو يقول: اللهم لم ترع اللهم لم نرد إلا خيرا. ثم هدم من ناحية الركنين وهدموا حتى بلغوا أساس إبراهيم - عليه السلام - فإذا حجارة خضر آخذ بعضها ببعض. ثم بنوا فلما بلغ البنيان موضع الركن. يعني الحجر الأسود اختصموا فيمن يضعه وحرصت كل قبيلة على ذلك حتى تحاربوا ومكثوا أربع ليال. ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتناصفوا فزعموا أن أبا أمية بن المغيرة وكان أسن قريش قال: اجعلوا بينكم فيما تختلفون أول من يدخل من باب المسجد ففعلوا فكان أول من دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا به فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر فقال: هاتوا لي ثوبا فأتوا به فأخذ الركن بيده فوضعه في الثوب ثم قال: لتأخذ

(1/67)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 68
كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو صلى الله عليه وسلم بيده وبني عليه.
حديث الحمس
وقال ابن وهب عن يونس عن الزهري قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرتها في ثياب الكعبة فاحترقت فهدموها حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن أي القبائل تضعه؟ قالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب ثم أخذ سيد كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن فكان هو يضعه ثم طفق لا يزداد على السن إلا رضا حتى دعوه الأمين قبل أن ينزل عليه وحي فطفقوا لا ينحرون جزورا إلا التمسوه فيدعو لهم فيها.

(1/68)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 69
ويروى عن عروة ومجاهد وغيرهما: أن البيت بني قبل المبعث بخمس عشرة سنة. وقال داود بن عبد الرحمن العطار ثنا ابن خثيم عن أبي الطفيل قال: قلت: له يا خال حدثني عن شأن الكعبة قبل أن تبنيها قريش قال: كان برضم يابس ليس بمدر تنزوه العناق وتوضع الكسوة على الجدر ثم تدلى ثم إن سفينة للروم أقبلت حتى إذا كانت بالشعيبة انكسرت فسمعت بها قريش فركبوا إليها وأخذوا خشبها ورومي يقال له باقوم نجار بان فلما قدموا مكة قالوا: لو بنينا بيت ربنا - عز وجل - واجتمعوا لذلك ونقلوا الحجارة من أجياد الضواحي فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل إذ انكشفت نمرته فنودي: يا محمد عورتك فذلك أول ما نودي والله أعلم. فما رؤيت له عورة بعد. وقال أبو الأحوص عن سماك بن حرب: إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم بنى البيت وذكر الحديث إلى أن قال: فمر عليه الدهر فانهدم فبنته العمالقة فمر عليه الدهر فانهدم فبنته جرهم فمر عليه الدهر فانهدم فبنته قريش. وذكر في الحديث وضع النبي صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود مكانه. وقال يونس عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم

(1/69)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 70
عن عمرة عن عائشة قالت: ما زلنا نسمع أن إسافا ونائلة - رجل وامرأة من جرهم - زنيا في الكعبة فمسخا حجرين. وقال موسى بن عقبة: إنما حمل قريشا على بناء الكعبة أن السيل كان يأتي من فوقها من فوق الردم الذي صنعوه فأخربه فخافوا أن يدخلها الماء وكان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة فأرادوا أن يشيدوا بناءها وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاءوا فأعدوا لذلك نفقة وعمالا. وقال زكريا بن إسحاق: ثنا عمرو بن دينار أنه سمع جابرا يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل الحجارة للكعبة مع قريش وعليه إزار فقال له عمه العباس: يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبك دون الحجارة ففعل ذلك فسقط مغشيا عليه فما رؤي بعد ذلك اليوم عريانا. متفق عليه. وأخرجاه أيضا من حديث ابن جريج. مسلم الزنجي عن ابن أبي نجيح عن أبيه قال: جلس رجال من

(1/70)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 71
قريش فتذاكروا بنيان الكعبة فقالوا: كانت مبنية برضم يابس وكان بابها بالأرض ولم يكن لها سقف وإنما تدلى الكسوة على الجدر وتربط من أعلى الجدر من بطنها وكان في بطن الكعبة عن يمين الداخل جب يكون فيه ما يهدى للكعبة بنذر من جرهم وذلك أنه عدا على ذلك الجب قوم من جرهم فسرقوا ما به فبعث الله تلك الحية فحرست الكعبة وما فيها خمسمائة سنة إلى أن بنتها قريش وكان قرنا الكبش معلقين في بطنها مع معاليق من حلية. إلى أن قال: حتى بلغوا الأساس الذي رفع عليه إبراهيم وإسماعيل القواعد فرأوا حجارة كأنها الإبل الخلف لا يطيق الحجر منها ثلاثون رجلا يحرك الحجر منها فترتج جوانبها قد تشبك بعضها ببعض فأدخل الوليد بن المغيرة عتلة بين حجرين فانفلقت منه فلقة فأخذها رجل فنزت من يده حتى عادت في مكانها وطارت من تحتها برقة كادت أن تخطف أبصارهم ورجفت مكة بأسرها فأمسكوا. إلى أن قال: وقلت النفقة عن عمارة البيت فأجمعوا على أن يقصروا عن القواعد ويحجروا ما يقدرون ويتركوا بقيته في الحجر ففعلوا ذلك وتركوا ستة أذرع وشبرا ورفعوا بابها وكسوها بالحجارة حتى لا يدخلها السيل ولا

(1/71)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 72
يدخلها إلا من أرادوا وبنوها بساف من حجارة وساف من خشب حتى انتهوا إلى موضع الركن فتنافسوا في وضعه. إلى أن قال: فرفعوها بمدماك حجارة ومدماك خشب حتى بلغوا السقف فقال لهم باقوم النجار الرومي: أتحبون أن تجعلوا سقفها مكبسا أو مسطحا؟ قالوا: بل مسطحا وجعلوا فيه ست دعائم في صفين وجعلوا ارتفاعها من ظاهرها ثمانية عشر ذراعا وقد كانت قبل تسعة أذرع وجعلوا درجة من خشب في بطنها يصعد منها إلى ظهرها وزوقوا سقفها وحيطانها من بطنها ودعائمها وصوروا فيها الأنبياء والملائكة والشجر وصوروا إبراهيم يستقسم بالأزلام وصوروا عيسى وأمه وكانوا أخرجوا ما في جب الكعبة من حلية ومال وقرني الكبش وجعلوه عند أبي طلحة العبدري وأخرجوا منها هبل فنصب عند المقام حتى فرغوا فأعادوا جميع ذلك ثم ستروها بحبرات يمانية. وفي الحديث عن ابن أبي نجيح عن أبيه عن حويطب بن عبد العزى وغيره: فلما كان يوم الفتح دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البيت فأمر بثوب فبل بماء وأمر بطمس تلك الصور ووضع كفيه على صورة عيسى وأمه وقال: امحوا الجميع إلا ما تحت يدي. رواه الأزرقي. ابن جريج قال: سأل سليمان بن موسى الشامي عطاء بن أبي رباح

(1/72)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 73
وأنا أسمع: أدركت في البيت تمثال مريم وعيسى؟ قال: نعم أدركت تمثال مريم مزوقا في حجرها عيسى قاعد وكان في البيت ستة أعمدة سواري وكان تمثال عيسى ومريم في العمود الذي يلي الباب فقلت لعطاء: متى هلك؟ قال في الحريق زمن ابن الزبير قلت: أعلى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعني كان؟ قال: لا أدري وإني لأظنه قد كان على عهده. قال داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج: ثم عاودت عطاء بعد حين فقال: تمثال عيسى وأمه في الوسطى من السواري. قال الأزرقي: ثنا داود العطار عن عمرو بن دينار قال: أدركت في الكعبة قبل أن تهدم تمثال عيسى وأمه قال داود: فأخبرني بعض الحجبة عن مسافع بن شيبة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا شيبة امح كل صورة إلا ما تحت يدي قال: فرفع يده عن عيسى ابن مريم وأمه. قال الأزرقي عن سعيد بن سالم حدثني يزيد بن عياض بن جعدبة عن ابن شهاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيها صور

(1/73)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 74
الملائكة فرأى صورة إبراهيم فقال: قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام ثم رأى صورة مريم فوضع يده عليها فقال: امحوا ما فيها إلا صورة مريم. ثم ساقه الأزرقي بإسناد آخر بنحوه وهو مرسل ولكن قول عطاء وعمرو ثابت وهذا أمر لم نسمع به إلى اليوم. وقال معمر عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل قال: لما بني البيت كان الناس ينقلون الحجارة والنبي صلى الله عليه وسلم معهم فأخذ الثوب فوضعه على عاتقه فنودي: (لا تكشف عورتك) فألقى الحجر ولبس ثوبه. رواه أحمد في مسنده. وقال عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي: ثنا عمرو بن أبي قيس عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس عن أبيه قال: (كنت أنا وابن أخي

(1/74)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 75
ننقل الحجارة على رقابنا وأزرنا تحت الحجارة فإذا غشينا الناس ائتزرنا فبينا هو أمامي خر على وجهه منبطحا فجئت أسعى وألقيت حجري وهو ينظر إلى السماء فقلت: ما شأنك؟ فقام وأخذ إزاره وقال: نهيت أن أمشي عريانا فكنت أكتمها الناس مخافة أن يقولوا مجنون). رواه قيس بن الربيع بنحوه عن سماك. وقال حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي - رضي الله عنه - قال: لما تشاجروا في الحجر أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب فكان أول من دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: قد جاء الأمين. أخبرنا سليمان بن حمزة أنا محمد بن عبد الواحد أنا محمد بن أحمد أن فاطمة بنت عبد الله أخبرتهم أنبأ ابن بريدة أنبأ الطبراني ثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن خثيم عن أبي الطفيل قال: كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدر وكانت قدر ما نقتحمها وكانت غير مسقوفة إنما توضع ثيابها عليها ثم تسدل عليها سدلا وكان الركن الأسود موضوعا على سورها باديا وكانت ذات ركنين كهيئة الحلقة فأقبلت سفينة من أرض الروم

(1/75)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 76
فانكسرت بقرب جدة فخرجت قريش ليأخذوا خشبها فوجدوا رجلا روميا عندها فأخذوا الخشب وكانت السفينة تريد الحبشة وكان الرومي الذي في السفينة نجارا فقدموا به وبالخشب فقالت قريش: نبني بهذا الذي في السفينة بيت ربنا فلما أرادوا هدمه إذا هم بحية على سور البيت مثل قطعة الجائز سوداء الظهر بيضاء البطن فجعلت كلما دنا أحد إلى البيت ليهدم أو يأخذ من حجارته سعت إليه فاتحة فاها فاجتمعت قريش: عند المقام فعجوا إلى الله وقالوا: ربنا لم نرع أردنا تشريف بيتك وتزيينه فإن كنت ترضى بذلك وإلا فما بدا لك فافعل فسمعوا خوارا في السماء فإذا هم بطائر أسود الظهر أبيض البطن والرجلين أعظم من النسر فغرز مخلابه في رأس الحية حتى انطلق بها يجرها ذنبها أعظم من كذا وكذا ساقطا فانطلق بها نحو أجياد فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها فرفعوها في السماء عشرين ذراعا فبينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يضعها على عاتقه فبرزت عورته من صغر النمرة فنودي: يا محمد خمر عورتك فلم ير عريانا بعد ذلك.

(1/76)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 77
وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين. هذا حديث صحيح. وقد روى نحوه داود العطار عن ابن خثيم. ورواه محمد بن كثير المصيصي عن عبد الله بن واقد عن عبد الله ابن عثمان بن خثيم عن نافع بن سرجس قال: سألت أبا الطفيل فذكر نحوه. وقال عبد الصمد بن النعمان: حدثنا ثابت بن يزيد ثنا هلال بن خباب عن مجاهد عن مولاه أنه حدثه أنه كان فيمن يبني الكعبة في الجاهلية قال: ولي حجر أنا نحته بيدي أعبده من دون الله فأجيء باللبن الخاثر الذي أنفسه على نفسي فأصبه عليه فيجيء الكلب فيلحسه ثم يشغر فيبول فبنينا حتى بلغنا الحجر وما يرى الحجر منا أحد فإذا هو وسط حجارتنا مثل راس الرجل يكاد يتراءى منه وجه الرجل فقال بطن من قريش: نحن نضعه وقال آخرون: بل نحن نضعه. فقالوا: اجعلوا بينكم حكما. قالوا: أول رجل يطلع من الفج فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أتاكم الأمين فقالوا له فوضعه في ثوب ثم دعا بطونهم فأخذوا بنواحيه معه فوضعه هو. اسم مولى مجاهد: السائب بن عبد الله.

(1/77)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 78
وقال إسرائيل عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: كان البيت قبل الأرض بألفي سنة {وإذا الأرض مدت} قال: من تحته مدا. وروى نحوه عن منصور عن مجاهد.

(1/78)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 79

ومما عصم الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من أمر الجاهلية
إن قريشا كانوا يسمون الحمس يعني الأشداء الأقوياء وكانوا يقفون في الحرم بمزدلفة ولا يقفون مع الناس بعرفة يفعلون ذلك رياسة وبأوا وخالفوا بذلك شعائر إبراهيم - عليه السلام - في جملة ما خالفوا. فروى البخاري ومسلم من حديث جبير بن مطعم قال: أضللت بعيرا لي يوم عرفة فخرجت أطلبه بعرفة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفا مع الناس بعرفة فقلت: هذا من الحمس فما شأنه هاهنا. وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن الحسن بن محمد بن الحنفية عن أبيه عن جده سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما هممت بقبيح مما يهم به أهل الجاهلية مرتين عصمني الله فيهما قلت ليلة لفتى من قريش: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما تسمر الفتيان. قال: نعم فخرجت حتى جئت أدنى دار من دور

(1/79)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 80
مكة فسمعت غناء وصوت دفوف ومزامير فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج فلهوت بذلك حتى غلبتني عيني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي ثم فعلت ليلة أخرى مثل ذلك فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمله أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته وروى مسعر عن العباس بن ذريح عن زياد النخعي ثنا عمار ابن ياسر أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أتيت في الجاهلية شيئا حراما؟ قال: لا وقد كنت معه على ميعادين أما أحدهما فحال بيني وبينه سامر قومي والآخر غلبتني عيني أو كما قال. وقال ابن سعد: أنا محمد بن عمر ثنا أبو بكر بن أبي سبرة عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة عن ابن عباس قال: حدثتني أم أيمن قالت: كان بوانة صنما تحضره قريش تعظمه وتنسك له النساك ويحلقون رؤوسهم عنده ويعكفون عنده يوما في السنة وكان أبو طالب يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد فيأبى حتى رأيت أبا طالب غضب ورأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب وجعلن يقلن: إنا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا فلم يزالوا به

(1/80)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 81
حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع إلينا مرعوبا فقلن: ما دهاك؟ قال: إني أخشى أن يكون لي لمم فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك فما الذي رأيت؟ قال: إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح: (وراءك يا محمد لا تمسه) قالت: فما عاد إلى عيد لهم حتى نبئ. وقال أبو أسامة: ثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أسامة بن زيد عن أبيه قال: كان صنم من نحاس يقال له إساف أو نائلة بتمسح المشركون به إذا طافوا فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه فلما مررت مسحت به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمسه قال زيد: فطفنا فقلت في نفسي: لأمسنه حتى أنظر ما يكون فمسحته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تنه. هذا حديث حسن. وقد زاد فيه بعضهم عن محمد بن عمرو بإسناده: قال زيد فوالله ما استلم صنما حتى أكرمه الله بالذي أنزل عليه. وقال جرير بن عبد الحميد عن سفيان الثوري عن عبد الله بن

(1/81)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 82
محمد بن عقيل عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم شهد مع المشركين مشاهدهم فسمع ملكين خلفه وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله فقال: كيف نقوم خلفه وإنما عهده باستلام الأصنام قبيل؟ قال: فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم تفرد به جرير وما أتى به عنه سوى شيخ البخاري عثمان بن أبي شيبة. وهو منكر. وقال إبراهيم بن طهمان ثنا بديل بن ميسرة عن عبد الكريم عن عبد الله بن شقيق عن أبيه عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعا قبل أن يبعث فبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك. قال: فنسيت يومي والغد فأتيته في اليوم الثالث فوجدته في مكانه فقال: يا فتى لقد شققت علي أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك. أخرجه أبو داود. وأخبرنا الخضر بن عبد الرحمن الأزدي أنبأ أبو محمد بن البن أنا جدي أنا أبو القاسم علي بن أبي العلاء أنا عبد الرحمن بن أبي نصر أنا علي بن أبي العقب أنا أحمد بن إبراهيم ثنا محمد بن عائذ حدثني الوليد أخبرني معاوية بن سلام عن جده أبي سلام الأسود عمن حدثه

(1/82)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 83
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا أنا بأعلى مكة إذا براكب عليه سواد فقال: هل بهذه القرية رجل يقال له أحمد؟ فقلت ما بها أحمد ولا محمد غيري فضرب ذراع راحلته فاستناخت ثم أقبل حتى كشف عن كتفي حتى نظر إلى الخاتم الذي بين كتفي فقال: أنت نبي الله؟ قلت: ونبي أنا؟ قال: نعم. قلت: بم أبعث؟ قال بضرب أعناق قومك قال: فهل من زاد؟ فخرجت حتى أتيت خديجة فأخبرتها فقالت: حريا أو خليقا أن لا يكون ذلك فهي أكبر كلمة تكلمت بها في أمري فأتيته بالزاد فأخذه وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى زودني نبي الله صلى الله عليه وسلم طعاما وحمله لي في ثوبه.

(1/83)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 84
فارغة.

(1/84)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 85

ذكر زيد بن عمرو بن نفيل
قال موسى بن عقبة: أخبرني سالم أنه سمع أباه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل أسفل بلدح وذلك قبل الوحي فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل وقال: لا آكل مما يذبحون على أنصابهم أنا لا آكل إلا مما ذكر اسم الله

(1/85)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 86
عليه. رواه البخاري ؛ وزاد في آخره: فكان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله؟ إنكارا لذلك وإعظاما له. ثم قال البخاري: قال موسى: حدثني سالم بن عبد الله ولا أعلمه إلا تحدث به عن ابن عمر: أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم فقال: إني لعلي أن أدين دينكم قال: إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأني أستطيعه فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ قال دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر له مثله فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله قال: ما أفر إلا من لعنة الله فقال له كما قال اليهودي فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج

(1/86)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 87
فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم. هكذا أخرجه البخاري. وقال عبد الوهاب الثقفي: ثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن عن أسامة بن زيد عن أبيه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما حارا وهو مردفي إلى نصب من الأنصاب وقد ذبحنا له شاة فأنضجناها فلقينا زيد بن عمرو بن نفيل فحيا كل واحد منهما صاحبه بتحية الجاهلية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا زيد ما لي أرى قومك قد شنفوا لك؟ قال: والله يا محمد إن ذلك لبغير نائلة ترة لي فيهم ولكني خرجت أبتغي هذا الدين حتى أقدم على أحبار فدك فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي فقدمت الشام فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به فخرجت فقال لي شيخ منهم: إنك تسأل عن دين ما نعلم أحدا يعبد الله به إلا شيخ بالجزيرة فأتيته فلما رآني قال: ممن أنت؟ قلت: من أهل بيت الله قال: من أهل الشوك والقرظ؟ إن

(1/87)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 88
الذي تطلب قد ظهر ببلادك قد بعث نبي قد طلع نجمه وجميع من رأيتهم في ضلال قال: فلم أحس بشيء. قال: فقرب إليه السفرة فقال: ما هذا يا محمد؟ قال: شاة ذبحت للنصب. قال: ما كنت لآكل مما لم يذكر اسم الله عليه قال: فتفرقا. وذكر باقي الحديث. وقال الليث عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والله ما منكم أحد على دين إبراهيم غيري وكان يحيي الموءودة يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: مه ! لا تقتلها أنا أكفيك مؤونتها فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤونتها. هذا حديث صحيح. وقال محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أسامة بن زيد عن أبيه أن زيد بن عمرو بن نفيل مات ثم أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده. إسناده حسن. أنبئت عن أبي الفخر أسعد أخبرتنا فاطمة أنا ابن ريدة أنا

(1/88)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 89
الطبراني أنا علي بن عبد العزيز أنا عبد الله بن رجاء أنا المسعودي عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد عن أبيه عن جده قال: خرج أبي وورقة بن نوفل يطلبان الدين حتى مرا بالشام فأما ورقة فتنصر وأما زيد فقيل له: إن الذي تطلب أمامك فانطلق حتى أتى الموصل فإذا هو براهب فقال: من أين أقبل صاحب الراحلة؟ قال: من بيت إبراهيم قال: ما تطلب؟ قال: الدين فعرض عليه النصرانية فأبى أن يقبل وقال: لا حاجة لي فيه قال: أما إن الذي تطلب سيظهر بأرضك فأقبل وهو يقول:
لبيك حقا..... تعبدا ورقا)
(البر أبغى لا الخال..... وما مهجر كمن قال)
(عذت بما عاذ به إبراهيم ..........
(أنفي لك اللهم عان راغم..... مهما تجشمني فإني جاشم)

(1/89)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 90
ثم يخر فيسجد للكعبة. قال: فمر زيد بالنبي صلى الله عليه وسلم ويزيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرة لهما فدعياه فقال: يا بن أخي لا آكل مما ذبح على النصب قال: فما رؤي النبي صلى الله عليه وسلم يأكل مما ذبح على النصب من يومه ذاك حتى بعث. قال: وجاء سعيد بن زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: يا رسول الله إن زيدا كان كما رأيت أو كما بلغك فاستغفر له قال: نعم فاستغفروا له فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده. وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: كانت قريش حين بنوا الكعبة يتوافدون على كسوتها كل عام تعظيما لحقها وكانوا يطوفون بها ويستغفرون الله عندها ويذكرونه مع تعظيم الأوثان والشرك في ذبائحهم ودينهم كله. وقد كان نفر من قريش: زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث بن أسد وهو ابن عم ورقة وعبيد الله بن جحش بن رئاب وأمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم حضروا قريشا عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى بعض وقالوا: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض فقال قائلهم: تعلمن والله ما قومكم على شيء لقد أخطأوا دين إبراهيم وخالفوه وما

(1/90)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 91
وثن يعبد لا يضر ولا ينفع فابتغوا لأنفسكم فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب من اليهود والنصارى والملل كلها يتبعون الحنيفية دين إبراهيم فأما ورقة فتنصر ولم يكن منهم أعدل شأنا من زيد ابن عمرو اعتزل الأوثان وفارق الأديان إلا دين إبراهيم. وقال الباغندي: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو معاوية عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين. وقال البكائي عن ابن إسحاق: حدثني هشام عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخا كبيرا مسندا ظهره إلى الكعبة وهو يقول: يا معشر قريش والذي نفسي بيده ! ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري ثم يقول: اللهم لو أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به ثم يسجد على راحلته. قال ابن إسحاق: فقال زيد في فراق دين قومه:
أربا واحدا أم ألف رب..... أدين إذا تقسمت الأمور)
(عزلت اللات والعزى جميعا..... كذلك يفعل الجلد الصبور)
في أبيات.

(1/91)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 92
قال ابن إسحاق: وكان الخطاب بن نفيل عمه وأخوه لأمه يعاتبه ويؤذيه حتى أخرجه إلى أعلى مكة فنزل حراء مقابل مكة فإذا دخل مكة سرا آذوه وأخرجوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد. ثم خرج يطلب دين إبراهيم فجال الشام والجزيرة. إلى أن قال ابن إسحاق: فرد إلى مكة حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه.
باب
أخبرتنا ست الأهل بنت علوان أنبأنا البهاء عبد الرحمن أنا منوجهر ابن محمد أنا هبة الله بن أحمد حدثنا الحسين بن علي بن بطحا أنبأ محمد بن الحسين الحراني ثنا محمد بن سعيد الرسعني ثنا المعافى بن سليمان ثنا فليح عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله

(1/92)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 93
حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا. قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار فسألته فما اختلفا في حرف إلا أن كعبا يقول بلغته: (أعينا عموما وآذانا صموما وقلوبا غلوقا). أخرجه البخاري عن العوفي عن فليح. وقد رواه سعيد بن أبي هلال عن هلال بن أسامة عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن سلام فذكر نحوه. ثم قال عطاء: وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعب الأحبار يقول مثل ما قال ابن سلام. قلت: وهذا أصح فإن عطاء لم يدرك كعبا. وروى نحوه أبو غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم أن عبد الله بن سلام قال: صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة وذكر الحديث وروى عطاء بن السائب عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود عن أبيه: إن الله ابتعث نبيه لإدخال رجل الجنة فدخل الكنيسة فإذا هو بيهود وإذا بيهودي يقرأ التوراة فلما أتوا على صفة النبي صلى الله عليه وسلم أمسكوا وفي ناحية الكنيسة رجل مريض فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لكم أمسكتم؟) قال

(1/93)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 94
المريض: أتوا على صفة نبي فأمسكوا ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة فقرأ حتى أتى على صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأمته فقال: هذه صفتك وأمتك أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لوا أخاكم. أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده. أخبرنا جماعة عن ابن اللتي أن أبا الوقت أخبره أنا الداودي أنا ابن حمويه أنا عيسى السمرقندي أنا الدارمي أنبأ مجاهد بن موسى حدثنا معن بن عيسى حدثنا معاوية بن صالح عن أبي فروة عن ابن عباس أنه سأل كعبا: كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: نجده محمد ابن عبد الله يولد بمكة ويهاجر إلى طابة ويكون ملكه بالشام وليس بفحاش ولا سخاب في الأسواق ولا يكافئ بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر أمته الحمادون يحمدون الله في كل سراء ويكبرون الله على كل نجد يوضئون أطرافهم ويأتزرون في أوساطهم يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم دويهم في مساجدهم كدوي النحل يسمع مناديهم في جو السماء. قلت: يعني الأذان. وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني محمد بن ثابت بن شرحبيل عن أم الدرداء قالت: قلت لكعب الحبر: كيف تجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة. فذكر نحو حديث عطاء.

(1/94)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 95

باب قص سلمان الفارسي
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد

(1/95)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 96
عن ابن عباس. حدثني سلمان الفارسي قال: كنت رجلا من أهل فارس من أهل إصبهان من قرية يقال لها جي وكان أبي دهقان أرضه وكان يحبني حبا شديدا لم يحبه شيئا من ماله ولا ولده فما زال به حبه إياي حتى حبسني في البيت كما تحبس الجارية واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار التي يوقدها فلا أتركها تخبو ساعة فكنت لذلك لا أعلم من أمر الناس شيئا إلا ما أنا فيه حتى بنى أبي بنيانا له وكانت له ضيعة فيها بعض العمل فدعاني فقال: أي بني إنه قد شغلني ما ترى من بنياني عن ضيعتي هذه ولا بد لي من اطلاعها فانطلق إليها فمرهم بكذا وكذا ولا تحتبس علي فإنك إن احتبست عني شغلني ذلك عن كل شيء فخرجت أريد ضيعته فمررت بكنيسة للنصارى فسمعت أصواتهم فقلت: ما هذا؟ قالوا: النصارى فدخلت فأعجبني حالهم فوالله ما زلت جالسا عندهم حتى غربت الشمس. وبعث أبي في طلبي في كل وجه حتى جئته حين أمسيت ولم أذهب

(1/96)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 97
إلى ضيعته فقال: أين كنت؟ فقلت: مررت بالنصارى فأعجبني صلاتهم ودعاؤهم فجلست أنظر كيف يفعلون. قال: أي بني دينك ودين آبائك خير من دينهم فقلت: لا والله ما هو بخير من دينهم هؤلاء قوم يعبدون الله ويدعونه ويصلون له نحن نعبد نارا نوقدها بأيدينا إذا تركناها ماتت فخاف فجعل في رجلي حديدا وحبسني فبعثت إلى النصارى فقلت: أين أصل هذا الدين الذي أراكم عليه؟ قالوا: بالشام فقلت: فإذا قدم عليكم من هناك ناس فآذنوني قالوا: نفعل فقدم عليهم ناس من تجارهم فآذنوني بهم فطرحت الحديد من رجلي ولحقت بهم فقدمت معهم الشام فقلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف صاحب الكنيسة فجئته فقلت: إني قد أحببت أن أكون معك في كنيستك وأعبد الله فيها معك وأتعلم منك الخير قال: فكن معي قال: فكنت معه فكان رجل سوء يأمر بالصدقة ويرغبهم فيها فإذا جمعوها له اكتنزها ولم يعطها المساكين فأبغضته بغضا شديدا لما رأيت من حاله فلم ينشب أن مات فلما جاءوا ليدفنوه قلت لهم: هذا رجل

(1/97)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 98
سوء كان يأمركم بالصدقة ويتكنزها قالوا: وما علامة ذلك؟ قلت: أنا أخرج إليكم كنزه فأخرجت لهم سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا فلما رأوا ذلك قالوا: والله لا يدفن أبدا فصلبوه ورموه بالحجارة وجاءوا برجل فجعلوه مكانه ولا والله يا بن عباس ما رأيت رجلا قط لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه وأشد اجتهادا ولا أزهد في الدنيا ولا أدأب ليلا ونهارا وما أعلمني أحببت شيئا قط قبله حبه فلم أزل معه حتى حضرته الوفاة فقلت: قد حضرك ما ترى من أمر الله فماذا تأمرني وإلى من توصيني؟ قال لي: أي بني والله ما أعلمه إلا رجلا بالموصل فأته فإنك ستجده على مثل حالي. فلما مات لحقت بالموصل فأتيت صاحبها فوجدته على مثل حاله من الاجتهاد والزهد فقلت له: إن فلانا أوصى بي إليك. قال: فأقم أي بني فأقمت عنده على مثل أمر صاحبه حتى حضرته الوفاة فقلت: إن فلانا أوصى بي إليك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى

(1/98)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 99
من توصيني؟ قال: والله ما أعلمه إلا رجلا بنصيبين فلما دفناه لحقت بالآخر فأقمت عنده على مثل حالهم حتى حضره الموت فأوصى بي إلى رجل من عمورية بالروم فأتيته فوجدته على مثل حالهم فأقمت عنده واكتسبت حتى كانت لي غنيمة وبقيرات ثم احتضر فكلمته فقال: أي بني والله ما أعلم بقي أحد على مثل ما كنا عليه ولكن قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم مهاجره بين حرتين أرض سبخة ذات نخل وإن فيه علامات لا تخفى بين كتفيه خاتم النبوة يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل فإنه قد أظلك زمانه فلما واريناه أقمت حتى مر بي رجال من تجار العرب من كلب فقلت: لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأنا

(1/99)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 100
أعطيكم غنيمتي هذه وبقراتي؟ قالوا: نعم فأعطيتهم إياها وحملوني حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني عبدا من رجل يهودي بوادي القرى فوالله لقد رأيت النخل وطمعت أن يكون البلد الذي نعت لي صاحبي وما حقت عندي حتى قدم رجل من بني قريظة فابتاعني فخرج بي حتى قدمنا المدينة فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفت نعتها فأقمت في رقي. وبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بمكة لا يذكر لي شيء من أمره مع ما أنا فيه من الرق حتى قدم قباء وأنا أعمل لصاحبي في نخله فوالله إني لفيها إذ جاء ابن عم له فقال: يا فلان قاتل الله بني قيلة والله إنهم الآن مجتمعون على رجل جاء من مكة يزعمون أنه نبي فوالله ما هو إلا أن سمعتها فأخذتني العرواء - يقول الرعدة - حتى ظننت لأسقطن على صاحبي ونزلت أقول: ما هذا الخبر؟ فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة وقال: ما لك ولهذا أقبل على عملك. فقلت: لا شيء إنما سمعت خبرا فأحببت أن أعلمه فلما أمسيت وكان عندي شيء من طعام فحملته وذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فقلت له: بلغني أنك رجل صالح وأن معك أصحابا لك غرباء وقد كان عندي شيء للصدقة

(1/100)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 101
فرأيتكم أحق من بهذه البلاد فهاكها فكل منه فأمسك وقال لأصحابه: كلوا فقلت في نفسي هذه واحدة ثم رجعت وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجمعت شيئا ثم جئته به فقلت: هذا هدية فأكل وأكل أصحابه فقلت: هذه خلتان ثم جئته وهو يتبع جنازة وعلي شملتان لي وهو في أصحابه فاستدرت لأنظر إلى الخاتم فلما رآني استدبرته عرف أني أستثبت شيئا وصف لي فوضع رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصف لي صاحبي فأكببت عليه أقبله وأبكي فقال: تحول يا سلمان هكذا فتحولت فجلست بين يديه وأحب أن يسمع أصحابه حديثي عنه فحدثته يا بن عباس كما حدثتك. فلما فرغت قال: كاتب يا سلمان فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له وأربعين أوقية فأعانني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1/101)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 102
بالنخل ثلاثين ودية وعشرين ودية وعشرا فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرها فإذا فرغت فآذني حتى أكون أنا الذي أضعها بيدي. ففقرتها وأعانني أصحابي يقول حفرت لها بموضع حيث توضع حتى فرغنا منها وخرج معي فكنا نحمل إليه الودي فيضعه بيده ويسوي عليها فوالذي بعثه ما مات منها ودية واحدة. وبقيت علي الدراهم فأتاه رجل من بعض المعادن بمثل البيضة من الذهب فقال: أين الفارسي؟ فدعيت له فقال: خذ هذه فأد بها ما عليك (قلت: يا رسول الله وأين تقع هذه مما علي؟ قال: فإن الله سيؤدي بها عنك) فوالذي نفس سلمان بيده لوزنت لهم منها أربعين أوقية فأديتها إليهم وعتق سلمان وحبسني الرق حتى فاتتني بدر وأحد ثم شهدت الخندق ثم لم يفتني معه مشهد.

(1/102)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 103
قوله: قطن النار جمع قاطن أي مقيم عندها أو هو مصدر كرجل صوم وعدل. وقال يونس بن بكير وغيره عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة حدثني من سمع عمر بن عبد العزيز قال: وجدت هذا من حديث سلمان قال: حدثت عن سلمان: أن صاحب عمورية قال له لما احتضر: إئت غيضتين من أرض الشام فإن رجلا يخرج من إحداهما إلى الأخرى في كل سنة ليلة يعترضه ذوو الأسقام فلا يدعو لأحد به مرض إلا شفي فسله عن هذا الدين دين إبراهيم فخرجت حتى أقمت بها سنة حتى خرج تلك الليلة وإنما كان يخرج مستجيزا فخرج وغلبني عليه الناس حتى دخل في الغيضة حتى ما بقي إلا منكبه فأخذت به فقلت: رحمك الله الحنيفية دين إبراهيم؟ فقال: تسأل عن شيء ما سأل عنه الناس اليوم قد أظلك نبي يخرج عند أهل هذا البيت بهذا

(1/103)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 104
الحرم ويبعث بسفك الدم فلما ذكر ذلك سلمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد رأيت حواري عيسى ابن مريم عليه السلام. وقال مسلمة بن علقمة المازني: ثنا داود بن أبي هند عن سماك بن حرب عن سلامة العجلي قال: جاء ابن أخت لي من البادية يقال له قدامة فقال: أحب أن ألقى سلمان الفارسي فأسلم عليه فخرجنا إليه فوجدناه بالمدائن وهو يومئذ على عشرين ألفا ووجدناه على سرير يشق خوصا فسلمنا عليه فقلت: يا أبا عبد الله هذا ابن أخت لي قد قدم علي من البادية فأحب أن يسلم عليك قال: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته. قلت: يزعم أنه يحبك قال: أحبه الله فتحدثنا وقلنا: يا أبا عبد الله ألا تحدثنا عن أصلك؟ قال: أما أصلي فأنا من أهل رامهرمز كنا قوما مجوسا فأتى رجل نصراني من أهل الجزيرة كانت أمه منا فنزل فينا واتخذ فينا ديرا وكنت من كتاب الفارسية فكان لا يزال غلام معي في الكتاب يجيء مضروبا

(1/104)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 105
يبكي قد ضربه أبواه فقلت له يوما: ما يبكيك؟ قال: يضربني أبواي. قلت: ولم يضربانك؟ فقال: آتي صاحب هذا الدير فإذا علما ذلك ضرباني وأنت لو أتيته سمعت منه حديثا عجبا. قلت: فاذهب بي معك فأتيناه فحدثنا عن بدء الخلق وعن الجنة والنار فحدثنا بأحاديث عجب فكنت أختلف إليه معه وفطن لنا غلمان من الكتاب فجعلوا يجيئون معنا فلما رأى ذلك أهل القرية أتوه فقالوا: يا هناه إنك قد جاورتنا فلم تر من جوارنا إلا الحسن وإنا نرى غلماننا يختلفون إليك ونحن نخاف أن تفسدهم علينا أخرج عنا. قال: نعم. فقال لذلك الغلام الذي كان يأتيه: أخرج معي. قال: لا أستطيع ذلك. قلت: أنا أخرج معك وكنت يتيما لا أب لي فخرجت معه فأخذنا جبل رامهرمز فجعلنا نمشي ونتوكل ونأكل من ثمر الشجر فقدمنا نصيبين.

(1/105)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 106
فقال لي صاحبي: يا سلمان إن هاهنا قوما هم عباد أهل الأرض فأنا أحب أن ألقاهم. قال: فجئناهم يوم الأحد وقد اجتمعوا فسلم عليهم صاحبي فحيوه وبشوا به. وقالوا: أين كانت غيبتك؟ فتحدثنا ثم قال: قم يا سلمان فقلت: لا دعني مع هؤلاء. قال: إنك لا تطيق ما يطيقون هؤلاء يصومون من الأحد إلى الأحد ولا ينامون هذا الليل وإذا فيهم رجل من أبناء الملوك ترك الملك ودخل في العبادة فكنت فيهم حتى أمسينا فجعلوا يذهبون واحدا واحدا إلى غاره الذي يكون فيه فلما أمسينا قال ذاك الرجل الذي من أبناء الملوك: هذا الغلام لا تضيعوه ليأخذه رجل منكم فقالوا: خذه أنت فقال لي: هلم فذهب بي إلى غاره وقال لي: هذا خبز وهذا أدم فكل إذا غرثت وصم إذا نشطت وصل ما بدا لك ونم إذا كسلت ثم قام في صلاته فلم يكلمني فأخذني الغم تلك السبعة الأيام

(1/106)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 107
لا يكلمني أحد حتى كان الأحد وانصرف إلي فذهبنا إلى مكانهم الذي يجتمعون فيه في الأحد فكانوا يفطرون فيه ويلقى بعضهم بعضا ويسلم بعضهم على بعض ثم لا يلتقون إلى مثله قال: فرجعنا إلى منزلنا فقال لي مثل ما قال أول مرة ثم لم يكلمني إلى الأحد الآخر فحدثت نفسي بالفرار فقلت: اصبر أحدين أو ثلاثة فلما كان الأحد واجتمعوا قال لهم: إني أريد بيت المقدس. فقالوا: ما تريد إلى ذلك؟ قال: لا عهد لي به. قالوا: إنا نخاف أن يحدث بك حدث فيليك غيرنا قال: فلما سمعته يذكر ذلك خرجت فخرجنا أنا وهو فكان يصوم من الأحد إلى الأحد ويصلي الليل كله ويمشي بالنهار فإذا نزلنا قام يصلي فأتينا بيت المقدس وعلى الباب مقعد يسأل فقال: أعطني قال: ما معي شيء فدخلنا بيت المقدس فلما رأوه بشوا إليه واستبشروا به فقال لهم: غلامي هذا فاستوصوا به فانطلقوا بي فأطعموني خبزا ولحما ودخل في الصلاة فلم ينصرف إلى الأحد الآخر ثم انصرف فقال: يا

(1/107)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 108
سلمان إني أريد أن أضع رأسي فإذا بلغ الظل مكان كذا فأيقظني فبلغ الظل الذي قال فلم أوقظه مأواة له مما دأب من اجتهاده ونصبه فاستيقظ مذعورا فقال يا سلمان ألم أكن قلت لك: إذا بلغ الظل مكان كذا فأيقظني؟ قلت: بلى ولكن إنما منعني مأواة لك من دأبك. قال: ويحك إني أكره أن يفوتني شيء من الدهر لم أعمل لله فيه خيرا ثم قال: اعلم أن أفضل دين اليوم النصرانية قلت: ويكون بعد اليوم دين أفضل من النصرانية - كلمة ألقيت على لساني -. قال: نعم يوشك أن يبعث نبي يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة فإذا أدركته فاتبعه وصدقه. قلت: وإن أمرني أن أدع النصرانية؟ قال: نعم فإنه لا يأمر إلا بحق ولا يقول إلا حقا والله لو أدركته ثم أمرني أن أقع في النار لوقعت فيها. ثم خرجنا من بيت المقدس فممرنا على ذلك المقعد فقال له: دخلت فلم تعطني وهذا تخرج فأعطني فالتفت فلم ير حوله أحدا قال: أعطني يدك فأخذ بيده فقال: قم بإذن الله فقام صحيحا سويا فتوجه نحو أهله فأتبعته بصري تعجبا مما رأيت وخرج صاحبي مسرعا وتبعته فتلقاني رفقة من كلب فسبوني فحملوني على بعير وشدوني وثاقا

(1/108)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 109
فتداولني البياع حتى سقطت إلى المدينة فاشتراني رجل من الأنصار فجعلني في حائط له ومن ثم تعلمت عمل الخوص أشتري بدرهم خوصا فأعمله فأبيعه بدرهمين فأنفق درهما أحب أن آكل من عمل يدي وهو يومئذ أمير على عشرين ألفا. قال فبلغنا ونحن بالمدينة أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أن الله أرسله فمكثنا ما شاء الله أن نمكث فهاجر إلينا فقلت: لأجربنه فذهبت فاشتريت لحم خروف بدرهم ثم طبخته فجعلت قصعة من ثريد فاحتملتها حتى أتيته بها على عاتقي حتى وضعتها بين يديه. فقال: أصدقة أم هدية؟ قلت: صدقة. فقال لأصحابه: كلوا باسم الله وأمسك ولم يأكل فمكثت أياما ثم اشتريت لحما فأصنعه أيضا وأتيته به فقال: ما هذه؟ قلت: هدية. فقال لأصحابه: كلوا باسم الله وأكل معهم قال: فنظرت فرأيت بين كتفيه خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة فأسلمت ثم قلت له: يا رسول الله أي قوم النصارى؟ قال: لا خير فيهم ثم سألته

(1/109)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 110
بعد أيام قال: لا خير فيهم ولا فيمن يحبهم قلت في نفسي: فأنا والله أحبهم قال: وذاك حين بعث السرايا وجرد السيف فسرية تدخل وسرية تخرج والسيف يقطر. قلت يحدث لي الآن أني أحبهم فيبعث فيضرب عنقي فقعدت في البيت فجاءني الرسول ذات يوم فقال: يا سلمان أجب قلت: هذا والله الذي كنت أحذر فانتهيت إلى رسول الله فتبسم وقال: أبشر يا سلمان فقد فرج الله عنك ثم تلا علي هؤلاء الآيات {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} إلى قوله {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} قلت: والذي بعثك بالحق لقد سمعته يقول: لو أدركته فأمرني أن أقع في النار لوقعتها. هذا حديث منكر غريب والذي قبله أصح وقد تفرد مسلمة بهذا وهو ممن احتج به مسلم ووثقه ابن معين وأما أحمد بن حنبل

(1/110)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 111
فضعفه رواه قيس بن حفص الدارمي شيخ البخاري عنه. وقال عبد الله بن عبد القدوس: حدثنا عبيد المكتب نا أبو الطفيل حدثني سلمان قال: كنت من أهل جي وكان أهل قريتي يعبدون الخيل البلق فكنت أعرف أنهم ليسوا على شيء فقيل لي: إن الدين الذي تطلب بالمغرب فخرجت حتى أتيت الموصل فسألت عن أفضل رجل بها فدللت على رجل في صومعة ثم ذكر نحوه. كذا قال الطبراني قال وقال في آخره: فقلت لصاحبي: بعني نفسي قال: على أن تنبت لي مائة نخلة فإذا نبتن جئتني بوزن نواة من ذهب فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: اشتر نفسك بالذي سألك وائتني بدلو من ماء النهر الذي كنت تسقي منه ذلك النخل قال: فدعا لي ثم سقيتها فوالله لقد غرست مائة فما غادرت منها نخلة إلا نبتت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن النخل قد نبتن فأعطاني قطعة من ذهب فانطلقت بها فوضعتها في كفة الميزان ووضع في الجانب الآخر نواة قال: فوالله ما استعلت القطعة الذهب من الأرض قال: وجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأعتقني.

(1/111)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 112
علي بن عاصم أنا حاتم بن أبي صغيرة عن سماك بن حرب عن زيد بن صوحان أن رجلين من أهل الكوفة كانا صديقين (لزيد بن صوحان أتياه يكلم لهما سلمان أن يحدثهما بحديثه كيف كان إسلامه فأقبلا معه حتى لقوا سلمان رضي الله عنه وهو بالمدائن أميرا عليها وإذا هو على كرسي قاعد وإذا خوص بين يديه وهو يشقه قالا: فسلمنا وقعدنا فقال له زيد: يا أبا عبد الله إن هذين لي صديقان) ولهما أخ وقد أحبا أن يسمعا حديثك كيف كان أول إسلامك؟ قال: فقال سلمان: كنت يتيما من رامهرمز وكان ابن دهقان رامهرمز يختلف إلى معلم يعلمه فلزمته لأكون في كنفه وكان لي أخ أكبر مني وكان مستغنيا في نفسه وكنت غلاما فقيرا فكان إذا قام من مجلسه تفرق من يحفظه فإذا تفرقوا خرج فتقنع بثوبه ثم يصعد متنكرا فقلت: لم لا تذهب بي معك؟ فقال: أنت غلام وأخاف أن يظهر منك شيء قلت: لا تخف قال: فإن في هذا الجبل قوما في برطيل لهم عبادة يزعمون أنا عبدة النيران وأنا على غير دين فأستأذن لك قال: فاستأذنهم ثم واعدني وقال: أخرج في وقت كذا ولا يعلم بك أحد فإن أبي إن علم بهم قتلهم قال: فصعدنا إليهم. قال علي - وأراه قال - وهم ستة أو سبعة قال: وكأن الروح قد

(1/112)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 113
خرجت منهم من العبادة يصومون النهار ويقومون الليل يأكلون الشجر وما وجدوا فقعدنا إليهم فذكر الحديث بطوله وفيه أن الملك شعر بهم فخرجوا وصحبهم سلمان إلى الموصل واجتمع بعابد من بقايا أهل الكتاب فذكر من عبادته وجوعه شيئا مفرطا وأنه صحبه إلى بيت المقدس فرأى مقعدا فأقامه فحملت المقعد على أتانه ليسرع إلى أهله فانملس مني صاحبي فتبعت أثره فلم أظفر به فأخذني ناس من كلب وباعوني فاشترتني امرأة من الأنصار فجعلتني في حائط لها وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتراني أبو بكر فأعتقني. وهذا الحديث يشبه حديث مسلمة المزني لأن الحديثين يرجعان إلى سماك ولكن قال هنا عن زيد بن صوحان فهو منقطع فإنه لم يدرك زيد بن صوحان وعلي بن عاصم ضعيف كثير الوهم والله أعلم. عمرو العنقزي: أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي قرة

(1/113)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 114
الكندي عن سلمان قال: كان أبي من الأساورة فأسلمني الكتاب فكنت أختلف ومعي غلامان فإذا رجعا دخلا على راهب أو قس فدخلت معهما فقال لهما ألم أنهكما أن تدخلا علي أحدا فكنت أختلف حتى كنت أحب إليه منهما فقال لي: يا سلمان إني أحب أن أخرج من هذه الأرض. قلت: وأنا معك فأتى قرية فنزلها وكانت امرأة تختلف إليه فلما حضر قال: احفر عند رأسي فحفرت فاستخرجت جرة من دراهم فقال: ضعها على صدري فجعل يضرب بيده على صدره ويقول: ويل للقنائين ! قال: ومات فاجتمع القسيسون والرهبان هممت أن أحتمل المال ثم إن الله عصمني فقلت للرهبان فوثب شباب من أهل القرية فقالوا: هذا مال أبينا كانت سريته تختلف إليه فقلت لأولئك: دلوني على عالم أكون معه قالوا: ما نعلم أحدا أعلم من راهب بحمص فأتيته فقال: ما جاء بك إلا طلب العلم. قلت: نعم. قال: فإني لا أعلم أحدا أعلم من رجل يأتي بيت المقدس كل سنة في هذا الشهر فانطلقت فوجدت حماره واقفا فقصصت عليه فقال: اجلس هاهنا حتى أرجع إليك فذهب فلم يرجع إلى العام المقبل فقال: وإنك لهاهنا بعد؟ قلت: نعم قال: فإني لا أعلم أحدا في الأرض أعلم من رجل يخرج بأرض تيماء وهو نبي وهذا زمانه وإن انطلقت الآن وافقته وفيه ثلاث: خاتم النبوة ولا يأكل الصدقة ويأكل الهدية. وذكر الحديث.

(1/114)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 115
وقال ابن لهيعة: أنبأنا يزيد بن أبي حبيب حدثني السلم بن الصلت عن أبي الطفيل عن سلمان قال: كنت رجلا من أهل جي مدينة إصبهان فأتيت رجلا يتحرج من كلام الناس فسألته: أي الدين أفضل؟ قال ما أعلم أحدا غير راهب بالموصل فذهبت إليه. وذكر الحديث. وفيه: فأتيت حجازيا فقلت: تحملني إلى المدينة؟ قال ما تعطيني؟ قلت: أنا لك عبد فلما قدمت جعلني في نخلة فكنت أستقي كما يستقي البعير حتى دبر ظهري وصدري من ذلك ولا أجد أحدا يفقه كلامي حتى جاءت عجوز فارسية تستقي فقلت لها: أين هذا الرجل الذي خرج؟ فدلتني عليه فجمعت تمرا وجئت فقربته إليه. وذكر الحديث.

(1/115)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 116
فارغة.

(1/116)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 117
ذكر مبعثه صلى الله عليه وسلم
قال الزهري عن عروة عن عائشة قالت: أول ما بدئ به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه أي يتعبد الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: إقرأ قال: فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: إقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني الثانية فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: إقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} حتى بلغ إلى قوله {ما لم

(1/117)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 118
يعلم} قالت: فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال: يا خديجة مالي ! وأخبرها الخبر وقال: قد خشيت علي فقالت له: كلا فوالله لا يخزيك الله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق ثم انطلقت به خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وكان أمرا تنصر في الجاهلية وكان يكتب الخط العربي فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا قد عمي. فقالت: اسمع من ابن أخيك فقال: يا بن أخي ما ترى؟ فأخبره فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى يا ليتني فيها جذعا حين يخرجك قومك قال: أو مخرجي هم؟ قال: نعم لم يأت أحد بما جئت به إلا عودي وأوذي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.

(1/118)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 119
ثم لم ينشب ورقة أن توفي. فروى الترمذي عن أبي موسى الأنصاري عن يونس بن بكير عن عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري عن عروة عن عائشة سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ورقة فقالت له خديجة: إنه - يا رسول الله - كان صدقك وإنه مات قبل أن تظهر فقال رأيته في المنام عليه ثياب بيض ولو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك. وجاء من مراسيل عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت لورقة جنة أو جنتين. وقال الزهري عن عروة عن عائشة: وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا وغدا مرارا كي يتردى من شواهق الجبال وكلما أوفى بذروة ليلقي نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل

(1/119)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 120
فقال مثل ذلك. رواه أحمد في مسنده والبخاري. وقال هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين. رواه البخاري. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال: أنزل على رسول الله صلى اله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة فمكث بمكة عشرا وبالمدينة عشرا. وقال محمد بن أبي عدي عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل القرآن فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة ومات وهو ابن ثلاث وستين. أخبرنا أبو المعالي الأبرقوهي أنا عبد القوي بن الجباب أنبأ

(1/120)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 121
عبد الله بن رفاعة أنا علي بن الحسن الخلعي أنا أبو محمد بن النحاس أنا عبد الله بن الورد أنا عبد الرحيم بن عبد الله البرقي ثنا عبد الملك بن هشام ثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق قال: كانت الأحبار والرهبان وكهان العرب قد تحدثوا بأمر محمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب من زمانه أما أهل الكتاب فعما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه وما كان عهد إليهم أنبياؤهم من شأنه وأما الكهان فأتتهم الشياطين بما استرقت من السمع وأنها قد حجبت عن استراق السمع ورميت بالشهب. قال الله تعالى: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} فلما سمعت الجن القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم عرفت أنها منعت من السمع قبل ذلك لئلا يشكل الوحي بشيء من خبر السماء فيلتبس الأمر فآمنوا وصدقوا وولوا على قومهم منذرين. وعن يعقوب بن عتبة أنه بلغه أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم ثقيف فجاءوا إلى عمرو بن أمية وكان أدهى العرب فقالوا: ألا ترى ما حدث؟ قال: بلى فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها وتعرف بها الأنواء هي التي يرمي بها فهي والله طي الدنيا وهلاك أهلها وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا أمر أراد الله به هذا الخلق فما هو. قلت: روى حديث يعقوب بنحوه حصين عن الشعبي لكن قال: فأتوا عبد يا ليل بن عمرو الثقفي وكان قد عمي.

(1/121)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 122
وقد جاء غير حديث بأسانيد واهية أن غير واحد من الكهان أخبره رئية من الجن بأسجاع ورجز فيها ذكر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وسمع من هواتف الجان من ذلك أشياء. وبالإسناد إلى ابن إسحاق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه لنا أنا كنا نسمع من يهود وكنا أصحاب أوثان وهم أهل كتاب وكان لا يزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم قالوا إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم وكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به ففي ذلك نزل {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} الآيات. حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد عن سلمة بن سلامة بن وقش قال: كان لنا جار يهودي فخرج يوما حتى وقف على بني عبد الأشهل وأنا أحدثهم سنا فذكر القيامة والحساب والميزان والجنة والنار قال ذلك لقوم أصحاب أوثان لا يرون بعثا بعد الموت فقالوا له: ويحك يا فلان أو ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون ! قال: نعم قالوا: فما آية ذلك؟ قال: نبي مبعوث من نحو هذه

(1/122)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 123
البلاد وأشار إلى مكة واليمن قالوا: ومتى نراه؟ قال فنظر إلي وأنا حدث فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا فقلنا له: ويحك يا فلان ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت ! قال: بلى ولكن ليس به. حدثني عاصم بن عمر عن شيخ من بني قريظة قال لي: هل تدري عم كان الإسلام لثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد نفر من أخوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا سادتهم في الإسلام؟ قلت: لا والله قال: إن رجلا من يهود الشام يقال له ابن الهيبان قدم علينا قبل الإسلام بسنين فحل بين أظهرنا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه فأقام عندنا فكان إذا قحط عنا المطر يأمرنا بالصدقة ويستسقي لنا فوالله ما يبرح من مجلسه حتى نسقى قد فعل ذلك غير مرتين ولا ثلاث ثم حضرته الوفاة فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس؟ قلنا: أنت أعلم قال: إنما قدمت أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه وهذه البلدة مهاجرة فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن غليه يا معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن خالفه فلا يمنعنكم ذلك منه.

(1/123)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 124
فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم وحاصر خيبر قال هؤلاء الفتية وكانوا شبانا أحداثا: يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيبان قالوا: ليس به فنزل هؤلاء وأسلموا وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهاليهم. وبه قال ابن إسحاق: وكانت خديجة قد ذكرت لعمها ورقة بن نوفل وكان قد قرأ الكتب وتنصر ما حدثها ميسرة من قول الراهب وإظلال الملكين فقال: لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة وقد عرف أن لهذه الأمة نبيا ينتظر زمانه قال: وجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول: حتى متى وقال:
لججت وكنت في الذكرى لجوجا..... لهم طالما بعث النشيجا)
(ووصف من خديجة بعد وصف..... فقد طال انتظاري يا خديجا)
(ببطن المكتين على رجائي..... حديثك أن أرى منه خروجا)
(بما خبرتنا من قول قس..... من الرهبان أكره أن يعوجا)
(بأن محمدا سيسود قوما..... ويخصم من يكون له حجيجا)
(ويظهر في البلاد ضياء نور..... يقيم به البرية أن تموجا)
(فيلقى من يحاربه خسارا..... ويلقى من يسالمه فلوجا)
(فيا ليتني إذا ما كان ذاكم..... شهدت فكنت أولهم ولوجا)

(1/124)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 125

فإن يبقوا وأبق تكن أمور..... يضج الكافرون لها ضجيجا)
وقال سليمان بن معاذ الضبي عن سماك عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بمكة لحجرا كان يسلم علي ليالي بعثت إني لأعرفه الآن رواه أبو داود. وقال يحيى بن أبي كثير: ثنا أبو سلمة قال: سألت جابرا أي القرآن أنزل أول {يا أيها المدثر} أو {اقرأ باسم ربك} فقال: ألا أحدثكم بما حدثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي فلم أر شيئا ثم نظرت إلى السماء فإذا هو على عرش في الهواء يعني الملك فأخذني رجفة فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني ثم صبوا علي الماء فأنزل الله {يا أيها المدثر قم فأنذر} . وقال الزهري: عن أبي سلمة عن جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي قال: بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء

(1/125)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 126
فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت فقلت: زملوني فدثروني ونزلت: {يا أيها المدثر} إلى قوله {والرجز فاهجر} وهي الأوثان. متفق عليه. وهو نص في أن {يا أيها المدثر} نزلت بعد فترة الوحي الأول وهو {اقرأ باسم ربك} فكان الوحي الأول للنبوة والثاني للرسالة.

(1/126)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 127

فأول من آمن به خديجة (رض)
قال عز الدين أبو الحسن بن الأثير: خديجة أول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين لم يتقدمها رجل ولا امرأة. وقال الزهري وقتادة وموسى بن عقبة وابن إسحاق والواقدي وسعيد بن يحيى الأموي وغيرهم: أول من أمن بالله ورسوله: خديجة وأبو بكر وعلي. وقال حسان بن ثابت وجماعة: أبو بكر أول من أسلم. وقال غير واحد: بل علي. وعن ابن عباس: فيهما قولان. لكن أسلم علي وله عشر سنين أو

(1/127)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 128
نحوها على الصحيح وقيل: وله ثمان سنين وقيل: تسع وقيل: اثنتا عشرة وقيل: خمس عشرة وهو قول شاذ فإن ابنه محمدا وأبا جعفر الباقر وأبا إسحاق السبيعي وغيرهم قالوا: توفي وله ثلاث وستون سنة. فهذا يقضي بأنه أسلم وله عشر سنين حتى إن سفيان بن عيينة روى عن جعفر الصادق عن أبيه قال: قتل علي وله ثمان وخمسون سنة. وقال ابن إسحاق: أول ذكر آمن بالله علي رضي الله عنه وهو ابن عشر سنين ثم اسلم زيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم أبو بكر. وقال الزهري: كانت خديجة أول من آمن بالله وقبل الرسول رسالة ربه وانصرف إلى بيته وجعل لا يمر على شجرة ولا صخرة إلا سلمت عليه فلما دخل على خديجة قال: أرأيتك الذي كنت أحدثك أني رأيته في المنام فإنه جبريل استعلن لي أرسله إلي ربي وأخبرها بالوحي فقالت: أبشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا فأقبل الذي جاءك من الله فإنه حق ثم انطلقت إلى عداس غلام عتبة بن ربيعة وكان نصرانيا من أهل نينوى فقالت: أذكرك الله إلا ما أخبرتني هل عندك علم من جبريل؟ فقال عداس: قدوس قدوس. قالت: أخبرني بعلمك فيه قال: فإنه أمين الله بينه وبين النبيين وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام. فرجعت من عنده إلى ورقة. فذكر الحديث.

(1/128)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 129
وقد رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير بنحو منه وزاد ففتح جبريل عينا من ماء فتوضأ ومحمد صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فوضا وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح رأسه ورجليه إلى الكعبين ثم نضح فرجه وسجد سجدتين مواجه البيت ففعل النبي صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل يفعل.
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم
قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي عن بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه وكان يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة ينسك فيه. وقال سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1/129)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 130
إني لأعرف حجرا بمكة يسلم علي قبل أن أبعث. أخرجه مسلم. وقال الوليد بن أبي ثور وغيره عن إسماعيل السدي عن عباد بن عبد الله عن علي رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرج في بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. أخرجه الترمذي وقال: غريب. وقال يوسف بن يعقوب القاضي: ثنا أبو الربيع ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من مكة قد خضبه أهل مكة بالدماء قال: ما لك؟ قال: خضبني هؤلاء بالدماء وفعلوا وفعلوا قال: تريد أن أريك آية؟ قال: نعم قال: ادع تلك الشجرة فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت تخط الأرض حتى قامت بين يديه قال: مرها فلترجع إلى مكانها قال: ارجعي إلى مكانك فرجعت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبي. هذا حديث صحيح. وقال ابن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان سمعت عبد الله بن الزبير يقول لعبد الله بن عمير بن قتادة الليثي حدثت أبا عبيد الله عن كيف كان بدء ما ابتدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين جاءه جبريل فقال عبيد الله بن عمير: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا وكان ذلك مما

(1/130)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 131
تتحنث به قريش في الجاهلية. والتحنث التبرر. قال ابن إسحاق: فكان يجاور ذلك في كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فإذا قضى جواره من شهره كان أول ما يبدأ به الكعبة فيطوف ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله كرامته وذلك الشهر رمضان خرج صلى الله عليه وسلم إلى حراء ومعه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته جاءه جبريل بأمر الله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال: إقرأ قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: إقرأ فقلت: وما أقرأ؟ فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: إقرأ قلت: وما أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي فقال: {اقرأ باسم ربك} إلى قوله {ما لم يعلم} فقرأتها ثم انتهى عني وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا. في هذا المكان زيادة زادها يونس بن بكير عن ابن إسحاق وهي: ولم يكن في خلق الله أحد أبغض إلي من شاعر أو مجنون فكنت لا أطيق أن أنظر إليهما فقلت: إن الأبعد يعني نفسه لشاعر أو مجنون ثم قلت: لا تحدث عني قريش بهذا أبدا لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي فلأستريحن فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فرفعت

(1/131)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 132
رأسي إلى السماء فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء فقال: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فوقفت أنظر إليه فما أتقدم ولا أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفا حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني فانصرفت إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا أعلى مكة ورجعوا ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت: أبشر يا بن عمي واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة. ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها وكان قد تنصر وقرأ الكتب فأخبرته بما رأى وسمع فقال ورقة: قدوس قدوس والذي نفسي بيده لئن كنت صدقت يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي يأتي موسى وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة فلما قضى جواره طاف بالكعبة فلقيه ورقة وهو يطوف فقال: أخبرني بما رأيت وسمعت فأخبره فقال: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذنه ولتخرجنه ولتقاتلنه ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه.

(1/132)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 133
وقال موسى بن عقبة في مغازيه: كان صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا أول ما رأى أن الله أرآه رؤيا في المنام فشق ذلك عليه فذكرها لخديجة فعصمها الله وشرح صدرها بالتصديق فقالت: أبشر ثم أخبرها أنه رأى بطنه شق ثم طهر وغسل ثم أعيد كما كان قالت: هذا والله خير فأبشر ثم استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة فأجلسه في مجلس كريم معجب كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك فيه الياقوت واللؤلؤ فبشره برسالة الله عز وجل حتى اطمأن. الذي فيها من شق بطنه يحتمل أن يكون أخبرها بما تم له في صغره ويحتمل أن يكون شق مرة أخرى ثم شق مرة ثالثة حين عرج به إلى السماء. وقال ابن بكير عن ابن إسحاق فأنشد ورقة:
إن يك حقا يا خديجة فاعلمي..... حديثك إيانا فأحمد مرسل)
(وجبريل يأتيه وميكال معهما..... من الله وحي يشرح الصدر منزل)
(يفوز به من فاز فيها بتوبة..... ويشقى به العاني الغوي المضلل)
(فسبحان من تهوى الرياح بأمره..... ومن هو في الأيام ما شاء يفعل)
(ومن عرشه فوق السماوات كلها..... وأقضاؤه في خلقه لا تبدل)

(1/133)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 134
وقال ابن إسحاق حدثني إسماعيل بن أبي حكيم أن خديجة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ابن عم إن استطعت أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك قال: نعم قال فلما جاءه قال: يا خديجة هذا جبريل هل تراه؟ قالت: يا بن عم قم فاجلس على فخذي اليسرى فقام فجلس عليها قالت: هل تراه: قال نعم قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى فتحول فقعد على فخذها قالت: هل تراه؟ قال: نعم قالت: فاجلس في حجري ففعل قالت: هل تراه: قال: نعم فتحسرت فألقت خمارها ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا قالت: إثبت وأبشر فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان. قال: وحدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث فقال: قد سمعت أمي فاطمة بنت حسين تحدث هذا الحديث عن خديجة إلا أني سمعتها تقول: أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها فذهب عند ذلك جبريل فقالت: إن هذا لملك وما هو بشيطان. وقال أبو صالح: نا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني محمد بن عباد بن جعفر المخزومي أنه سمع بعض علمائهم يقول: كان أول ما أنزل الله على نبيه {اقرأ باسم ربك} إلى قوله {ما لم يعلم} فقالوا: هذا صدرها الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حراء ثم أنزل آخرها بعد بما شاء الله.

(1/134)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 135
وقال ابن إسحاق: ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في رمضان قال الله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} وقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} وقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة). قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: همز جبريل بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت عين فتوضأ جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم ثم صلى ركعتين ورجع وقد أقر الله عينه وطابت نفسه فأخذ بيد خديجة حتى أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل ثم صلى ركعتين هو وخديجة ثم كان هو وخديجة يصليان سرا ثم إن عليا جاء بعد ذلك بيوم فوجدهما يصليان فقال علي: ما هذا يا محمد. فقال: دين اصطفاه الله لنفسه وبعث به رسله فأدعوك إلى الله وحده وكفر باللات والعزى. فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرأ حتى أحدث به أبا طالب وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن عليه أمره فقال له: يا علي إن لم تسلم فاكتم فمكث علي تلك الليلة ثم أوقع الله في قلبه الإسلام فأصبح فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي يأتيه على خوف من أبي طالب وكتم إسلامه.

(1/135)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 136
وأسلم زيد بن حارثة فمكثا قريبا من شهر يختلف علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مما أنعم الله على علي أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام. وقال سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: أصابت قريشا أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس عمه - وكان موسرا - إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى فانطلق لنخفف عنه من عياله فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم عليا وضمه إليه فلم يزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي وآمن به. وقال الدراوردي عن عمر بن عبد الله عن محمد بن كعب القرظي قال: إن أول من أسلم خديجة وأول رجلين أسلما أبو بكر وعلي وإن أبا بكر أول من أظهر الإسلام وإن عليا كان يكتم الإسلام فرقا من أبيه حتى لقيه أبوه فقال: أسلمت؟ قال: نعم قال: آزر ابن عمك وانصره. وقال: أسلم علي قبل أبي بكر. وقال يونس: عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر إلا أبا بكر ما عتم عنه حين

(1/136)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 137
ذكرته وما تردد فيه. وقال إسرائيل عن ابن إسحاق عن أبي ميسرة إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا برز سمع من يناديه يا محمد فإذا سمع الصوت انطلق هاربا فأسر ذلك إلى أبي بكر وكان نديما له في الجاهلية.
إسلام السابقين الأولين
قال ابن إسحاق: ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة ومعه علي فيصليان فإذا أمسيا رجعا ثم إن أبا طالب عبر عليهما وهما يصليان فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي ما هذا؟ قال: أي عم هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين إبراهيم بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني وأعانني فقال أبو طالب: أي ابن أخي لا أستطيع أن أفارق دين آبائي ولكن والله لا يخلص إليك شيء تكرهه ما بقيت ولم يكلم عليا بشيء يكره فزعموا أنه قال: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فاتبعه. ثم أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أول ذكر أسلم وصلى بعد علي رضي الله عنهما.

(1/137)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 138
وكان حكيم بن حزام قدم من الشام برقيق فدخلت عمته خديجة بنت خويلد فقال: اختاري أي هؤلاء الغلمان شئت فهو لك فاختارت زيدا فأخذته فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فاستوهبه فوهبته له فأعتقه وتبناه قبل الوحي ثم قدم أبوه حارثة لموجدته عليه وجزعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت فأقم عندي وإن شئت فانطلق مع أبيك قال: بل أقيم عندك وكان يدعى زيد بن محمد فلما نزل {ادعوهم لآبائهم} قال: أنا زيد بن حارثة. وقال ابن إسحاق: وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه محببا سهلا وكان أنسب قريش لقريش وكان تاجرا ذا خلق ومعروف فجعل لما أسلم يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه فأسلم بدعائه: عثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلموا وصلوا فكان هؤلاء النفر الثمانية أول من سبق بالإسلام وصلوا وصدقوا. ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله المخزومي والأرقم بن أبي الأرقم ابن أسد بن عبد الله المخزومي. وعثمان بن مظعون الجمحي وأخواه قدامة وعبد الله وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف المطلبي وسعيد ابن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي وامرأته فاطمة أخت عمر بن الخطاب وأسماء بنت أبي بكر وخباب بن الأرت حليف بني زهرة وعمير بن أبي وقاص أخو سعد وعبد الله بن مسعود وسليط بن عمرو بن عبد شمس العامري

(1/138)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 139
وأخوه حاطب وعياش بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وامرأته أسماء وخنيس بن حذافة السهمي وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب وعبد الله وأبو أحمد ابنا جحش بن رئاب الأسدي وجعفر بن أبي طالب وامرأته أسماء بنت عميس وحاطب بن الحارث الجمحي وامرأته فاطمة بنت المجلل وأخوه خطاب وامرأته فكيهة بنت يسار ومعمر بن الحارث أخوهما والسائب بن عثمان بن مظعون والمطلب بن أزهر بن عبد عوف العدوي الزهري وامرأته رملة بنت أبي عوف والنحام وهو نعيم بن عبد الله ابن أسد العدوي وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية وامرأته أمينة بنت خلف وحاطب بن عمرو وأبو حذيفة مهشم بن عتبة بن ربيعة وواقد بن عبد الله حليف بني عدي وخالد وعامر وعاقل وإياس بنو البكير حلفاء بني عدي وعمار بن ياسر حليف بني مخزوم وصهيب بن سنان النمري حليف بني تيم. وقال محمد بن عمر الواقدي: حدثني الضحاك بن عثمان عن مخرمة بن سليمان الوالبي عن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: قال طلحة بن عبيد الله: حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل الموسم أفيهم أحد من أهل الحرم؟ قال طلحة: قلت: نعم أنا فقال: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد

(1/139)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 140
المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه وهو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم ومهاجره إلى نخل وحرة وسباخ فإياك أن تسبق إليه قال طلحة: فوقع في قلبي فأسرعت إلى مكة فقلت: هل من حدث؟ قالوا: نعم محمد بن عبد الله الأمين تنبأ وقد تبعه ابن أبي قحافة فدخلت عليه فقلت: اتبعت هذا الرجل؟ قال: نعم فانطلق فاتبعه فأخبره طلحة بما قال الراهب فخرج به حتى دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم طلحة وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم وكان نوفل يدعى أسد قريش فلذلك سمي أبو بكر وطلحة: القرينيز. وقال إسماعيل بن مجالد عن بيان بن بشر عن وبرة عن همام قال: سمعت عمار بن ياسر يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر. أخرجه البخاري. قلت: ولم يذكر عليا لأنه كان صغيرا ابن عشر سنين. وقال العباس بن سالم ويحيى بن أبي كثير عن أبي أمامة عن عمرو بن عبسة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة مستخفيا فقلت: من أنت؟ قال: نبي قلت: وما النبي؟ قال: رسول الله قلت: الله أرسلك؟ قال: نعم قلت: بم أرسلك؟ قال: بأن يعبد الله وتكسر الأوثان وتوصل الأرحام قلت: نعم ما أرسلت به فمن تبعك؟ قال: حر وعبد يعني أبا بكر وبلالا فكان عمرو يقول: لقد رأيتني وأنا رابع أربعة فأسلمت وقلت: أتبعك يا رسول الله قال: لا ولكن إلحق

(1/140)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 141
بقومك فإذا أخبرت بأني قد خرجت فاتبعني أخرجه مسلم. وقال هاشم بن هاشم عن ابن المسيب أنه سمع سعد بن أبي وقاص يقول: لقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام. أخرجه البخاري. وقال زائدة عن عاصم عن زر عن عبد الله قال: أول من أظهر

(1/141)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 142
إسلامه سبعة: النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأمه وصهيب وبلال والمقداد. تفرد به يحيى بن أبي كثير. وقال إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن سعيد بن زيد قال: والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي وأخته على الإسلام قبل أن يسلم عمر ولو أن أحدا ارفض للذي صنعتم بعثمان لكان. أخرجه البخاري. وقال الطيالسي في مسنده: ثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود قال: كنت يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط بمكة فأتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وقد فرا من المشركين

(1/142)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 143
فقالا: يا غلام هل عندك لبن تسقينا؟ قلت: إني مؤتمن ولست بساقيكما فقالا: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل؟ قلت: نعم فأتيتهما بها فاعتقلها أبو بكر وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الضرع فدعا فحفل الضرع وأتاه أبو بكر بصخرة منقعرة فحلب فيها ثم شربا وسقياني ثم قال للضرع: اقلص فقلص فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: علمني من هذا القول الطيب يعني القرآن فقال: إنك غلام معلم فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد.
فصل في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عشيرته إلى الله وما لقي من قومه
قال جرير: عن عبد الملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا النبي صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا

(1/143)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 144
أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها. أخرجه مسلم عن قتيبة وزهير عن جرير واتفقا عليه من حديث الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة. وقال سليمان التيمي عن ابي عثمان عن قبيصة بن المخارق وزهير بن عمرو قالا: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رضمة من جبل فعلاها ثم نادى: يا بني عبد مناف إني نذير إنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله فخشي أن يسبقوه فهتف: يا صباحاه أخرجه مسلم. وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل واستكتمني اسمه عن ابن عباس عن علي قال: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرفت أني إن بادأت قومي رأيت منهم ما أكره فصمت عليها فجاءني جبريل فقال: يا محمد

(1/144)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 145
إنك إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك قال علي: فدعاني فقال: يا علي إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره فصمت ثم جاءني جبريل فقال: إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك فاصنع لنا يا علي رجل شاة على صاع من طعام وأعد لنا عس لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب ففعلت فاجتمعوا له وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فقدمت إليهم تلك الجفنة فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حذية فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها وقال: كلوا باسم الله فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما نرى إلا آثار أصابعهم والله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسقهم يا علي فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعا وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بدره أبو لهب فقال: لهدما سحركم صاحبكم فتفرقوا ولم يكلمهم فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم من الغد: عد لنا يا علي بمثل ما صنعت بالأمس ففعلت وجمعتهم فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس فأكلوا حتى نهلوا وشربوا من ذلك القعب حتى نهلوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة. قال أحمد بن عبد الجبار العطاردي: بلغني أن ابن إسحاق إنما سمعه

(1/145)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 146
من عبد الغفار بن القاسم أبي مريم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث. وقال يونس عن ابن إسحاق: فكان بين ما أخفى النبي صلى الله عليه وسلم أمره إلى أن أمر بإظهاره ثلاث سنين. وقال الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف ؛ يا صباحاه قالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب: تبا لك ألهذا جمعتنا ثم قام فنزلت (تبت يدا أبي لهب وقد تب) كذا قرأ الأعمش. متفق عليه إلا وقد تب فعند بعض أصحاب الأعمش وهي في صحيح مسلم. وقال ابن عيينة: ثنا الوليد بن كثير عن ابن تدرس عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما نزلت {تبت يدا أبي لهب} أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول:

(1/146)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 147

مذمما أبينا..... ودينه قلينا..... وأمره عصينا)
والنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فقال أبو بكر: يا رسول الله قد أقبلت وأخاف أن تراك قال: إنها لن تراني وقرأ قرآنا فاعتصم به وقرأ {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا} فوقفت على أبي بكر ولم تر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أخبرت أن صاحبكم هجاني فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها. روى نحوه علي بن مسهر عن سعيد بن كثير عن أبيه عن أسماء. وقال أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: انظروا قريشا كيف يصرف الله عني شتمهم ولعنهم يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمد. أخرجه البخاري. وقال ابن إسحاق: وفشا الإسلام بمكة ثم أمر الله رسوله فقال {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} وقال {وقل إني أنا النذير المبين} قال: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر بشعب إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون فناكروهم وعابوا عليهم وقاتلوهم

(1/147)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 148
فضرب سعد رجلا من المشركين بلحي بعير فشجه فكان أول دم في الإسلام فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه وصدع بالإسلام لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه - فيما بلغني - حتى عاب آلهتهم فأعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته فحدب عليه عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه فلما رأت قريش أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه ورأوا أن عمه يمنعه مشوا إلى أبي طالب فكلموه وقالوا: إما أن تكفه عن آلهتنا وعن الكلام في ديننا وإما أن تخلي بيننا وبينه فقال لهم قولا رفيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا. ثم بعد ذلك تباعد الرجال وتضاغنوا أكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحض بعضهم بعضا عليه ومشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا: إن لك نسبا وشرفا فينا وإنا استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه وإنا والله ما نصبر على شتم آلهتنا وتسفيه أحلامنا حتى تكفه أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوته لهم ولم يطب نفسا أن يسلم رسول الله لهم ولا أن يخذله. وقال يونس بن بكير عن طلحة بن يحيى بن عبيد الله عن موسى بن طلحة قال: أخبرني عقيل بن أبي طالب قال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا فقال: يا عقيل انطلق فائتني بمحمد فانطلقت إليه فاستخرجته من حفش أو

(1/148)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 149
كبس - يقول بيت صغير - فلما أتاهم قال أبو طالب: إن بني عمك هؤلاء قد زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم فانته عن أذاهم فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال: أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم قال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة فقال أبو طالب: والله ما كذبنا ابن أخي قط فارجعوا. رواه البخاري في التاريخ عن أبي كريب عن يونس. وقال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة أن قريشا حين قالت لأبي طالب ما قالوا بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بن أخي إن قومك قد جاءوا إلي فقالوا: كذا وكذا فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه بداء وأنه خاذله ومسلمة فقال: يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته. ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب

(1/149)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 150
فقال: أقبل يا بن أخي فأقبلت إليه فقال: اذهب فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك أبدا. قال ابن إسحاق فيما رواه عنه يونس: ثم قال أبو طالب في ذلك شعرا.
والله لن يصلوا إليك بجمعهم..... حتى أوسد في التراب دفينا)
(فامض لأمرك ما عليك غضاضة..... أبشر وقر بذاك منك عيونا)
(ودعوتني وزعمت أنك ناصحي..... فلقد صدقت وكنت قدما أمينا)
(وعرضت دينا قد عرفت بأنه..... من خير أديان البرية دينا)
(لولا الملامة أو حذاري سبة..... لوجدتني سمحا بذاك مبينا)
وقال الحارث بن عبيد: ثنا الجريري عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت {والله يعصمك من الناس} وأخرج رأسه من القبة فقال لهم: أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله. وقال محمد بن عمرو بن علقمة عن محمد بن المنكدر عن ربيعة بن عباد الدؤلي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتبع الناس

(1/150)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 151
في منازلهم يدعوهم إلى الله ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول لا يغرنكم عن دينكم ودين آبائكم. قلت: من هذا؟ قالوا: أبو لهب. وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن ربيعة بن عباد من بني الدئل وكان جاهليا فأسلم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم بذي المجاز وهو يمشي بين ظهراني الناس يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. ووراءه أبو لهب. فذكر الحديث. قال ربيعة: وأنا يومئذ أزفر القربة لأهلي. وقال شعبة عن الأشعث بن سليم عن رجل من كنانة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز وهو يقول: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. وإذا خلفه رجل يسفي عليه التراب فإذا هو أبو جهل ويقول: لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى. إسناده قوي. وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه حدثني نعيم بن أبي هند عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين

(1/151)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 152
أظهركم؟ قيل: نعم فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه فقيل له: ما لك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا. أخرجه مسلم. وقال عكرمة عن ابن عباس قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن عنقه فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو فعل لأخذته الملائكة عيانا. أخرجه البخاري. وقال محمد بن إسحاق: ثم إن قريشا أتوا أبا طالب فقالوا: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصرته واتخذه ولدا فهو لك وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك نقتله فإنما رجل كرجل فقال: بئس والله ما تسومونني أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه ! هذا والله ما لا يكون أبدا.

(1/152)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 153
فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا فقال: والله ما أنصفوني لكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم فقال أبو طالب:
ألا قل لعمرو والوليد ومطعم..... ألا ليت حظي من حياطتكم بكر)
(من الخور حبحاب كثير رغاؤه..... يرش على الساقين من بوله قطر)
(أرى أخوينا من أبينا وأمنا..... إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر)
(أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا..... هما نبذانا مثلما ينبذ الجمر)
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني شيخ من أهل مصر منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس في قصة طويلة جرت بين المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم فلما قام عنهم قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وسب آلهتنا وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر فإذا سجد فضخت به رأسه فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم. فلما أصبح

(1/153)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 154
أبو جهل أخذ حجرا وجلس وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقام يصلي بين الركنين الأسود واليماني وكان يصلي إلى الشام وجلست قريش في أنديتها ينظرون فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع مرعوبا منتقعا لونه قد يبست يداه على حجره حتى قذف به من يده فقامت إليه رجال قريش فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ فقال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط فهم أن يأكلني. قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذاك جبريل عليه السلام لو دنا مني لأخذه. وقال المحاربي وغيره عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: مر أبو جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال: ألم أنهك عن أن تصلي يا محمد؟ لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديا مني فانتهره النبي صلى الله عليه وسلم فقال جبريل: {فليدع ناديه سندع الزبانية} . والله لو دعا نادية لأخذته زبانية العذاب. وقال البيهقي: أنا الحاكم أنا محمد بن علي الصنعاني بمكة نا إسحاق بن إبراهيم أنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن

(1/154)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 155
فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم؟ قال: ليعطوك فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله قال: قد علمت أني من أكثرها مالا قال: فقيل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر لها أو أنك كاره له قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال: فدعني حتى أفكر فيه فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر بأثره عن غيره فنزلت {ذرني ومن خلقت وحيدا} يعني الآيات. هكذا رواه الحاكم موصولا. ورواه معمر عن عباد بن منصور عن عكرمة مرسلا. ورواه مختصرا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة مرسلا. قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم فأجمعوا فيه رأيا

(1/155)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 156
واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا قالوا: فأنت فقل وأقم لنا رأيا قال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع قالوا: نقول كاهن فقال: ما هو بكاهن لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسجعه. فقالوا: نقول مجنون فقال: ما هو بمجنون ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بحنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر قال: ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر؟ قال: ما هو بساحر قد رأينا السحار وسحرهم فما هو ينفثه ولا عقده. فقالوا: ما تقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله حلاوة وإن أصله لغدق وإن فرعه لجني فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل. وإن أقرب القول أن نقول ساحر يفرق بين المرء وبين ابنه وبين المرء وبين أخيه وبين عشيرته فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه. فأنزل في

(1/156)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 157
الوليد: {ذرني ومن خلقت وحيدا} . إلى قوله {سأصليه سقر} وأنزل الله في الذي كانوا معه {الذين جعلوا القرآن عضين} أي أصنافا {فوربك لنسألنهم أجمعين} . وقال ابن بكير عن ابن إسحاق عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس قال: قام النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال: يا معشر قريش إنه والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم ساحر لا والله ما هو بساحر ولا بكاهن ولا بشاعر قد رأينا هؤلاء وسمعنا كلامه فانظروا في شأنكم. وكان النضر من شياطين قريش ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة. وقال محمد بن فضيل: ثنا الأجلح عن الذيال بن حرملة عن جابر ابن عبد الله قال: قال أبو جهل والملأ من قريش: لقد انتشر علينا أمر

(1/157)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 158
محمد فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره فقال عتبة: لقد سمعت بقول السحر والكهانة والشعر وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي إن كان كذلك فأتاه فلما أتاه قال له عتبة: يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله؟ فلم يجبه قال: فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رأسنا ما بقيت وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت فلما فرغ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم. {حم تنزيل من الرحمن الرحيم} فقرأ حتى بلغ {أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم فقال أبو جهل: يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته انطلقوا بنا إليه فأتوه فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حسبنا إلا إنك صبأت فإن كانت بك حاجة جمعنا لك ما يغنيك عن طعام محمد. فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته فقص عليهم القصة فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم. {حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} حتى بلغ {فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن

(1/158)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 159
يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب. رواه يحيى بن معين عنه. وقال داود بن عمرو الضبي: ثنا المثنى بن زرعة عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة {حم تنزيل من الرحمن الرحيم} أتى أصحابه فقال لهم: يا قوم أطيعوني في هذا اليوم واعصوني فيما بعده فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي قط كلاما مثله وما دريت ما أرد عليه. ابن إسحاق: ثنا يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة لما أسلم حمزة قالوا له: يا أبا الوليد كلم محمدا فأتاه فقال: يا بن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة والمكان في النسب وإنك أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به بينهم وسفهت أحلامهم وعبت به آلهتهم فاسمع مني قال: قل يا أبا الوليد قال: إن كنت تريد مالا جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد شرفا سودناك وملكناك وإن كان الذي يأتيك رئيا طلبنا لك الطب

(1/159)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 160
حتى إذا فرغ قال: فاسمع مني قال: أفعل قال: بسم الله الرحمن الرحيم. {حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته} ومضى فأنصت عتبة وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة سجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد فأنت وذاك فقام إلى أصحابه فقال بعضهم: نحلف والله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس قالوا: ما وراءك؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به قالوا: سحرك والله بلسانه قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم. وقال يونس عن ابن إسحاق: حدثني الزهري قال: حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة يتسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في جوف بيته وأخذ كل رجل منهم مجلسا وكل لا يعلم بمكان صاحبه فلما أصبحوا تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقالوا: لا نعود فلو رآنا بعض السفهاء لوقع في نفسه شيء ثم عادوا لمثل ليلتهم

(1/160)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 161
فلما تفرقوا تلاقوا فتلاوموا لذلك فلما كان في الليلة الثالثة وأصبحوا جمعتهم الطريق فتعاهدوا أن لا يعودوا ثم إن الأخنس بن شريق أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها فقال الأخنس: وأنا والذي حلفت به ثم أتى أبا جهل فقال: ما رأيك؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا واعطوا فأعطينا حتى إذا يجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان. قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه فقام الأخنس عنه. وقال يونس بن بكير عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم عن المغيرة بن شعبة قال: إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأبي جهل: يا أبا الحكم هلم إلى الله وإلى رسوله أدعوك إلى الله فقال أبو جهل: يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا هل تريد إلا أن نشهد أن قد بلغت فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق ما اتبعتك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل علي فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن بنو قصي قالوا فينا الحجابة فقلنا نعم فقالوا فينا الندوة قلنا نعم ثم قالوا: فينا اللواء فقلنا: نعم وقالوا: فينا السقاية فقلنا: نعم ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي والله لا أفعل.

(1/161)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 162

شعر أبي طالب في معاداة خصومه
وقال ابن إسحاق: ثم إن قريشا وثبت كل قبيلة على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم فمنع الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب فقام أبو طالب فدعا بني هاشم وبني المطلب إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه فاجتمعوا إليه وقاموا معه إلا ما كان من الخاسر أبي لهب فجعل أبو طالب يمدحهم ويذكر قديمهم ويذكر فضل محمد صلى الله عليه وسلم وقال في ذلك أشعارا ثم إنه لما خشي دهماء العرب أن يركبوه مع قومه لما انتشر ذكره قال قصيدته التي منها:
ولما رأيت القوم لا ود فيهم..... وقد قطعوا كل العرى والوسائل)
(وقد صارحونا بالعداوة والأذى..... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل)
(صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة..... وأبيض عضب من تراث المقاول)
(وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي..... وأمسكت من أثوابه بالوصائل)
(أعوذ برب الناس من كل طاعن..... علينا بسوء أو ملح بباطل)
وفيها يقول:
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا..... ولما نطاعن دونه ونناضل)
(ونسلمه حتى نصرع حوله..... ونذهل عن أبنائنا والحلائل)

(1/162)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 163

وينهض قوم نحوكم غير عزل..... يبيض حديث عهدها بالصياقل)
(وأبيض يستسقى الغمام بوجهه..... ثمال اليتامى عصمة للأرامل)
(يلوذ به الهلاك من آل هاشم..... فهم عنده في رحمة وفواضل)
(لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد..... وإخوته دأب المحب المواصل)
(فمن مثله في الناس أي مؤمل..... إذا قاسه الحكام عند التفاضل)
(حليم رشيد عادل غير طائش..... يوالي إلها ليس عنه بغافل)
(فوالله لولا أن أجيء بسبة..... تجر على أشياخنا في المحافل)
(لكنا أتبعناه على كل حالة..... من الدهر جدا غير قول التهازل)
(لقد علموا أن ابننا لا مكذب..... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل)
(فأصبح فينا أحمد ذو أرومة..... يقصر عنها سورة المتطاول)
(حدبت بنفسي دونه وفديته..... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل)
(جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا..... عقوبة شر عاجلا غير آجل)
فلما انتشر ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العرب ذكر بالمدينة ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر وقبل أن يذكر من الأوس والخزرج وذلك لما كانوا يسمعون من الأحبار وكانوا حلفاء يعني اليهود

(1/163)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 164
في بلادهم وكان أبو قيس بن الأسلت يحب قريشا وكان لهم صهرا وعنده أرنب بنت أسد بن عبد العزى وكان يقيم بمكة السنين بزوجته فقال:
أيا راكبا إما عرضت فبلغا..... مغلغلة عني لؤي بن غالب)
(رسول امرىء قد راعه ذات بينكم..... على النأي محزون بذلك ناصب)
(أعيذكم بالله من شر صنعكم..... وشر تباغيكم ودس العقارب)
(متى تبعثوها تبعثوها ذميمة..... هي الغول للأقصين أو للأقارب)
(أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتم..... لنا غاية قد نهتدي بالذوائب)
(فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا..... بأركان هذا البيت بين الأخاشب)
(فعندكم منه بلاء ومصدق..... غداة أبي يكسوم هادي الكتائب)
(فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم..... جنود المليك بين ساف وحاصب)
(فولوا سراعا هاربين ولم يؤب..... إلى أهله ملجيش غير عصائب)
أبو يكسوم ملك أصحاب الفيل. وقال ابن إسحاق: فحدثني يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه

(1/164)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 165
عن عبد الله بن عمرو قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت أصابت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يظهرون من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط قد سفه أحلامنا وسب آلهتنا وفعل وفعل فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستلم الركن وطاف بالبيت فلما مر غمزوه ببعض القول فعرفت ذلك في وجهه فلما مر الثانية غمزوه فلما مر الثالثة غمزوه فوقف فقال: أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده جئتكم بالذبح قال: فأخذت القوم كلمته حتى ما فيهم رجل إلا كأن على رأسه طائرا وقع حتى إن أشدهم فيه وطأة ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه يقول: انصرف يا أبا القاسم فوالله ما كنت جهولا فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه فبيناهم في ذلك إذ طلع النبي صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ فيقول: نعم فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه فقام أبو بكر دونهم يبكي ويقول: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} ثم انصرفوا عنه فحدثني بعض آل أبي بكر أن أم كلثوم بنت أبي بكر قالت: لقد رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه مما جذبوه بلحيته وكان كثر الشعر.
إسلام أبي ذر (رض)
قال سليمان بن المغيرة: نا حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار وكانوا يحلون الشهر الحرام

(1/165)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 166
فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مال وهيئة فأكرمنا فحسدنا قومه فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس فجاء خالنا فثنا علينا ما قيل له فقلت له: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته ولا جماع لك فيما بعد فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها وتغطى خالنا ثوبه فجعل يبكي فانطلقنا فنزلنا بحضرة مكة فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها فأتيا الكاهن فخير أنيسا فأتانا بصرمتنا ومثلها معها. قال: وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين فقلت: لمن؟ قال لله قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني الله أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل القيت كأني خفاء - يعني الثوب - حتى تعلوني الشمس. فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني حتى آتيك فأتى مكة فراث - أي أبطأ - علي ثم أتاني فقلت ما حبسك قال: لقيت رجلا بمكة يزعم أن الله أرسله على دينك قلت: ما يقول الناس؟. قال: يقولون: إنه شاعر وساحر وكاهن وكان أنيس أحد الشعراء.

(1/166)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 167
فقال: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر ووالله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. قال: قلت له: هل أنت كافيني حتى أنطلق فأنظر؟ قال: نعم وكن من أهل مكة على حذر فإنهم قد شنفوا له وتجهموا فأتيت مكة فتضعفت رجلا منهم فقلت: أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إلى الصابئ قال: فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر فأتيت زمزم فشربت من مائها وغسلت عني الدم ودخلت بين الكعبة وأستارها ولقد لبثت يا بن أخي ثلاثين من بين ليلة ويوم وما لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع. فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان قد ضرب الله على اصمخة أهل مكة فما يطوف بالبيت أحد غير امرأتين فأتتا علي وهما تدعوان إسافا ونائلة فأتتا علي في طوافهما فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى قال: فما تناهتا عن قولهما - وفي لفظ: فما ثناهما ذلك عما قالتا

(1/167)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 168
- فأتتا علي فقلت: هن مثل الخشبة غير أني لا أكني. فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان ها هنا أحد من أنفارنا. فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان من الجبل فقالا لهما: ما لكما؟ قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها. قالا: ما قال لكما؟ قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه فاستلم الحجر ثم طافا فلما قضى صلاته أتيته فكنت أول من حياة بتحية الإسلام. فقال: وعليك السلام ورحمة الله. ثم قال: ممن أنت؟ قلت: من غفار فأهوى بيده فوضعها على جبينه فقلت في نفسي: كره أني انتميت إلى غفار فأهويت لآخذ بيده فقدعني صاحبه وكان أعلم به مني ثم رفع رأسه فقال: متى كنت ها هنا؟ قلت: قد كنت هاهنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم. قال: فمن كان يطعمك؟ قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فقال: إنها مباركة إنها طعام طعم وشفاء سقم. فقال أبو بكر: إئذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة ففعل فانطلقا وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر بابا فجعل يقبض لنا من

(1/168)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 169
زبيبن الطائف فكان ذلك أول طعام أكلته بها. قال فغبرت ما غبرت ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قد وجهت إلى أرض ذات نخل لا أحسبها إلا يثرب فهل أنت مبلغ عني قومك لعل الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟ فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسا فقال لي: ما صنعت؟ قلت: صنعت أني أسلمت وصدقت ثم أتينا أمنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما فأسلمت ثم احتملنا حتى أتينا قومنا غفار فأسلم نصفهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكان يؤمهم خفاف بن إيماء بن رخصة الغفاري وكان سيدهم يومئذ وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا فقدم المدينة فأسلم بقيتهم. وجاءت أسلم فقالوا: يا رسول الله إخواننا نسلم على الذي أسلموا عليه فاسموا فقال: غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله أخرجه مسلم عن هدبة عن سليمان [بن المغيرة]. وفي الصحيحين من حديث المثنى بن سعيد عن أبي جمرة الضبعي أن ابن عباس حدثهم بإسلام أبي ذر قال: أرسلت أخي فرجع وقال: رأيت رجلا يأمر بالخير فلم يشفني فأتيت مكة فجعلت لا

(1/169)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 170
أعرفه وأشرب من زمزم فمر بي علي فقال: كأنك غريب قلت: نعم قال: انطلق إلى المنزل فانطلقت معه فلم أسأله فلما أصبحنا جئت المسجد ثم مر بي علي فقال: أما آن لك أن تعود؟ قلت: لا قال: ما أمرك؟ قلت: إن كتمت علي أخبرتك ثم قلت: بلغنا أنه خرج نبي قال: قد رشدت فاتبعني فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: اعرض علي الإسلام فعرضه علي فأسلمت فقال: اكتم إسلامك وارجع إلى قومك قلت: والله لأصرخن بها بين أظهرهم فجاء إلى المسجد فقال: يا معاشر قريش أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ فقاموا فضربت لأموت فأدركني العباس فأكب علي وقال: تقتلون ويلكم رجلا من بني غفار ومتجركم وممركم على غفار فأطلقوا عني. ثم فعلت من الغد كذلك وأدركني العباس أيضا. وقال النضر بن محمد اليمامي: ثنا عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك بن الوليد عن مالك بن مرثد عن أبيه عن أبي ذر قال: كنت ربع الإسلام اسلم قبلي ثلاثة نفر أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فرايت الاستبشار في وجهه.
إسلام حمزة
وقال ابن إسحاق: حدثني رجل من أسلم وكان واعية أن أبا

(1/170)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 171
جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا فآذاه وشتمه فلم يكلمه النبي صلى الله عليه وسلم ومولاة لعبد الله بن جدعان تسمع ثم انصرف عنه فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة فجلس معهم فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحا قوسه راجعا من قنص له وكان صاحب قنص وكان إذا رجع من قنصه بدأ بالطواف بالكعبة وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة فلما مر بالمولاة قالت له: يا أبا عمارة [لو رأيت] ما لقي ابن أخيك آنفا من أبي الحكم وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ولم يكلمه محمد فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته فخرج يسعى مغذا لأبي جهل فلما رآه جالسا في القوم أقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة ثم قال: أتشتمه ! فأنا على دينه أقول ما يقول فرد علي ذلك إن استطعت فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فوالله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا وتم حمزة على إسلامه فلما أسلم

(1/171)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 172
عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد عز وامتنع وأن حمزة رضي الله عنه سيمنعه فكفوا بعض الشيء.
إسلام عمر رضي الله عنه
وقال عبد بن حميد وغيره: ثنا أبو عامر العقدي ثنا خارجة بن عبد الله ابن زيد عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام. وروي نحوه عن عبيد الله بن دينار عن ابن عمر. وقال مبارك بن فضالة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعز الدين بعمر. وقال عبد العزيز الأوسي: ثنا الماجشون بن أبي سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة. قال إسماعيل بن أبي خالد: ثنا قيس قال ابن مسعود: ما زلنا أعزة

(1/172)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 173
منذ أسلم عمر. أخرجه البخاري. وقال أحمد في مسنده: نا أبو المغيرة ثنا صفوان ثنا شريح بن عبيد قال: قال عمر: خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش فقرأ {إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون} الآيات فوقع في قلبي الإسلام كل موقع. وقال أبو بكر بن أبي شيبة ثنا يحيى بن يعلى الأسلمي عن عبد الله ابن المؤمل عن أبي الزبير عن جابر قال: كان أول إسلام عمر أن عمر قال: ضرب أختي المخاض ليلا فخرجت من البيت فدخلت في أستار الكعبة في ليلة قرة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل الحجر وعليه تبان فصلى ما شاء الله ثم انصرف فسمعت شيئا لم أسمع مثله فخرج فأتبعته فقال: من هذا؟ قلت: عمر قال: يا عمر ما تدعني ليلا ولا نهارا فخشيت أن يدعو علي فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال: يا عمر أسره. قلت: لا والذي بعثك بالحق لأعلننه كما أعلنت الشرك.

(1/173)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 174
وقال محمد بن عبيد الله بن المنادي: ثنا إسحاق الأزرق ثنا القاسم ابن عثمان البصري عن أنس بن مالك قال: خرج عمر رضي الله عنه متقلدا السيف فلقيه رجل من بني زهرة فقال له: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدا قال: وكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمدا؟ فقال: ما أراك إلا قد صبأت. قال: أفلا أدلك على العجب إن ختنك وأختك قد صبآ وتركا دينك. فمشى عمر فأتاهما وعندهما خباب فلما سمع بحس عمر توارى في البيت فدخل فقال: ما هذه الهينمة؟ وكانوا يقرءون طه قالا: ما عدا حديثا تحدثناه بيننا قال: فلعلكما قد صبأتما؟ فقال له ختنه: يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عليه فوطئه وطئا شديدا فجاءت أخته لتدفعه عن زوجها فنفحها نفحة بيده فدمي وجهها فقالت وهي غضبى: وإن كان الحق في غير دينك إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فقال عمر: أعطوني الكتاب الذي هو عندكم فأقراه وكان عمر يقرأ الكتاب فقالت أخته: إنك رجس وإنه لا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ فقام فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأ (طه) حتى انتهى إلى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} فقال

(1/174)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 175
عمر: دلوني على محمد فلما سمع خباب قول عمر خرج فقال: أبشر يا عمر فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس: اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الدار التي في أصل الصفا. فانطلق عمر حتى أتى الدار وعلى بابها حمزة وطلحة وناس فقال حمزة: هذا عمر إن يرد الله به خيرا يسلم وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا قال: والنبي صلى الله عليه وسلم داخل يوحى إليه فخرج حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف فقال: ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة؟ فهذا عمر اللهم أعز الإسلام بعمر فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبد الله ورسوله. وقد رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق وقال فيه: زوج أخته سعيد بن زيد بن عمرو. وقال ابن عيينة عن عمرو عن ابن عمر قال: إني لعلى سطح فرأيت الناس مجتمعين على رجل وهم يقولون: صبأ عمر فجاء العاص بن وائل عليه قباء ديباج فقال: إن كان عمر قد صبأ فمه أنا له جار قال: فتفرق الناس عنه قال: فعجبت من عزه. أخرجه البخاري عن ابن المديني عنه.

(1/175)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 176
قال البكائي عن ابن إسحاق حدثني نافع عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟ قيل: جميل بن معمر الجمحي فغدا عليه قال ابن عمر: وغدوت أتبع أثره وأنا غلام أعقل حتى جاءه فقال: أعلمت أني أسلمت؟ فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه حتى قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش ألا إن ابن الخطاب قد صبأ قال يقول عمر من خلفه: كذب ولكني أسلمت وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم قال وطلح (فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم) أو تركتموها لنا فبينا هو على ذلك إذ أقبل شيخ عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر قال: فمه ! رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون ! أترون بني كعب بن عدي يسلمونه ! خلوا عنه قال: فوالله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه فقلت لأبي بعد أن هاجر: يا أبه من الرجل الذي زجر القوم عنك؟ قال العاص بن وائل. وأخرجه ابن حبان من حديث جرير بن حازم عن ابن إسحاق.

(1/176)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 177
وقال إسحاق بن إبراهيم الحنيني عن أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده قال: قال لنا عمر: كنت أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا أنا في يوم حار بالهاجرة في بعض طريق مكة إذ لقيني رجل فقال: عجبا لك يا بن الخطاب إنك تزعم أنك وأنك وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك قلت: وما ذاك؟ قال: أختك قد أسلمت فرجعت مغضبا حتى قرعت الباب وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أسلم الرجل والرجلان ممن لا شيء له ضمهما إلى من في يده سعة فينالان من فضل طعامه وقد كان ضم إلى زوج أختي رجلين فلما قرعت الباب قيل: من هذا؟ قيل: عمر فتبادروا فاختفوا مني وقد كانوا يقرؤون صحيفة بين أيديهم تركوها أو نسوها فقامت أختي تفتح الباب فقلت: يا عدوة نفسها أصبأت وضربتها بشيء في يدي على رأسها فسال الدم وبكت وقالت: يا بن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد صبأت قال: ودخلت حتى جلست على السرير فنظرت إلى الصحيفة فقلت: ما هذا ناولينها قالت: لست من أهلها أنت لا تطهر من الجنابة وهذا كتاب لا يمسه إلا المطهرون فما زلت بها حتى ناولتنيها ففتحتها فإذا فيها (بسم الله الرحمن الرحيم) فكلما مررت باسم من أسماء الله عز وجل ذعرت منه فألقيت الصحيفة ثم رجعت إلى نفسي فتناولتها فإذا فيها {سبح لله ما في السماوات والأرض} فذعرت فقرأت إلى {آمنوا بالله ورسوله} فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله فخرجوا إلي متبادرين وكبروا وقالوا: أبشر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يوم الإثنين فقال:

(1/177)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 178
اللهم أعز دينك بأحب الرجلين إليك إما أبو جهل وإما عمر ودلوني على النبي صلى الله عليه وسلم في بيت بأسفل الصفا فخرجت حتى قرعت الباب فقالوا: من؟ قلت: ابن الخطاب وقد علموا شدتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فما اجترأ أحد أن يفتح الباب حتى قال: افتحوا له ففتحوا لي فأخذ رجلان بعضدي حتى أتيا بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خلوا عنه ثم أخذ بمجامع قميصي وجذبني إليه ثم قال: أسلم يابن الخطاب اللهم اهده فتشهدت فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بفجاج مكة وكانوا مستخفين فلم أشأ أن أرى رجلا يضرب ويضرب إلا رأيته ولا يصيبني من ذلك شيء فجئت خالي وكان شريفا فقرعت عليه الباب فقال: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب وقد صبأت قال: لا تفعل ثم دخل وأجاف الباب دوني. فقلت: ما هذا بشيء فذهبت إلى رجل من عظماء قريش فناديته فخرج إلي فقلت مثل ما قال لخالي وقال لي مثل ما قال خالي فدخل وأجاف الباب دوني فقلت: ما هذا بشيء إن المسلمين يضربون وأنا لا أضرب فقال لي رجل: أتحب أن يعلم بإسلامك؟ قلت: نعم. قال: فإذا جلس الناس في الحجر فأت فلانا - لرجل لم يكن يكتم السر - فقل له فيما بينك وبينه إني قد صبأت فإنه قلما يكتم السر فجئت وقد اجتمع الناس في الحجر فقلت فيما بيني وبينه: إني قد صبأت قال: أوقد فعلت؟ قلت: نعم فنادى بأعلى صوته: إن ابن الخطاب قد صبأ فبادروا إلي فما زلت أضربهم ويضربونني واجتمع علي الناس قال

(1/178)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 179
خالي: ما هذه الجماعة؟ قيل: عمر قد صبأ فقام على الحجر فأشار بكمه: ألا إني قد أجرت ابن أختي فتكشفوا عني فكنت لا أشاء أن أرى رجلا من المسلمين يضرب ويضرب إلا رأيته فقلت: ما هذا بشيء حتى يصيبني ما يصيب المسلمين فأتيت خالي فقلت: جوارك رد عليك فما زلت أضرب واضرب حتى أعز الله الإسلام. ويروى عن ابن عباس بإسناد ضعيف قال: سألت عمر لأي شيء سميت الفاروق؟ فقال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام فخرجت إلى المسجد فأسرع أبو جهل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسبه فأخبر حمزة فأخذ قوسه وجاء إلى المسجد إلى حلقة قريش التي فيها أبو جهل فاتكأ على قوسه مقابل أبي جهل فنظر إليه فعرف أبو جهل الشر في وجهه فقال: ما لك يا أبا عمارة؟ فرفع القوس فضرب بها أخدعيه فقطعه فسالت الدماء فأصلحت ذلك قريش مخافة الشر قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي فانطلق حمزة فأسلم وخرجت بعده بثلاثة أيام فإذا فلان المخزومي فقلت: أرغبت عن دين آبائك واتبعت دين محمد؟ قال: إن فعلت فقد فعله من هو أعظم عليك حقا مني قلت: ومن هو؟ قال: أختك وختنك فانطلقت فوجدت همهمة فدخلت فقلت: ما هذا؟ فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس ختني فضربته وأدميته فقامت إلي أختي فأخذت برأسي وقالت: قد كان ذلك على رغم أنفك فاستحييت حين رأيت الدماء فجلست وقلت: أروني هذا الكتاب فقالت: إنه لا يمسه إلا المطهرون فقمت فاغتسلت فأخرجوا إلي صحيفة فيها (بسم

(1/179)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 180
الله الرحمن الرحيم) قلت: أسماء طيبة طاهرة {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} إلى قوله {له الأسماء الحسنى} فتعظمت في صدري وقلت: من هذا فرت قريش فأسلمت وقلت: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فإنه في دار الأرقم فأتيت فضربت الباب فاستجمع القوم فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر قال: وعمر ! افتحوا له الباب فإن أقبل قبلنا منه وإن أدبر قتلناه فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فتشهد عمر فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد قلت: يا رسول الله ألسنا على الحق؟ قال: بلى فقلت: ففيم الاختفاء فخرجنا صفين أنا في أحدهما وحمزة في الآخر حتى دخلنا المسجد فنظرت قريش إلي وإلى حمزة فأصابتهم كآبة شديدة فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم (الفاروق) يومئذ وفرق بين الحق والباطل. وقال الواقدي: ثنا محمد بن عبد الله عن الزهري عن ابن المسيب قال: أسلم عمر بعد أربعين رجلا وعشر نسوة فلما أسلم ظهر الإسلام بمكة. وقال الواقدي: ثنا معمر عن الزهري أن عمر أسلم بعد أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم وبعد أربعين أو نيف وأربعين من رجال ونساء فلما أسلم أنزل جبريل فقال: يا محمد استبشر أهل السماء بإسلام عمر.

(1/180)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 181
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: كان إسلام عمر بعد خروج من خرج من الصحابة إلى الحبشة. فحدثني عبد الرحمن بن الحارث عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه ليلى قالت: كان عمر من أشد الناس علينا في إسلامنا فلما تهيأنا للخروج إلى الحبشة جاءني عمر وأنا على بعير نريد أن نتوجه فقال: إلى أين يا أم عبد الله؟ فقلت: قد آذيتمونا في ديننا فنذهب في أرض الله حيث لا نؤذى في عبادة الله فقال: صحبكم الله ثم ذهب فجاء زوجي عامر بن ربيعة فأخبرته بما رأيت من رقة عمر بن الخطاب فقال: ترجين أن يسلم؟ قلت: نعم قال: فوالله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب. يعني من شدته على المسلمين. قال يونس: عن ابن إسحاق: والمسلمون يومئذ بضع وأربعون رجلا وإحدى عشرة امرأة.

(1/181)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 182
فارغة.

(1/182)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 183
الهجرة الأولى إلى الحبشة ثم الثانية
قال يعقوب الفسوي في تاريخه حدثني العباس بن عبد العظيم حدثني بشار بن موسى الخفاف ثنا الحسن بن زياد البرجمي - إمام مسجد محمد بن واسع - ثنا قتادة قال: أول من هاجر إلى الله تعالى بأهله عثمان بن عفان سمعت النضر بن أنس يقول: سمعت أبا حمزة يعني أنس بن مالك يقول: خرج عثمان برقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة فأبطأ خبرهم فقدمت امرأة من قريش فقالت: يا محمد قد رأيت ختنك ومعه امرأته فقال: على أي حال رأيتهما؟ قالت: رأيته حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة وهو يسوقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صحبهما الله إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط. ورواه يحيى بن أبي طالب عن بشار عن عبد الله بن إدريس ثنا ابن إسحاق حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن وعروة

(1/183)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 184
وعبد الله بن أبي بكر وصلت الحديث عن أبي بكر عن أم سلمة قالت: لما أمرنا بالخروج إلى الحبشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ما يصيبنا من البلاء: إلحقوا بأرض الحبشة فإن بها ملكها لا يظلم عنده أحد فأقيموا ببلاده حتى يجعل الله لكم مخرجا مما أنتم فيه فقدمنا عليه فاطمأننا في بلاده. الحديث. قال البغوي في تاسع المخلصيات: وروى ابن عون عن عمير بن إسحاق عن عمرو بن العاص بعض هذا الحديث. وقال البكائي: قال ابن إسحاق: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه وأنه لا يقدر أن يمنعهم من البلاء قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه فخرج عند ذلك المسلمون مخافة الفتنة وفرارا بدينهم إلى الله. فخرج عثمان بزوجته وأبو حذيفة ولد عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو فولدت له بالحبشة محمدا والزبير بن العوام ومصعب بن عمير العبدري وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي وزوجته أم سلمة أم المؤمنين وعثمان بن مظعون الجمحي وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب وامرأته ليلى بنت أبي حثمة العدوية وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى العامري

(1/184)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 185
وسهيل بن بيضاء وهو سهيل بن وهب الحارثي فكانوا أول من هاجر إلى الحبشة. قال: ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون إلى الحبشة. ثم سمي ابن إسحاق جماعتهم وقال: فكان جميع من لحق بأرض الحبشة أو ولد بها ثلاثة وثمانين رجلا فعبدوا الله وحمدوا جوار النجاشي فقال عبد الله بن الحارث بن قيس السهمي:
يا راكبا بلغا عني مغلغلة..... من كان يرجو بلاغ الله والدين)
(كل امرئ من عبد الله مضطهد..... ببطن مكة مقهور ومفتون)
(أنا وجدنا بلاد الله واسعة..... تنجي من الذل والمخزاة والهون)
(فلا تقيموا على ذل الحياة وخز ي..... في الممات وعيب غير مأمون)
(إنا تبعنا نبي الله واطرحوا..... قول النبي وعالوا في الموازين)
(فاجعل عذابك في القوم الذين بغوا..... وعائذ بك أن يعلوا فيطغوني)
وقال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف ابن عمه وكان يؤذيه:
أتيم بن عوف والذي جاء بغضة..... ومن دونه الشر مان والبرك أكتع)
(أأخرجتني من بطن مكة آثما..... وأسكنتني في صرح بيضاء تقذع)

(1/185)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 186
تريش نبالا لا يواتيك ريشها..... وتبري نبالا ريشها لك أجمع)
(وحاربت أقواما كراما أعزة..... وأهلكت أقواما بهم كنت تفزع)
(ستعلم إن نابتك يوما ملمة..... وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع)
وقال موسى بن عقبة ثم إن قريشا ائتمروا واشتد مكرهم وهموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إخراجه فعرضوا على قومه أن يعطوهم ديته ويقتلوه فأبوا حمية. ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعب بني عبد المطلب أمر أصحابه بالخروج إلى الحبشة فخرجوا مرتين ؛ رجع الذين خرجوا في المرة الأولى حين أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان محمد يذكر آلهتنا بخير قررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من حالفه من اليهود والنصارى بمثل ما يذكر به آلهتنا من الشتم والشر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى هداهم فأنزلت {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} فألقى الشيطان عندها كلمات وإنهن الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى فوقعت في قلب كل مشرك بمكة ودالت بها ألسنتهم وتباشروا بها. وقالوا:

(1/186)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 187
إن محمدا قد رجع إلى ديننا فلما بلغ آخر النجم سجد صلى الله عليه وسلم وسجد كل من حضر من مسلم أو مشرك غير أن الوليد بن المغيرة كان شيخا كبيرا رفع ملء كفية ترابا فسجد عليه فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود بسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم عجب المسلمون بسجود المشركين معهم ولم يكن المسلمون سمعوا ما ألقى الشيطان وأما المشركون فاطمأنوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما ألقي في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وحدثهم الشيطان أن رسول الله قد قرأها في السجدة فسجدوا تعظيما لآلهتهم. وفشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه وحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا وأن المسلمين قد أمنوا بمكة فأقبلوا سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأنزلت {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا

(1/187)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 188
نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} الآيات. فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم. وكان عثمان بن مظعون وأصحابه فيمن رجع فلم يستطيعوا أن يدخلوا مكة إلا بجوار فأجار الوليد بن المغيرة عثمان بن مظعون فلما رأى عثمان ما يلقى أصحابه من البلاء وعذب طائفة منهم بالسياط والنار وعثمان معافى لا يعرض له استحب البلاء فقال للوليد: يا عم قد أجرتني وأحب أن تخرجني إلى عشيرتك فتبرأ مني فقال: يا بن أخي لعل أحدا آذاك أو شتمك؟ قال: لا والله ما اعترض لي أحد ولا آذاني فلما أبى إلا أن يتبرأ منه أخرجه إلى المسجد وقريش فيه كأحفل ما كانوا ولبيد بن ربيعة الشاعر ينشدهم فأخذ الوليد بيد عثمان وقال: إن هذا قد حملني على أن أتبرأ من جواره وإني أشهدكم أني بريء منه إلا أن يشاء فقال عثمان: صدق أنا والله أكرهته على ذلك وهو مني بريء ثم جلس مع القوم فنالوا منه. قال موسى: وخرج جعفر بن أبي طالب وأصحابه فرارا بدينهم إلى الحبشة فبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بن المغيرة وأمروهما أن يسرعا ففعلا وأهدوا للنجاشي فرسا وجبة ديباج وأهدوا لعظماء الحبشة هدايا فقبل النجاشي هديتهم وأجلس عمرا على سريره فقال: إن بأرضك رجالا منا سفهاء ليسوا على دينك ولا ديننا فادفعهم

(1/188)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 189
إلينا فقال: حتى أكلمهم وأعلم على أي شيء هم فقال عمرو: هم أصحاب الرجل الذي خرج فينا وإنهم لا يشهدون أن عيسى ابن الله ولا يسجدون لك إذا دخلوا فأرسل النجاشي إلى جعفر وأصحابه فلم يسجد له ولا أصحابه وحيوه بالسلام فقال عمرو: ألم نخبرك بخبر القوم فقال النجاشي: حدثوني أيها الرهط ما لكم لا تحيوني كما يحييني من أتاني من قومكم وأخبروني ما تقولون في عيسى وما دينكم؟ أنصارى أنتم؟ قالوا: لا قال: أفيهود أنتم؟ قالوا: لا قال: فعلى دين قومكم؟ قالوا: لا قال: فما دينكم؟ قالوا: الإسلام قال: وما الإسلام؟ قالوا: نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا قال: من جاءكم بهذا؟ قالوا: جاءنا به رجل منا قد عرفنا وجهه ونسبه بعثه الله كما بعث الرسل إلى من كان قبلنا فأمرنا بالبر والصدقة والوفاء والأمانة ونهانا أن نعبد الأوثان وأمرنا أن نعبد الله فصدقناه وعرفنا كلام الله فعادانا قومنا وعادوه وكذبوه وأرادونا على عبادة الأصنام ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا فقال النجاشي: والله إن خرج هذا الأمر إلا من المشكاة التي خرج منها أمر عيسى قال: وأما التحية فإن رسولنا أخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام فحييناك بها وأما عيسى فهو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وابن العذراء البتول. فخفض النجاشي يده إلى الأرض وأخذ عودا فقال: والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود فقال عظماء الحبشة: والله لئن سمعت هذا الحبشة لتخلعنك فقال: والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا وما أطاع

(1/189)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 190
الله الناس في حين رد إلي ملكي فأنا أطيع الناس في دين الله ! معاذ الله من ذلك. وكان أبو النجاشي ملك الحبشة فمات والنجاشي صبي فأوصى إلى أخيه أن إليك ملك قومك حتى يبلغ ابني فإذا بلغ فله الملك فرغب أخوه في الملك فباع النجاشي لتاجر وبادر بإخراجه إلى السفينة فأخذ الله عمه قعصا فمات فجاءت الحبشة بالتاج وأخذوا النجاشي فملكوه وزعموا أن التاجر قال: ما لي بد من غلامي أو مالي قال النجاشي صدق ادفعوا إليه ماله. قال: فقال النجاشي حين كلمه جعفر: ردوا إلى هذا هديته - يعني عمرا - والله لو رشوني على هذا دبر ذهب - والدبر بلغته الجبل - ما قبلته وقال لجعفر وأصحابه: أمكثوا آمنين وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق. وألقى الله العداوة بين عمرو وعمارة بن الوليد في مسيرهما فمكر به عمرو وقال: إنك رجل جميل فاذهب إلى امرأة النجاشي فتحدث عندها إذا خرج زوجها فإن ذلك عون لنا في حاجتنا فراسلها عمارة حتى دخل عليها فلما دخل عليها انطلق عمرو إلى النجاشي فقال: إن صاحبي هذا صاحب نساء وإنه يريد أهلك فاعلم علم ذلك فبعث النجاشي فإذا عمارة عند امرأته فأمر به فنفخ في إحليله سحرة ثم ألقي في جزيرة من البحر فجن وصار مع الوحش ورجع عمرو خائب السعي. وقال البكائي: قال ابن إسحاق: حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أم سلمة قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير

(1/190)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 191
جار النجاشي أمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع ما نكره فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي رجلين جلدين وأن يهودا للنجاشي فبعثوا بالهدايا مع عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص. وذكر القصة بطولها وستأتي إن شاء الله رواها جماعة عن ابن إسحاق. وذكر الواقدي أن الهجرة الثانية كانت سنة خمس من المبعث. وقال حديج بن معاوية عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى النجاشي ونحن ثمانون رجلا ومعنا جعفر وعثمان بن مظعون وبعثت قريش عمارة وعمرو بن العاص وبعثوا معهما بهدية إلى النجاشي فلما دخلا عليه سجدا له وبعثا إليه بالهدية وقالا: إن ناسا من قومنا رغبوا عن ديننا وقد نزلوا أرضك فبعث إليهم فقال لنا جعفر: أنا خطيبكم اليوم قال: فاتبعوه حتى دخلوا على النجاشي فلم يسجدوا له فقال: وما لكم لم تسجدوا للملك؟ فقال: إن الله قد بعث إلينا نبيه فأمرنا أن لا نسجد إلا لله فقال النجاشي: وما ذاك؟ قال عمرو: إنهم يخالفونك في عيسى قال: فما تقولون في عيسى وأمه؟ قال: نقول كما قال الله هو روح الله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يفرضها ولد فتناول النجاشي عودا فقال: يا معشر القسيسين والرهبان ما تزيدون على ما يقول هؤلاء ما يزن هذا فمرحبا بكم وبمن جئتم من عنده وأنا أشهد أنه نبي ولوددت أني عنده فأحمل نعليه - أو قال أخدمه - فانزلوا حيث شئتم من أرضي فجاء

(1/191)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 192
ابن مسعود فشهد بدرا. رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن حديج. وقال عبيد الله بن موسى: أنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر إلى الحبشة. وساق كحديث حديج. ويظهر لي أن إسرائيل وهم فيه ودخل عليه حديث في حديث وإلا أين كان أبو موسى الأشعري ذلك الوقت. رجعنا إلى تمام الحديث الذي سقناه عن أم سلمة قالت: فلم يبق بطريق من بطارقة النجاشي إلا دفعا إليه هدية قبل أن يكلما النجاشي وأخبرا ذلك البطريق بقصدهما ليشير على الملك بدفع المسلمين إليهم ثم قربا هدايا النجاشي فقبلها ثم كلماه فقالا: أيها الملك إنه قدم إلى بلادك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك جاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت فقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من أقاربهم لتردهم عليهم فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم قالت: ولم يكن أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي فقالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم من دينهم فأسلمهم إليهما فغضب ثم قال: لاها الله إذن لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقولان فأرسل إلى الصحابة فدعاهم فلما جاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم سألهم فقال: ما دينكم؟ فكان الذي كلمه جعفر فقال:

(1/192)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 193
أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة وأمرنا بالصدق والأمانة وصلة الرحم وعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه واتبعناه فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا وضيقوا علينا فخرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك قالت: قال: وهل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قال جعفر: نعم وقرأ عليه صدرا من (كهيعص) فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم ثم قال النجاشي إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة إنطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكاد. قالت: فلما خرجا من عنده قال عمرو: والله لآتينهم غدا بما أستأصل به خضراءهم فقال له ابن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل فإن لهم أرحاما قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى عبد ثم غدا عليه فقال له ذلك فطلبنا قالت: ولم ينزل بنا مثلها فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله كائنا في ذلك ما كان فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول

(1/193)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 194
فأخذ النجاشي عودا ثم قال: ما عدا عيسى ما قلت هذا العود فتناخرت بطارقته حوله فقال: وإن نخرتم والله إذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم: الآمنون - من سبكم غرم ما أحب أن لي دبرا من ذهب وأني آذيت رجلا منكم ردوا هداياهما فلا حاجة لي فيها فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به. قالت: فإنا على ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه فوالله ما علمنا حزنا قد كان أشد علينا من حزن حزناه عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. فسار إليه النجاشي وكان بينهما عرض النيل فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر الوقعة ثم يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير: أنا فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها يلتقي القوم ثم انطلق حتى حضرهم ودعونا الله تعالى للنجاشي فإنا لعلى ذلك إذ طلع الزبير يسعى فلمع بثوبه وهو يقول: ألا أبشروا فقد ظهر النجاشي وقد أهلك الله عدوه ومكن له في بلاده. قال الزهري: فحدثت عروة بن الزبير هذا الحديث فقال: هل تدري ما قوله: ما أخذ الله مني الرشوة إلى آخره؟ قلت: لا قال: فإن عائشة أم

(1/194)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 195
المؤمنين حدثتني أن أباه كان ملك قومه ولم يكن له ولد إلا النجاشي وكان للنجاشي عم من صلبه اثنا عشر رجلا فقالت الحبشة: لو أنا قتلنا هذا وملكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام ولأخيه اثنا عشر ولدا فتوارثوا ملكه من بعده بقيت الحبشة بعده دهرا فعدوا على أبي النجاشي فقتلوه وملكوا أخاه. فمكثوا حينا ونشأ النجاشي مع عمه فكان لبيبا حازما فغلب على أمر عمه ونزل منه بكل منزلة فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت بينها: والله لقد غلب هذا على عمه وإنا لنتخوف أن يملكه علينا وإن ملك ليقتلنا بأبيه فكلموا الملك فقال: ويلكم قتلت أباه بالأمس وأقتله اليوم ! بل أخرجه من بلادكم قالت: فخرجوا به فباعوه لتاجر بستمائة درهم فقذفه في سفينة وانطلق به حتى إذا كان آخر النهار هاجت سحابة فخرج عمه يستمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته ففزعت الحبشة إلى ولده فإذا هو محمق ليس في ولده خير فمزج الأمر فقالوا: تعلموا والله إن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره للذي بعتموه غدوة فخرجوا في طلبه فأدركوه وأخذوه من التاجر ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج وأقعدوه على سرير ملكه فجاء التاجر فقال: مالي قالوا: لا نعطيك شيئا فكلمه فأمرهم فقال: أعطوه دراهمه أو عبده قالوا: بل نعطيه دراهمه فكان ذلك أول ما خبر من عدله رضي الله عنه. وروى يزيد بن رومان عن عروة قال: إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان رضي الله عنه.

(1/195)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 196
أنبأنا إبراهيم بن حمد وجماعة أنا ابن ملاعب ثنا الأرموي أنا جابر بن ياسين أنا المخلص أنا البغوي ثنا عبد الله بن عمر بن أبان ثنا أسد بن عمرو البجلي عن مجالد عن الشعبي عن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال: بعثت قريش عمرا وعمارة بهدية إلى النجاشي ليؤذوا المهاجرين. فخلوهم فقال عمرو: وإنهم يقولون في عيسى غير ما تقول: فأرسل إلينا وكانت الدعوة الثانية أشد علينا فقال: ما يقول صاحبكم في عيسى؟ قال: وذكر الحديث فقال النجاشي أعبيد هم لكم؟ قالوا: لا قال: فلكم عليهم دين؟ قالوا: لا قال: يقول: هو روح الله وكلمته ألقاها إلى عذراء بتول فقال: ادعوا لي فلانا القس وفلانا الراهب فأتاه أناس منهم فقال: ما تقولون في عيسى؟ قالوا: أنت أعلمنا قال: وأخذ شيئا من الأرض فقال: ما عدا عيسى ما قال هؤلاء مثل هذا ثم قال: أيؤذيكم أحد؟ قالوا: نعم فنادى من آذى منهم فأغرموه أربعة دراهم ثم قال: أيكفيكم؟ قلنا: لا فأضعفها قال: فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر أخبرناه قال فزودنا وحملنا ثم قال: أخبر صاحبك بما صنعت إليكم وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله وقل له يستغفر لي فأتينا المدينة فتلقاني النبي صلى الله عليه وسلم فاعتنقني وقال: ما أدري أنا بقدوم جعفر أفرح أم بفتح خيبر وقال: اللهم اغفر للنجاشي ثلاث مرات وقال المسلمون: آمين.
إسلام ضماد
داود بن أبي هند عن عمرو بن سعيد عن سعيد بن جبير عن ابن

(1/196)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 197
عباس قال: قدم ضماد مكة وهو من أزد شنوءة وكان يرقي من هذه الرياح فسمع سفهاء من سفهاء الناس يقولون إن محمدا مجنون فقال: آتي هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي قال: فلقيت محمدا فقلت: إني أرقي من هذه الرياح وإن الله يشفي على يدي من يشاء فهلم فقال محمد: إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (ثلاث مرات) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات فهلم يدك أبايعك على الإسلام فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: وعلى قومك فقال: وعلى قومي. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فمروا بقوم ضماد. فقال صاحب الجيش للسرية: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل منهم: أصبت منهم مطهرة فقال: ردوها عليهم فإنهم قوم ضماد. أخرجه مسلم.
إسلام الجن
قال الله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون

(1/197)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 198
القرآن} الآيات وقال: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} وأنزل فيهم سورة الجن. وقال أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. قال: فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهنالك حين رجعوا إلى قومهم فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا فأنزلت {قل أوحي إلي}. متفق عليه. ويحمل قول ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجن ولا رآهم يعني أول ما سمعت الجن القرآن ثم إن داعي الجن أتى النبي صلى الله عليه وسلم - كما في خبر ابن مسعود وابن مسعود قد حفظ القصتين فقال سفيان الثوري عن

(1/198)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 199
عاصم بن زر عن عبد الله قال: هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه أنصتوا قالوا: صه وكانوا سبعة أحدهم زوبعة فأنزل الله: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن} الآيات. وقال مسعر: عن معن ثنا أبي سألت مسروقا: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك يعني ابن مسعود أنه آذنته بهم شجرة. متفق عليه. وقال داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ فقال: ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة فقلنا اغتيل استطير ما فعل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما كان في وجه الصبح - أو قال في السحر - إذا نحن به يجيء من قبل حراء فقلت: يا رسول الله فذكروا الذي كانوا فيه فقال: إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. رواه مسلم. وقد جاء ما يخالف هذا فقال عبد الله بن صالح: حدثني الليث حدثني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو عثمان بن سنة الخزاعي من

(1/199)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 200
أهل الشام أنه سمع ابن مسعود يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو بمكة من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجن فليفعل فلم يحضر منهم أحد غيري فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا ثم أمرني أن أجلس فيه ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ثم انطلقوا وطفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين حتى ما بقي منهم رهط وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر فانطلق فتبرز ثم أتاني فقال: ما فعل الرهط؟ فقلت: هم أولئك يا رسول الله فأخذ عظما وروثا فأعطاهم إياه زادا ثم نهى أن يستطيب أحد بعظم أو بروث. أخرجه النسائي من حديث يونس. وقال سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي أن ابن مسعود أبصر زطا في بعض الطريق فقال: ما هؤلاء؟ قالوا هؤلاء الزط قال: ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن وكانوا مستنفرين يتبع بعضهم بعضا. صحيح. يقال: استنفر الرجل بثوبه إذا أخذ ذيله من بين فخذيه إلى حجزته فغرزه. وكذا يقال في الكلب إذا جعل ذنبه بين فخذيه ومنه قوله للحائض: استنفري. وقال عثمان بن عمر بن فارس عن مستمر بن الريان عن أبي الجوزاء عن ابن مسعود قال: انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط علي خطا ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه فقال سيد

(1/200)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 201
لهم يقال له وردان: إني أنا أرحلهم عنك فقال: إني لن يجيرني من الله أحد. وقال زهير بن محمد التميمي عن ابن المنكدر عن جابر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن ثم قال: ما لي أراكم سكوتا للجن كانوا أحسن ردا منكم ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة {فبأي آلاء ربكما تكذبان} إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد. زهير ضعيف. وقال عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن العاص عن جده سعيد قال: كان أبو هريرة يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأداوة لوضوئه. فذكر الحديث وفيه: أتاني جن نصيبين فسألوني الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمروا بروثة ولا بعظم إلا وجدوا عليها طعاما. أخرجه البخاري. ويدخل هذا الباب في باب شجاعته صلى الله عليه وسلم وقوة قلبه. ومنه حديث محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان {رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من

(1/201)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 202
بعدي} فرددته خاسئا. وفي لفظ: فأخذته ففدغته يعني خنقته. متفق عليه.
فصل فيما ورد من هواتف الجان وأقوال الكهان
قال ابن وهب: أنا عمر بن محمد حدثني سالم بن عبد الله عن أبيه قال: ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيء قط إني لأظنه كذا إلا كان كما يظن فبينا عمر جالس إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني أو إن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم على الرجل فدعي له فقال له عمر: لقد أخطأ ظني أو أنك على دينك في الجاهلية أو لقد كنت كاهنهم فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم قال فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني فقال: كنت كاهنهم في الجاهلية فقال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينا أنا جالس جاءتني أعرف فيها الفزع قالت:
ألم تر الجن وإبلاسها..... وياسها من بعد إنكاسها)
(ولحوقها بالقلاص وأحلاسها)

(1/202)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 203
قال عمر: صدق بينا أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء بعجل فذبحه فصرخ منه صارخ لم أسمع صارخا أشد صوتا منه يقول: يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله فوثب القوم قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ثم نادى: يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا فأعاد قوله قال: فقمت فما نشبت أن قيل هذا نبي. أخرجه البخاري هكذا. وظاهره أن عمر بنفسه سمع الصارخ من العجل وسائر الروايات تدل على أن الكاهن هو الذي سمع. فروى يحيى بن أيوب عن ابن الهاد عن عبد الله بن سليمان عن محمد بن عبد الله بن عمرو عن نافع عن ابن عمر قال: بينما رجل مار فقال عمر: قد كنت مرة ذا فراسة وليس لي رئي ألم يكن قد كان هذا الرجل ينظر ويقول في الكهانة أدعوه لي فدعوه فقال عمر: من أين قدمت؟ قال: من الشام قال: فأين تريد؟ قال: أردت هذا البيت ولم أكن أخرج حتى آتيك قال: هل كنت تنظر في الكهانة؟ قال: نعم قال: فحدثني قال: إني ذات ليلة بواد إذ سمعت صائحا يقول: يا جليح خبر نجيح رجل يصيح يقول: لا إله إلا الله الجن وإياسها والإنس وإبلاسها والخيل وأحلاسها فقلت: من هذا؟ إن هذا لخبر يئست منه الجن وأبلست منه الإنس وأعملت فيه الخيل فما حال

(1/203)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 204
الحول حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه الوليد بن مزيد العذري عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن ابن مسكين الأنصاري قال: بينا عمر جالس. وهذا منقطع. ورواه حجاج بن أرطأة عن مجاهد. ويروى عن ابن كثير أحد القراء عن مجاهد موقوفا. ويشبه أن يكون هذا الكاهن هو سواد بن قارب المذكور في حديث أحمد بن موسى الحمار الكوفي ثنا زياد بن يزيد القصري ثنا محمد بن تراس الكوفي ثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء قال: بينا عمر يخطب إذ قال: أفيكم سواد بن قارب؟ فلم يجبه أحد تلك السنة فلما كانت السنة المقبلة قال: أفيكم سواد بن قارب؟ قالوا: وما سواد بن قارب؟ قال: كان بدء إسلامه شيئا عجبا فبينا نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب فقال له: حدثنا ببدء إسلامك يا سواد قال: كنت نازلا بالهند وكان لي رئي من الجن فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ جاءني في منامي ذلك قال: قم فافهم واعقل إن كنت تعقل قد بعث رسول من لؤي بن غالب ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وأنجاسها..... وشدها العيس بأحلاسها)
(نهوي إلى مكة تبغي الهدى..... ما مؤمنوها مثل أرجاسها)
(فانهض إلى الصفوة من هاشم..... واسم بعينيك إلى راسها)
يا سواد إن الله قد بعث نبيا فانهض إليه تهتد وترشد فلما كان

(1/204)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 205
من الليلة الثانية أتاني فأنبهني ثم قال:
عجبت للجن وتطلابها..... وشدها العيس بأقتابها)
(تهوي إلى مكة تبغي الهدى..... ليس فداماها كأذنابها)
(فانهض إلى الصفوة من هاشم..... واسم بعينيك إلى نابها)
فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فأنبهني ثم قال:
عجبت للجن وتخبارها..... وشدها العيس بأكوارها)
(تهوي إلى مكة تبغي الهدى..... ليس ذوو الشر كأخيارها)
(فانهض إلى الصفوة من هاشم..... ما مؤمنو الجن ككفارها)
فوقع في قلبي حب الإسلام وشددت رحلي حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو بالمدينة والناس عليه كعرف الفرس فلما رآني قال: مرحبا بسواد بن قارب قد علمنا ما جاء بك قلت: يا رسول الله قد قلت شعرا فاسمعه مني:
أتاني رئيي بعد ليل وهجعة..... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب)
(ثلاث ليال قوله كل ليلة..... أتاك نبي من لؤي بن غالب)
(فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت..... بي الذعلب الوجناء عند السباسب)

(1/205)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 206

فأشهد أن الله لا شيء غيره..... وأنك مأمون على كل غائب)
(وأنك أدنى المرسلين شفاعة..... إلى الله يا بن الأكرمين الأطايب)
(فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى..... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب)
(فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة..... سواك بمغن عن سواد بن قارب)
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي: أفلحت يا سواد فقال له عمر: هل يأتيك رئيك الآن؟ قال: منذ قرأت القرآن لم يأتني ونعم العوض كتاب الله من الجن. هذا حديث منكر بالمرة ومحمد بن تراس وزياد مجهولان لا تقبل روايتهما وأخاف أن يكون موضوعا على أبي بكر بن عياش ولكن أصل الحديث مشهور. وقد قال أبو يعلى الموصلي وعلي بن شيبان: ثنا يحيى بن حجر الشامي ثنا علي بن منصور الأبناوي ثنا أبو عبد الرحمن الوقاصي عن محمد بن كعب القرظي قال: بينما عمر جالس إذ مر به رجل فقال قائل:

(1/206)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 207
أتعرف هذا؟ قال: ومن هو؟ قال: سواد بن قارب فأرسل إليه عمر فقال: أنت سواد بن قارب؟ قال: نعم. قال: أنت الذي أتاه رئية بظهور النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: فأنت على كهانتك. فغضب وقال: ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت. قال عمر: سبحان الله ما كنا عليه من الشرك أعظم قال: فأخبرني بإتيانك رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب اسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى عبادة الله ثم ذكر الشعر قريبا مما تقدم ثم أنشأ عمر يقول: كنا يوما في حي من قريش يقال لهم آل ذريح وقد ذبحوا عجلا والجزار يعالجه إذ سمعنا صوتا من جوف العجل ولا نرى شيئا وهو يقول: يا آل ذريح أمر نجيح صائح يصيح بلسان فصيح يشهد أن لا إله إلا الله. أبو عبد الرحمن اسمه عثمان بن عبد الرحمن متفق على تركه

(1/207)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 208
وعلي بن منصور فيه جهالة مع أن الحديث منقطع. وقد رواه الحسن بن سفيان ومحمد بن عبد الوهاب الفراء عن بشر بن حجر أخي يحيى بن حجر عن علي بن منصور عن عثمان بن عبد الرحمن بنحوه. وقال ابن عدي في كامله: ثنا الوليد بن حماد بالرملة ثنا سليمان بن عبد الرحمن ثنا الحكم بن يعلى المحاربي ثنا أبو معمر عباد بن عبد الصمد سمعت سعيد بن جبير يقول: أخبرني سواد بن قارب قال: كنت نائما على جبل من جبال الشراة فأتاني آت فضربني برجله وقال: قم يا سواد أتى رسول من لؤي بن غالب فذكر الحديث. كذا فيه سعيد يقول: أخبرني سواد وعباد ليس بثقة يأتي بالطامات. وقال معمر عن الزهري عن علي بن الحسين قال: أول ما سمع بالمدينة أن امرأة من أهل يثرب تدعى فطيمة كان لها تابع من الجن فجاء يوما فوقع على جدارها فقالت: ما لك لا تدخل؟ فقال: إنه قد بعث نبي

(1/208)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 209
يحرم الزنى فحدثت بذاك المرأة عن تابعها من الجن فكان أول خبر تحدث به بالمدينة. وقال يحيى بن يوسف الزمي: ثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: أول خبر قدم عن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن امرأة كان لها تابع فجاء في صورة طائر حتى وقع على حائط دارهم فقالت له المرأة: انزل قال: لا إنه قد بعث بمكة نبي يحرم الزنى قد منع منا القرار. وفي الباب عدة أحاديث عامتها واهية الأسانيد.
انشقاق القمر
قال الله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم} . قال شيبان عن قتادة عن أنس: إن أهل مكة سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين. أخرجاه من حديث شيبان لكن لم يقل البخاري (مرتين). وقال معمر عن قتادة عن أنس مثله وزاد (فانشق فرقتين مرتين). وللبخاري نحو منه عن ابن أبي عروبة عن قتادة. وأخرجاه

(1/209)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 210
من حديث شعبة عن قتادة. وقال ابن عيينة وغيره عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود قال: رأيت القمر منشقا شقتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء فقالوا: سحر القمر. لفظ عبد الرزاق عن ابن عيينة وأراد (قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم) يعني إلى المدينة. وأخرجاه من حديث ابن عيينة ولفظه: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا. وأخرجاه عن عمر بن حفص عن أبيه عن الأعمش ثنا إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله قال: انفلق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت فلقة من وراء الجبل وفلقة دونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا وأخرجاه من حديث شعبة عن الأعمش. وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: ثنا أبو عوانة عن مغيرة عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله قال: انشق القمر على عهد رسول اله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة فقالوا: انظروا ما

(1/210)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 211
يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء السفار فقالوا: ذلك صحيح. وقال هشيم عن مغيرة نحوه. وقال بكر بن مضر عن جعفر بن ربيعة عن عراك بن مالك عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أنه قال: إن القمر انشق على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه من حديث بكر. وقال شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر في قوله {اقتربت الساعة وانشق القمر} قال: قد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فلقتين فلقة من دون الجبل وفلقة من خلف الجبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم اشهد). أخرجه مسلم. وقال إبراهيم بن طهمان وهشيم عن حصين عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: انشق القمر ونحن بمكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذا رواه أبو كدينة والمفضل بن يونس عن حصين. ورواه محمد بن كثير عن أخيه سليمان بن كثير عن حصين عن محمد بن جبير عن أبيه والأول أصح.

(1/211)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 212

باب ويسألونك عن الروح
قال يحيى بن أبي زائدة عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح فنزلت {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} قالوا: نحن لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة فيها حكم الله ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا قال: فنزلت {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي} الآية. وهذا إسناد صحيح. وقال يونس عن ابن إسحاق حدثني رجل من أهل مكة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن مشركي قريش بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ما ليس عندنا فقدما المدينة فسألوا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره ببعض قوله فقالت لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل.

(1/212)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 213
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنه كان لهم حديث عجب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها وما كان نبؤه. وسلوه عن الروح ما هو فقدما مكة فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا وسألوه فقال: أخبركم غدا ولم يستثن فانصرفوا عنه فمكث خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولم يأته جبريل حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا غدا واليوم خمس عشر وأحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي ثم جاءه جبريل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه وخبر الفتية والرجل الطواف وقال: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} . وأما حديث ابن مسعود فيدل على أن سؤال اليهود عن الروح كان بالمدينة. ولعله صلى الله عليه وسلم سئل مرتين. وقال جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل

(1/213)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 214
لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا فيها. فقال الله: إن شئت آتيناهم ما سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من كان قبلهم وإن شئت أن أستأني بهم. قال: بل تستأني بهم. وأنزل الله: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} . حديث صحيح ورواه سلمة بن كهيل عن عمران عن ابن عباس وروى عن أيوب عن سعيد بن جبير.

(1/214)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 215

ذكر أذية المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين
الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير حدثني محمد بن إبراهيم التيمي حدثني عروة قال: سألت عبد الله بن عمرو قلت: حدثني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أقبل عقبة بن أبي معيط والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه فدفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم} . أخرجه البخاري. ورواه ابن إسحاق عن يحيى بن عروة عن أبيه عن عبد الله. ورواه سليمان بن بلال وعبيدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عمرو بن العاص. وهذه علة ظاهرة لكن رواه محمد بن فليح عن

(1/215)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 216
هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو فهذا ترجيح للأول. وقال سفيان وشعبة واللفظ له: ثنا أبو إسحاق سمعت عمرو بن ميمون يحدث عن عبد الله قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش وثم سلى بعير فقالوا: من يأخذ سلى هذا الجزور فيقذفه على ظهره فجاء عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهره صلى الله عليه وسلم وجاءت فاطمة فأخذته عن ظهره ودعت على من صنع ذلك قال عبد الله فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم إلا يومئذ فقال: اللهم عليك الملأ من قريش اللهم عليك أبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف - أو أبي بن خلف شك شعبة ولم يشك سفيان أنه أمية - قال عبد الله: فقد رأيتهم قتلوا يوم بدر وألقوا في القليب غير أن أمية كان رجلا بادنا فتقطع قبل أن يبلغ به البئر. أخرجاه من حديث شعبة ومن حديث سفيان. وقال (م): ثنا عبد الله بن عمر بن أبان أنا عبد الرحيم بن سليمان عن زكريا عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلى جزور فيضعه على كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقاهم

(1/216)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 217
فأخذه فوضعه بين كتفيه فضحكوا وجعل بعضهم يميل إلى بعض وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة طرحته والنبي صلى الله عليه وسلم ما يرفع رأسه فجاءت فاطمة وهي جويرية فطرحته عنه وسبتهم فلما قضى صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم وكان إذا دعا ثلاثا وإذا سأل سأل ثلاثا ثم قال: اللهم عليك بقريش ثلاثا فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته ثم قال: اللهم عليك بأبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وذكر السابع ولم أحفظه. فوالذي بعث محمدا بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر. وقال زائدة عن عاصم عن زر عن عبد الله قال: إن أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب. وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه. وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وأوقفوهم في الشمس فما من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا غير بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في

(1/217)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 218
شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد. حديث صحيح. وقال هشام الدستوائي عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعمار وأهله وهم يعذبون فقال: أبشروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة. وقال الثوري عن منصور عن مجاهد قال: كان أول شهيد في الإسلام أم عمار سمية طعنها أبو جهل بحربة في قبلها. وقال يونس بن بكير عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر أعتق ممن كان يعذب في الله سبعة فذكر منهم الزنيرة قال: فذهب بصرها وكانت ممن يعذب في الله على الإسلام فتأبى إلا الإسلام فقال المشركون: ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى فقالت: كلا والله ما هو كذلك فرد الله عليها بصرها. وقال إسماعيل بن أبي خالد وغيره: ثنا قيس قال: سمعت خبابا يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة شديدة فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله فقعد وهو محمر

(1/218)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 219
وجهه فقال إن كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله. متفق عليه وزاد البخاري من حديث بيان بن بشر والذئب على غنمه. وقال البكائي عن ابن إسحاق حدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير قلت لابن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله إن كانوا ليضربون أحدهم يجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر على أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له: آللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له: [أ] هذا الجعل إلهك من دون الله فيقول: نعم إفتداء منهم مما يبلغون من جهده. وحدثني الزبير بن عكاشة أنه حدث أن رجالا من بني مخزوم مشوا إلى هشام بن الوليد حين أسلم أخوه الوليد بن الوليد وكانوا قد أجمعوا أن يأخذوا فتية منهم كانوا قد أسلموا منهم سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة قال: فقالوا له وخشوا شره: إنا قد أردنا أن تعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي قد أحدثوا فإنا نأمن بذلك في غيره قال: هذا فعليكم به فعاتبوه يعني أخاه الوليد ثم إياكم ونفسه وقال:

(1/219)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 220

ألا لا تقتلن أخي عييشا..... فيبقى بيننا أبدا تلاحي)
احذروا على نفسه فأقسم بالله لئن قتلتموه لأقتلن أشرفكم رجلا قال: فتركوه فكان ذلك مما دفع الله به عنه. وقال عمرو بن دينار فيما رواه عنه ابن عيينة: لما قدم عمرو بن العاص من الحبشة جلس في بيته فقالوا: ما شأنه ما له لا يخرج؟ فقال: إن أصحمة يزعم أن صاحبكم نبي. ويروى عن ابن إسحاق من طريق محمد بن حميد الرازي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام وذلك مع عمرو بن أمية الضمري وأن النجاشي كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من النجاشي أصحمة بن أبحر سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته أشهد أنك رسول الله وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين وقد بعثت إليك أريحا ابني فإني لا أملك إلا نفسي وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله. قال يونس عن ابن إسحاق: كان اسم النجاشي مصحمة وهو

(1/220)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 221
بالعربية عطية وإنما النجاشي اسم الملك كقولك كسرى وهرقل. وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي وأما قوله مصحمة فلفظ غريب.
ذكر شعب أبي طالب والصحيفة
قال موسى بن عقبة عن الزهري قال: ثم إنهم اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد واشتد عليهم البلاء واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية فلما رأى أبو طالب عملهم جمع بني هاشم وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم فمنهم من فعله حمية ومنهم من فعله إيمانا فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوه أجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق لا يقبلوا من بني هاشم أبدا صلحا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا للقتل. فلبث بنو هاشم في شعبهم يعني ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء وقطعوا عنهم الأسواق وكان أبو طالب إذا نام الناس أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد مكرا به واغتياله فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته فاضطجع على فراش رسول

(1/221)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 222
الله صلى الله عليه وسلم. ويأتي رسول الله فراش ذلك فينام عليه فما كان رأس ثلاث سنين. تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن بني قصي ورجال أمهاتهم من نساء بني هاشم ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه. وبعث الله على صحيفتهم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق ويقال كانت معلقة في سقف البيت فلم تترك اسما لله إلا لحسته وبقي ما كان فيها من شرك أو ظلم فأطلع الله رسوله على ذلك فأخبر به أبا طالب فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبني فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش فأنكروا ذلك فقال أبو طالب: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم فائتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح فأتوا بها وقالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد وجعلتموه خطرا للهلكة قال أبو طالب: إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نصف إن ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني أن الله بريء من هذه الصحيفة ومحا كل اسم هو له فيها وترك فيها غدركم وقطيعتكم فإن كان كما قال فأفيقوا فوالله لا نسلمه أبدا حتى نموت من عند آخرنا وإن كان الذي قال باطلا دفعناه إليكم فرضوا وفتحوا الصحيفة فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب قالوا: والله إن كان هذا قط إلا سحرا من صاحبكم فارتكسوا وعادوا لكفرهم فقال بنو عبد المطلب: إن أولى بالكذب والسحر غيرنا فكيف ترون وإنا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد الصحيفة وهي في أيديكم أفنحن

(1/222)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 223
السحرة أم أنتم؟ فقال أبو البختري ومطعم بن عدي وزهير بن أبي أمية بن المغيرة وزمعة بن الأسود وهشام بن عمرو - وكانت الصحيفة عنده وهو من بني عامر بن لؤي - في رجال من أشرافهم: نحن براء مما في هذه الصحيفة فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل. وذكر نحو هذه القصة ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة. وذكر ابن إسحاق نحوا من هذا وقال: حدثني حسين بن عبد الله أن أبا لهب - يعني حين فارق قومه من الشعب - لقي هندا بنت عتبة بن ربيعة فقال لها: هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقها؟ قالت: نعم فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة. وأقام بنو هاشم سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفى به. وقد كان أبو جهل فيما يذكرون لقي حكيم بن حزام بن خويلد ومعه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة وهي في الشعب فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة فجاءه أبو البختري بن هشام فقال: ما لك وله ! قال: يحمل الطعام إلى بني هاشم ! قال: طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها بطعامها خل سبيل الرجل فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه فأخذ له أبو البختري لحى بعير فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا وحمزة يرى ذلك ويكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشتموا بهم.

(1/223)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 224
قال: ورسول الله على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا سرا وجهرا. وقال موسى بن عقبة: فلما أفسد الله الصحيفة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطه فعاشوا وخالطوا الناس.
باب إنا كفيناك المستهزئين
قال الثوري عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين} قال: المستهزئون: الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزهري وأبو زمعة الأسود بن المطلب من بني أسد بن عبد العزى والحارث بن عيطل السهمي والعاص بن وائل فأتاه جبريل فشكاهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه فأراه الوليد وأومأ جبريل إلى أبجله فقال ما صنعت قال كفيته ثم أراه الأسود فأومأ جبريل إلى عينيه فقال: ما صنعت؟ قال: كفيته ثم أراه أبا زمعة فأومأ إلى رأسه فقال: ما صنعت؟ قال كفيته ثم أراه الحارث فأومأ إلى رأسه أو بطنه وقال: كفيته فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبالا فأصاب أبجله فقطعها وأما الأسود فعمي. وأما ابن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى

(1/224)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 225
خرج خرؤه من فيه فمات منها وأما العاص فدخل في رأسه شبرقة حتى امتلأت فمات منها وقال غيره: إنه ركب إلى الطائف حمارا فربض به على شوكة فدخلت في أخمصه فمات منها. حديث صحيح.
دعوته قريش بالسنة
قال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: بينما رجل يحدث في المسجد إذ قال فيما يقول: يوم تأتي السماء بدخان مبين قال: دخان يكون يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكمة فقمنا فدخلنا على عبد الله بن مسعود فأخبرناه فقال: أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم فإن من العلم أن يقول العالم لما لا يعلم (الله أعلم) قال الله لرسوله: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} . وسأحدثكم عن الدخان: إن قريشا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطئوا عن الإسلام قال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع

(1/225)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 226
يوسف فأصابتهم سنة فحصت كل شيء حتى أكلوا الجيف والميتة حتى إن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع ثم دعوا فكشف عنهم يعني قولهم {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} . ثم قرأ عبد الله {إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون} قال: فعادوا فكفروا فأخروا إلى يوم بدر {يوم نبطش البطشة الكبرى} . قال عبد الله يوم بدر فانتقم منهم. متفق عليه. وقال علي بن ثابت الدهان - وقد توفي سنة تسع عشرة ومائتين: أنبأ أسباط بن نصر عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدبارا قال: اللهم سبع كسبع يوسف فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام فجاءه أبو سفيان وغيره فقال: إنك تزعم أنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم فدعا فسقوا الغيث. قال ابن مسعود: مضت آية الدخان وهو الجوع الذي أصابهم وآية الروم والبطشة الكبرى وانشقاق القمر. وأخرجا من حديث الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال

(1/226)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 227
عبد الله: خمس قد مضين: اللزام والروم والدخان والقمر والبطشة. وقال أيوب وغيره عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث من الجوع لأنهم لم يجدوا شيئا حتى أكلوا العلهز. بالدم فنزلت: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} .
ذكر الروم
وقال أبو إسحاق الفزاري عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أما إنهم سيظهرون فذكر أبو بكر لهم ذلك فقالوا: اجعل بيننا وبينكم أجلا فجعل بينهم أجل خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا جعلته - أراه قال - دون العشر قال: فظهرت الروم بعد ذلك. فذلك قوله تعالى: {غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} .

(1/227)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 228
قال سفيان الثوري: وسمعت أنهم ظهروا يوم بدر. وقال الحسين بن الحسن بن عطية العوفي: حدثني أبي عن جدي عن ابن عباس: {الم غلبت الروم} قال: قد مضى ذلك وغلبتهم فارس ثم غلبتهم الروم بعد ذلك ولقي نبي الله مشركي العرب والتقت الروم وفارس فنصر الله النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين ونصر الروم على مشركي العجم ففرح المؤمنون بنصر الله إياهم ونصر أهل الكتاب. قال عطية: فسألت أبا سعيد الخدري عن ذلك فقال: التقينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن ومشركو العرب والتقت الروم وفارس فنصرنا الله على المشركين ونصر الله أهل الكتاب على المجوس ففرحنا بنصرنا ونصرهم. وقال الليث: حدثني عقيل عن ابن شهاب أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: لما نزلت هاتان الآيتان - يعني أول الروم - ناحب أبو بكر بعض المشركين - يعني راهن قبل أن يحرم القمار - على شيء إن لم تغلب فارس في سبع سنين فقال رسول الله: لم فعلت فكل ما دون العشر بضع فكان ظهور فارس على الروم في سبع سنين وظهور الروم على فارس في تسع سنين. ثم أظهر الله الروم عليهم زمن الحديبية ففرح بذلك المسلمون.

(1/228)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 229
وقال ابن أبي عروبة عن قتادة {في أدنى الأرض} قال: غلبهم أهل فارس على أدنى الشام قال: فصدق المسلمون ربهم وعرفوا أن الروم سيظهرون بعد فاقتمروا هم والمشركون على خمس قلائص وأجلوا بينهم خمس سنين فولي قمار المسلمين أبو بكر وولي قمار المشركين أبي بن خلف وذلك قبل أن ينهى عن القمار فجاء الأجل ولم تظهر الروم فسأل المشركون قمارهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تكونوا أحقاء أن تؤجلوا أجلا دون العشر فإن البضع ما بين الثلاث إلى العشر فزايدوهم ومادوهم في الأجل ففعلوا فأظهر الله الروم عند رأس السبع من قمارهم الأول وكان ذلك مرجعهم من الحديبية وفرح المسلمون بذلك. وقال الوليد بن مسلم: ثنا أسيد الكلابي أنه سمع العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه قال: رأيت غلبة فارس الروم ثم رأيت غلبة الروم فارس ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم وظهورهم على الشام والعراق كل ذلك في خمس عشرة سنة.
ثم توفي عمه أبو طالب وزوجته خديجة
يقال في قوله تعالى: {وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم} . أنها نزلت في أبي طالب ونزل فيه {إنك لا تهدي من أحببت} .

(1/229)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 230
قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عمن سمع ابن عباس يقول في قوله تعالى: {وهم ينهون عنه} قال: نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى عنه. ورواه حمزة الزيات عن حبيب فقال: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله فقالا: أي أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ! قال: فكان آخر كلمة أن قال: على ملة عبد المطلب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} الآيتين ونزلت: {إنك لا تهدي من أحببت} . أخرجه مسلم. وللبخاري مثله من حديث شعيب بن أبي حمزة.

(1/230)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 231
وقد حكى عن أبي طالب واسمه عبد مناف ابنه علي وأبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم. ابن عون عن عمرو بن سعيد أن أبا طالب قال: كنت بذي المجاز مع ابن أخي فعطشت فشكوت إليه فأهوى بعقبه إلى الأرض فنبع الماء فشربت. وعن بعض التابعين قال: لم يكن أحد يسود في الجاهلية إلا بمال إلا أبا طالب وعتبة بن ربيعة. قلت: ولأبي طالب شعر جيد مدون في السيرة وغيرها. وفي مسند أحمد من حديث يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن حبة العرني قال: رأيت عليا ضحك على المنبر حتى بدت نواجذه ثم ذكر قول أبي طالب ظهر علينا أبو طالب وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصلي ببطن نخلة فقال: ماذا تصنعان يا بن أخي؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى

(1/231)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 232
الإسلام فقال: ما بالذي تصنعان من بأس ولكن والله لا يعلوني استي أبدا فضحكت تعجبا من قول أبي. وروى معتمر بن سليمان عن أبيه أن قريشا أظهروا لبني عبد المطلب العداوة والشتم فجمع أبو طالب رهطه فقاموا بين أستار الكعبة يدعون الله على من ظلمهم وقال أبو طالب: إن أبى قومنا إلا البغي علينا فعجل نصرنا وخل بينهم. وبين الذي يريدون من قتل ابن أخي ثم دخل بآله الشعب. ابن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس قال: لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب قال: أي عم قل لا إله إلا الله أستحل لك بها الشفاعة قال: يا بن أخي والله لولا أن تكون سبة على أهل بيتك يرون أني قلتها جزعا من الموت لقلتها لا أقولها إلا لأسرك بها. فلما ثقل أبو طالب رؤي يحرك شفتيه فأصغى إليه أخوه العباس ثم رفع عنه فقال: يا رسول الله قد والله قالها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أسمع. قلت: هذا لا يصح ولو كان سمعه العباس يقولها لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هل نفعت عمك بشيء ولما قال علي بعد موته: يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات. صح أن عمرو بن دينار روى عن أبي

(1/232)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 233
سعيد بن رافع قال: سألت ابن عمر: {إنك لا تهدي من أحببت} نزلت في أبي طالب؟ قال: نعم. زيد بن الحباب ثنا حماد عن ثابت عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن العباس أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما ترجو لأبي طالب؟ قال: كل الخير من ربي. أيوب عن ابن سيرين قال: لما احتضر أبو طالب دعا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا بن أخي إذا أنا مت فأت أخوالك من بني النجار فإنهم أمنع الناس لما في بيوتهم. قال عروة بن الزبير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما زالت قريش كاعة عني حتى مات عمي. كاعة جمع كائع وهو الجبان يقال: كع إذا جبن وانقبض. وقال يزيد بن كيسان: حدثني أبو حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة فقال: لولا أن تعيرني قريش يقولون: إنما حمله عليه الجزع لأقررت بها عينك. فأنزل الله: {إنك لا تهدي من أحببت} الآية. أخرجه مسلم. وقال أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن العباس أنه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه

(1/233)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 234
كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم هو في ضحضاح من النار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار. أخرجاه. وكذلك رواه السفيانان عن عبد الملك. وقال الليث: عن ابن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - وذكر عنده عمه أبو طالب فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه. أخرجاه. وقال حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي عثمان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أهون أهل النار عذابا أبو طالب منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه. وقال الثوري وغيره عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي رضي الله عنه قال: لما مات أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن عمك الشيخ الضال قد مات قال: اذهب فوار أباك ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني فأتيته فأمرني فاغتسلت ثم دعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شيء.

(1/234)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 235
ورواه الطيالسي في مسنده عن شعبة عن أبي إسحاق فزاد بعد: اذهب فواره: فقلت: إنه مات مشركا قال: اذهب فواره. وفي حديثه تصريح السماع من ناجية قال: شهدت عليا يقول. وهذا حديث حسن متصل. وقال عبد الله بن إدريس: ثنا محمد بن أبي إسحاق عمن حدثه عن عروة بن الزبير عن عبد الله بن جعفر قال: لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من قريش فألقى عليه ترابا فرجع إلى بيته فأتت بنته تمسح عن وجهه التراب وتبكي فجعل يقول: أي بنية لا تبكين فإن الله مانع أباك ويقول ما بين ذلك: ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب. غريب مرسل. وروي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم عارض جنازة أبي طالب فقال: وصلتك رحم يا عم وجزيت خيرا. تفرد به إبراهيم بن عبد الرحمن الخوارزمي. وهو منكر الحديث يروي عنه عيسى غنجار والفضل الشيباني. وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني العباس بن عبد الله بن

(1/235)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 236
معبد عن بعض أهله عن ابن عباس قال: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طالب في مرضه قال: أي عم قل لا إله إلا الله أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة فقال: يا بن أخي والله لولا أن تكون سبة عليك وعلى أهل بيتك من بعدي يرون أني قلتها جزعا حين نزل بي الموت لقلتها لا أقولها إلا لأسرك بها فلما ثقل أبو طالب رؤي يحرك شفتيه فأصغى إليه العباس ليستمع قوله فرفع العباس عنه فقال: يا رسول الله قد والله قال الكلمة التي سألته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم أسمع. إسناده ضعيف لأن فيه مجهولا وأيضا فكان العباس ذلك الوقت على جاهليته ولهذا إن صح الحديث لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم روايته وقال له: لم أسمع وقد تقدم أنه بعد إسلامه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك فلو كان العباس عنده علم من إسلام أخيه أبي طالب لما قال هذا ولما سكت عند قول النبي صلى الله عليه وسلم هو في ضحضاح من النار ولقال: إني سمعته يقول: لا إله إلا الله ولكن الرافضة قوم بهت. وقال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب ماتا في عام واحد فتتابعت على رسول الله المصائب بموتهما. وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام كان يسكن إليها. وذكر الواقدي أنهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين وأنهما توفيا في ذلك العام وتوفيت خديجة قبل أبي طالب بخمسة وثلاثين يوما.

(1/236)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 237
وذكر أبو عبد الله الحاكم أن موتها كان بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام وكذا قال غيره. وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدية. قال الزبير بن بكار: كانت تدعى في الجاهلية الطاهرة وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم العامرية. وكانت خديجة تحت أبي هالة بن زرارة التميمي واختلف في اسم أبي هالة ثم خلف عليها بعده عتيق بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ثم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن إسحاق: بل تزوجها أبو هالة بعد عتيق. وكانت وزيرة صدق على الإسلام. وعن عائشة قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة وقيل: كان موتها في رمضان ودفنت بالحجون وقيل: إنها عاشت خمسا وستين سنة. وقال الزبير: تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولها أربعون سنة وأقامت معه أربعا وعشرين سنة. قال مروان بن معاوية الفزاري عن وائل بن داود عن عبد الله

(1/237)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 238
البهي قال: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها واستغفار لها فذكرها يوما فاحتملتني الغيرة فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن فرأيته غضب غضبا أسقطت في خلدي وقلت في نفسي: اللهم إنك إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد إلى ذكرها بسوء فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيت قال: كيف قلت: والله لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس وآوتني إذا رفضني الناس وصدقتني إذ كذبني الناس ورزقت منها الولد وحرمتموه مني قالت: فغدا وراح علي بها شهرا. وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة مما كنت أسمع من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وما تزوجني إلا بعد موتها بثلاث سنين ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب. متفق عليه. وقال الزهري: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة. وقال ابن فضيل عن عمارة عن أبي زرعة سمع أبا هريرة يقول: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذه خديجة أتتك معها إناء فيه طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليه السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في

(1/238)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 239
الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب متفق عليه. وقال عبد الله بن جعفر: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: خير نسائها خديجة بنت خويلد وخير نسائها مريم بنت عمران. أخرجه مسلم.

(1/239)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 240
فارغة

(1/240)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 241

ذكر الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى
قال موسى بن عقبة عن الزهري أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس قبل الهجرة بسنة. وكذا قال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة. وقال أبو إسماعيل الترمذي: ثنا إسحاق بن العلاء بن الضحاك الزبيدي بن زبريق ثنا عمرو بن الحارث عن عبد الله بن سالم عن الزبيدي محمد بن الوليد ثنا الوليد بن عبد الرحمن أن جبير بن نفير قال: ثنا شداد بن أوس قال: قلنا يا رسول الله كيف أسري بك؟ قال: صليت لأصحابي صلاة العتمة بمكة معتما فأتاني جبريل بدابة بيضاء فوق الحمار ودون البغل فقال: اركب فاستصعب علي

(1/241)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 242
فرازها بأذنها ثم حملني عليها فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها حتى بلغنا أرضا ذات نخل فأنزلني فقال: صل فصليت ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بيثرب صليت بطيبة فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها ثم بلغنا أرضا فقال انزل فصل ففعلت ثم ركبنا. قال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت بمدين عند شجرة موسى عليه السلام. ثم انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها ثم بلغنا أرضا بدت لنا قصور فقال: انزل فصليت وركبنا. فقال لي: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني فأتى قبلة المسجد فربط فيه دابته ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر فصليت من المسجد حيث شاء الله وأخذني من العطش أشد ما أخذني فأتيت بإناءين لبن وعسل أرسل إلي بهما جميعا فعدلت بينهما ثم هداني الله فأخذت اللبن فشربت حتى قرعت به جبيني وبين يدي شيخ متكئ على مثراه له فقال: أخذ صاحبك الفطرة إنه ليهدى. ثم انطلق بي حتى أتينا الوادي الذي في المدينة فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابي. قلت: يا رسول الله كيف وجدتها؟ قال: مثل الحمأة السخنة ثم انصرف بي فمررنا بعير لقريش

(1/242)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 243
بمكان كذا وكذا قد ضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان فسلمت عليهم فقال بعضهم: هذا صوت محمد. ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة فأتاني أبو بكر فقال: أين كنت الليلة فقد التمستك في مظانك؟ قلت: علمت أني أتيت بيت المقدس الليلة. فقال: يا رسول الله إنه مسيرة شهر فصفه لي قال: ففتح لي صراط كأني أنظر إليه لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه قال: أشهد أنك رسول الله فقال المشركون: أنظروا إلى ابن أبي كبشة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة فقال: إني مررت بعير لكم بمكان كذا وقد أضلوا بعيرا لهم فجمعه فلان وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم كذا ويأتونكم يوم كذا يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حتى كان قريب من نصف النهار حين أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل. قال البيهقي: هذا إسناد صحيح. قلت: ابن زبريق تكلم فيه النسائي. وقال أبو حاتم: شيخ. قال حماد بن سلمة: ثنا أبو حمزة عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتيت بالبراق فركبته خلف جبريل فسار بنا فكان إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه وإذا هبط ارتفعت يداه فسار بنا في أرض فيحاء طيبة فأتينا على رجل قائم يصلي فقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال: أخوك محمد فرحب ودعا لي بالبركة وقال:

(1/243)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 244
سل لأمتك اليسر ثم سار فذكر أنه مر على موسى وعيسى قال: ثم أتينا على مصابيح فقلت: ما هذا؟ قال: هذه شجرة أبيك إبراهيم تحب أن تدنو منها؟ قلت: نعم فدنونا منها فرحب بي ثم مضينا حتى أتينا بيت المقدس ونشر لي الأنبياء من سمى الله ومن لم يسم وصليت بهم إلا هؤلاء النفر الثلاثة: موسى وعيسى وإبراهيم فربطت الدابة بالحلقة التي تربط بها الأنبياء ثم دخلت المسجد فقربت لي الأنبياء من سمى الله منهم ومن لم يسم فصليت بهم. هذا حديث غريب وأبو حمزة هو ميمون. ضعف. وقال يونس عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن فنظر إليهما فأخذ اللبن فقال له جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة لو أخذت الخمر غوت أمتك. متفق عليه. قرأت على القاضي سليمان بن حمزة أخبركم محمد بن عبد الواحد الحافظ أنا الفضل بن الحسين أنا علي بن الحسن الموازيني أنا

(1/244)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 245
محمد بن عبد الرحمن أنا يوسف القاضي أنا أبو يعلى التميمي ثنا محمد بن إسماعيل الوساوسي ثنا ضمرة عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن أبي صالح مولى أم هانئ عن أم هانئ قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلس وأنا على فراشي فقال: شعرت أني نمت الليلة في المسجد الحرام فأتى جبريل فذهب بي إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل مضطرب الأذنين فركبته وكان يضع حافره مد بصره إذا أخذ بي في هبوط طالت يداه وقصرت رجلاه وإذا أخذ بي في صعود طالت رجلاه وقصرت يداه وجبريل لا يفوتني حتى انتهينا إلى بيت المقدس فأوثقته بالحلقة التي كانت الأنبياء توثق بها فنشر لي رهط من الأنبياء فيهم إبراهيم وموسى وعيسى فصليت بهم وكلمتهم وأتيت بإناءين أحمر وأبيض فشربت الأبيض فقال لي جبريل: شربت اللبن وتركت الخمر لو شربت الخمر لارتدت أمتك ثم ركبته إلى المسجد الحرام فصليت به الغداة. قالت: فتعلقت بردائه وقلت: أنشدك الله يا بن عم ألا تحدث بهذا قريشا فيكذبك من صدقك فضرب بيده على ردائه فانتزعه من يدي فارتفع عن بطنه فنظرت إلى عكنه فوق إزاره وكأنه طي القراطيس وإذا نور ساطع عند فؤاده يكاد يختطف بصري فخررت ساجدة فلما رفعت رأسي إذا هو قد خرج فقلت لجاريتي نبعة: ويحك اتبعيه فانظري فلما رجعت أخبرتني أنه انتهى إلى قريش في الحطيم فيهم المطعم بن عدي وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة فقص عليهم مسراه فقال عمرو كالمستهزئ: صفهم

(1/245)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 246
لي قال: أما عيسى ففوق الربعة عريض الصدر ظاهر الدم جعد الشعر تعلوه صهبة كأنه عروة بن مسعود الثقفي وأما موسى فضخم آدم طوال كأنه من رجال شنوءة كثير الشعر غائر العينين متراكب الأسنان مقلص الشفتين خارج اللثة عابس وأما إبراهيم فوالله لأشبه الناس بي خلقا وخلقا فضجوا وأعظموا ذلك فقال المطعم: كل أمرك كان قبل اليوم أمما غير قولك اليوم أنا أشهد أنك كاذب ! نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس شهرا أتيته في ليلة ! وذكر باقي الحديث وهو حديث غريب الوساوسي ضعيف تفرد به. (م) ثنا محمد بن رافع ثنا حجين بن المثنى نا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربا ما كربت مثله قط فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت من

(1/246)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 247
الصلاة قال لي قائل: يا محمد هذا مالك صاحب النار فسلم عليه فالتفت إليه فبدأني بالسلام. وقد رواه أبو سلمة أيضا عن جابر مختصرا. قال الليث عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة قال: سمعت جابر بن عبد الله يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلا الله لي بيت المقدس فطففت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه. أخرجاه. وقال إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب: سمعت ابن المسيب يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى بيت المقدس لقي فيه إبراهيم وموسى وعيسى ثم أخبر انه أسري به فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه. وذكر الحديث وهذا مرسل. وقال محمد بن كثير المصيصي ثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن آمن وسعوا إلى أبي بكر فقالوا: هل لك

(1/247)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 248
في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس ! قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم قال: لئن قال ذلك لقد صدق قالوا: وتصدقه ! قال: إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه بخير السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سمي أبو بكر الصديق. وقال معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه سمع أنسا يقول: حدثني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر على موسى وهو يصلي في قبره. وذكر الحديث. وقال عبد العزيز بن عمران بن مقلاص الفقيه ويونس وغيرهما: حدثنا ابن وهب حدثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري عن أبيه عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن أنس بن مالك قال: لما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليهما وسلم بالبراق فكأنها أمرت ذنبها فقال لها جبريل: مه يا براق فوالله إن ركبك مثله وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو بعجوز على جانب الطريق فقال: ما هذه يا جبريل قال له: سر يا محمد فسار ما شاء الله أن يسير. فإذا شيء يدعوه متنحيا عن الطريق يقول: هلم يا محمد فقال جبريل: سر يا محمد فسار ما شاء الله أن يسير قال: فلقيه خلق من الخلق فقالوا: السلام عليك يا آخر السلام عليك يا حاشر فرد السلام فانتهى إلى بيت المقدس فعرض عليه الماء والخمر واللبن فتناول اللبن فقال له

(1/248)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 249
جبريل: أصبت الفطرة ولو شربت الماء لغرقت أمتك وغرقت ولو شربت الخمر لغويت وغوت أمتك ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ثم قال له جبريل: أما العجوز فلم يبق من الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز وأما الذي أراد أن تميل إليه فذاك عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى. وقال النضر بن شميل: وروح وغندر أنا عوف ثنا زرارة بن أوفى قال: قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما كانت ليلة أسري بي ثم أصبحت بمكة فظعت بأمري وعلمت بأن الناس يكذبوني قال: فقعد معتزلا حزينا فمر به أبو جهل فجاء فجلس فقال كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم قال: ما هو؟ قال: إني أسري بي الليلة قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس قال: ثم أصبحت بين أظهرنا ! قال: نعم قال: فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث فقال: أرأيت إن دعوت إليك قومك أتحدثهم بما حدثتني؟ قال: نعم فدعا قومه فقال: يا معشر بني كعب بن لؤي هلم فانتقضت المجالس فجاءوا حتى جلسوا إليهما فقال: حدثهم

(1/249)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 250
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أسري بي الليلة قالوا: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس قالوا: ثم أصبحت بين ظهرينا ! قال: نعم قال: فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه مستعجب للكذب زعم قال: وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد فقال: هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذهبت أنعت فما زلت حتى التبس علي بعض النعت قال: فجيء بالمسجد حتى وضع دون دار عقيل أو عقال. قال: فنعته وأنا أنظر إليه فقالوا: أما النعت فقد والله أصاب. ورواه هوذة بن عوف. مسلم بن إبراهيم: ثنا الحارث بن عبيد ثنا أبو عمران عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما أنا قاعد ذات يوم إذ دخل جبريل فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرة فيها مثل وكرى الطائر فقعد في واحدة وقعدت في أخرى فارتفعت حتى سدت الخافقين فلو شئت أن أمس السماء لمسست وأنا أقلب طرفي فالتفت إلى جبريل فإذا هو لاطئ فعرفت فضل علمه بالله وفتح لي باب السماء ورأيت النور

(1/250)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 251
الأعظم ثم أوحى الله إلي ما شاء أن يوحي. إسناده جيد حسن والحارث من رجال مسلم. سعيد بن منصور: ثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة عن أبي هريرة قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به قال: يا جبريل إن قومي لا يصدقوني قال: يصدقك أبو بكر وهو الصديق. رواه إسحاق بن سليمان عن يزيد بن هارون أنا مسعر عن أبي وهب هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس قال: فحدثهم صلى الله عليه وسلم بعلامة بيت المقدس فارتدوا كفارا فضرب الله رقابهم مع أبي جهل. وقال أبو جهل: يخوفنا محمد بشجرة الزقوم هاتوا تمرا وزبدا فتزقموا. ورأى الدجال في صورته رؤيا عين ليس برؤيا منام وعيسى وموسى وإبراهيم. وذكر الحديث.

(1/251)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 252
وقال حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل فلم يزايلا ظهره هو وجبريل حتى انتهيا به إلى بيت المقدس فصعد به جبريل إلى السماء فاستفتح جبريل فأراه الجنة والنار ثم قال لي: هل صلى في بيت المقدس؟ قلت: نعم قال: اسمك يا أصلع قلت: زر بن حبيش قال: فأين تجده صلاها؟ فتأولت الآية: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} قال: فإنه لو صلى لصليتم كما تصلون في المسجد الحرام قلت لحذيفة: أربط الدابة بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء؟ قال: أكان يخاف أن تذهب منه وقد أتاه الله بها كأن حذيفة لم يبلغه أنه صلى في المسجد الأقصى ولا ربط البراق بالحلقة. وقال ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس {وما جعلنا

(1/252)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 253
الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به. {والشجرة الملعونة في القران} قال: هي شجرة الزقوم أخرجه البخاري.
ذكر معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء
قال الله تعالى: {علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى} وقال {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى}. تفسير ذلك: قال زائدة وغيره عن أبي إسحاق الشيباني قال: سألت زر بن حبيش عن قوله تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى} فقال: ثنا عبد الله بن مسعود أنه رأى جبريل له ستمائة جناح. أخرجاه. وروى شعبة عن الشيباني هذا لكن قال: سألته عن قوله تعالى: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} فذكر أنه رأى جبريل له ستمائة جناح.

(1/253)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 254
وقال (خ) قبيصة: ثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} قال: رأى رفرفا أخضر قد ملأ الأفق. وقال حماد بن سلمة: ثنا عاصم عن زر عن عبد الله {ولقد رآه نزلة أخرى} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت جبريل عند سدرة عليه ستمائة جناح ينفض من ريشه التهاويل الدر والياقوت. عاصم بن بهدلة القارئ ليس بالقوي. وقال مالك بن مغول عن الزبير بن عدي عن طلحة بن مصرف عن مرة الهمداني عن ابن مسعود قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة - كذا قال - وإليها ينتهي ما يصعد به حتى يقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها حتى يقبض منها

(1/254)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 255
{إذ يغشى السدرة ما يغشى} قال: غشيها فراش من ذهب وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته المقحمات. أخرجه مسلم. وقال إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله {ما كذب الفؤاد ما رأى} قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض. وقال عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة: {ولقد رآه نزلة أخرى} قال: رأى جبريل عليه السلام أخرجه مسلم. وقال زكريا بن أبي زائدة عن ابن أشوع عن الشعبي عن مسروق قال: قلت لعائشة: فأين قوله تعالى: {دنا فتدلى} ؟ قالت: إنما ذاك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد أفق السماء. متفق عليه.

(1/255)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 256
وقال ابن لهيعة: حدثني أبو الأسود عن عروة عن عائشة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان أول شأنه يرى المنام فكان أول ما رأى جبريل بأجياد أنه خرج لبعض حاجته فصرخ به: يا محمد يا محمد فنظر يمينا وشمالا فلم ير شيئا ثم نظر فلم ير شيئا فرفع بصره فإذا هو ثانيا إحدى رجليه على الأخرى في الأفق فقال: يا محمد جبريل جبريل يسكنه فهرب حتى دخل في الناس فنظر فلم ير شيئا ثم رجع فنظر فرآه فذلك قوله تعالى: {والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى} . محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن ابن عباس {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى} قال: دنا ربه منه فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى. قال ابن عباس قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم إسناده حسن. أخبرنا التاج عبد الخالق أنا ابن قدامة أنا أبو زرعة أنا المقدمي أنا القاسم بن أبي المنذر أنا ابن سلمة أنا ابن ماجه ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي الصلت عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا. رواه أحمد في مسنده عن الحسن وعفان عن حماد وزاد فيه: رأيت ليلة أسري بي

(1/256)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 257
لما انتهينا إلى السماء السابعة. أبو الصلت مجهول. أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن المرداوي أنبأ أبو محمد عبد الله بن أحمد الفقيه أنبأ هبة الله بن الحسن بن هلال أنبأ عبد الله بن علي بن زكري سنة أربع وثمانين وأربعمائة أنبأ علي بن محمد بن عبد الله أنبأ أبو جعفر محمد بن عمرو ثنا سعدان بن نصر ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري عن ابن عون قال: أنبأنا القاسم بن محمد عن عائشة أنها قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله ولكنه رأى جبريل مرتين في صورته وخلقه سادا ما بين الأفق. أخرجه البخاري عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج عن الأنصاري. قلت: قد اختلف الصحابة في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه فأنكرتها

(1/257)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 258
عائشة وأما لروايات عن ابن مسعود فإنما فيها تفسير ما في النجم وليس في قوله ما يدل على نفي الرؤية لله. وذكرها في الصحيح وغيره. قال يونس عن ابن شهاب عن أنس قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا ثم أفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا فقال خازنها: افتح قال: من هذا؟ قال: جبريل قال: هل معك أحد؟ قال: نعم محمد قال: أرسل إليه؟ قال: نعم ففتح

(1/258)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 259
فلما علونا السماء الدنيا إذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: آدم وهذه الأسودة نسم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة والتي عن شماله أهل النار ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية فقال لخازنها: افتح فقال له خازنها. مثل ما قال خازن السماء الدنيا ففتح. فقال أنس: فذكر أنه وجد في السموات: آدم وإدريس وعيسى وموسى وإبراهيم ولم يثبت - يعني أبا ذر - كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة فلما مر جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بإدريس قال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قال: ثم مر قلت: من هذا؟ قال: إدريس قال: ثم مررت بموسى فقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح: قلت: من هذا؟ قال: موسى ثم مررت بعيسى فقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت: من هذا؟ قال: عيسى ثم مررت بإبراهيم فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت: من هذا؟ قال: إبراهيم. قال ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري

(1/259)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 260
كانا يقولان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوفى أسمع فيه صريف الأقلام. قال ابن شهاب: قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرض الله على أمتي خمسين صلاة كل يوم قال: فرجعت بذلك حتى أمر بموسى فقال: ماذا فرض ربك على أمتك؟ قلت: فرض عليهم خمسين صلاة قال موسى: فراجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال: فراجعت ربي فوضع عني شطرها فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال: فراجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فراجعت ربي فقال: هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي فرجعت إلى موسى فقال: ارجع إلى ربك فقلت: قد استحييت من ربي قال: ثم انطلق بي حتى أتى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي قال: ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك. أخبرنا بهذا الحديث يحيى بن أحمد المقري بالإسكندرية ومحمد بن حسين الفوي بمصر قالا: أنا محمد بن عماد أنا عبد الله بن رفاعة أنا علي بن الحسن الشافعي أنا عبد الرحمن بن عمر البزار ثنا أبو الطاهر

(1/260)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 261
أحمد بن محمد بن عمرو المديني ثنا أبو موسى يونس بن عبد الأعلى الصدفي نا ابن وهب قال: أخبرني يونس فذكره. رواه مسلم عن حرملة عن ابن وهب. وروى النسائي شطره الثاني من قول ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة إلى آخره عن يونس فوافقناه بعلو. وقد أخرجه البخاري من حديث الليث عن يونس وتابعه عقيل عن الزهري. وقال همام: سمعت قتادة يحدث عن أنس أن مالك بن صعصعة حدثه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال: بينما أنا في الحطيم - وربما قال قتادة في الحجر - مضطجعا إذ أتاني آت - فجعل يقول لصاحبه الأوسط بين الثلاثة قال: فأتاني وقد سمعت قتادة يقول - فشق ما بين هذه إلى هذه قال قتادة: قلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته؟ قال: فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوء إيمانا فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض - فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال: نعم - يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل:

(1/261)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 262
ومن معك؟ قال: محمد قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم قيل مرحبا به ونعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا آدم فيها فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء قال: ففتح فلما خلصت فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلمت عليهما فرد السلام ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي حتى أتى السماء الثالثة فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء قال: ففتح فلما خلصت فإذا يوسف قال: هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه فرد وقال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فقيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء قال: ففتح فلما خلصت فإذا إدريس قال: هذا إدريس فسلم عليه فسلمت ورد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء قال: محمد

(1/262)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 263
قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء قال: ففتح فلما خلصت فإذا هارون قال: هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل فقيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء قال: ففتح فلما خلصت فإذا موسى قال: هذا موسى فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام؟ ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح قال فلما جاوزت بكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأنه غلام بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي ثم صعد بي حتى أتى السماء السابعة فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا إبراهيم عليه السلام قال: هذا إبراهيم فسلم عليه فسلمت عليه فرد وقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ثم رفعت لي سدرة المنتهى. فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة فقال: هذه سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران فقلت ما هذا يا جبريل قال أما الباطنان فنهران في الجنة وأما. الظاهران فالنيل والفرات. ثم رفع لي البيت المعمور ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن. فقال: هذه الفطرة أنت عليها وأمتك. قال: ثم فرضت علي الصلاة خمسون صلاة في كل يوم فرجعت

(1/263)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 264
فمررت على موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: بخمسين صلاة في كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك فإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف. قلت: قد سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم فلما نفرت ناداني مناد قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي. أخرجه البخاري عن هدبة عنه. وقال معاذ بن هشام: حدثني أبي عن قتادة ثنا أنس عن مالك بن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكر نحوه وزاد فيه: فأتيت بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فشق من النحر إلى مراق البطن فغسل بماء زمزم ثم ملئ حكمة وإيمانا. أخرجه مسلم بطوله. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين قال: فأتيت فانطلق بي ثم أتيت بطست من ذهب فيه من ماء زمزم فشرح صدري إلى كذا وكذا قال قتادة: قلت لصاحبي: ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطني فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم ثم أعيد مكانه وحشي أو قال: كنز إيمانا وحكمة -

(1/264)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 265
شك سعيد - ثم أتيت بدابة أبيض يقال له البراق فوق الحمار ودون البغل يقع خطوه عند أقصى طرفه فحملني عليه ومعي صاحبي لا يفارقني فانطلقنا حتى أتينا السماء الدنيا. وساق الحديث كحديث همام إلى قوله البيت المعمور فزاد يدخله كل يوم سبعون ألف ملك حتى إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم. قلت: وهذه زيادة رواها همام في حديثه وهو أتقن من ابن أبي عروبة فقال: قال قتادة فحدثنا الحسن عن أبي هريرة أنه رأى البيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه. ثم رجع إلى حديث أنس وفي حديث ابن أبي عروبة زيادة: {في سدرة المنتهى} إن ورقها مثل آذان الفيلة ولفظه: ثم أتيت على موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: بخمسين صلاة قال: إني قد بلوت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة وإن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فرجعت فحط عني خمس صلوات فما زلت أختلف بين ربي وبين موسى كلما أتيت عليه قال لي مثل مقالته حتى رجعت بخمس صلوات كل يوم فلما أتيت على موسى قال كمقالته قلت: لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم فنوديت أن: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وجعلت بكل حسنة عشر أمثالها. أخرجه مسلم. وقد رواه ثابت البناني وشريك بن أبي نمر عن أنس فلم يسنده

(1/265)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 266
لهما لا عن أبي ذر ولا عن مالك بن صعصعة ولا بأس بمثل ذلك فإن مرسل الصحابي حجة. قال حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فركبته حتى أتينا بيت المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء ثم دخلت فصليت فأتاني بإناءين خمر ولبن فاخترت اللبن فقال: أصبت الفطرة ثم عرج بي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: أنا جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل ففتح لنا فإذا بآدم. فذكر الحديث وفيه: فإذا يوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحب بي ودعا لي بخير إلى أن قال: لما فتح له السماء السابعة: فإذا بإبراهيم وإذا هو مستند إلى البيت المعمور فرحب بي ودعا لي بخير فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت. فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها قال فدنا فتدلى فأوحى إلى عبده ما أوحى وفرض علي في كل يوم خمسون صلاة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى قال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل وجربتهم وخبرتهم قال: فرجعت فقلت: أي رب خفف عن أمتي فحط عني خمسا فرجعت حتى انتهيت إلى موسى فقال: ما فعلت؟ قلت: قد حط عني خمسا فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى حتى قال: هي خمس

(1/266)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 267
صلوات في كل يوم وليلة بكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة. أخرجه مسلم دون قوله: فدنا فتدلى وذلك ثابت في رواية حجاج بن منهال وهو ثبت في حماد بن سلمة. وقال سليمان بن بلال عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال: سمعت أنسا يقول وذكر حديث الإسراء وفيه: ثم عرج به إلى السماء السابعة ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء إلى سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى. أخرجه البخاري عن عبد العزيز بن عبد الله عن سليمان. وقال شيبان عن قتادة عن أبي العالية ثنا ابن عباس قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي موسى عليه السلام رجلا طوال جعدا كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس قال: وأري مالكا خازن النار والدجال في آيات أراهن الله إياه قال: {فلا تكن في مرية من لقائه} . فكان قتادة يفسرها أن نبي الله قد لقي موسى. أخرجه مسلم. وفي الصحيحين من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة

(1/267)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 268
قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أسري به لقيت موسى وعيسى - ثم نعتهما - ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به. وقال مروان بن معاوية الفزاري عن قنان النهمي ثنا أبو ظبيان الجنبي قال: كنا جلوسا عند أبي عبيدة بن عبد الله ومحمد بن سعد بن أبي وقاص فقال محمد لأبي عبيدة: حدثنا عن أبيك ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبو عبيدة: لا بل حدثنا أنت عن أبيك قال: لو سألتني قبل أن أسألك لفعلت فأنشأ أبو عبيدة يحدث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل فحملني عليه فانطلق يهوي بنا كلما صعد عقبة استوت رجلاه مع يديه وإذا هبط استوت يداه مع رجليه حتى مررنا برجل طوال سبط آدم كأنه من رجال أزد شنوءة وهو يقول ويرفع صوته ويقول: أكرمته وفضلته فدفعنا إليه فسلمنا فرد السلام فقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال: هذا أحمد. قال: مرحبا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته. قال: ثم اندفعنا فقلت: من هذا يا جبريل؟ قال: موسى قلت: ومن يعاتب؟ قال: يعاتب ربه فيك قلت: ويرفع صوته على ربه ! قال: إن الله قد عرف له حدته. قال: ثم اندفعنا حتى مررنا بشجرة كأن ثمرها السرج وتحتها شيخ وعياله فقال لي جبريل: اعمد إلى أبيك إبراهيم فسلمنا عليه فرد السلام وقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال: ابنك أحمد فقال: مرحبا بالنبي

(1/268)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 269
الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته يا بني إنك لاق ربك الليلة فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل. قال: ثم اندفعنا حتى انتهينا إلى المسجد الأقصى فنزلت فربطت الدابة بالحلقة التي في باب المسجد التي كانت الأنبياء تربط بها ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد ثم أتيت بكأسين من عسل ولبن فأخذت اللبن فشربته فضرب جبريل منكبي وقال: أصبت الفطرة ورب محمد ثم أقيمت الصلاة فأممتهم ثم انصرفنا فأقبلنا... هذا حديث حسن غريب. فإن قيل: فقد صح عن ثابت وسليمان التيمي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره وقد صح عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى يصلي وذكر إبراهيم وعيسى قال: فحانت الصلاة فأممتهم. ومن حديث ابن المسيب أنه لقيهم في بيت المقدس. فكيف الجمع بين هذه الأحاديث وبين ما تقدم من أنه رأى هؤلاء الأنبياء في السموات وأنه راجع موسى؟ فالجواب: أنهم مثلوا له فرآهم غير مرة فرأى موسى في مسيره قائما يصلي في قبره ثم رآه في بيت المقدس ثم رآه في السماء السادسة هو وغيره فعرج بهم كما عرج بنبينا صلوات الله على الجميع وسلامه والأنبياء أحياء عند ربهم كحياة الشهداء عند ربهم وليست حياتهم كحياة أهل الدنيا ولا حياة أهل الآخرة بل لون آخر كما ورد أن حياة الشهداء

(1/269)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 270
بأن جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تسرح في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فهم أحياء عند ربهم بهذا الاعتبار كما أخبر سبحانه وتعالى وأجسادهم في قبورهم. وهذه الأشياء أكبر من عقول البشر والإيمان بها واجب كما قال تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} . أخبرنا أبو الفضل أحمد بن هبة الله أنا أبو روح عبد المعز بن محمد كتابة أن تميم بن أبي سعيد الجرجاني أخبرهم أنبأ أبو سعد محمد بن عبد الرحمن أنا أبو عمرو بن حمدان أنا أحمد بن علي بن المثنى ثنا هدبة بن خالد ثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مررت ليلة أسري بي برائحة طيبة فقلت: ما هذه الرائحة يا جبريل؟ قال: هذه ماشطة بنت فرعون كانت تمشطها فوقع المشط من يدها فقالت: باسم الله قالت بنت فرعون: أبي قالت: ربي ورب أبيك قالت: أقول له إذا قالت: قولي له قال لها: أو لك رب غيري ! قالت ربي وربك الذي في السماء قال فاحمي لها بقرة من نحاس فقالت: إن لي إليك حاجة قال: وما هي؟ قالت: أن تجمع عظامي وعظام ولدي قال: ذلك لك علينا لما لك علينا من الحق. فألقي ولدها في البقرة واحدا واحدا واحدا فكان آخرهم صبي فقال: يا أمه اصبري فإنك على الحق. قال ابن عباس: فأربعة تكلموا وهم صبيان: ابن ماشطة بنت فرعون وصبي

(1/270)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 271
جريج وعيسى ابن مريم والرابع لا أحفظه. هذا حديث حسن. وقال ابن سعد: أنا محمد بن عمر عن أبي بكر أبي سبرة وغيره قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يريه الجنة والنار فلما كان ليلة السبت لسبع عشرة خلت من رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم في بيته أتاه جبريل بالمعراج فإذا هو أحسن شيء منظرا فعرج به إلى السموات سماء سماء فلقي فيها الأنبياء وانتهى إلى سدرة المنتهى. قال ابن سعد: وأنبأ محمد بن عمر حدثني أسامة بن زيد الليثي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال محمد بن عمر: وثنا موسى بن يعقوب الزمعي عن أبيه عن جده عن أم سلمة. ونا موسى بن يعقوب عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة. وحدثني إسحاق بن حازم عن وهب بن كيسان عن أبي مرة عن أم هانئ وحدثني عبد الله بن جعفر عن زكريا بن عمرو عن ابن أبي مليكه عن ابن عباس دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة

(1/271)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 272
سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة من شعب أبي طالب إلى بيت المقدس وساق الحديث إلى أن قال: وقال بعضهم في الحديث: فتفرقت بنو عبد المطلب يطلبونه حين فقد يلتمسونه حتى بلغ العباس ذا طوى فجعل يصرخ: يا محمد يا محمد فأجابه رسول الله: لبيك فقال: يا بن أخي عنيت قومك منذ الليلة فأين كنت. قال: أتيت من بيت المقدس. قال: في ليلتك ! قال: نعم. قال: هل أصابك إلا خير؟ قال: ما أصابني إلا خير. وقالت أم هانئ: ما أسري به إلا من بيتنا: نام عندنا تلك الليلة بعد ما صلى العشاء فلما كان قبل الفجر أنبهناه للصبح فقام فلما صلى الصبح قال: يا أم هانئ جئت إلى بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت الغداة معكم. فقالت: لا تحدث الناس فيكذبونك قال: والله لأحدثنهم فأخبرهم فتعجبوا وساق الحديث. فرق الواقدي كما رأيت بين الإسراء والمعراج وجعلهما في تاريخين. وقال عبد الوهاب بن عطاء: أنبأ راشد أبو محمد الحماني عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له أصحابه:

(1/272)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 273
يا رسول الله أخبرنا عن ليلة أسري بك فيها فقرأ أول {سبحان} وقال: بينا أنا نائم عشاء في المسجد الحرام إذ أتاني آت فأيقظني فاستيقظت فلم أر شيئا ثم عدت في النوم ثم أيقظني فاستيقظت فلم أر شيئا ثم نمت فأيقظني فاستيقظت فلم أر شيئا فإذا أنا بهيئة خيال فأتبعته بصري حتى خرجت من المسجد فإذا أنا بدابة أدنى شبهه بدوابكم هذه بغالكم مضطرب الأذنين يقال له البراق وكانت الأنبياء تركبه قبلي يقع حافره مد بصره فركبته فبينا أنا أسير عليه إذ دعاني داع عن يميني: يا محمد أنظرني أسألك فلم أجبه فسرت ثم دعاني داع عن يساري: يا محمد أنظرني أسألك فلم أجبه ثم إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها وعليها من كل زينة فقالت: يا محمد أنظرني أسألك فلم ألتفت إليها حتى أتيت بيت المقدس فأوثقت دابتي بالحلقة فأتاني جبريل بإناءين: خمر ولبن فشربت اللبن فقال: أصبت الفطرة فحدثت جبريل عن الداعي الذي عن يميني قال: ذاك داعي اليهود لو أجبته لتهودت أمتك والآخر داعي النصارى لو أجبته لتنصرت أمتك وتلك المرأة الدنيا لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس فصلينا ركعتين ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم فلم تر الخلائق أحسن من المعراج أما رأيتم الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء فإنما يفعل ذلك عجبه به فصعدت أنا وجبريل فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل وهو صاحب سماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك قال تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} . فاستفتح جبريل قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. فإذا أنا بآدم كهيئته يوم

(1/273)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 274
خلقه الله على صورته تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في سجين. ثم مضت هنية فإذا أنا بأخونة - يعني بالخوان المائدة - عليها لحم مشرح ليس بقربها أحد وإذا أنا بأخونة أخرى عليها لحم قد أروح ونتن وعندها أناس يأكلون منها. قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون الحرام قال: ثم مضت هنية فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر يقول: اللهم لا تقم الساعة وهم على سابلة آل فرعون فتجيء السابلة فتطاردهم فسمعتهم يضجون إلى الله قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك الذين يأكلون الربا ثم مضت هنية فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل فتفتح أفواههم ويلقمون الجمر ثم يخرج من أسافلهم فيضجون قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ثم مضت هنية فإذا أنا بنساء يعلقن بثديهن فسمعتهن يضججن إلى الله قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الزناة من أمتك ثم مضت هنية فإذا أنا بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم فيلقمون فيقال له: كل ما كنت تأكل من لحم أخيك قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون. ثم صعدت إلى السماء الثانية فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله قد فضل على الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أخوك يوسف ومعه نفر من قومه فسلمت عليه وسلم علي ثم صعدت إلى السماء الثالثة فإذا أنا بيحيى وعيسى ومعهما نفر من قومهما. ثم صعدت إلى الرابعة فإذا أنا بإدريس ثم صعدت إلى السماء الخامسة فإذا أنا بهارون ونصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء تكاد لحيته تصيب سرته من طولها قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا المحبب في قومه هذا هارون بن عمران ومعه نفر

(1/274)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 275
من قومه فسلمت عليه ثم صعدت إلى السماء السادسة فإذا أنا بموسى رجل آدم كثير الشعر لو كان عليه قميصان لنفذ شعره دون القميص وإذا هو يقول: يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا بل هذا أكرم على الله مني قلت: من هذا؟ قال: موسى. ثم صعدت السابعة فإذا أنا بإبراهيم ساند ظهره إلى البيت المعمور فدخلته ودخل معي طائفة من أمتي عليهم ثياب بيض ثم دفعت إلى سدرة المنتهى فإذا كل ورقة منها تكاد أن تغطي هذه الأمة وإذا فيها عين تجري يقال لها سلسبيل فيشق منها نهران أحدهما الكوثر والآخر نهر الرحمة فاغتسلت فيه فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ثم إني دفعت إلى الجنة فاستقبلتني جارية فقلت: لمن أنت؟ قالت: لزيد بن حارثة ثم عرضت علي النار ثم أغلقت ثم إني دفعت إلى سدرة المنتهى فتغشى لي وكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى قال: ونزل على كل ورقة ملك من الملائكة وفرضت علي الصلاة خمسين ثم دفعت إلى موسى - فذكر مراجعته في التخفيف. أنا اختصرت ذلك وغيره إلى أن قال - فقلت: رجعت إلى ربي حتى استحييته. ثم أصبح بمكة يخبرهم بالعجائب فقال: إني أتيت البارحة بيت المقدس وعرج بي إلى السماء ورأيت كذا ورأيت كذا فقال أبو جهل: ألا تعجبون مما يقول محمد وذكر الحديث. هذا حديث غريب عجيب حذفت نحو النصف منه. رواه نجي بن أبي

(1/275)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 276
طالب عن عبد الوهاب وهو صدوق عن راشد الحماني وهو مشهور روى عنه حماد بن زيد وابن المبارك وقال أبو حاتم: صالح الحديث عن أبي هارون عمارة بن جوين العبدي وهو ضعيف شيعي. وقد رواه عن أبي هارون أيضا هشيم ونوح بن قيس الحداني بطوله نحوه حدث به عنهما قتيبة بن سعيد. ورواه سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق عن روح بن القاسم عن أبي هارون العبدي بطوله. ورواه أسد بن موسى عن مبارك بن فضالة ورواه عبد الرزاق عن معمر والحسن بن عرفة عن عمار بن محمد كلهم عن أبي هارون وبسياق مثل هذا الحديث صار أبو هارون متروكا وقال إبراهيم بن حمزة الزبيري: ثنا حاتم بن إسماعيل حدثني عيسى بن ماهان عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة. (ح) وقال هاشم بن القاسم ويونس بن بكير وحجاج الأعور ثنا أبو جعفر الرازي وهو عيسى بن ماهان عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة أو غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} قال: أتي بفرس فحمل عليه خطوة منتهى بصره فسار وسار معه جبريل فأتى على

(1/276)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 277
قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم كلما حصدوا عاد كما كان فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المهاجرون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه}. ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت ! قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الأنعام عن الضريع والزقوم ورضف جهنم قال: يا جبريل ما هؤلاء؟ قال: الذين لا يؤدون الزكاة ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها شيء إلا قصعته يقول الله تعالى: {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون} . ثم مر على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يريد أن يزيد عليها قال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا رجل من أمتك عليه أمانة لا يستطيع أداءها وهو يزيد عليها ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت. قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة. ثم نعت الجنة والنار إلى أن قال: ثم سار حتى أتى بيت المقدس فدخل وصلى ثم أتى أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم. وذكر حديثا طويلا في ثلاث ورقات كبار. تفرد به أبو جعفر الرازي وليس هو بالقوي والحديث منكر يشبه كلام القصاص إنما أوردته للمعرفة لا للحجة.

(1/277)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 278
وروى في المعراج إسحاق بن بشر حديثا وليس بثقة عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس. وقال معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ركعتين ركعتين فلما خرج إلى المدينة فرضت أربعا وأقرت صلاة السفر ركعتين. أخرجه البخاري. آخر الإسراء.

(1/278)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 279

زواجه صلى الله عليه وسلم بعائشة وسودة أمي المؤمنين
قال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفى خديجة قبل الهجرة وأنا ابنة ست وأدخلت عليه وأنا ابنة تسع سنين جاءني نسوة وأنا ألعب على أرجوحة وأنا مجممة فهيأنني وصنعنني ثم أتين بي إليه. قال عروة: ومكثت عنده تسع سنين. وهذا حديث صحيح. وقال أبو أسامة عن هشام عن أبيه قال: توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين فلبث سنتين أو قريبا من ذلك ونكح عائشة وهي بنت ست سنين ثم بنى بها وهي ابنة تسع. أخرجه

(1/279)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 280
البخاري هكذا مرسلا. وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أريتك في المنام مرتين أرى أن رجلا يحملك في سرقة من حرير فيقول: هذه امرأتك فأكشف فأراك فأقول: إن كان هذا من عند الله يمضه. متفق عليه. وقال عبد الله بن إدريس عن محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قالت عائشة: لما ماتت خديجة رضي الله عنهما جاءت خولة بنت حكيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ألا تزوج؟ قال: ومن؟ قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا. قال: من البكر ومن الثيب. فقالت: أما البكر فعائشة بنت أحب خلق الله إليك. وأما الثيب فسودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك قال: اذكريهما علي. قالت: فأتيت أم رومان فقلت: يا أم رومان ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة قالت: ماذا؟ قالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر عائشة.

(1/280)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 281
قالت: إنتظري فإن أبا بكر آت فجاء أبو بكر فذكرت ذلك له. فقال: أوتصلح له وهي ابنة أخيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أخوه وهو أخي وابنته تصلح لي. قالت: وقام أبو بكر فقالت لي أم رومان: إن المطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه والله ما أخلف وعدا قط تعني أبا بكر. قالت: فأتى أبو بكر المطعم فقال: ما تقول في أمر هذه الجارية. قال: فأقبل على امرأته فقال لها: ما تقولين؟ فأقبلت على أبي بكر فقالت: لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليك تصبئه وتدخله في دينك. فأقبل عليه أبو بكر فقال: ما تقول أنت؟ فقال: إنها لتقول ما تسمع فقام أبو بكر وليس في نفسه من الموعد شيء فقال لها: قولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فملكها قالت: ثم انطلقت إلى سودة بنت زمعة وأبوها شيخ كبير قد جلس عن الموسع فحييته بتحية أهل الجاهلية وقلت: أنعم صباحا قال: من أنت؟ قلت: خولة بنت حكيم فرحب بي وقال ما شاء الله أن يقول قلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يذكر سودة بنت زمعة قال: كفؤ كريم ماذا تقول صاحبتك. قلت: تحب ذلك قال: قولي له فليأت قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فملكها. قالت: وقدم عبد بن زمعة فجعل يحثو على رأسه التراب فقال بعد أن أسلم: إني لسفيه يوم أحثو على رأسي التراب أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة. إسناده حسن.
عرض نفسه صلى الله عليه وسلم على القبائل
قال إسرائيل عن عثمان بن المغيرة عن سالم بن أبي الجعد عن

(1/281)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 282
جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي. أخرجه أبو داود عن محمد بن كثير عن إسرائيل وهو على شرط البخاري. وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤووه ويمنعوه ويقول: لا أكره أحدا منكم على شيء من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذاك ومن كره لم أكرهه إنما أريد أن تحرزوني مما يراد بي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء فلم يقبله أحد ويقولون: قومه أعلم به اترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه فكان ذلك مما ذخر الله للأنصار. وتوفي أبو طالب وابتلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد ما كان فعمد لثقيف بالطائف رجاء أن يؤووه فوجد ثلاثة نفر منهم هم سادة ثقيف: عبد ياليل وحبيب ومسعود بنو عمرو فعرض عليهم نفسه وشكا إليهم البلاء وما انتهك منه قومه. فقال أحدهم: أنا أسرق أستار الكعبة إن كان الله بعثك قط.

(1/282)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 283
وقال الآخر: أعجز على الله أن يرسل غيرك. وقال الآخر: والله لا أكلمك بعد مجلسك هذا والله لئن كنت رسول الله لأنت أعظم شرفا وحقا من أن أكلمك ولئن كنت تكذب على الله لأنت اشر من أن أكلمك وتهزأوا به وأفشوا في قومهم الذي راجعوه به وقعدوا له صفين على طريقه فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة وأدموا رجليه فخلص منهم وهما تسيلان الدماء فعمد إلى حائط من حوائطهم واستظل في ظل حبلة منه وهو مكروب موجع فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة وشيبة أخوه فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما فلما رأياه أرسلا إليه غلاما لهما يدعى عداسا وهو نصراني من أهل نينوى معه عنب فلما جاء عداس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أي أرض أنت يا عداس؟ قال: من أهل نينوى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال: وما يدريك من يونس بن متى؟ قال: أنا رسول الله والله أخبرني خبر يونس فلما أخبره خبر عداس ساجدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يقبل قدميه وهما تسيلان الدماء فلما أبصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا فلما أتاهما قالا: ما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه؟ قال: هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى فضحكا به. وقالا: لا يفتنك عن نصرانيتك فإنه رجل خداع فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة.

(1/283)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 284
وقال يونس بن يزيد عن الزهري: أخبرني عروة أن عائشة حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟ قال: ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا هو جبريل فناداني إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ثم ناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال قد بعثني إليك ربك لتأمرني بما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أشرارهم - أو قال: من أصلابهم - من يعبد الله لا يشرك به شيئا. أخرجاه. وقال البكائي عن ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف وهم يومئذ سادتهم وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن

(1/284)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 285
عمرو وأخواه مسعود وحبيب وعند أحدهم امرأة من قريش من جمح فجلس إليهم ودعاهم إلى الله فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك وقال الآخر: أما وجد الله من يرسله غيرك؟ وقال الآخر: والله لا أكلمك. وذكره كما في حديث ابن شهاب وفيه زيادة وهي: فلما اطمأن صلى الله عليه وسلم قال فيما ذكر لي: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ارحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك. وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس سمعت ربيعة بن عباد يحدث أبي قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على القبائل من العرب يقول: يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوه لا تشركوا به شيئا وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه وأن تؤمنوا وتصدقوني وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به قال: وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان عليه حلة عدنية فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله قال: يا بني فلان عن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الحي من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه فقلت لأبي: من هذا؟ قال: هذا عمه عبد العزى أبو لهب.

(1/285)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 286
وحدثني ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه. وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حصين أنه أتى كلبا في منازلهم إلى بطن منهم يقال له بنو عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه حتى إنه ليقول: يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم فدعاهم إلى الله فلم يقبلوا. وحدثني بعض أصحابنا أنه أتى بني حنيفة في منازلهم ودعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فلم يكن أحد من العرب أقبح ردا منهم. وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ثم قال له: أرأيت إن تابعناك على أمرك؟ ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء قال: أفتهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه.

(1/286)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 287

حديث سويد بن الصامت
وقال يونس بن بكير: عن ابن إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قالوا: قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا وكان سويد يسميه قومه فيهم (الكامل) لسنه وجلده وشعره فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الله فقال سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان يعني حكمة لقمان قال: اعرضها فعرضها عليه فقال: إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل منه قرآن أنزله الله علي فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال: أن هذا لقول حسن ثم انصرف فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتلته الخزرج فكان رجال من قومه يقولون: إنا لنرى أنه قتل وهو مسلم وكان قتله يوم بعاث. وقال البكائي عن ابن إسحاق قال: وسويد الذي يقول:
ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى..... مقالته بالغيب ساءك ما يفري)
(مقالته كالشهد ما كان شاهدا..... وبالغيب مأثور على ثغرة النحر)
(يسرك باديه وتحت أديمه..... تميمة غش تبتري عقب الظهر)
(تبين لك العينان ما هو كاتم..... من الغل والبغضاء بالنظر الشزر)
(فرشني بخير طالما قد بريتني..... وخير الموالي يريش ولا يبري)

(1/287)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 288

حديث يوم بعاث
قال يونس عن ابن إسحاق: حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن سعد ابن معاذ عن محمود بن لبيد قال: لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقال لهم: هل لكم إلى خير مما جئتم له؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله بعثني الله إلى العباد ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن فقال إياس وكان غلاما حدثا: يا قوم هذا والله خير مما جئتم له فيأخذ أبو الحيسر حفنة من الحصباء فيضرب بها وجه إياس وقال: دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا فسكت وقام النبي صلى الله عليه وسلم عنهم وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومي أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات وكانوا لا يشكون أنه مات مسلما. وقد كان استشعر منه الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع. وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان يوم بعاث يوما قدمه الله عز وجل لرسوله فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقد افترق ملؤهم

(1/288)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 289
وقتلت سراتهم - يعني وجرحوا - قدمه الله لرسوله في دخولهم في الإسلام. أخرجه البخاري.
ذكر مبدأ خبر الأنصار والعقبة الأولى
قال أحمد بن المقدام العجلي: ثنا هشام بن محمد الكلبي ثنا عبد الحميد بن أبي عبس بن جبر عن أبيه قال: سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبي قبيس:
فإن يسلم السعدان يصبح محمد..... بمكة لا يخشى خلاف المخالف)
فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان؟ سعد بن بكر أو سعد بن تميم؟ فلما كان في الليلة الثانية سمعوا الهاتف يقول:
أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا..... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف)
(أجيبا إلى داعي الهدي وتمنيا..... على الله في الفردوس منية عارف)
(فإن ثواب الله للطالب الهدى..... جنان من الفردوس ذات رفارف)
فقال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.

(1/289)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 290
وقال البكائي عن ابن إسحاق: لما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه الأنصار فعرض نفسه على القبائل كما كان يصنع فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لقيهم قال: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن وكان مما صنع الله به في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم وكانوا [هم] أهل شرك وأوثان وكانوا قد غزوهم ببلادهم فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه فأجابوه وأسلموا وقالوا: إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم وعسى الله أن يجمعهم بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك به فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا.

(1/290)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 291
قال ابن إسحاق: وهم فيما ذكر ستة من الخزرج: أسعد بن زرارة وعوف بن عفراء ورافع بن مالك الزرقي وقطبة بن عامر السلمي وعقبة بن عامر رواه جرير بن حازم عن ابن إسحاق فقال بدل عقبة: معوذ بن عفراء وجابر بن عبد الله أحد بني عدي بن غنم فلما قدموا المدينة ذكروا لقومهم رسول الله ودعوهم إلى الإسلام وفشا فيهم ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة وهي (العقبة الأولى) فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب وهم أسعد بن زرارة وعوف ومعوذ ابنا الحارث وهما ابنا عفراء وذكوان بن عبد قيس ورافع بن مالك وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة البلوي وعباس بن عبادة بن نضلة وقطبة بن عامر وعقبة بن عامر وهم من الخزرج وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة وهما من الأوس. وقال يونس وجماعة عن ابن إسحاق حدثني يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن أبي عبد الله الصنابحي عبد الرحمن بن عسيلة حدثني عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة

(1/291)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 292
الأولى ونحن اثنا عشر رجلا فبايعناه بيعة النساء على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف وذلك قبل أن تفترض الحرب فإن وفيتم بذلك فلكم الجنة وإن غشيتم شيئا فأمركم إلى الله إن شاء غفر وإن شاء عذب. أخرجاه عن قتيبة عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب. أخبرنا الخضر بن عبد الرحمن وإسماعيل بن أبي عمرو قالا: أنا الحسن بن علي بن الحسين بن الحسن بن البن أنا جدي أبو القاسم الحسين أنا أبو القاسم علي بن محمد بن علي بن أبي العلاء سنة تسع وسبعين وأربعمائة أنا عبد الرحمن بن عثمان المعدل أنبأ علي بن يعقوب أنا أحمد بن إبراهيم القرشي أنا محمد بن عائذ أخبرني إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن نقول في الله عز وجل لا تأخذنا فيه لومة لائم وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع

(1/292)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 293
أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة. رواه زهير بن معاوية عن ابن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه أن عبادة قال نحوه. (خالفه داود بن عبد الرحمن العطار ويحيى بن سليم فرويا عن ابن خثيم هذا المتن بإسناد آخر وهو عن أبي الزبير عن جابر. وسيأتي). وقال البكائي عن ابن إسحاق: فلما انصرف القوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير العبدري يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين فنزل على أسعد بن زرارة فحدثني عاصم بن عمر أنه كان يصلي بهم وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض. قال ابن إسحاق: وكان يسمى مصعب بالمدينة المقرئ. وحدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة واستغفر له فقلت: يا أبه ما لك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة ! قال: أي بني كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم من حرة بني بياضة يقال له نقيع الخضمات قلت: وكم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا.

(1/293)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 294
وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: فلما حضر الموسم حج نفر من الأنصار منهم معاذ بن عفراء وأسعد بن زرارة ورافع بن مالك وذكوان وعبادة بن الصامت وأبو عبد الرحمن بن تغلب وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهم خبره وقرأ عليهم القرآن فأيقنوا به واطمأنوا وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب فصدقوه ثم قالوا: قد علمت الذي كان بين الأوس والخزرج من سفك الدماء ونحن حراص على ما أرشدك الله به مجتهدون لك بالنصيحة وإنا نشير عليك برأينا فامكث على اسم الله حتى نرجع إلى قومنا فنذكر لهم شأنك وندعوهم إلى الله فلعل الله يصلح ذات بينهم ويجمع لهم أمرهم فنواعدك الموسم من قابل فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى قومهم فدعوهم سرا وتلوا عليهم القرآن حتى قل دار من دور الأنصار إلا قد أسلم فيها ناس ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن عفراء ورافع بن مالك أن أبعث إلينا رجلا من قبلك يفقهنا فبعث مصعب بن عمير فنزل في بني تميم على أسعد بن زرارة يدعو الناس سرا ويفشو فيهم الإسلام ويكثر ثم أقبل مصعب وأسعد فجلسا عند بئر بني مرق وبعثا إلى رهط من الأنصار فأتوهما مستخفين فأخبر بذلك سعد بن معاذ - ويقول بعض الناس: بل أسيد بن حضير - فأتاهم في لأمته معه الرمح حتى وقف عليهم فقال لأبي أمامة أسعد: علام أتيتنا في دورنا بهذا الوحيد الغريب الطريد يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه لا أراك بعدها تسيء من جوارنا فقاموا ثم إنهم عادوا مرة أخرى لبئر بني مرق أو قريبا منها فذكروا لسعد بن معاذ الثانية فجاءهم فتواعدهم وعيدا دون وعيده الأول فقال له أسعد: يا بن خالة اسمع من قوله فإن سمعت حقا فأجب إليه

(1/294)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 295
وإن سمعت منكرا فاردده بأهدى منه فقال: ماذا يقول؟ فقرأ عليه مصعب: {حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} فقال سعد: ما أسمع منكم إلا ما أعرفه فرجع سعد وقد هداه الله ولم يظهر لهما إسلامه حتى رجع إلى قومه فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام وأظهر لهم إسلامه وقال: من شك منهم فيه فليأت بأهدى منه فوالله لقد جاء أمر لتحزن منه الرقاب فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلام سعد بن معاذ إلا من لا يذكر. ثم إن بني النجار أخرجوا مصعب بن عمير واشتدوا على أسعد فانتقل مصعب إلى سعد بن معاذ يدعو آمنا ويهدي الله به. وأسلم عمرو بن الجموح وكسرت أصنامهم وكان المسلمون أعز من بالمدينة وكان مصعب أول من جمع الجمعة بالمدينة ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. هكذا قال ابن شهاب: إن مصعبا أول من جمع بالمدينة. وقال البكائي: عن ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن المغيرة بن معيقيب وعبد الله بن أبي بكر بن حزم أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر وقالا على بئر مرق فاجتمع إليهما ناس وكان سعد وأسيد بن حضير سيدي بني عبد الأشهل فلما سمعا به قال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين

(1/295)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 296
فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا فلولا أسعد بن زرارة ابن خالتي كفيتك ذلك فأخذ أسيد حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد قال: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه قال مصعب: إن يجلس أكلمه قال: فوقف عليهما فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا واعتزلانا إن كان لكما بأنفسكما حاجة فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره قال: أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن فقالا فيما بلغنا: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله ! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي فقام فاغتسل وأسلم وركع ركعتين ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه من قومه أحد وسأرسله إليكما ثم انصرف إلى سعد بن معاذ وقومه وهم جلوس في ناديهم فلما رآه سعد مقبلا قال: أقسم بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ولى به ثم قال له: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين. فما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفرونك فقام سعد مغضبا مبادرا متخوفا فأخذ الحربة وقال: والله ما أراك أغنيت عنا شيئا ثم خرج إليهما فلما رآهما سعد مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما فوقف عليهما متشتما. ثم قال لأسعد: يا أبا أمامة والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت مني هذا أتغشانا في دارينا بما نكره ! وقد قال اسعد لمصعب: أي

(1/296)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 297
مصعب جاءك والله سيد من وراءه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان فقال: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره قال: أنصفت فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن فعرفنا في وجهه والله الإسلام قبل أن يتكلم به لإشراقه وتسهله. ثم فعل كما عمل أسيد وأسلم وأخذ حربته وأقبل عائدا إلى نادي قومه ومعه أسيد فلما رآه قومه قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم فقال: يا بني عبد الأشهل كيف تعرفون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة ورجع مصعب وأسعد إلى منزلهما ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف وتلك أوس الله وهم من الأوس بن حارثة وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت وهو صيفي وكان شاعرا لهم وقائدا يستمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام فلم يزل على ذلك حتى مضت أحد والخندق.
العقبة الثانية
قال يحيى بن سليم الطائفي وداود العطار - وهذا لفظه - ثنا ابن خثيم عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في المواسم: مجنة وعكاظ

(1/297)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 298
ومنى يقول: من يؤويني وينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة؟ فلا يجد حتى إن الرجل يرحل صاحبه من مضر أو اليمن فيأتيه قومه أو ذو رحمه يقولون: احذر فتى قريش لا يفتنك يمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله يشيرون إليه بأصابعهم حتى بعثنا الله له من يثرب فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه حتى لم يبق دار من يثرب إلا وفيها رهط يظهرون الإسلام ثم ائتمرنا واجتمعنا سبعين رجلا منا فقلنا: حتى متى نذر رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف في جبال مكة ويخاف فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم فواعدنا شعب العقبة فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين حتى توافينا عنده فقلنا يا رسول الله: علام نبايعك؟ قال: على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم فيه لومة لائم وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة فقلنا نبايعه فأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعين إلا أنا فقال: رويدا يا أهل يثرب إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف فإما أنتم قوم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم وعلى قتل خياركم وعلى مفارقة العرب كافة فخذوه وأجركم على الله وأما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله. فقلنا: أمط يدك يا أسعد فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها فقمنا إليه

(1/298)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 299
نبايعه رجلا رجلا يأخذ علينا شرطه ويعطينا على ذلك الجنة. زاد في وسطه يحيى بن سليم: فقال له عمه العباس يا بن أخي لا أدري ما هذا القوم الذين جاؤوك إني ذو معرفة بأهل يثرب قال: فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين فلما نظر العباس في وجوهنا قال: هؤلاء قوم لا أعرفهم هؤلاء أحداث فقلنا: علام نبايعك. وقال أبو نعيم: ثنا زكريا عن الشعبي قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم معه عمه العباس إلى السبعين من الأنصار عند العقبة تحت الشجرة قال: ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة فإن عليكم من المشركين عينا فقال أسعد: سل يا محمد لربك ما شئت ثم سل لنفسك ثم أخبرنا ما لنا على الله قال: أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك قال: لكم الجنة قالوا: فلك ذلك. ورواه أحمد بن حنبل عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة نا مجالد عن الشعبي عن أبي مسعود الأنصاري بنحوه قال: وكان أبو مسعود أصغرهم سنا. وقال ابن بكير عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر وعبد الله بن أبي بكر أن العباس بن عبادة بن نضلة أخا بني سالم قال: يا

(1/299)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 300
معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود فإن كنتم ترون أنها إذا أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا تركتموه وأسلمتموه فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم مستعلنون به وافون له فهو والله خير الدنيا والآخرة قال عاصم: فوالله ما قال العباس هذه المقالة إلا ليشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بها العقد. وقال ابن أبي بكر: ما قالها إلا ليؤخر بها أمر القوم تلك الليلة ليشهد أمرهم عبد الله بن أبي فيكون أقوى قالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله؟ قال: الجنة قالوا: ابسط يدك وبايعوه فقال عباس بن عبادة: إن شئت لنميلن عليهم غدا بأسيافنا فقال: لم أؤمر بذلك. وقال الزهري: ورواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة وقاله موسى بن عقبة وهذا لفظه: إن العام المقبل حج من الأنصار سبعون رجلا أربعون من ذوي أسنانهم وثلاثون من شبابهم أصغرهم أبو مسعود عقبة بن عمرو وجابر بن عبد الله فلقوه بالعقبة ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه العباس فلما أخبرهم بما خصه الله من النبوة والكرامة ودعاهم إلى الإسلام وإلى البيعة أجابوه وقالوا: اشترط علينا لربك ولنفسك ما شئت فقال: أشترط لربي أن لا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. فلما طابت بذلك أنفسهم من الشرط أخذ عليهم العباس المواثيق لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالوفاء وعظم العباس الذي بينهم وبين رسول الله وذكر أن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد بن عدي بن النجار. وذكر الحديث بطوله. قال عروة فجميع من شهد العقبة من الأنصار سبعون رجلا وامرأة.

(1/300)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 301
وقال ابن إسحاق: سبعون رجلا وامرأتان إحداهما أم عمارة وزوجها وابناهما. وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: فحدثني معبد بن كعب بن مالك بن القين عن أخيه عبيد الله عن أبيه كعب قال: خرجنا في الحجة التي بايعنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة مع مشركي قومنا ومعنا البراء بن معرور كبيرنا وسيدنا حتى إذا كنا بظاهر البيداء قال: يا هؤلاء تعلموا إني قد رأيت رأيا والله ما أدري توافقونني عليه أم لا فقلنا: وما هو يا أبا بشر؟ قال: إني قد أردت أن أصلي إلى هذه البنية ولا أجعلها مني بظهر فقلنا: لا والله لا تفعل والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام قال: فإني والله لمصل إليها فكان إذا حضرت الصلاة توجه إلى الكعبة وتوجهنا إلى الشام حتى قدمنا مكة فقال لي البراء: يا بن أخي انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسأله عما صنعت فلقد وجدت في نفسي بخلافكم إياي قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقينا رجل بالأبطح فقلنا: هل تدلنا على محمد؟ قال: وهل تعرفانه إن رأيتماه؟ قلنا: لا والله قال: فهل تعرفان العباس؟ فقلنا: نعم وقد كنا نعرفه كان يختلف إلينا بالتجارة فقال: إذا دخلتما المسجد فانظروا العباس قال: فهو الرجل الذي معه قال: فدخلنا المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس ناحية المسجد جالسين فسلمنا ثم جلسنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تعرف

(1/301)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 302
هذين يا أبا الفضل؟ قال: نعم هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشاعر)؟ قال: نعم فقال له البراء: يا رسول الله إني قد كنت رأيت في سفري هذا رأيا وقد أحببت أن أسألك عنه قال: وما ذاك؟ قال: رأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت إليها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها فرجع إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله يقولون: قد مات عليها ونحن أعلم به قد رجع إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معنا إلى الشام. ثم واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة أوسط أيام التشريق ونحن سبعون رجلا للبيعة ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر وإنه لعلى شركه فأخذناه فقلنا: يا أبا جابر والله إنا لنرغب بك أن تموت على ما أنت عليه. فتكون لهذه النار غدا حطبا وإن الله قد بعث رسولا يأمر بتوحيده وعبادته. وقد أسلم رجال من قومك وقد واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة فأسلم وطهر ثيابه وحضرها معنا فكان نقيبا فلما كانت الليلة التي وعدنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى أول الليل مع قومنا فلما استثقل الناس من النوم تسللنا من فرشنا تسلل القطا حتى اجتمعنا بالعقبة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمه العباس ليس معه غيره أحب أن يحضر أمر ابن أخيه فكان أول متكلم فقال: يا معشر الخزرج إن محمدا منا حيث قد علمتم وهو في منعة من قومه وبلاده قد منعناه ممن هو على مثل رأينا منه وقد أبى إلا الانقطاع إليكم وإلى ما دعوتموه إليه فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه فأنتم وما تحملتم وإن كنتم تخشون من أنفسكم خذلانا فاتركوه في قومه فإنه في منعة من عشيرته وقومه فقلنا: قد سمعنا ما قلت تكلم

(1/302)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 303
يا رسول الله فتكلم ودعا إلى الله وتلا القرآن ورغب في الإسلام فأجبناه بالإيمان والتصديق له وقلنا له: خذ لربك ولنفسك فقال: إني أبايعكم على أن تمنعوني مما منعتم منه أبناءكم ونساءكم فأجابه البراء بن معرور فقال: نعم والذي بعثك بالحق نمنعك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر فعرض في الحديث أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين أقوام حبالا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن الله أظهرك أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فقال: بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم فقال له البراء بن معرور: أبسط يدك يا رسول الله نبايعك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا فأخرجوهم له فكان نقيب بني النجار. أسعد بن زرارة ونقيب بني سلمة البراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حرام ونقيب بني ساعدة: سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو ونقيب بني زريق: رافع بن مالك ونقيب بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة وسعد بن الربيع ونقيب بني عوف بن الخزرج: عبادة بن الصامت - وبعضهم جعل بدل عبادة بن الصامت خارجة بن زيد - ونقيب بني عمرو بن عوف: سعد بن خيثمة ونقيب بني

(1/303)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 304
عبد الأشهل - وهم من الأوس - أسيد بن حضير وأبو الهيثم بن التيهان قال: فأخذ البراء بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب عليها وكان أول من بايع وتتابع الناس فبايعوا فصرخ الشيطان على العقبة بأنفذ صوت سمعته قط فقال: يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم والصبأة معه قد اجتمعوا على حربكم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أزب العقبة هذا ابن أزيب أما والله لأفرغن لك ارفضوا إلى رحالكم. فقال العباس بن عبادة أخو بني سالم: يا رسول الله: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن على أهل مني غدا بأسيافنا فقال: إنا لم نؤمر بذلك فرحنا إلى رحالنا فاضطجعنا فلما أصبحنا أقبلت جلة من قريش فيهم الحارث بن هشام فتى شاب وعليه نعلان له جديدتان فقالوا: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا لتستخرجوه من بين أظهرنا وإنه والله ما من العرب أحد أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم فانبعث من هناك من قومنا من المشركين يحلفون لهم بالله ما كان من هذا من شيء وما فعلنا فلما تثور القوم لينطلقوا قلت كلمة كأني أشركهم في الكلام: يا أبا جابر - يريد عبد الله ابن عمرو - أنت سيد من سادتنا وكهل من كهولنا لا تستطيع أن تتخذ مثل نعلي هذا الفتى من قريش فسمعه الحارث فرمى بهما إلي وقال: والله لتلبسنهما فقال أبو جابر: مهلا أحفظت لعمر الله الرجل - يقول: أخجلته - أردد عليه نعليه فقلت: لا والله لا أردهما فأل صالح إني لأرجو أن أسلبه.

(1/304)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 305
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر قال: ثم انصرفوا عنهم فأتوا عبد الله بن أبي يعني ابن سلول فسألوه فقال: إن هذا الأمر جسيم وما كان قومي ليتفوتوا علي بمثله فانصرفوا عنه. وقال ابن إدريس عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ابعثوا منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم فقال أسعد بن زرارة: نعم يا رسول الله قال: فأنت نقيب على قومك ثم سمى النقباء كرواية معبد بن مالك. وقال ابن وهب: حدثني مالك حدثني شيخ من الأنصار أن جبريل عليه السلام كان يشير للنبي صلى الله عليه وسلم إلى من يجعله نقيبا قال مالك: كنت أعجب كيف جاء من قبيلة رجل ومن قبيلة رجلان حتى حدثني هذا الشيخ أن جبريل كان يشير إليهم يوم البيعة قال مالك: وهم تسعة نقباء من الخزرج وثلاثة من الأوس. وقال: ابن إسحاق:
تسمية من شهد العقبة
قلت: تركت النقباء لأنهم قد تقدموا. فمن الأوس: سلمة بن سلامة بن وقش. ومن بني حارثة: ظهير بن رافع وأبو بردة بن نيار وبهير بن الهيثم.

(1/305)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 306
ومن بني عمرو بن عوف: رفاعة بن عبد المنذر - وعده ابن إسحاق نقيبا عوض أبي الهيثم بن التيهان - وعبد الله بن جبير بن النعمان أمير الرماة يوم أحد ويومئذ استشهد ومعن بن عدي قتل يوم اليمامة وعويم بن ساعدة. فجميع من شهد العقبة من الأوس أحد عشر رجلا. ومن الخزرج من بني النجار: أبو أيوب خالد بن زيد ومعاذ بن عفراء وأخوه عوف وعمارة بن حزم وقتل يوم اليمامة. ومن بني عمرو بن مبذول: سهل بن عتيك بدري. ومن بني عمرو بن النجار: وهم بنو حديلة: أوس بن ثابت وأبو طلحة زيد بن سهل. ومن بني مازن بن النجار: قيس بن أبي صعصعة وعمرو بن غزية. ومن بلحارث بن الخزرج: خارجة بن زيد استشهد يوم أحد وبشير بن سعد وعبد الله بن زيد صاحب النداء وخلاد بن سويد استشهد يوم قريظة وأبو مسعود عقبة بن عمرو. ومن بني بياضة: زياد بن لبيد وفروة بن عمرو وخالد بن قيس. ومن بني زريق: ذكوان بن عبد قيس وكان خرج إلى مكة فكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقال له: مهاجري أنصاري واستشهد يوم أحد وعباد بن قيس والحارث بن قيس.

(1/306)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 307
ومن بني سلمة: بشر بن البراء بن معرور ابن أحد النقباء وسنان بن صيفي والطفيل بن النعمان واستشهد يوم الخندق ومعقل بن المنذر ومسعود بن يزيد والضحاك بن حارثة ويزيد بن حرام وجبار بن صخر والطفيل بن مالك. ومن بني غنم بن سواد: سليم بن عمرو وقطبة بن عامر ويزيد بن عامر وأبو البسر كعب بن عمرو وصيفي بن سواد. ومن بني نابي بن عمرو: ثعلبة بن غنمة وقتل بالخندق وأخوه عمرو وعبس بن عامر وعبد الله بن أنيس وخالد بن عدي. ومن بني حرام: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام ومعاذ بن عمرو بن الجموح وثابت بن الجذع استشهد بالطائف وعمير بن الحارث وخديج بن سلامة ومعاذ بن جبل. ومن بني عوف بن الخزرج: العباس بن عبادة استشهد يوم أحد وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة البلوي حليف لهم وعمرو بن الحارث. ومن بني سالم بن غنم بن عوف: رفاعة بن عمرو وعقبة بن وهب. ومن بني ساعدة: النقيبان سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو الذي كان أميرا يوم بئر معونة فاستشهد. وأما المرأتان فأم منيع أسماء بنت عمرو بن عدي وأم عمارة نسيبة بنت كعب حضرت ومعها زوجها زيد بن عاصم بن كعب وابناها حبيب

(1/307)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 308
وعبد الله وحبيب هو الذي مثل به مسيلمة الكذاب وقطعه عضوا عضوا. قال ابن إسحاق: فلما تفرق الناس عن البيعة فتشت قريش من الغد عن الخبر والبيعة فوجدوه حقا فانطلقوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة وهرب منذر بن عمرو فشدوا يدي سعد إلى عنقه بتسعة وكان ذا شعر كثير فطفقوا يحبذونه بجمته ويصكونه ويلكزونه إلى أن جاء مطعم بن عدي والحارث بن أمية وكان سعد يجيرهما إذا قدما المدينة فأطلقاه من أيديهم وخليا سبيله. قال: وكان معاذ بن عمرو بن الجموح قد شهد العقبة وكان أبوه من سادة بني سلمة وقد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له مناف فلا أسلم فتيان بني سلمة: معاذ بن جبل وابنه معاذ بن عمرو وغيرهما كانوا يدخلون بالليل على صنمه فيأخذونه ويطرحونه في بعض الحفر وفيها عذر الناس منكسا على رأسه فإذا أصبح عمرو قال ويلكم من عدا على آلهتنا في هذه الليلة ثم يلتمسه حتى إذا وجده غسله: وطهره وطيبه ثم قال: أما والله لو أعلم من يصنع بك هذا لأخزيته. فإذا أمسى ونام فعلوا به مثل ذلك وفعل مرات وفي الآخر علق عليه سيفه ثم قال: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى فإن كان فيك خير فامتنع وهذا السيف معك فلما كان الليل أخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فعلقوه وربطوه

(1/308)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 309
به وألقوه في جب عذرة فغدا عمرو فلم يجده فخرج يتبعه حتى وجده في البئر منكسا مقرونا بالكلب فلما رآه أبصر شأنه وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلامه وقال:
تالله لو كنت إلها لم تكن..... أنت وكلب وسط بئر في قرن)
(أف لمصرعك إلها مستدن..... الآن فتشناك عن سوء الغبن)
(الحمد لله العلي ذي المنن..... الواهب الرزاق وديان الدين)
(هو الذي أنقذني من قبل أن..... أكون في ظلمة قبر مرتهن)

(1/309)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 310
فارغة.

(1/310)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 311

ذكر أول من هاجر إلى المدينة
عقيل وغيره عن الزهري عن عروة عن عائشة قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بمكة: قد أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين. وهما الحرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة عند ذلك ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين وتجهز أبو بكر مهاجرا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر: وترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين عنده ورق السمر أربعة أشهر. أخرجه البخاري. وقال البكائي عن ابن إسحاق قال: فلما أذن الله لنبيه في الحرب وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بالأنصار فخرجوا أرسالا.

(1/311)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 312
فكان أول من هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد إلى المدينة هاجر إليها قبل العقبة الكبرى بسنة وقد كان قدم من الحبشة مكة فآذته قريش وبلغه أن جماعة من الأنصار قد أسلموا فهاجر إلى المدينة. فعن أم سلمة قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج رحل لي بعيره ثم حملني وابني عليه ثم خرج بي يقودني فلما رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها هذه علام نتركك تسير بها في البلاد ! فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه وغضب عند ذلك رهط أبي سلمة فقالوا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد الأسد وحبسني بنو المغيرة عندهم فانطلق زوجي إذ فرقوا بيننا فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فلا أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبا منها. حتى مر بي رجل من بني عمي فرحمني فقال: ألا تخرجون من هذه المسكينة فرقتم بينها وبين ولدها؟ فقالوا لي: إلحقي بزوجك قالت: ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني. فارتحلت بعيري ثم وضعت سلمة في حجري وخرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي أحد من خلق الله. قلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة العبدري فقال: إلى أين يا بنة أبي أمية؟ قلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قالت: قلت: لا والله إلا الله وبني هذا قال: والله ما لك من مترك. فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي فوالله ما صحبت رجلا من العرب أرى أنه أكرم منه كان أبدا إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في

(1/312)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 313
الشجر ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله ثم استأخر عني وقال: اركبي فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ينزل بي فلم يزل يصنع ذلك حتى أقدمني المدينة فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية ثم انصرف راجعا. ثم كان أول من قدمها بعد أبي سلمة: عامر بن ربيعة حليف بني عدي ابن كعب مع امرأته ثم عبد الله بن جحش حليف بني أمية مع امرأته وأخيه أبي أحمد وكان أبو أحمد ضرير البصر وكان يمشي بمكة بغير قائد وكان شاعرا وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب فنزل هؤلاء بقباء على مبشر بن عبد المنذر. وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: فلما اشتدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمر رسول الله أصحابه بالهجرة فخرجوا رسلا رسلا فخرج منهم قبل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو سلمة وامرأته وعامر بن ربيعة وامرأته أم عبد الله بنت أبي حثمة ومصعب بن عمير وعثمان بن مظعون وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وعبد الله بن جحش وعثمان بن الشريد وعمار بن ياسر ثم خرج عمر وعياش بن أبي ربيعة وجماعة فطلب أبو جهل والحارث بن هشام عياشا وهو أخوهم لأمهم فقدموا

(1/313)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 314
المدينة فذكروا له حزن أمه وأنها حلفت لا يظلها سقف وكان بها برا فرق لها وصدقهم فلما خرجا به أوثقاه وقدما به مكة فلم يزل بها إلى قبل الفتح. قلت: وهو الذي كان يدعو له النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت: اللهم أنج سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة. الحديث. قال ابن شهاب: وخرج عبد الرحمن بن عوف فنزل على سعد بن الربيع وخرج عثمان والزبير وطلحة بن عبيد الله وطائفة ومكث ناس من الصحابة بمكة حتى قدموا المدينة بعد مقدمه منهم: سعد بن أبي وقاص على اختلاف فيه. وقال يونس عن ابن إسحاق: حدثني نافع عن ابن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال: لما اجتمعنا للهجرة اتعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل وقلنا: الميعاد بيننا التناضب من أضاة بني غفار فمن أصبح منكم لم يأتها فقد حبس فأصبحت عندها أنا وعياش وحبس هشام وفتن وقدمنا المدينة فكنا نقول: ما الله بقابل من هؤلاء توبة قوم عرفوا الله وآمنوا به وصدقوا رسوله ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم في الدنيا فأنزلت: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} فكتبتها بيدي كتابا ثم بعثت بها إلى هشام فقال هشام بن العاص: فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى أصعد فيها

(1/314)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 315
النظر وأصوبه لأفهمها فقلت: اللهم فهمنيها فعرفت إنما أنزلت فينا لما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقتل هشام بأجنادين. وقال عبد العزيز الدراوردي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: قدمنا من مكة فنزلنا العصبة عمر بن الخطاب وأبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة فكان يؤمهم سالم لأنه كان أكثرهم قرآنا. وقال إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير فقلنا له: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو مكانه وأصحابه على أثري ثم أتى بعده عمرو بن أم مكتوم الأعمى أخو بني فهر ثم عمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وبلال ثم أتانا عمر بن الخطاب في عشرين راكبا ثم أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه فلم يقدم علينا رسول الله حتى قرأت سورا من المفصل. أخرجه مسلم. وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال: ومكث رسول

(1/315)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 316
الله صلى الله عليه وسلم بعد الحج بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وإن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يأخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإما أن يقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه فأخبره الله بمكرهم في قوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} الآية فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر تحت الليل قبل الغار بثور وعمد علي فرقد على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يواري عنه العيون. وكذا قال موسى بن عقبة وزاد: فباتت قريش يختلفون ويأتمرون أيهم يجثم على صاحب الفراش فيوثقه إلى أن أصبحوا فإذا هم بعلي فسألوه عن النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرهم أنه لا علم له به فعلموا عند ذلك أنه قد خرج فارا منهم فركبوا في كل وجه يطلبونه. وكذا قال ابن إسحاق: لما أيقنت قريش أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد بويع وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من أصحابه أن يلحقوا بإخوانهم بالمدينة تآمروا فيما بينهم فقالوا: الآن فأجمعوا في أمر محمد فوالله لكأنه قد كر عليكم بالرجال فأثبتوه أو اقتلوه أو أخرجوه. فاجتمعوا له في دار الندوة ليقتلوه. فلما دخلوا الدار اعترضهم الشيطان في صورة رجل جميل في بت له فقال: أأدخل؟ قالوا: من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل نجد سمع بالذي اجتمعتم له فأراد أن يحضره معكم فعسى أن لا يعدمكم منه نصح ورأي قالوا: أجل فادخل فلما دخل قال بعضهم لبعض: قد كان من الأمر ما قد علمتم فأجمعوا رأيا

(1/316)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 317
في هذا الرجل فقال قائل: أرى أن تحبسوه فقال النجدي: ما هذا برأي والله لئن فعلتم ليخرجن رأيه وحديثه إلى من وراءه من أصحابه فأوشك أن ينتزعوه من أيديكم ثم يغلبوكم على ما في أيديكم من أمركم فقال قائل منهم: بل نخرجه فننفيه فإذا غيب عنا وجهه وحديثه ما نبالي اين وقع قال النجدي: ما هذا برأي أما رأيتم حلاوة منطقه وحسن حديثه وغلبته على من يلقاه ولئن فعلتم ذلك ليدخل على قبيلة من قبائل العرب فأصفقت معه على رأيه ثم سار بهم إليكم حتى يطأكم بهم فقال أبو جهل: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه قالوا: وما هو؟ قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة من قريش غلاما جلدا نهدا نسيبا وسيطا ثم تعطوه شفارا صارمة فيضربوه ضربة رجل واحد فإذا قتلتموه تفرق دمه في القبائل فلم تدر عبد مناف بعد ذلك ما تصنع ولم يقووا على حرب قومهم وإنما غايتهم عند ذلك أن يأخذوا العقل فتدونه لهم قال النجدي: لله در هذا الفتى هذا الرأي وإلا فلا شيء فتفرقوا على ذلك واجتمعوا له وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وأمر أن لا ينام على فراشه تلك الليلة فلم يبت موضعه بل بيت عليا في مضجعه. رواه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي عن أبيه. ثنا ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس. (ح). قال ابن إسحاق: وحدثني الكلبي عن باذام مولى أم

(1/317)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 318
هانئ عن ابن عباس فذكر معنى الحديث وزاد فيه: وأذن الله عند ذلك بالخروج وأنزل عليه بالمدينة (الأنفال) يذكر نعمته عليه وبلاءه عنده {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك} الآية.
سياق خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا
قال عقيل: قال ابن شهاب وأخبرني عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا ويأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة قال: أين تريد يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي قال: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلادك وارتحل ابن الدغنة مع أبي بكر فطاف في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق ! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وقالوا له: مر أبا بكر يعبد ربه في داره فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن أبناءنا ونساءنا

(1/318)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 319
فقال ذلك لأبي بكر فلبث يعبد ربه ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز فيصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه وكان أبو بكر لا يكاد يملك دمعه حين يقرأ فأفزع ذلك أشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وإنه جاوز ذلك وابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن الصلاة والقراءة وإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك جوارك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له قال أبو بكر: أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله. والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: قد أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين. هما الحرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة.

(1/319)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 320
وتجهز أبو بكر مهاجرا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي قال: هل ترجو بأبي أنت ذلك؟ قال: نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر. فبينا نحن جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة قيل لأبي بكر: هذا رسول الله مقبلا متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي أما والله إن جاء به في هذه الساعة إلا أمر قالت: فجاء واستأذن فأذن له فدخل فقال لأبي بكر: أخرج من عندك قال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله فقال: اخرج فقد أذن لي في الخروج قال: فخذ مني إحدى راحلتي قال: بالثمن وقالت عائشة: فجهزتهما أحث الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فأوكت به الجراب فبذلك كانت تسمى ذات النطاقين ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل يقال له (ثور) فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب لقن ثقف فيدلج من عندهما بسحر فيصبح في قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكيدون به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة ويريح

(1/320)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 321
عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل منحتهما حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الدئل هاديا خريتا قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل وهو على جاهليته فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث فارتحلا وانطلق عامر بن فهيرة والدليل الدئلي فأخذ بهما في طريق الساحل. أخرجه البخاري. عن عمر رضي الله عنه قال: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هاربا من أهل مكة ليلا فتبعه أبو بكر فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه يحرسه فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته حتى حفيت رجلاه فلما رآهما أبو بكر حمله على كاهله حتى أتى به فم الغار وكان فيه خرق فيه حيات فخشي أبو بكر أن يخرج منهن شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقمه قدمه فجعلن يضربنه ويلسعنه - الحيات والأفاعي - ودموعه تتحدر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لا تحزن إن الله معنا} وأما يومه فلما ارتدت العرب قلت: يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم فقال: جبار في الجاهلية خوار في الإسلام بم أتألفهم أبشعر مفتعل أم بقول مفترى ! وذكر الحديث. وهو منكر سكت عنه البيهقي وساقه من حديث يحيى بن أبي

(1/321)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 322
طالب أنا عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي حدثني فرات بن السائب عن ميمون عن ضبة بن محصن عن عمر. وآفته من هذا الراسبي فإنه ليس بثقة مع كونه مجهولا ذكره الخطيب في تاريخه فغمزه. وقال الأسود بن عامر: ثنا إسرائيل عن الأسود عن جندب قال: كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار فأصاب يده حجر فقال:
إن أنت إلا إصبع دميت..... وفي سبيل الله ما لقيت)
الأسود: هو ابن قيس سمع من جندب البجلي واحتجا به في الصحيحين. وقال همام: ثنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم ينظر إلى تحت قدميه لأبصرنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما. متفق عليه. وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة أنهم ركبوا في كل وجه يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم وبعثوا إلى أهل المياه يأمرونهم به ويجعلون لهم الجعل

(1/322)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 323
العظيم إلى أن قال: فأجاز بهما الدليل أسفل مكة ثم مضى بهما حتى جاء بهما الساحل أسفل من عسفان ثم سلك في أمج ثم أجاز بهما حتى عارض الطريق بعد أن أجاز قديدا ثم سلك في الخرار ثم أجاز على ثنية المرة ثم سلك مدلجة لقف ثم استبطن مدلجة مجاح ثم بطن مرجح ذي العصوين ثم أجاز القاحة ثم هبط العرج ثم أجاز في ثنية الغائر عن يمين ركوبة ثم هبط بطن ريم ثم قدم قباء من قبل العالية. وقال مسلم بن إبراهيم: ثنا عون بن عمرو القيسي: سمعت أبا مصعب المكي قال: أدركت المغيرة بن شعبة وأنس بن مالك وزيد بن أرقم فسمعتهم يتحدثون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله بشجرة فنبتت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترته وأمر الله العنكبوت فنسجت فسترته وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقعتا بفم الغار وأقبل فتيان قريش بعصيهم وسيوفهم فجاء رجل ثم رجع إلى الباقين فقال: رأيت حمامتين بفم الغار فعلمت أنه ليس فيه أحد. وقال إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: اشترى أبو بكر من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فليحمله إلى رحلي فقال له عازب لا حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما والمشركون يطلبونكما.

(1/323)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 324
قال: أدلجنا من مكة ليلا فأحيينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل نأوي إليه فإذا صخرة فانتهيت إليها فإذا بقية ظل لها فسويته ثم فرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة ثم قلت: اضطجع يا رسول الله فاضطجع ثم ذهبت أنفض ما حولي هل أرى من الطلب أحدا فإذا براعي يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أريد يعني الظل فسألته: لمن أنت؟ فقال: لرجل من قريش فسماه فعرفته فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم قلت: هل أنت حالب لي؟ قال: نعم فأمرته فاعتقل شاة من غنمه وأمرته أن ينفض ضرعها من التراب ثم أمرته أن ينفض كفيه فقال هكذا فضرب إحداهما على الأخرى فحلب لي كثبة من لبن وقد روات معي لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيته وقد استيقظ فقلت: اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت ثم قلت: قد آن الرحيل قال: فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله قال: {لا تحزن إن الله معنا} فلما أن دنا منا وكان بيننا وبينه قيد رمحين أو ثلاثة قلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله وبكيت فقال: ما يبكيك؟ قلت: أما والله

(1/324)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 325
ما على نفسي أبكي ولكني إنما أبكي عليك فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم اكفناه بما شئت فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها فوثب عنها ثم قال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بإبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لنا في إبلك وغنمك فدعا له فانطلق راجعا إلى أصحابه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة ليلا. أخرجاه من حديث زهير بن معاوية سمعت أبا إسحاق قال: سمعت البراء. وأخرج البخاري حديث إسرائيل عن عبد الله بن رجاء عنه. وقال عقيل عن الزهري: أخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما في قتله أو أسره فبينا أنا جالس في مجلس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه قال سراقة: فعرفت أنهم هم فقلت: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا ثم قلما لبثت في المجلس حتى قمت فدخلت بيتي فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي فتهبطها من وراء أكمة فتحبسها علي فأخذت رمحي وخرجت من ظهر البيت

(1/325)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 326
فخططت بزجه الأرض وخفضت عالية الرمح حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى إذا دنوت منهم عثرت بي فرسي فخررت فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي واستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أو لا أضرهم فخرج الذي أكره: لا أضرهم فركبت فرسي وعصيت الأزلام فرفعتها تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر التلفت ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يداها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره لا أضرهم فناديتهما بالأمان فوقفا لي وركبت فرسي حتى جئتهما ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهما أنه سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيكما الدية وأخبرتهما أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني شيئا ولم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا فسألته أن يكتب لي كتاب موادعة آمن به فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري. وقال موسى بن عقبة: نا ابن شهاب الزهري حدثني عبد الرحمن بن مالك بن جعشم المدلجي أن أباه أخبره أن أخاه سراقة بن جعشم أخبره

(1/326)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 327
ثم ساق الحديث وزاد فيه: وأخرجت سلاحي ثم لبست لأمتي وفيه: فكتب لي أبو بكر ثم ألقاه إلي فرجعت فسكت فلم أذكر شيئا مما كان حتى فتح الله مكة وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين خرجت لألقاه ومعي الكتاب فدخلت بين كتيبة من كتائب الأنصار فطفقوا يقرعونني بالرماح ويقولون: إليك إليك حتى دنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته أنظر إلى ساقه في غرزة كأنها جمارة فرفعت يدي بالكتاب فقلت: يا رسول الله هذا كتابك فقال: يوم وفاء وبر إذن قال: فأسلمت ثم ذكرت شيئا أسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن شهاب: سأله عن الضالة وشيء آخر قال: فانصرفت وسقت إلى رسول الله صدقتي. وقال البكائي عن ابن إسحاق: حدثت عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتى نفر من قريش فيهم أبو جهل فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك؟ قلت: لا أدري والله أين أبي فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشا خبيثا - فلطمني على خدي لطمة طرح منها قرطي. وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم فانطلق به معه فدخل علينا جدي أبو قحافة - وقد ذهب بصره - فقال: والله إني لأراه فجمعكم بماله مع نفسه قالت: كلا يا أبت قد ترك لنا خيرا كثيرا قالت: فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة من البيت كان أبي يضع فيها ماله ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقالت: ضع يدك على هذا المال

(1/327)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 328
فوضع يده عليه فقال: لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن في هذا بلاغ لكم قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكني أردت أن أسكن الشيخ. وحدثني الزهري أن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم حدثه عن أبيه عن عمه سراقة بن مالك بن جعشم قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده قال: فبينا أنا جالس أقبل رجل منا فقال: والله لقد رأيت ركبا ثلاثة مروا علي آنفا إني لأراهم محمدا وأصحابه فأومأت إليه يعني أن اسكت ثم قلت: إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم قال: لعله قال: فمكثت قليلا ثم قمت فدخلت بيتي فذكر نحو ما تقدم. قال: وحدثت عن أسماء بنت أبي بكر قالت: فمكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب وإن الناس ليتبعونه ويسمعون صوته حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه..... رفيقين حلا خيمتي أم معبد)
(هما نزلا بالبر ثم تروحا..... فأفلح من أمسى رفيق محمد)
(ليهن بني كعب مكان فتاتهم..... ومقعدها للمؤمنين بمرصد)

(1/328)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 329
قالت: فعرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن وجهه إلى المدينة. قلت: قد سقت خبر أم معبد بطوله في صفته صلى الله عليه وسلم كما يأتي إن شاء الله تعالى. وقال يحيى بن زكريا بن أبي زائدة: ثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بكر الصديق قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فانتهينا إلى حي من أحياء العرب فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت منتحيا فقصد إليه فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة فقالت: يا عبدي الله إنما أنا امرأة وليس معي أحد فعليكما بعظيم الحي إن أردتم القرى قال: فلم يجبها وذلك عند المساء فجاء ابن لها بأعنز له يسوقها فقالت له: يا بني انطلق بهذه العنز والسفرة إليهما فقل: اذبحا هذه وكلا وأطعمانا فلما جاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلق بالشفرة وجئني بالقدح قال: إنها قد عزبت وليس لها لبن قال: انطلق فانطلق فجاء بقدح فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها ثم حلب حتى ملأ القدح ثم قال: انطلق به إلى أمك فشربت حتى رويت ثم جاء به فقال: انطلق بهذه وجئني بأخرى ففعل بها كذلك ثم سقى أبا بكر ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك ثم شرب صلى الله عليه وسلم قال فبتنا ليلتنا ثم انطلقنا فكانت تسمية المبارك وكثر غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة فمر أبو بكر فرآه ابنها فعرفه فقال: يا أمه إن هذا الرجل الذي كان مع المبارك فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك؟ قال: وما تدرن من هو ! قالت: لا. قال: هو النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فأدخلني عليه فأدخلها عليه فأطعمها وأعطاها.

(1/329)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 330
رواه محمد بن عمران بن أبي ليلى وأسد بن موسى عن يحيى وإسناده نظيف لكن منقطع بين أبي بكر وعبد الرحمن بن أبي ليلى. أوس بن عبد الله بن بريدة: نا الحسين بن واقد عن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل وكانت قريش قد جعلت مائة من الإبل لمن يرده عليهم فركب بريدة في سبعين من بني سهم فلقي نبي الله ليلا فقال له: من أنت؟ قال: بريدة فالتفت إلى أبي بكر فقال: برد أمرنا وصلح ثم قال: وممن؟ قال: من أسلم قال لأبي بكر: سلمنا ثم قال: ممن؟ قال: من بني سهم قال: خرج سهمك. فأسلم بريدة والذين معه جميعا فلما أصبحوا قال بريدة للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء فحل عمامته ثم شدها في رمح ثم مشى بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا نبي الله تنزل علي قال: إن ناقتي مأمورة. فسار حتى وقفت على باب أبي أيوب فبركت. قلت: أوس متروك. وقال الحافظ أبو الوليد الطيالسي: ثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط ثنا أبي عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفيين مرا بعبد يرعى غنما فاستسقياه اللبن فقال: ما عندي شاة تحلب غير أن ها هنا عناقا حملت أول الشاء وقد أخدجت وما بقي لها لبن فقال: ادع بها فدعا بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها ودعا حتى أنزلت وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر ثم حلب فسقى الراعي ثم حلب

(1/330)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 331
فشرب فقال الراعي: بالله من أنت فوالله ما رأيت مثلك قط؟ قال: أتكتم علي حتى أخبرك؟ قال: نعم قال: فإني محمد رسول الله فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ قال: إنهم ليقولون ذلك قال: فأشهد أنك نبي وأشهد أن ما جئت به حق وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي وأنا متبعك قال: إنك لن تستطيع ذلك يومك فإذا بلغك أني قد ظهرت فائتنا. وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة عن رجال من قومه قالوا: لما بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة كنا نخرج كل غداة فنجلس له بظاهر الحرة نلجأ إلى ظل الجدر حتى تغلبنا عليه الشمس ثم نرجع إلى رحالنا حتى إذا كان اليوم الذي جاء فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسنا كما كنا نجلس حتى إذا رجعنا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه رجل من يهود فنادى: يا بني قيلة هذا جدكم قد جاء فخرجنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أناخ إلى ظل هو وأبو بكر والله ما ندري أيهما أسن هما في سن واحدة حتى رأينا أبا بكر ينحاز له عن الظل فعرفنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقد قال قائل منهم: إن أبا بكر قام فأظل النبي صلى الله عليه وسلم بردائه فعرفناه. وقال محمد بن حمير عن إبراهيم بن أبي عبلة: حدثني عقبة بن وساج عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم يعني المدينة وليس في أصحابه أشمط غير أبي بكر فغلفها بالحناء والكتم. أخرجه

(1/331)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 332
البخاري من حديث محمد بن حمير. وقال شعبة أنبأنا أبو إسحاق سمعت البراء يقول: أول من قدم علينا من الصحابة مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان القرآن ثم جاء عمار وبلال وسعد ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين راكبا ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء قط فرحهم به حتى رأيت الولائد والصبيان يسعون في الطرق يقولون: (جاء رسول الله) فما قدم المدينة حتى تعلمت {سبح اسم ربك الأعلى} في مثلها من المفصل. خ. وقال إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء في حديث الرحل قال أبو بكر: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة ليلا فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أنزل الليلة على بني النجار أخوال بني عبد المطلب أكرمهم بذلك وقدم الناس حين قدمنا المدينة في الطريق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون: جاء رسول الله جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر جاء محمد الله أكبر جاء محمد فلما أصبح انطلق فنزل حيث أمر. متفق عليه. وقال هاشم بن القاسم: ثنا سليمان - هو ابن المغيرة - عن ثابت عن أنس قال: إني لأسعى في الغلمان يقولون: (جاء محمد) وأسعى ولا

(1/332)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 333
أرى شيئا ثم يقولون: (جاء محمد) فأسعى حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر فكمنا في بعض جدر المدينة ثم بعثا رجلا من أهل البادية ليؤذن بهما الأنصار قال: فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما فقالوا: انطلقا آمنين مطاعين فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم فخرج أهل المدينة حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو؟ قال: فما رأينا منظرا شبيها به يومئذ. صحيح. وقال الوليد بن محمد الموقري وغيره عن الزهري قال: فأخبرني عروة أن الزبير كان في ركب تجار بالشام فقفلوا إلى مكة فعارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بثياب بياض وسمع المسلمون بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم نحر الظهيرة فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظاره فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود أطما من آطامهم لشأنه فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون فثار المسلمون إلى السلام فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة فعدل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف من الأنصار وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول فقام أبو بكر يذكر الناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبه أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه

(1/333)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 334
فعرفوا رسول الله عند ذلك فلبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة. وأسس المسجد الذي أسس على التقوى فصلى فيه ثم ركب راحلته فسار فمشى معه الناس حتى بركت بالمدينة عند مسجده صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مربدا للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمين أخوين في حجر أسعد بن زرارة من بني النجار فقال حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزل. ثم دعا الغلامين فساومهما المربد ليتخذه مسجدا فقالا: بل نهبه لك فأبى حتى ابتاعه وبناه. وقال عبد الوارث بن سعيد وغيره: ثنا أبو التياح عن أنس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل في علو المدينة في بني عمرو بن عوف فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى ملأ بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب. متفق عليه. وقال عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مر على عبد الله بن أبي وهو جالس

(1/334)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 335
على ظهر الطريق فوقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يدعوه إلى المنزل وهو يومئذ سيد (أهل المدينة) في أنفسهم فقال عبد الله: أنظر الذين دعوك فأتهم فعمد إلى سعد بن خيثمة فنزل عليه في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال واتخذ مكانه مسجدا فكان يصلي فيه ثم بناه بنو عمرو بن عوف فهو الذي أسس على التقوى والرضوان. ثم إنه ركب يوم الجمعة فمر على بني سالم فجمع فيهم وكانت أول جمعة صلاها حين قدم المدينة واستقبل بيت المقدس فلما أبصرته اليهود صلى إلى قبلتهم طمعوا فيه للذي يجدونه مكتوبا عندهم ثم ارتحل فاجتمعت له الأنصار يعظمون دين الله بذلك يمشون حول ناقة النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة فقال: خلوا سبيل الناقة فإنما أنزل حيث أنزلني الله حتى انتهى إلى دار أبي أيوب في بني غنم فبركت على الباب فنزل ثم دخل دار أبي أيوب فنزل عليه حتى ابتنى مسجده ومسكنه في بني غنم وكان المسجد موضعا للتمر لابني أخي أسعد بن زرارة فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى ابني أخيه مكانه نخلا له في بني بياضة فقالوا: نعطيه النبي صلى الله عليه وسلم لا نأخذ له ثمنا وبنى النبي صلى الله عليه وسلم لحمزة ولعلي ولجعفر وهم بأرض الحبشة وجعل مسكنهم في مسكنه وجعل أبوابهم في المسجد مع بابه ثم إنه بدا له فصرف باب حمزة وجعفر. كذا قال: وهم بأرض الحبشة وإنما كان علي بمكة. رواه ابن عائذ عن محمد بن شعيب عنه. وقال موسى بن عقبة: لما دنا النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من المدينة وقدم

(1/335)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 336
طلحة بن عبيد الله من الشام خرج طلحة عامدا إلى مكة لما ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خرج إما متلقيا لهما وإما عامدا عمده بمكة ومعه ثياب أهداها لأبي بكر من ثياب الشام فلما لقيه أعطاه الثياب فلبس النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر منها. وقال الوليد بن مسلم عن عبد الله بن يزيد عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول فأقام بالمدينة عشر سنين. وقال ابن إسحاق: المعروف أنه قدم المدينة يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول قال: ومنهم من يقول لليلتين مضتا منه. رواه يونس وغيره عن ابن إسحاق. وقال عبد الله بن إدريس: ثنا ابن إسحاق عن محمد بن جعفر عن عروة عن عبد الرحمن بن عويم أخبرني بعض قومي قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول فأقام بقباء بقية يومه وثلاثة أيام وخرج يوم الجمعة على ناقته القصواء. وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه لبث فيهم ثماني عشرة ليلة. وقال زكريا بن إسحاق: ثنا عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة وتوفي وهو ابن ثلاث وستين. متفق عليه.

(1/336)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 337
وقال سفيان بن عيينة: ثنا يحيى بن سعيد الأنصاري عن عجوز لهم قالت: رأيت ابن عباس يختلف إلى صرمة أبي قيس الأنصاري وكان يروي هذه الأبيات:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة..... يذكر لو ألفى صديقا مواتيا)
(ويعرض في أهل المواسم نفسه..... فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا)
(فلما أتانا واطمأنت به النوى..... وأصبح مسرورا بطيبة راضيا)
(وأصبح ما يخشى ظلامة ظالم..... بعيد ولا يخشى من الناس باغيا بذلنا الأموال من جل مالنا وأنفسنا عند الوغى والتآسيا)
(نعادي الذي عادى من الناس كلهم..... جميعا وإن كان الحبيب المواسيا)
(ونعلم أن الله لا شيء غيره..... وأن كتاب الله أصبح هاديا)
وقال عبد الوارث: ثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر وأبو بكر شيخ يعرف ونبي الله شاب لا يعرف - يريد دخول الشيب في لحيته دونه لا في السن - قال أنس: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟

(1/337)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 338
فيقول: هذا رجل يهديني السبيل فيحسب الحاسب أنه يعني الطريق وإنما يعني طريق الخير. فإذا هو بفارس قد لحقهم فقال: يا نبي الله هذا فارس قد لحق بنا فقال: اللهم اصرعه فصرعه فرسه ثم قامت تحمحم. فقال: يا نبي الله مرني بما شئت قال: تقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا قال: فكان أول النهار جاهدا على النبي وآخر النهار مسلحة له فنزل النبي صلى الله عليه وسلم جانب الحرة وأرسل إلى الأنصار فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فسلموا عليهما فقالوا: إركبا آمنين مطاعين فركبا وحفوا حولهما بالسلاح فقيل في المدينة (جاء رسول الله جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأقبل حتى نزل إلى جانب بيت أبي أيوب قال: فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم منه فعجل أن يضع التي يخترف فيها فجاءه وهي معه فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله هذه داري قال: أذهب فهيئ لنا مقيلا فذهب فهيأ لهما مقيلا ثم جاء فقال: يا نبي الله قد هيأت لكما مقيلا قال: قوما على بركة الله فقيلا. فلما جاء نبي الله جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله حقا وأنك جئت بحق ولقد علمت يهود أني سيدهم وأعلمهم. وذكر الحديث. أخرجه البخاري.

(1/338)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 339
وقد تقدم من سيرته صلى الله عليه وسلم ومغازيه في العشر السنين التي لبث فيها بالمدينة ما فيه مغنى إن شاء الله تعالى.

(1/339)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 340
فارغة.

(1/340)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 341

فصل في معجزاته صلى الله عليه وسلم سوى ما مضى في غضون المغازي
قال حاتم بن إسماعيل عن يعقوب بن مجاهد أبي حزرة عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا فكان أول من لقينا أبو اليسر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غلام له. فذكر الحديث ثم قال: حتى أتينا جابر بن عبد الله في مسجده فقال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح فذهب النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته واتبعته بإداوة من ماء فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فلم ير شيئا يستتر به وإذا شجرتان بشاطئ الوادي فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي علي بإذن الله فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي علي بإذن الله فانقادت معه كذلك حتى إذا كان يالمنصف فيما بينهما لأم بينهما فقال:

(1/341)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 342
التئما علي بإذن الله فالتأمتا قال جابر فخرجت أحضر مخافة أن يحس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقربي - يعني فيبتعد - فجلست أحدث نفسي فحانت مني لفتة فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل وإذا الشجرتان قد افترقتا فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف وقفة فقال برأسه هكذا يمينا وشمالا ثم أقبل فلما انتهى إلي قال: يا جابر هل رأيت مقامي؟ قلت: نعم يا رسول الله قال: فانطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة غصنا فأقبل بهما حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يسارك قال: فقمت فأخذت حجرا فكسرته وجشرته فانذلق لي فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصنا ثم أقبلت أجرهما حتى إذا قمت مقام النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت غصنا عن يميني وغصنا عن يساري ثم لحقت فقلت: قد فعلت يا رسول الله فعم ذاك؟ قال: إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما ما دام الغصنان رطبين. ثم ذكر حديثا طويلا وفيه إعواز الناس الماء وأنه أتاه بيسير ماء فوضع يده فيه في قصعة قال: فرأيت الماء يتفور من بين أصابعه فاستقى منه الناس حتى رووا. أخرجه مسلم. وقال الأعمش وغيره عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ حضرت الصلاة وليس معنا ماء إلا

(1/342)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 343
يسير فدعا بماء فصبه في صحفة ووضع كفه فيه فجعل الماء يتفجر من بين أصابعه فأقبل الناس فتوضئوا وشربوا قال الأعمش: فحدثت به سالم بن أبي الجعد فقال: حدثنيه جابر فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال خمس عشرة مائة. أخرجه (خ). وقال عمرو بن مرة وحصين بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجعد عن جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصابنا عطش فجهشنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده في تور من ماء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه كأنه العيون فقال: خذوا باسم الله فشربنا فوسعنا وكفانا ولو كنا مائة ألف لكفانا قلت: كم كنتم؟ قال: ألفا وخمسمائة. صحيح. وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على الحجون لما آذاه المشركون فقال: اللهم أرني اليوم آية لا أبالي من كذبني بعدها قال: فأمر فنادى شجرة فأقبلت تخد الأرض حتى انتهت إليه ثم أمرها فرجعت. وروى الأعمش نحوه عن أبي سفيان عن أنس وروى المبارك بن

(1/343)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 344
فضالة نحوا منه عن الحسن مرسلا. وقال عبد الله بن عمر بن أبان: ثنا محمد بن فضيل عن أبي حيان عن عطاء عن ابن عمر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأقبل أعرابي فلما دنا منه قال: أين تريد؟ قال الأعرابي: إلى أهلي قال: هل لك إلى خير؟ قال: ما هو؟ قال تسلم قال: هل من شاهد؟ قال: هذه الشجرة فدعاها فأقبلت تخد الأرض خدا فقامت بين يديه فاستشهدها ثلاثا فشهدت له كما قال ثم رجعت إلى منبتها ورجع الأعرابي إلى قومه فقال: إن يتبعوني آتك بهم وإلا رجعت إليك فكنت معك. غريب جدا وإسناده جيد. أخرجه الدارمي في مسنده عن محمد بن طريف عن ابن فضيل. وقال شريك عن سماك عن أبي ظبيان عن ابن عباس: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بم أعرف أنك رسول الله؟ قال: أرأيت لو دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم فدعاه فجعل ينزل من النخلة حتى سقط في الأرض فجعل ينقز حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال له: ارجع فرجع حتى عاد إلى مكانه فقال: أشهد أنك رسول الله وآمن. رواه البخاري في تاريخه عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني عنه.

(1/344)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 345
وقال يونس بن بكير عن إسماعيل بن عبد الملك عن أبي الزبير عن جابر قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته وتبعته بالإداوة فإذا شجرتان بينهما أذرع فقال: انطلق فقل لهذه الشجرة الحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفهما ففعلت فرجعت حتى لحقت بصاحبتها فجلس خلفهما حتى قضى حاجته ثم رجعتا. وقال أبو معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من بني عامر فقال: إني أطب الناس فإن كان بك جنون داويتك فقال: أتحب أن أريك آية؟ قال: نعم قال: فادع ذاك العذق فدعاه فجاءه ينقز على ذنبه حتى قام بين يديه ثم قال: ارجع فرجع فقال: يا لعامر ما رأيت رجلا أسحر من هذا. أخبرنا عمر بن محمد وغيره قالوا: أنا عبد الله بن عمر أنا عبد الأول بن عيسى أنا عبد الرحمن بن محمد الداودي أنا عبد الله بن حمويه أنا عيسى بن عمر ثنا عبد الله بن عبد الرحمن بسمرقند أنا عبيد الله بن موسى عن إسماعيل بن عبد الملك عن أبي الزبير عن جابر قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وكان لا يأتي البراز حتى يتغيب فلا يرى فنزلنا بفلاة من الأرض ليس فيها شجر ولا علم فقال: يا جابر اجعل في إداوتك ماء ثم انطلق بنا قال: فانطلقنا حتى لا نرى فإذا هو بشجرتين بينهما أربعة أذرع فقال: انطلق إلى هذه الشجرة فقل: يقول لك: الحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما فرجعت إليها فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفهما ثم رجعتا إلى مكانهما.

(1/345)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 346
فركبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بيننا كأنما علينا الطير تظلنا فعرضت له امرأة معها صبي فقالت: يا رسول الله إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرات. فتناوله فجعله بينه وبين مقدم الرحل ثم قال: اخس عدو الله أنا رسول الله اخس عدو الله أنا رسول الله ثلاثا ثم دفعه إليها فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان فعرضت لنا المرأة معها صبيها ومعها كبشان تسوقهما فقالت: يا رسول الله اقبل مني هديتي فوالذي بعثك بالحق ما عاد إليه بعد فقال: خذوا منها واحدا وردوا عليها الآخر. قال: ثم سرنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا كأنما علينا الطير تظلنا فإذا جمل ناد حتى إذا كان بين السماطين خر ساجدا فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال على الناس: من صاحب الجمل؟ فإذا فتية من الأنصار قالوا: هو لنا يا رسول الله قال: فما شأنه قالوا: استنينا عليه منذ عشرين سنة وكانت له شحيمة فأردنا أن ننحره فتقسمه بين غلماننا فانفلت منا قال: بيعونيه قالوا: هو لك يا رسول الله. قال: أما لي فأحسنوا إليه حتى يأتيه أجله فقال المسلمون عند ذلك: يا رسول الله نحن أحق بالسجود لك من البهائم قال: لا ينبغي لشيء أن يسجد لشيء ولو كان ذلك كان النساء لأزواجهن. رواه يونس بن بكير عن إسماعيل وعنده: لا ينبغي لبشر أن يسجد لبشر وهو أصح.

(1/346)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 347
وقد رواه بمعناه يونس بن بكير ووكيع عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن يعلى بن مرة عن أبيه قال: سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت منه أشياء: نزلنا منزلا فقال: انطلق إلى هاتين الأشاءتين فقل: إن رسول الله يقول لكما أن تجتمعا. وذكر الحديث. مرة: هو ابن أبي مرة. وقد رواه وكيع مرة فقال فيه: عن يعلى بن مرة قال: رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم عجبا. الحديث. قال البخاري: إنما هو عن يعلى نفسه. قلت: ورواه البيهقي من وجهين من حديث عطاء بن السائب عن عبد الله بن حفص ومن حديث عمر بن عبد الله بن يعلى عن أبيه كلاهما عن يعلى نفسه. وقال مهدي بن ميمون: أنبأ محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي عن عبد الله بن جعفر قال: أردفني

(1/347)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 348
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه فأسر إلي حديثا لا أحدث به أحدا وكان أحب ما استتر به لحاجته هدف أو حائش نخل فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن إليه وذرفت عيناه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفريه فسكن فقال: من رب هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي فقال: ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه. أخرج مسلم منه إلى قوله حائش نخل وباقيه على شرط مسلم. وقال إسماعيل بن جعفر: ثنا عمرو بن أبي عمرو عن رجل من بني سلمة - ثقة - عن جابر بن عبد الله أن ناضحا لبعض بني سلمة اغتلم فصال عليهم وامتنع حتى عطشت نخله فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى ذلك إليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم انطلق وذهب النبي صلى الله عليه وسلم معه فلما بلغ باب النخل قال: يا رسول الله لا تدخل قال: ادخلوا لا بأس عليكم فلما رآه الجمل أقبل يمشي واضعا رأسه حتى قام بين يديه فسجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائتوا جملكم فاخطموه وارتحلوه ففعلوا وقالوا: سجد لك يا رسول الله حين رآك قال: لا تقولوا ذلك لي لا تقولوا ما لم أبلغ فلعمري ما سجد لي ولكن سخره الله لي. وقال عفان: نا حماد بن سلمة: سمعت شيخا من قيس يحدث عن

(1/348)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 349
أبيه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم وعندنا بكرة صعبة لا نقدر عليها فدنا منها النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ضرعها فحفل فاحتلب وشرب. وفي الباب حديث عبد الله بن أبي أوفى تفرد به فائد أبو الورقاء وهو ضعيف. وحديث لجابر آخر تفرد به الأجلح عن الذيال بن حرملة عنه. أخرجه الدارمي وغيره. وقال يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد عن عائشة قالت: كان لأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحش فإذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعب وذهب وجاء. فإذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ربض فلم يترمرم ما دام رسول الله في البيت. صحيح. وقال أبو داود الطيالسي: ثنا المسعودي عن الحسن بن سعد عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فدخل رجل غيضة فأخرج بيضة حمرة فجاءت الحمرة ترفرف على رأس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: أيكم فجع هذه فقال رجل: أنا أخذت بيضتها. فقال: رده رده رحمة لها.

(1/349)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 350
عبد الرحمن لم يسمع من أبيه. وقال أحمد بن حازم بن أبي غرزة الغفاري: ثنا علي بن قادم أنا أبو العلاء خالد بن طهمان عن عطية عن أبي سعيد قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بظبية مربوطة إلى خباء فقالت: يا رسول الله حلني حتى أذهب فأرضع خشفي ثم أرجع فتربطني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيد قوم وربيطة قوم قال: فأخذ عليها فحلفت له فحلها فما مكثت إلا قليلا حتى جاءت وقد نفضت ما في ضرعها فربطها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استوهبها منهم فوهبوها له فحلها ثم قال: لو تعلم البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا أبدا. علي وأبو العلاء صدوقان وعطية فيه ضعف. وقد روى نحوه عن زيد بن أرقم. وقال القاسم بن الفضل الحداني عن أبي نضرة عن أبي سعيد

(1/350)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 351
الخدري قال: بينما راع يرعى بالحرة إذ عرض ذئب لشاة فحال الراعي بين الذئب وبين الشاة فأقعى الذئب على ذنبه ثم قال للراعي: ألا تتقي الله تحول بيني وبين رزق ساقه الله إلي فقال الراعي: العجب من ذئب مقع على ذنبه يتكلم بكلام الإنس ! فقال الذئب: ألا أحدثك بأعجب مني: رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبق فساق الراعي شاة حتى أتى المدينة فزواها زاوية ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بحديث الذئب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فقال للراعي: قم فأخبرهم قال: فأخبر الناس بما قال الذئب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الراعي ألا إنه من أشراط الساعة كلام السباع للإنس والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس ويكلم الرجل شراك نعله وعذبة سوطه ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده. أخرجه الترمذي وقال: صحيح غريب. وقال عبد الحميد بن بهرام ومعقل بن عبيد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخدري نحوه وهو حديث حسن صحيح الإسناد. وقال سفيان بن حمزة: ثنا عبد الله بن عامر الأسلمي عن ربيعة بن أوس عن أنس بن عمرو عن أهبان بن أوس أنه كان في غنم له فكلمه الذئب فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم. قال البخاري: ليس إسناده بالقوي.

(1/351)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 352
وقال يوسف بن عدي: ثنا جعفر بن جسر أخبرني أبي ثنا عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب قال: قال ابن عمر: كان راع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غنم له إذ جاء الذئب فأخذ شاة ووثب الراعي حتى انتزعها من فيه فقال له الذئب: أما تتقي الله أن تمنعني طعمة أطعمنيها الله تنزعها مني ! وذكر الحديث. وقال منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. (خ).
فصل في تسبيح الحصى في يده صلى الله عليه وسلم
وقال قريش بن أنس: ثنا صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن رجل قال: سمعت أبا ذر يقول: لا أذكر عثمان إلا بخير بعد شيء رأيته: كنت رجلا أتتبع خلوات النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته وحده فجلست فجاء أبو بكر فسلم وجلس ثم جاء عمر ثم عثمان وبين يدي النبي صلى الله عليه وسلم سبع حصيات فأخذهن فوضعهن في كفه فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل ثم وضعهن فخرسن. ثم أخذهن فوضعهن في يد أبي بكر

(1/352)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 353
فسبحن ثم وضعهن فخرسن ثم وضعهن في يد عمر فسبحن ثم وضعهن في يد عثمان فسبحن ثم وضعهن فخرسن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه خلافة النبوة. صالح لم يكن حافظا والمحفوظ رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: ذكر الوليد بن سويد أن رجلا من بني سليم كبير السن كان ممن أدرك أبا ذر بالربذة ذكر له فذكر هذا الحديث عن أبي ذر. ويروى مثله عن جبير بن نفير وعن عاصم بن حميد عن أبي ذر. وجاء مثله عن أنس من وجهين منكرين. وقال عبد الواحد بن أيمن: حدثني أبي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1/353)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 354
كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو إلى نخلة فقيل له: ألا نجعل لك منبرا؟ قال: إن شئتم فجعلوا له منبرا فلما كان يوم الجمعة ذهب إلى المنبر فصاحت النخلة صياح الصبي فنزل فضمها إليه كانت تئن أنين الصبي الذي يسكن قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها. (خ). ورواه جماعة عن جابر. وقال أبو حفص بن العلاء المازني - واسمه عمر - عن نافع عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع فلما وضع له المنبر حن إليه حتى أتاه فمسحه فسكن. أخرجه البخاري عن ابن مثنى عن يحيى بن كثير عنه وهو من غرائب الصحيح. وقال عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع ويخطب إليه فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فلما جاوز النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الجذع خار حتى تصدع وانشق فنزل النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع صوت الجذع فمسحه بيده ثم رجع إلى المنبر فلما هدم المسجد أخذ ذلك الجذع أبي فكان عنده في بيته حتى بلي وأكلته الأرضة وعاد رفاتا. روي من وجهين عن ابن عقيل. مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل ترون قبلتي ها هنا فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا

(1/354)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 355
سجودكم إني لأراكم وراء ظهري متفق عليه. قال الشافعي: هذه كرامة من الله أبانه بها من خلقه. وقال المختار بن فلفل عن أنس نحوه وفيه: فإني أراكم من أمامي ومن خلفي وايم الذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا قالوا يا رسول الله: وما رأيت؟ قال: رأيت الجنة والنار. أخرجه مسلم. وقال بشر بن بكر: ثنا الأوزاعي عن ابن شهاب أخبرني القاسم بن محمد عن عائشة قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مستترة بقرام فيه صورة فهتكه ثم قال: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله. قال الأوزاعي: قالت عائشة: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرنس فيه تمثال عقاب فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عليه فأذهبه الله. وهذه الزيادة منقطعة. وقال عاصم عن زر عن عبد الله قال: كنت غلاما يافعا في غنم لعقبة بن أبي معيط أرعاها فأتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر فقال: يا غلام هل عندك لبن؟ قلت: نعم ولكن مؤتمن قال: فائتني بشاة لم ينز

(1/355)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 356
عليها الفحل فأتيته بعناق جذعة فاعتقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا ومسح ضرعها حتى أنزلت فاحتلب في صحفة وسقى أبا بكر وشرب بعده ثم قال للضرع اقلص فقلص فعاد كما كان ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: علمني من هذا القول فمسح رأسي وقال: إنك غلام معلم فأخذت عنه سبعين سورة ما نازعنيها بشر. إسناده حسن قوي. مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس قال: أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم فأخرجت أقراصا من شعير ثم أخذت خمارا لها فلفته فيه ودسته تحت ثوبي وأرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته جالسا في المسجد ومع الناس فقمت عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلك أبو طلحة؟ قلت: نعم فقال لمن معه قوموا قال: فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته فقال: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم فقالت: الله ورسوله أعلم قال: فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل معه حتى دخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلمي ما عندك يا أم سليم فأتت بذلك الخبز فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت وعصرت عليه أم سليم عكة لها فأدمته ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول: ثم قال: ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال: ائذن

(1/356)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 357
لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا فأكل القوم وشبعوا وهم سبعون أو ثمانون رجلا. متفق عليه. وقد مر مثل هذا في غزوة الخندق من حديث جابر. وقال سليمان التيمي عن أبي العلاء عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بقصعة فيها طعام فتعاقبوها إلى الظهر منذ غدوة يقوم قوم ويقعد آخرون فقال رجل لسمرة: هل كانت تمد؟ قال: فمن أيش تعجب؟ ما كانت تمد إلا من ها هنا وأشار إلى السماء وأشار يزيد بن هارون إلى السماء. هذا حديث صحيح. وقال زيد بن الحباب عن الحسين بن واقد: حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه أن سلمان أتى النبي صلى الله عليه وسلم بهدية فقال: لمن أنت؟ قال لقوم قال: فاطلب إليهم أن يكاتبوك قال: فكاتبوني على كذا وكذا نخلة أغرسها لهم ويقوم عليها سلمان حتى تطعم قال فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فغرس النخل كله إلا نخلة واحدة غرسها عمر فأطعم نخلة من سنته إلا تلك النخلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من غرسها؟ قالوا: عمر فغرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فحملت من عامها. رواته ثقات.

(1/357)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 358
أخبرنا ابن أبي عمر وابن أبي الخير كتابة عن محمد بن أحمد وجماعة أن فاطمة بنت عبد الله أخبرتهم أنا ابن ريدة أنا الطبراني ثنا الوليد بن حماد الرملي ثنا عبد الله بن الفضل حدثني أبي عن أبيه عاصم بن عمر عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان قال: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوس فدفعها إلي يوم أحد فرميت بها بين يديه حتى اندقت عن سيتها ولم أزل عن مقامي نصب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقى السهام بوجهي كلما مال سهم منها إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ميلت رأسي لأقي وجهه فكان آخر سهم ندرت منه حدقتي على خدي وافترق الجمع فأخذت حدقتي بكفي فسعيت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآها في كفي دمعت عيناه فقال: اللهم إن قتادة فدى وجه نبيك بوجهه فاجعلها أحسن عينيه وأحدهما نظرا فكانت أحد عينيه نظرا. حديث غريب وروي من وجه آخر ذكرناه. وقال حماد بن زيد: ثنا المهاجر مولى آل أبي بكرة عن أبي العالية عن أبي هريرة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرات فقلت: ادع لي فيهن بالبركة قال: فقبضهن ثم دعا فيهن بالبركة ثم قال: خذهن

(1/358)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 359
فاجعلهن في مزود فإذا أردت أن تأخذ منهن فأدخل يدك فخذ ولا تنثرهن نثرا قال: فحملت من ذلك التمر كذا وكذا وسقا في سبيل الله وكنا نأكل ونطعم وكان المزود معلقا بحقوي لا يفارق حقوي فلما قتل عثمان انقطع. أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب. وروي في جزء الحفار من حديث أبي هريرة وفيه: فأخذت منه خمسين وسقا في سبيل الله وكان معلقا خلف رحلي فوقع في زمان عثمان فذهب. وله طريق أخرى غريبة. وقال معقل بن عبيد الله عن أبي الزبير عن جابر أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه فأطعمه شطر وسق شعير فما زال الرجل يأكل منه وامرأته ومن ضيفاه حتى كاله فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم. وكانت أم مالك تهدي للنبي صلى الله عليه وسلم في عكة لها سمنا فيأتيها بنوها فيسالون الأدم وليس عندهم شيء. فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتجد فيه سمنا فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرته فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعصرتيها؟ قالت: نعم قال: لو تركتيها ما زال قائما. أخرجه مسلم. وقال طلحة بن مصرف عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير. فنفدت أزواد القوم حتى هم أحدهم بنحر بعض

(1/359)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 360
حمائلهم فقال عمر: يا رسول الله لو جمعت ما بقي من الأزواد فدعوت الله عليها ففعل فجاء ذو البر ببره وذو التمر بتمره فدعا حتى إنهم ملأوا أزوادهم فقال عند ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة. أخرجه مسلم. وروى نحوه وأطول منه المطلب بن عبد الله بن حنطب عن عبد الرحمن بن أبي عمرو الأنصاري عن أبيه وزاد: فما بقي في الجيش وعاء إلا ملؤوه وبقي مثله فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله لا يلقى الله عبد مؤمن بها إلا حجب عن النار. رواه الأوزاعي عنه. وقال سلم بن زرير: سمعت أبا رجاء العطاردي يقول: ثنا عمران بن حصين أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير فأدلجوا ليلتهم حتى إذا كان في وجه الصبح عرسوا فغلبتهم أعينهم حتى ارتفعت الشمس فكان أول من استيقظ أبو بكر فاستيقظ عمر بعده فقعد أبو بكر عند رأسه صلى الله عليه وسلم فجعل يكبر ويرفع صوته حتى يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فلما استيقظ والشمس قد

(1/360)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 361
بزغت قال: ارتحلوا فسار بنا حتى ابيضت الشمس فنزل فصلى بنا واعتزل رجل فلم يصل فلما انصرف قال: يا فلان ما منعك أن تصلي معنا؟ قال: أصابتني جنابة فأمره أن يتيمم بالصعيد ثم صلى وجعلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركوب بين يديه أطلب الماء وكنا قد عطشنا عطشا شديدا فبينا نحن نسير إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين قلنا لها: أين الماء؟ قالت: أيهات فقلنا: كم بين أهلك وبين الماء؟ قالت: يوم وليلة فقلنا: انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وما رسول الله؟ فلم نملكها من أمرها شيئا حتى استقبلنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته أنها مؤتمة فأمر بمزادتيها فمج في العزلاوين العلياوين فشربنا عطاشا أربعين رجلا حتى روينا وملأنا كل قربة معنا وكل إداوة وغسلنا صاحبنا وهي تكاد تضرج من الماء ثم قال لنا: هاتوا ما عندكم فجمعنا لها من الكسر والتمر حتى صر لها صرة فقال: اذهبي فأطعمي عيالك واعلمي أنا لم نرزأ من مائك شيئا فلما أتت أهلها قالت: لقد أتيت أسحر الناس أو هو نبي كما زعموا فهدى الله ذلك الصرم بتلك المرأة فأسلمت وأسلموا. اتفقا عليه.

(1/361)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 362
وقال حماد بن سلمة وغيره عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: إن لا تدركوا الماء تعطشوا فانطلق سرعان الناس تريد الماء ولزمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة فمالت به راحلته فنعس قال: فمال فدعمته فادعم ومال فدعمته فادعم ثم مال حتى كاد أن ينقلب فدعمته فانتبه فقال: من الرجل؟ قلت: أبو قتادة فقال: حفظك الله بما حفظت به رسول الله ثم قال: لو عرسنا فمال إلى شجرة فنزل فقال: أنظر هل ترى أحدا؟ فقلت: هذا راكب هذان راكبان حتى بلغ سبعة فقال: احفظوا علينا صلاتنا قال: فنمنا فما أيقظنا إلا حر الشمس فانتبهنا فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار وسرنا هنية ثم نزلنا فقال: أمعكم ماء؟ قلت: نعم ميضأة فيها شيء من ماء قال: فاتني بها فتوضئوا وبقي في الميضأة جرعة فقال: ازدهر بها يا أبا قتادة فإنه سيكون لها شأن ثم أذن بلال فصلى الركعتين قبل الفجر ثم صلى الفجر ثم ركب وركبنا فقال بعض لبعض: فرطنا في صلاتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقولون؟ إن كان أمر دنياكم فشأنكم وإن كان أمر دينكم فإلي قلنا: فرطنا في صلاتنا قال: لا تفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة فإذا كان ذلك فصلوها من الغد لوقتها. ثم قال: ظنوا بالقوم فقلنا: إنك قلت بالأمس: إن لا تدركوا الماء غدا تعطشوا فأتى الناس الماء فقال: أصبح الناس وقد فقدوا نبيهم فقال بعض القوم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء وفي القوم أبا بكر وعمر قالا: أيها الناس إن رسول الله لم يكن ليسبقكم إلى الماء ويحلفكم وإن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا قالها ثلاثا فلما اشتدت الظهيرة رفع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله هلكنا عطشا انقطعت الأعناق قال: لا هلك عليكم ثم قال: يا أبا

(1/362)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 363
قتادة ائتني بالميضأة فأتيته بها فقال: حل لي غمري - يعني قدحه - فحللته فجعل يصب فيه ويسقي الناس فقال: أحسنوا الملء فكلكم سيصدر عن ري فشرب القوم حتى لم يبق غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم فصب لي فقال: اشرب قلت: اشرب أنت يا رسول الله قال: إن ساقي القوم آخرهم شربا فشربت ثم شرب بعدي ؛ وبقي من الميضأة نحو مما كان فيها وهم يومئذ ثلاثمائة. قال عبد الله: فسمعني عمران بن حصين وأنا أحدث هذا الحديث في المسجد فقال: من الرجل؟ فقلت: أنا عبد الله بن رباح الأنصاري فقال: القوم أعلم بحديثهم أنظر كيف تحدث فإني أحد السبعة تلك الليلة فلما فرغت قال: ما كنت أحسب أن أحدا يحفظ هذا الحديث غيري ورواه بكر بن عبد الله المزني أيضا عن عبد الله بن رباح. رواه مسلم. وقال الأوزاعي: حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة حدثني أنس قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة يخطب الناس فأتاه أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة فوالذي نفسي بيده ما وضعهما حتى ثارت سحابة أمثال الجبال ثم لم ينزل عن المنبر حتى رأيت المطر يتحادر عن لحيته فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد حتى الجمعة الأخرى فقام ذلك

(1/363)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 364
الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء وجاع العيال فادع الله لنا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا فما يشير بيديه إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت حتى صارت المدينة مثل الجوبة وسال الوادي وادي قباء شهرا ولم يجيء أحد من ناحية من النواحي إلا حدث بالجود. اتفقا عليه. ورواه ثابت وعبد العزيز بن صهيب وغيرهما عن أنس. وقال عثمان بن عمر وروح بن عبادة: ثنا شعبة عن أبي جعفر الخطمي سمع عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضريرا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني قال: فإن شئت أخرت ذلك فهو خير لك وإن شئت دعوت الله قال: فادعه قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضيها لي اللهم فشفعه في وشفعني في نفسي. ففعل الرجل فبرأ. قال البيهقي: وكذلك رواه حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي.

(1/364)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 365
وقال أحمد بن شبيب بن سعيد الحبطي: حدثني أبي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المديني الخطمي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال: ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي لي عن بصري اللهم شفعه في وشفعني في نفسي قال عثمان: فوالله ما تفرقنا ولا طال الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضرر قط. رواه يعقوب الفسوي وغيره عن أحمد بن شبيب. وقال عبد الرزاق: أنبأ معمر عن قتادة قال: حلب يهودي للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم جمله قال فاسود شعره حتى صار أشد سوادا من كذا وكذا. ويروى نحوه عن ثمامة عن أنس وفيه: فاسودت لحيته بعد ما كانت بيضاء. وقال سعيد بن أبي مريم: أنا محمد بن جعفر بن أبي كثير أخبرني سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عاصم بن عمر بن قتادة عن جده قتادة بن النعمان قال: كانت ليلة شديدة الظلمة والمطر فقلت: لو أني اغتنمت العتمة مع النبي صلى الله عليه وسلم ففعلت فلما انصرف أبصرني ومعه عرجون يمشي عليه فقال: يا قتادة تخرج هذه الساعة؟ قلت: اغتنمت شهود

(1/365)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 366
الصلاة معك فأعطاني العرجون فقال: إن الشيطان قد خلفك في أهلك فاذهب بهذا العرجون فاستعن به حتى تأتي بيتك فتجده في زاوية البيت فاضربه بالعرجون فخرجت من المسجد فأضاء العرجون مثل الشمعة نورا فاستضأت به فأتيت أهلي فوجدتهم رقودا فنظرت في الزاوية فإذا فيها قنفذ فلم أزل أضربه به حتى خرج. عاصم عن جده ليس بمتصل لكنه قد روي من وجهين آخرين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وحديث أبي سعيد حديث قوي. وقال حرمي بن عمارة: ثنا عزرة بن ثابت عن علباء بن أحمر حدثني أبو زيد الأنصاري قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أدن مني. قال: فمسح بيده على رأسي ولحيتي ثم قال: اللهم جمله وأدم جماله فقال: فبلغ بضعا ومائة سنة وما في لحيته بياض إلا نبذ يسير ولقد كان منبسط الوجه لم ينقبض وجهه حتى مات. قال البيهقي: هذا إسناد صحيح موصول وأبو زيد هو عمرو بن أخطب. وقال علي بن الحسن بن شقيق: ثنا الحسين بن واقد ثنا أبو نهيك

(1/366)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 367
الأزدي عن عمرو بن أخطب - وهو أبو زيد - قال: استسقى النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بإناء فيه ماء وفيه شعرة فرفعتها ثم ناولته فقال: اللهم جمله قال: فرأيته ابن ثلاث وتسعين سنة وما في رأسه ولحيته طاقة بيضاء. وقال معتمر بن سليمان: نا أبي عن أبي العلاء قال: كنت عند قتادة بن ملحان في مرضه فمر رجل في مؤخر الدار قال: فرأيته في وجهه قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح وجهه قال: وكنت قلما رأيته إلا رأيته كأن على وجهه الدهان. رواه عارم ويحيى بن معين عن معتمر. وقال عكرمة بن عمار: ثنا إياس بن سلمة بن الأكوع حدثني أبي أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: كل بيمينك قال: لا أستطيع قال: لا استطعت ما منعه إلا الكبر قال: فما رفعها إلى فيه بعد. أخرجه مسلم. وقال حميد: عن أنس قال: جاء عبد الله بن سلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة والولد ينزع إلى أبيه وينزع إلى أمه. قال: أخبرني بهن جبريل آنفا - قال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة - أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه إلى أبيه وإذا سبق ماء المرأة نزعه إلى أمه.

(1/367)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 368
فأسلم ابن سلام. وذكر الحديث. أخرجه البخاري. وقال يونس بن بكير عن أبي معشر المدني عن المقبري مرسلا فذكر نحوا منه وفيه: فأما الشبه فأي النطفتين سبقت إلى الرحم فالولد به أشبه. وقال معاوية بن سلام عن زيد بن سلام عن أبي سلام: أخبرني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان حدثه قال: كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر فقال: السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال: لم تدفعني؟ قلت: ألا تقول: يا رسول الله ! قال: إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اسمي الذي سماني به أهلي (محمد) فقال اليهودي: أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ قال: في الظلمة دون الجسر قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين؟ قال: مما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد نون قال: فما غذاؤهم على أثره؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي

(1/368)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 369
كان يأكل من أطرافها قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلا قال: صدقت قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان قال: ينفعك إن حدثتك؟. قال: أسمع بأذني قال: سل قال: جئت أسألك عن الولد قال: ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله؟ وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله فقال اليهودي: صدقت وإنك لنبي ثم انصرف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سألني هذا الذي سألني عنه وما أعلم شيئا منه حتى أتاني الله به. رواه مسلم. وقال عبد الحميد بن بهرام عن شهر حدثني ابن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود يوما النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمها إلا نبي قال: سلوا عما شئتم ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه إن أنا حدثتكم بشيء تعرفونه أتبايعني على الإسلام؟ قالوا: لك ذلك قال: فسلوني عما شئتم قالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنها: أخبرنا عن الطعام الذي حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة وأخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون الذكر منه حتى يكون ذكرا وكيف تكون الأنثى منه حتى تكون أنثى ومن وليك من الملائكة قال: فعليكم عهد الله لئن أنا حدثتكم لتبايعني فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق قال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا طال سقمه منه فنذر الله لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه: ألبان الإبل وأحب

(1/369)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 370
الطعام إليه لحمانها؟ قالوا: اللهم نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أشهد عليهم قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة أصفر رقيق فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله فإن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كانت أنثى بإذن الله؟ قالوا: اللهم نعم قال: اللهم اشهد قال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم قال: اللهم اشهد عليهم. قالوا: أنت الآن حدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك قال: وليي جبريل ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه قالوا: فعندها نفارقك لو كان وليك غيره من الملائكة لبايعناك وصدقناك قال: ولم؟ قالوا: إنه عدونا من الملائكة. فأنزل الله عز وجل: {من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك} الآية. ونزلت {فباءو بغضب على غضب}. وقال يزيد بن هارون: أنبأ شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان بن عسال قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي فنسأله فقال الآخر: لا تقل نبي فإنه إن سمعك تقول نبي كانت له أربعة أعين فانطلقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قوله تسع آيات بينات قال: لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تفروا من الزحف ولا تقذفوا محصنة - شك شعبة - وعليكم

(1/370)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 371
خاصة معشر اليهود أن لا تعدوا في السبت. فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي قال: فما يمنعكما أن تسلما؟ قالا: إن داود سأل ربه أن لا يزال في ذريته نبي ونحن نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود. وقال عفان: نا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه قال: إن الله ابتعث نبيه لإدخال رجال الجنة فدخل النبي صلى الله عليه وسلم كنيسة فإذا هو بيهود وإذا يهودي يقرأ التوراة فلما أتى على صفته أمسك وفي ناحيتها رجل مريض فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لكم أمسكتم؟ فقال المريض: إنهم أتوا على صفة نبي فأمسكوا ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة وقال: ارفع يدك فقرأ حتى أتى على صفته فقال: هذه صفتك وصفة أمتك أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ثم مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو أخاكم. وقال يزيد بن هارون: ثنا حماد بن سلمة عن الزبير أبي عبد السلام عن أيوب بن عبد الله بن مكرز عن وابصة - هو الأسدي - قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه فجعلت أتخطى الناس فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: دعوني أدنو منه فإنه من أحب الناس إلي أن أدنو منه. فقال: أدن يا وابصة فدنوت حتى مست ركبتي ركبته فقال: يا وابصة أخبرك

(1/371)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 372
بما جئت تسألني عنه؟ فقلت: أخبرني يا رسول الله قال: جئت تسأل عن البر والإثم؟ قلت: نعم قال: فجمع أصابعه فجعل ينكت بها في صدري ويقول: يا وابصة استفت قلبك استفت نفسك البر: ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك. وقال ابن وهب: حدثني معاوية عن أبي عبد الله محمد الأسدي سمع وابصة الأسدي قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله عن البر والإثم فقال من قبل أن أسأله: جئت تسألني عن البر والإثم؟ قلت: إي والذي بعثك بالحق إنه للذي جئت أسألك عنه فقال: البر ما انشرح له صدرك والإثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك عنه الناس. وقال محمد بن إسحاق وروح بن القاسم عن إسماعيل بن أمية عن بجير بن أبي بجير سمع عبد الله بن عمرو أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجنا إلى الطائف فمررنا بقبر فقال: هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف وكان من قوم ثمود فلما أهلك الله قومه منعه مكانه من الحرم فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه. قال: فابتدرناه فاستخرجنا الغصن.

(1/372)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 373

باب من أخباره صلى الله عليه وسلم بالكوائن بعده فوقعت كما أخبر
شعبة عن عدي بن ثابت عن عبد الله بن زيد عن حذيفة قال: لقد حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يكون حتى تقوم الساعة غير أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة منها. رواه مسلم. وقال الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك فيه شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره علمه من علمه وجهله من جهله - وفي لفظ: حفظه من حفظه - وإنه ليكون منه الشيء فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه. رواه الشيخان بمعناه. وقال عزرة بن ثابت: ثنا علباء بن أحمر ثنا أبو زيد قال: صلى بنا

(1/373)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 374
رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى أظنه قال: حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد فخطبنا حتى غربت الشمس قال: فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأحفظنا أعلمنا. رواه مسلم. وقال إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن خباب قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة فقلنا: ألا تدعو الله لنا ألا تستنصر الله لنا؟ فجلس محمارا وجهه ثم قال: والله إن من كان قبلكم ليؤخذ الرجل فتحفر له الحفرة فيوضع المنشار على رأسه فيشق باثنتين ما يصرفه عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب منكم من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله عز وجل أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون. متفق عليه. وقال الثوري عن ابن المنكدر عن جابر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من أنماط قلت: يا رسول الله وأنى يكون لي أنماط؟ قال: أما إنها ستكون قال: فأنا أقول اليوم لامرأتي: نحي عني أنماطك فتقول: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها ستكون لكم أنماط بعدي

(1/374)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 375
فأتركها. متفق عليه. وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن سفيان بن أبي زهير النميري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ثم تفتح الشام فيأتي قوم فيبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ثم تفتح العراق فيأتي قوم فيبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. أخرجاه. وقال الوليد بن مسلم عن عبد الله بن العلاء بن زبر ثنا بسر بن عبيد الله أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول: سمعت عوف بن مالك الأشجعي يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم فقال لي: يا عوف اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي ثم فتح بيت المقدس ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم ثم استفاضة المال فيكم حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون

(1/375)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 376
فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفا. أخرجه البخاري. وقال ابن وهب: أخبرني حرملة بن عمران عن عبد الرحمن بن شماسة سمع أبا ذر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما. رواه مسلم. وقال الليث وغيره عن ابن شهاب عن ابن لكعب بن مالك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما. مرسل مليح الإسناد. وقد رواه موسى بن أعين عن إسحاق بن راشد عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه متصلا. قال ابن عيينة: من الناس من يقول: هاجر أم إسماعيل كانت قبطية ومن الناس من يقول: مارية أم إبراهيم قبطية. وقال معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يهلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده وقيصر ليهلكن ثم لا يكون

(1/376)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 377
قيصر بعده ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله. متفق عليه. أما كسرى وقيصر الموجودان عند مقالته صلى الله عليه وسلم فإنهما هلكا ولم يكن بعد كسرى كسرى آخر وأنفق كنوزهما في سبيل الله بأمر عمر رضي الله عنه وبقي للقياصرة ملك بالروم وقسطنطينية لقول النبي صلى الله عليه وسلم ثبت ملكه حين أكرم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يقضي الله تعالى فتح القسطنطينية ولم يبق للأكاسرة ملك لقوله صلى الله عليه وسلم مزق الله ملكه حين مزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم. وروى حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن أن عمر أتي بفروة كسرى فوضعت بين يديه وفي القوم سراقة بن مالك بن جعشم قال فألقى إليه سواري كسرى بن هرمز فجعلهما في يديه فبلغا منكبيه فلما رآهما عمر في يدي سراقة قال: الحمد لله سوارا كسرى في يد سراقة أعرابي من بني مدلج. وقال ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن عدي بن حاتم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: مثلت لي الحيرة كأنياب الكلاب وإنكم

(1/377)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 378
ستفتحونها فقام رجل فقال: يا رسول الله هب لي ابنة بقيلة قال: هي لك فأعطوه إياها فجاء أبوها فقال: أتبيعها؟ قال: نعم قال: بكم؟ أحكم ما شئت قال: ألف درهم قال: قد أخذتها قالوا له: لو قلت ثلاثين ألفا لأخذها قال: وهل عدد أكثر من ألف. وقال سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد ومكحول عن أبي إدريس الخولاني عن عبد الله بن حوالة الأزدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم ستجندون أجنادا جندا بالشام وجندا بالعراق وجندا باليمن فقلت: يا رسول الله خر لي قال: عليك بالشام فمن أبى فليلحق بيمينه وليسق من غدره فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله قال أبو إدريس: من تكفل الله به فلا ضيعة عليه. صحيح. وقال معمر: عن همام عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزا وكرمان - قوما من الأعاجم - حمر الوجوه فطس الأنوف صغار الأعين كأن وجوههم المجان المطرقة قال: لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر. (خ).

(1/378)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 379
وقال هشيم عن سيار أبي الحكم عن جبر بن عبيدة عن أبي هريرة قال: وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الهند فإن أدركتها أنفق فيها مالي ونفسي فإن استشهدت كنت من أفضل الشهداء وإن رجعت فأنا أبو هريرة المحرر. غريب. وقال حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت ذات ليلة كأنا في دار عقبة بن رافع وأتينا برطب من رطب ابن طاب فأولت الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة في الآخر وأن ديننا قد طاب. رواه مسلم. وقال شعبة عن فرات القزاز سمع أبا حازم يقول: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلف نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم. اتفقا عليه.

(1/379)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 380
وقال جرير بن حازم عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة وكائنا خلافة ورحمة وكائنا ملكا عضوضا وكائنا عتوا وجبرية وفسادا في الأمة يستحلون الفروج والخمور والحرير وينصرون على ذلك ويرزقون أبدا حتى يلقوا الله. وقال عبد الوارث وغيره عن سعيد بن جمهان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتى الله الملك من يشاء. قال لي سفينة: أمسك أبو بكر سنتين وعمر عشرا وعثمان اثنتي عشرة وعلي ستا. قلت لسفينة: إن هؤلاء يزعمون أن عليا لم يكن خليفة قال: كذبت أستاه بني الزرقاء يعني بني مروان. كذا قال في علي ستا وإنما كانت خلافة علي خمس سنين إلا شهرين وإنما تكمل الثلاثون سنة بعشرة أشهر زائدة عما ذكر لأبي بكر وعمر. أخرجه أبو داود. وقال صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بدئ فيه فقلت: وارأساه فقال: وددت أن ذلك كان وأنا حي فهيأتك ودفنتك فقلت غيري: كأني بك في ذلك اليوم عروسا ببعض نسائك فقال: بل أنا وارأساه ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا فإني أخاف أن يقول قائل ويتمنى متمن: أني ولا ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر. رواه مسلم وعنده: فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنى ولا.

(1/380)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 381
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فضربه النبي صلى الله عليه وسلم برجله وقال: أثبت عليك نبي وصديق وشهيدان. أخرجه البخاري. وقال أبو حازم عن سهل بن سعد نحوه لكنه قال حراء بدل أحد وإسناده صحيح. وقال سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1/381)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 382
كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد. أخرجه مسلم. أبو بكر صديق والباقون قد استشهدوا. وقال إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب أخبرني إسماعيل بن محمد بن ثابت الأنصاري عن أبيه أن ثابت بن قيس قال: يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت قال: ولم؟ قال: نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل وأجدني أحب الحمد ونهانا عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال ونهانا أن نرفع أصواتنا وأنا جهير الصوت فقال: يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟ قال: بلى يا رسول الله قال: فعاش حميدا وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب. مرسل وثبت أنه قتل يوم اليمامة.

(1/382)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 383
وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن التحريش. رواه مسلم. وقال الشعبي عن مسروق عن عائشة حدثتني فاطمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلي أنك أول أهل بيتي لحوقا بي ونعم السلف أنا لك. متفق عليه. وقال سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كان في الأمم محدثون فإن يكن في هذه الأمة فهو

(1/383)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 384
عمر بن الخطاب. رواه مسلم. وقال شعبة عن قيس عن طارق بن شهاب قال: كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسان ملك. ومن وجوه عن علي: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر. وقال يحيى بن أيوب المصري عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر أن عمر بعث جيشا وأمر عليهم رجلا يدعى سارية فبينما عمر يخطب فجعل يصيح (يا سارية الجبل) فقدم رسول من ذلك الجيش فقال: يا أمير المؤمنين لقينا عدونا فهزمونا فإذا صائح يصيح (يا سارية الجبل) فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزمهم الله فقلنا لعمر: كنت تصيح بذلك. وقال ابن عجلان: وحدثنا إياس بن معاوية بذلك. وقال الجريري عن أبي نضرة عن أسير بن جابر فذكر حديث أويس القرني بطوله وفيه: فوفد أهل الكوفة إلى عمر وفيهم رجل يدعى

(1/384)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 385
أويسا فقال عمر: أما ها هنا من القرنيين أحد؟ قال: فدعي ذلك الرجل فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن رجلا من أهل اليمن يقدم عليكم ولا يدع بها إلا أما له قد كان به بياض فدعا الله أن يذهبه عنه فأذهبه عنه إلا مثل موضع الدرهم يقال له أويس فمن لقيه منكم فليأمره فليستغفر لكم. أخرجه مسلم مختصرا عن رجاله عن الجريري وأخرجه أيضا مختصرا من وجه آخر. وقال حماد بن سلمة عن الجريري عن أبي نضرة عن أسير قال: لما أقبل أهل اليمن جعل عمر يستقرئ الرفاق فيقول: هل فيكم أحد من قرن؟ حتى أتى على قرن قال: فوقع زمام عمر أو زمام أويس فتناوله عمر فعرفه بالنعت فقال عمر: ما اسمك؟ قال: أويس قال: هل كانت لك والدة؟ قال: نعم قال: هل كان بك من البياض شيء؟ قال: نعم دعوت الله فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي فقال له عمر: استغفر لي قال: أنت أحق أن تستغفر لي أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن خير التابعين رجل يقال له أويس القرني وله والدة وكان به بياض. الحديث.

(1/385)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 386
وقال هشام الدستوائي عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أسير بن جابر قال: كان عمر إذا أتت عليه أمداد اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم قال من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم قال: كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم قال: ألك والدة؟ قال: نعم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل فاستغفر لي فاستغفر له ثم قال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة قال: ألا أكتب لك إلى عاملها فيستوصوا بك خيرا؟ فقال: لأن أكون في غبراء الناس أحب إلي فلما كان في العام المقبل حج رجل من أشرافهم فسأله عمر عن أويس كيف تركته؟ قال: رث البيت قليل المتاع قال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس مع أمداد اليمن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل فلما قدم الرجل أتى أويسا فقال: استغفر لي قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح فاستغفر لي وقال لقيت عمر بن الخطاب؟ قال: نعم قال: فاستغفر له قال ففطن له الناس فانطلق على وجهه. قال أسير بن جابر: فكسوته بردا فكان إذا رآه إنسان قال: من أين لأويس هذا. رواه مسلم بطوله.

(1/386)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 387
وقال شريك عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لما كان يوم صفين نادى مناد من أصحاب معاوية أصحاب علي: أفيكم أويس القرني؟ قالوا: نعم فضرب دابته حتى دخل معهم ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خير التابعين أويس القرني. وقال الأعمش عن شقيق عن حذيفة قال: كنا جلوسا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قلت: أنا قال: هات إنك لجريء فقلت: ذكر فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال: ليس هذا أعني إنما أعني التي تموج موج البحر قلت: يا أمير المؤمنين ليس ينالك من تلك شيء إن بينك وبينها بابا مغلقا قال: أرأيت الباب يفتح أو يكسر؟ قال: لا بل يكسر قال إذا لا يغلق أبدا قلت: أجل فقلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم كما يعلم أن غدا دونه الليلة وذلك أني حدثته حديثا ليس بالأغاليظ فسأله مسروق: من الباب؟ قال: عمر. أخرجاه. وقال شريك بن أبي نمر عن ابن المسيب عن أبي موسى الأشعري

(1/387)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 388
في حديث القف: فجاء عثمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى - أو بلاء - يصيبه. متفق عليه. وقال القطان عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن أبي سهلة مولى عثمان عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ادعي لي - أو ليت عندي - رجلا من أصحابي قالت: قلت: أبو بكر؟ قال: لا قلت: عمر؟ قال: لا قلت: ابن عمك علي؟ قال: لا قلت: فعثمان؟

(1/388)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 389
قال: نعم قالت: فجاء عثمان فقال: قومي قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلى عثمان ولون عثمان يتغير فلما كان يوم الدار قلنا: ألا تقاتل؟ قال: لا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي أمرا فأنا صابر نفسي عليه. وقال إسرائيل وغيره عن منصور عن ربعي عن البراء بن ناجية الكاهلي - فيه جهالة - عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تدور رحى الإسلام عند رأس خمس أو ست وثلاثين سنة فإن يهلكوا فسبيل من هلك وإلا تروخي عنهم سبعين سنة فقال عمر: يا رسول الله أمن هذا أو من مستقبله؟ قال: من مستقبله. وقال إسماعيل بن أبي خالد عن قيس قال: لما بلغت عائشة بعض ديار بني عامر نبحت عليها كلاب الحوءب فقالت: أي ماء هذا؟ قالو: الحوءب قالت: ما أظنني إلا راجعة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوءب. فقال الزبير: تقدمي لعل الله أن يصلح بك بين الناس. وقال أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة

(1/389)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 390
عظيمة دعواهما واحدة. رواه البخاري. وأخرجا من حديث همام عن أبي هريرة نحوه. وقال صفوان بن عمرو: كان أهل الشام ستين ألفا فقتل منهم عشرون ألفا وكان أهل العراق مائة ألف وعشرين ألفا فقتل منهم أربعون ألفا وذلك يوم صفين. وقال شعبة: حدثنا أبو مسلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال:

(1/390)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 391
حدثني من هو خير مني - يعني أبا قتادة - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار تقتلك الفئة الباغية. وقال الحسن عن أمه عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. رواهما مسلم. وقال عبد الرزاق: أنبأ ابن عيينة أخبرني عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: أما علمت أنا كنا نقرأ: جاهدوا في الله حق جهاده في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله ! قال: فقال عبد الرحمن: ومتى ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء. رواه الرمادي عنه. وقال أبو نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلها أولى الطائفتين بالحق. رواه مسلم. وقال سعيد بن مسروق عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد أن عليا رضي الله عنه بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني هو باليمن - بذهب في تربتها فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة: بين عيينه بن بدر الفزاري وعلقمة بن علاثة الكلابي والأقرع بن حابس الحنظلي وزيد الخيل

(1/391)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 392
الطائي فغضبت قريش والأنصار وقالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أعطيهم أتألفهم فقام رجل غائر العينين محلوق الرأس مشرف الوجنتين ناتئ الجبين فقال: اتق الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن يطع الله إن عصيته أيأمنني أهل السماء ولا تأمنوني؟ فاستأذنه رجل في قتله فأبى ثم قال: يخرج من ضئضيء هذا قوم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان والله لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد. رواه مسلم وللبخاري بمعناه. الأوزاعي عن الزهري: حدثني أبو سلمة والضحاك يعني المشرفي عن أبي سعيد قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ذات يوم قسما فقال ذو الخويصرة من بني تميم: يا رسول الله اعدل. فقال: ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل. فقام عمر فقال: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه قال: لا إن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم

(1/392)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 393
وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء آيتهم رجل أدعج إحدى يديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر. قال أبو سعيد: أشهد لسمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أني كنت مع علي رضي الله عنه حين قتلهم فالتمس في القتلى وأتي به على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري. وقال أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال: ذكر علي رضي الله عنه أهل النهروان فقال: فيهم رجل مودن اليد أو مثدون اليد أو مخدج اليد لولا أن تبطروا لنبأتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان

(1/393)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 394
محمد صلى الله عليه وسلم قلت: أنت سمعت هذا؟ قال: أي ورب الكعبة. رواه مسلم. وقال حماد بن زيد عن جميل بن مرة عن أبي الوضي السحيمي قال: كنا مع علي بالنهروان فقال لنا: التمسوا المخدج فالتمسوه فلم يجدوه فأتوه فقال: ارجعوا فالتمسوا المخدج فوالله ما كذبت ولا كذبت حتى قال ذلك مرارا فرجعوا فقالوا: قد وجدناه تحت القتلى في الطين فكأني أنظر إليه حبشيا له ثدي كثدي المرأة عليه شعيرات كالشعيرات التي على ذنب اليربوع فسر بذلك علي. رواه أبو داود الطيالسي في مسنده. وقال شريك عن عثمان بن المغيرة عن زيد بن وهب قال: جاء رأس الخوارج إلى علي فقال له: اتق الله فإنك ميت فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ولكني مقتول من ضربة على هذه تخضب هذه - وأشار بيده إلى لحيته - عهد معهود وقضاء مقضي وقد خاب من افترى. وقال أبو النضر: ثنا محمد بن راشد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن فضالة بن أبي فضالة الأنصاري - وكان أبوه بدريا - قال: خرجت مع أبي عائدا لعلي من مرض أصابه ثقل منه فقال له أبي: ما يقيمك

(1/394)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 395
بمنزلك هذا لو أصابك أجلك لم يلك إلا أعراب جهينة ! تحمل إلى المدينة فإن أصابك أجلك وليك أصحابك وصلوا عليك فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي أني لا أموت حتى أؤمر ثم تخضب هذه من دم هذه - يعني لحيته من دم هامته - فقتل وقتل أبو فضالة مع علي يوم صفين. وقال الحسن عن أبي بكرة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقول: إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين. أخرجه البخاري دون (عظيمتين). وقال ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عمير بن الأسود حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت وهو بساحل حمص وهو في بناء له ومعه امرأته أم حرام قال: فحدثتنا أم حرام أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا. قالت أم حرام: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم قالت: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم قالت أم حرام: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا. أخرجه البخاري. فيه إخباره عليه السلام أن

(1/395)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 396
أمته يغزون البحر ويغزون مدينة قيصر. وقال شعبة عن سماك عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بين يدي الساعة ثلاثين كذابا دجالا كلهم يزعم أنه نبي. رواه مسلم واتفقا عليه من حديث أبي هريرة.

(1/396)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 397
وقال الأسود بن شيبان عن أبي نوفل بن أبي عقرب عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت للحجاج: أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا فأما الكذاب فقد رأيناه وأما المبير فلا إخالك إلا إياه. أخرجه مسلم تعني بالكذاب المختار بن أبي عبيد. وقال الوليد بن مسلم عن مروان بن سالم الجزري ثنا الأحوص بن الحكيم عن خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون في أمتي رجل يقال له وهب يهب الله له الحكمة ورجل يقال له غيلان هو أضر على أمتي من إبليس. مروان ضعيف.

(1/397)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 398
وقال ابن جريج: أنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر يقول: تسألون عن الساعة وإنما علمها عند الله فأقسم بالله ما على ظهر الأرض من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة. رواه مسلم. وقال شعيب عن الزهري عن سالم بن عبد الله وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة أن ابن عمر قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ليلة في آخر حياته فلما سلم قام فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد متفق عليه. فقال الجريري: كنت أطوف مع أبي الطفيل فقال: لم يبق أحد ممن لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري قلت: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان أبيض مليحا مقصدا. أخرجه مسلم. وأصح الأقوال أن أبا الطفيل توفي سنة عشر ومائة.

(1/398)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 399
وقال إبراهيم بن محمد بن زياد الألهاني عن أبيه عن عبد الله بن بسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يعيش هذا الغلام قرنا قال: فعاش مائة سنة. وقال بشر بن بكر والوليد بن مسلم: نا الأوزاعي حدثني الزهري حدثني سعيد بن المسيب قال: ولد لأخي أم سلمة غلام فسموه الوليد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تسمون بأسماء فراعنتكم غيروا اسمه - فسموه عبد الله - فإنه سيكون في هذه الأمة رجل يقال له الوليد هو شر لأمتي من فرعون لقومه. هذا ثابت عن ابن المسيب ومراسيله حجة على الصحيح. وقال سليمان بن بلال عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا اتخذوا دين الله دغلا وعباد الله خولا ومال الله دولا. غريب ورواته ثقات. وقد روى الأعمش عن عطية عن أبي سعيد مرفوعا مثله لكنه قال: ثلاثين رجلا. وقال سليمان بن حيان الأحمر: نا داود بن أبي هند عن أبي حرب بن

(1/399)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 400
أبي الأسود الدؤلي عن طلحة النصري قال: قدمت المدينة مهاجرا وكان الرجل إذا قدم المدينة فإن كان له عريف نزل عليه وإن لم يكن له عريف نزل الصفة فنزلت الصفة وكان صلى الله عليه وسلم يرافق بين الرجلين ويقسم بينهم مدا من تمر فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في صلاته إذ ناداه رجل فقال: يا رسول الله أحرق بطوننا التمر وتخرقت عنا الخنف قال: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه وذكر ما لقي من قومه ثم قال: لقد رأيتني وصاحبي مكثنا بضع عشرة ليلة ما لنا طعام غير البربر - وهو ثمر الأراك - حتى أتينا إخواننا من الأنصار فآسونا من طعامهم وكان جل طعامهم التمر والذي لا إله إلا هو لو قدرت لكم على الخبز واللحم لأطعمتكموه وسيأتي عليكم زمان أو من أدركه منكم تلبسون أمثال أستار الكعبة ويغدى ويراح عليكم بالجفان. قالوا: يا رسول الله أنحن يومئذ خير أم اليوم؟ قال: بل أنتم اليوم خير أنتم اليوم إخوان وأنتم يومئذ يضرب بعضكم رقاب بعض.

(1/400)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 401
وقال محمد بن يوسف الفريابي: ذكر سفيان: عن يحيى بن سعيد عن أبي موسى يحنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط بعضهم على بعض. حديث مرسل.

(1/401)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 402
وقال عثمان بن حكيم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية فدخل فصلى ركعتين وصلينا معه فناجى ربه طويلا ثم قال: سألت ربي ثلاثة: سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها. رواه مسلم. وقال أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال لي: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو

(1/402)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 403
اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يسبي بعضا وبعضهم يقتل بعضا. وقال: إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين. وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة. ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين حتى يعبدوا الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى. رواه مسلم. وقال يونس وغيره عن الحسن عن عطاء بن عبد الله عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بين يدي الساعة الهرج. قيل: وما

(1/403)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 404
الهرج؟ قال: القتل قالوا: أكثر مما نقتل؟ قال: إنه ليس بقتلكم المشركين ولكن بقتل بعضكم بعضا. قالوا: ومعنا يومئذ عقولنا؟ قال: إنه تنزع عقول أكثر أهل ذلك الزمان ويخلف لهم هباء من الناس يحسب أكثرهم أنهم على شيء وليسوا على شيء. وقال سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر ويضربون الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا. رواه مسلم. وقال أبو عبد السلام عن ثوبان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل: أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت.

(1/404)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 405
أخرجه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثنا أبو عبد السلام. وقال معمر عن همام: نا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ليأتين على أحدكم يوم لأن يراني ثم لأن يراني أحب إليه من مثل أهله وماله معهم. رواه مسلم. وللبخاري مثله من حديث أبي هريرة. وقال صفوان بن عمرو: حدثني أزهر بن عبد الله الحرازي عن أبي عامر الهوزني عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة. أخرجه أبو داود. وقال عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل وتشرب الخمر ويظهر الزنا. متفق عليه.

(1/405)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 406
وقال هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. متفق عليه. وقال كثير النواء عن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي عن أبيه عن جده عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في أمتي قوم يسمون الرافضة هم براء من الإسلام. كثير ضعيف تفرد به.

(1/406)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 407
وقال شعبة: أخبرني أبو حمزة نا زهدم أنه سمع عمران بن حصين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يكون قوم بعدهم يخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن. رواه مسلم. والأحاديث الصحيحة والضعيفة في إخباره بما يكون بعده كثيرة إلى الغاية اقتصرنا على هذا القدر منها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور نسأل الله تعالى أن يكتب الإيمان في قلوبنا وأن يؤيدنا بروح منه.
باب جامع من دلائل النبوة
قال سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب قال: فرفعوه: قالوا: هذا كان يكتب لمحمد فأعجبوا به فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذا. رواه مسلم. وقال عبد الوارث عن عبد العزيز عن أنس قال: كان رجل نصرانيا

(1/407)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 408
فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد نصرانيا وكان يقول: ما أرى يحسن محمد إلا ما كنت أكتب له. فأماته الله فأقبروه فأصبح وقد لفظته الأرض قالوا: هذا عمل محمد وأصحابه قال: فحفروا له فأعمقوا فأصبح وقد لفظته الأرض فعلموا أنه من الله تعالى. أخرجه البخاري. وقال الليث عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة. متفق عليه. قلت: هذه هي المعجزة العظمى وهي (القرآن) فإن النبي من الأنبياء عليهم السلام كان يأتي بالآية وتنقضي بموته فقل لذلك من يتبعه وكثر أتباع نبينا صلى الله عليه وسلم لكون معجزته الكبرى باقية بعده فيؤمن بالله ورسوله كثير ممن يسمع القرآن على ممر الأزمان ولهذا قال: فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة. وقال زائدة: عن المختار بن فلفل عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما صدق نبي ما صدقت إن من الأنبياء من لا يصدقه من أمته إلا الرجل الواحد. رواه مسلم.

(1/408)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 409
وقال جرير: عن منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} قال: أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا وكان بموقع النجوم فكان الله تعالى ينزله على رسول الله بعضه في إثر بعض. قال تعالى: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا} .
باب آخر سورة نزلت
قال أبو العميس عن عبد المجيد بن سهيل عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قال لي ابن عباس: تعلم آخر سورة من القرآن نزلت جميعا؟ قلت: نعم {إذا جاء نصر الله والفتح} قال: صدقت. رواه مسلم. وقال أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {إذا جاء نصر الله والفتح} قال: أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه إذا فتح الله عليك فذاك علامة أجلك قال ذلك لعمر فقال: ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم يا بن عباس. أخرجه البخاري بمعناه. وقال شعبة عن أبي إسحاق سمع البراء يقول: آخر سورة نزلت (براءة) وآخر آية أنزلت (يستفتونك). متفق عليه.

(1/409)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 410
وقال الثوري عن عاصم الأحول عن الشعبي عن ابن عباس قال: آخر آية أنزلها الله آية الربا. وقال الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: آخر شيء نزل من القرآن {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} . وقال ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر: آخر ما أنزل الله آية الربا فدعوا الربا والريبة. صحيح. وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي قال: آخر آية نزلت {فإن تولوا فقل حسبي الله} . فحاصله أن كلا منهم أخبر بمقتضى ما عنده من العلم. وقال الحسين بن واقد: حدثني يزيد النحوي عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن قالا: نزل من القرآن بالمدينة: ويل للمطففين والبقرة وآل عمران والأنفال والأحزاب والمائدة والممتحنة والنساء وإذا زلزلت والحديد ومحمد والرعد والرحمن وهل

(1/410)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 411
أتى والطلاق ولم يكن والحشر وإذا جاء نصر الله والنور والحج والمنافقون والمجادلة والحجرات والتحريم والصف والجمعة والتغابن والفتح وبراءة قالا: ونزل بمكة فذكرا ما بقي من سور القرآن.
باب في النسخ والمحو من الصدور
وقال أبو حرب بن أبي الأسود عن أبيه عن أبي موسى قال: كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منه: يأيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. أخرجه مسلم وقال شعيب بن أبي حمزة وغيره عن الزهري: أخبرني أبو أمامة بن سهل أن رهطا من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه أن رجلا قام في جوف الليل يريد أن يفتتح سورة كانت قد وعاها فلم يقدر منها على شيء إلا (بسم الله الرحمن الرحيم) فأتى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح ليسأله عن ذلك ثم جاء آخر حتى اجتمعوا فسأل بعضهم بعضا ما جمعهم؟ فأخبر بعضهم بعضا بشأن تلك السورة ثم أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبرهم وسألوه عن السورة فسكت ساعة لا يرجع إليهم شيئا ثم قال نسخت البارحة فنسخت من صدورهم ومن كل شيء كانت فيه.

(1/411)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 412
رواه عقيل عن ابن شهاب قال فيه: وابن المسيب جالس لا ينكر ذلك. نسخ هذه السورة ومحوها من صدورهم من براهين النبوة والحديث صحيح. قال إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق عن أبيه عن جده سمع البراء يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنه خلقا ليس بالطويل الذاهب ولا بالقصير. اتفقا عليه من حديث إبراهيم.

(1/412)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 413
وقال البخاري: نا أبو نعيم نا زهير عن أبي إسحاق قال رجل للبراء: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا مثل القمر. وقال إسرائيل عن سماك أنه سمع جابر بن سمرة قال له رجل: أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا بل مثل الشمس والقمر مستديرا. رواه مسلم. وقال المحاربي وغيره عن أشعث عن أبي إسحاق عن جابر بن سمرة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة إضحيان وعليه حلة حمراء فجعلت أنظر إليه وإلى القمر فلهو كان أحسن في عيني من القمر. وقال عقيل عن ابن شهاب أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده قال: لما أن سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه وكان إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر أخرجه البخاري.

(1/413)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 414
وقال ابن جريج عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها يوما مسرورا وأسارير وجهه تبرق وذكر الحديث. متفق عليه. وقال يعقوب الفسوي: ثنا سعيد ثنا يونس بن أبي يعفور العبدي عن أبي إسحاق الهمداني عن امرأة من همدان سماها قالت: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته على بعير له يطوف بالكعبة بيده محجن فقلت لها: شبهيه قالت: كالقمر ليلة البدر لم أر قبله ولا بعده مثله. وقال يعقوب بن محمد الزهري: ثنا عبد الله بن موسى التيمي ثنا أسامة بن زيد عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: قلنا للربيع بنت معوذ: صفي لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لو رأيته لقلت الشمس طالعة. وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: سمعت أنسا وهو يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان ربعة من القوم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير أزهر اللون ليس بأبيض أمهق ولا آدم ليس بجعد قطط ولا بالسبط بعث على

(1/414)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 415
رأس أربعين سنة وتوفي وهو ابن ستين سنة وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء متفق عليه. وقال خالد بن عبد الله عن حميد عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم أسمر اللون. وقال ثابت عن أنس: كان أزهر اللون. وقال علي بن عاصم: أنا حميد سمعت أنسا يقول: كان صلى الله عليه وسلم أبيض بياضه إلى السمرة. وقال سعيد الجريري: كنت أنا وأبو الطفيل نطوف بالبيت فقال: ما بقي أحد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري قلت: صفه لي قال: كان أبيض مليحا مقصدا. أخرجه مسلم ولفظه: كان أبيض مليح الوجه.

(1/415)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 416
وقال ابن فضيل عن إسماعيل عن أبي جحيفة قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أبيض قد شاب وكان الحسن بن علي يشبهه. متفق عليه. وقال عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أزهر اللون. رواه عنه حماد بن سلمة. وقال المسعودي عن عثمان بن عبد الله بن هرمز عن نافع بن جبير عن علي: كان صلى الله عليه وسلم مشربا وجهه حمرة. رواه شريك عن عبد الملك بن عمير عن نافع مثله. وقال عبد الله بن إدريس وغيره: نا ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم عن أبيه أن سراقة بن جعشم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فلما دنوت منه وهو على ناقته أنظر إلى ساقه كأنها جمارة. وقال ابن عيينة: أنا إسماعيل بن أمية عن مزاحم بن أبي مزاحم عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد عن محرش الكعبي قال: اعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة ليلا فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة. وقال يعقوب الفسوي: نا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء حدثني

(1/416)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 417
عمرو بن الحارث حدثني عبد الله بن سالم عن الزبيدي أخبرني محمد بن مسلم عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان شديد البياض. وقال رشيدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن أبي يونس مولى أبي هريرة عن أبي هريرة قال: ما رأيت شيئا أحسن من النبي صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه وما رأيت أحدا أسرع في مشيته منه صلى الله عليه وسلم كأن الأرض تطوى له إنا لنجتهد وإنه لغير مكترث. رواه ابن لهيعة عن أبي يونس. وقال شعبة عن سماك عن جابر بن سمرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ضليع الفم أشكل العينين منهوس الكعبين: أخرجه مسلم. ورواه أبو داود عن شعبة فقال: أشهل العينين منهوس العقب.

(1/417)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 418
وقال أبو عبيدة: الشكلة: كهيئة الحمرة تكون في بياض العين والشهلة حمرة في سواد العين. قلت: ومنهوس الكعب: قليل اللحم العقب. كذا فسره سماك بن حرب لشعبة. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: نا عباد عن حجاج عن سماك عن جابر بن سمرة عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت إذا نظرت إليه قلت أكحل العينين وليس بأكحل وكان في ساقيه حموشة وكان لا يضحك إلا تبسما. وقال عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن علي عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم العينين أهدب الأشفار مشرب العين بحمرة كث اللحية. وقال خالد بن عبد الله الطحان عن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده قال: قيل لعلي: انعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان أبيض مشربا بياضه حمرة وكان أسود الحدقة أهدب الأشفار. وقال عبد الله بن سالم عن الزبيدي عن الزهري عن سعيد بن

(1/418)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 419
المسيب أنه سمع أبا هريرة يصف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان مفاض الجبين أهدب الأشفار أسود اللحية حسن الثغر بعيد ما بين المنكبين يطأ بقدميه جميعا ليس له أخمص. وقال عبد العزيز بن ابي ثابت الزهري: نا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلج الثنيتين إذا تكلم رؤي كالنور بين ثناياه. عبد العزيز متروك. وقال المسعودي عن عثمان بن عبد الله بن هرمز عن نافع بن

(1/419)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 420
جبير عن علي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم الرأس واللحية شثن الكفين والقدمين ضخم الكراديس طويل المسربة. روى مثله شريك عن عبد الملك بن عمير عن نافع بن جبير بن مطعم عن علي ولفظه: كان ضخم الهامة عظيم اللحية. قال سعيد بن منصور: نا نوح بن قيس ثنا خالد بن خالد التميمي عن يوسف بن مازن الراسبي أن رجلا قال لعلي: انعت لنا النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان أبيض مشربا حمرة ضخم الهامة أغر أبلج أهدب الأشفار. وقال جرير بن حازم: ثنا قتادة قال: سئل أنس عن شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان لا سبط ولا جعد بين أذنيه وعاتقه. متفق عليه.

(1/420)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 421
وقال همام عن قتادة عن أنس: كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب منكبيه (خ). وقال حميد عن أنس كان إلى أنصاف أذنيه. (م). قلت: والجمع بينهما ممكن. وقال معمر عن ثابت عن أنس: كان إلى شحمة أذنيه. (د) في السنن. وقال شعبة: نا أبو إسحاق قال: سمعت البراء يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعا بعيد ما بين المنكبين يبلغ شعره شحمة أذنيه عليه حلة حمراء ما رأيت شيئا أحسن منه. متفق عليه. وأخرجه (خ) من حديث إسرائيل ولفظه: ما رأيت أحدا من خلق الله في حلة حمراء أحسن منه وإن جمته تضرب قريبا من منكبيه. وأخرجه (م) من حديث الثوري ولفظه: شعر يضرب منكبيه

(1/421)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 422
وفيه: ليس بالطويل ولا بالقصير. وقال شريك عن عبد الملك بن عمير عن نافع بن جبير قال: وصف لنا علي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان كثير شعر الرأس رجله. إسناده حسن. وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: كان شعر النبي صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة ودون الجمة. أخرجه أبو داود. وإسناده حسن. وقال ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قالت أم هانئ: قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قدمة وله أربع غدائر تعني ضفائر. لم يدرك مجاهد أم هانئ. وقيل: سمع منها وذلك ممكن. وقال إبراهيم بن سعد: نا ابن شهاب عن عبيد الله عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء. وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رؤوسهم فسدل ناصيته ثم فرق بعد. خ م. وقال ربيعة الرأي: رأيت شعرا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو أحمر

(1/422)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 423
فسألت فقيل: من الطيب. أخرجه البخاري ومسلم وقال أيوب عن ابن سيرين: سألت أنسا: أخضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لم ير من الشيب إلا قليلا. أخرجاه وله طرق في الصحيح بمعناه عن أنس. وقال المثنى بن سعيد عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يختضب إنما كان شمط عند العنفقة يسيرا وفي الصدغين يسيرا وفي الرأس يسيرا. أخرجه مسلم. وقال زهير بن معاوية وغيره عن أبي إسحاق عن أبي جحيفة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم هذه منه بيضاء ووضع زهير بعض أصابعه على عنفقته. أخرجه مسلم وأخرجه مسلم من حديث إسرائيل.

(1/423)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 424
وقال (خ): نا عصام بن خالد نا حريز بن عثمان قلت لعبد الله بن بسر: أكان النبي صلى الله عليه وسلم شيخا؟ قال: كان في عنفقته شعرات بيض. وقال شعبة وغيره عن سماك عن جابر بن سمرة وذكر شمط النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان إذا ادهن لم ير وإذا لم يدهن تبين. أخرجه (م). وقال إسرائيل عن سماك عن جابر بن سمرة قال: كان قد شمط مقدم رأسه ولحيته وإذا ادهن ومشطه لم يستبن. أخرجه (م). وقال أبو حمزة السكري عن عثمان بن عبد الله بن موهب القرشي قال: دخلنا على أم سلمة فأخرجت إلينا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو أحمر مصبوغ بالحناء والكتم. صحيح أخرجه (خ) ولم يقل (بالحناء والكتم) من حديث سلام بن أبي مطيع عن عثمان. وقال إسرائيل عن عثمان بن موهب قال: كان عند أم سلمة جلجل

(1/424)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 425
من فضة ضخم فيه من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا أصاب إنسانا الحمى بعث إليها فخضخضته فيه ثم ينضجع الرجل على وجهه قال: يعثني أهلي إليها فأخرجته فإذا هو هكذا - وأشار إسرائيل بثلاث أصابع - وكان فيه شعرات حمر. (خ). محمد بن أبان المستملي: ثنا بشر بن السري ثنا أبان العطار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة أن محمد بن عبد الله بن زيد حدثه أن أباه شهد النبي صلى الله عليه وسلم في المنحر هو ورجل من الأنصار فقسم ضحايا بين أصحابه فلم يصبه شيء هو وصاحبه فحلق رسول الله رأسه في ثوبه وأعطاه إياه فقسم منه على رجال. وقلم أظفاره فأعطاه صاحبه قال: فإنه لمخضوب عندنا بالحناء والكتم يعني: الشعر. هذا خبر مرسل. وقال شريك عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: كان شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا من عشرين شعرة رواه يحيى بن آدم عنه. وقال جعفر بن برقان: ثنا عبد الله بن محمد بن عقيل قال: قدم أنس بن مالك المدينة وعمر بن عبد العزيز وال عليها فبعث إليه عمر وقال للرسول: سله هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني قد رأيت شعرا من شعره قد لون؟ فقال أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد متع بالسواد ولو عددت ما أقبل علي من شيبة في رأسه ولحيته ما كنت أزيدهن على أحدى

(1/425)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 426
عشرة شيبة وإنما هذا الذي لون من الطيب الذي كان يطيب به شعر النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي غير لونه. وقال أبو حمزة السكري عن عبد الملك بن عمير عن إياد بن لقيط عن أبي رمثة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بردان أخضران وله شعر قد علاه الشيب وشيبه أحمر مخضوب بالحناء. وقال أبو نعيم: نا عبيد الله بن إياد بن لقيط حدثني أبي عن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيته قال لي: هل تدري من هذا؟ قلت: لا قال: إن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقشعررت حين قال ذلك وكنت أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لا يشبه الناس فإذا هو بشر ذو وفرة بها ردع من حناء وعليه بردان أخضران. وقال عمرو بن محمد العنقزي: أنا ابن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته بالورس والزعفران. وقال النضر بن شميل: نا صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن

(1/426)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 427
أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما صيغ من فضة رجل الشعر مفاض البطن عظيم مشاش المنكبين يطأ بقدميه جميعا إذا أقبل أقبل جميعا وإذا أدبر أدبر جميعا. وقال جرير بن حازم عن قتادة عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم ضخم اليدين لم أر بعده مثله وفي لفظ: كان ضخم الكفين والقدمين سائل العرق. أخرج البخاري بعضه. وقال معمر وغيره عن قتادة عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم شثن الكفين والقدمين. وقال أبو هلال عن قتادة عن أنس - أو عن جابر بن عبد الله شك موسى بن إسماعيل فيه - عن أبي هلال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ضخم القدمين والكفين لم أر بعده شبيها به صلى الله عليه وسلم. أخرجهما البخاري تعليقا وهما صحيحان. وقال شعبة عن سماك عن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم أشكل العينين منهوس العقبين. قلت لسماك: ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم قلت: ما أشكل العينين؟ قال: طويل شق العين قلت: ما منهوس العقب؟ قال: قليل لحم العقب. أخرجه مسلم.

(1/427)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 428
وقال يزيد بن هارون: أنبأ عبد الله بن يزيد بن مقسم بن ضبة: حدثتني عمتي سارة عن ميمونة بنت كردم قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهو على ناقة له وأنا مع أبي وبيد النبي صلى الله عليه وسلم درة كدرة الكباث فدنا منه أبي فأخذ بقدمه فأقر له رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: فما نسيت طول إصبعه السبابة على سائر أصابعه. وقال عثمان بن عمر بن فارس: نا حرب بن سريج الخلقاني حدثني رجل من بلعدوية حدثني جدي قال: انطلقت إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رجل حسن الجسم عظيم الجبهة دقيق الأنف دقيق الحاجبين وإذا من لدن نحره إلى سرته كالخيط الممدود شعره ورأيته بين طمرين. فدنا مني فقال: (السلام عليك). وقال المسعودي عن عثمان بن عبد الله بن هرمز وقاله شريك عن عبد الملك بن عمير كلاهما عن نافع بن جبير واللفظ لشريك قال: وصف لنا علي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان لا قصير ولا طويل وكان يتكفأ في مشيته كأنما يمشي في صبب - ولفظ المسعودي: كأنما ينحط من

(1/428)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 429
صبب - لم أر قبله ولا بعده مثله. أخرجه النسائي. عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالبطحاء وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بهما وجوههم فأخذت يده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك. أخرجه البخاري تعليقا. وقال خالد بن عبد الله عن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده قال: قيل لعلي انعت لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان لا قصير ولا طويل وهو إلى الطول أقرب وكان شثن الكف والقدم في صدره مسربة كأن عرقه لؤلؤ إذا مشى تكفأ كأنما يمشي في صعد. وروى نحوه من وجه آخر عن علي. وقال حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال: ما مسست بيدي ديباجا ولا حريرا ولا شيئا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت رائحة قط أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري. وأخرجه مسلم من وجه آخر عن ثابت. وقال حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس فذكر مثله وزاد: كان

(1/429)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الأول الصفحة 430
رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ إذا مشى تكفأ. أخرجه مسلم. وقال شعبة عن يعلى بن عطاء: سمعت جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمنى فقلت: ناولني يدك فناولنيها فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك. وقال سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عندنا فعرق وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: هذا عرق نجعله لطيبنا وهو أطيب الطيب. أخرجه مسلم. وقال وهيب: حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس فذكره وفيه: وكان صلى الله عليه وسلم كثير العرق. رواه مسلم

(1/430)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 21
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(مقدّمة المؤلّف)
قال الشيخ الإمام العالم العامل النّاقد البارع الحافظ الحجّة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبيّ رحمه الله تعالى وأدام النّفع به وغفر له ولوالديه: الحمد لله موّفق من توكل عليه، القيّوم الذي ملكوت كلّ شيء بيديه، حمداً طيّباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله رحمةً للعالمين وخاتماً للنّبيّين وحرزاً للأميّين وإماماً للمتّقين بأوضح دليل وأفصح تنزيل وأفسح سبيل

(2/21)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 22
أيسرتبيان وأبدع برهان. اللهمّ آته الوسيلة وابعثه مقاماً محموداً يغبطه الأوّلون والآخرون، صلّى الله عليه وعلى آله الطّيبين وصحابته المجاهدين وأزواجه أمّهات المؤمنين. أما بعد فهذا كتاب نافع إن شاء الله، ونعوذ بالله من علم لا ينفع ومن دعاء لا يسمع، جمعته وتعبت عليه واستخرجته من عدّة تصانيف، يعرف به الإنسان مهمّ ما مضى من التّاريخ، من أوّل تاريخ الإسلام إلى عصرنا هذا من وفيات الكبار من الخلفاء والقرّاء والزّهاد والفقهاء والمحدّثين والعلماء والسّلاطين والوزراء والنّحاة والشّعراء، ومعرفة طبقاتهم وأوقاتهم وشيوخهم وبعض أخبارهم بأخصر عبارة وألخص لفظ، وما تمّ من الفتوحات المشهورة والملاحم المذكورة والعجائب المسطورة، من غير تطويل ولا استيعاب، ولكن أذكر المشهورين ومن يشبههم، وأترك المجهولين ومن يشبههم، وأشير إلى الوقائع الكبار، إذ لو استوعبت التراجم والوقائع لبلغ الكتاب مائة مجلّدة بل أكثر، لأنّ فيه مائة نفس يمكنني أن أذكر أحوالهم في خمسين مجلّداً.

(2/22)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 23
وقد طالعت على هذا التأليف من الكتب مصنّفات كثيرةً، ومادّته نم: دلائل النّبوّة للبيهقي. وسيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم لابن إسحاق. ومغازيه لابن عائذ الكاتب. والطّبقات الكبرى لمحمد بن سعد كاتب الواقديّ. وتاريخ أبي عبد الله البخاري. وبعض تاريخ أبي بكر أحمد بن أبي خيثمة.) وتاريخ يعقوب الفسوي. وتاريخ محمد بن المثنّى العنزي وهو صغير. وتاريخ أبي حفص الفلاّس. وتاريخ أبي بكر بن أبي شيبة. وتاريخ الواقدّي. وتاريخ الهيثم بن عديّ. وتاريخ خليفة بن خيّاط.

(2/23)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 24
والطبقات له. وتاريخ أبي زرعة الدمشقي. والفتوح لسيف بن عمر. وكتاب النّسب للزّبير بن بكّار. والمسند للإمام أحمد. وتاريخ المفضّل بن غسّان الغلاّبي. والجرح والتعديل عن يحيى بن معين. والجرح والتعديل لعبد الرحمن بن أبي حاتم. ومن عليه رمز فهو في الكتب السّتّة أبو بعضها، لأنّني طالعت مسودّة تهذيب الكمال لشيخنا الحافظ أبي الحجّاج يوسف المزّي، ثم طالعت المبيضّة كلّها. فمن على اسمه ع فحديثه الستّة، ومن عليه فهو في السّنن الأربعة، ومن عليه خ فهو في البخاري، ومن عليه م ففي مسلم، ومن عليه د ففي سنن أبي داود، ومن عليه ت ففي جامع الترمذي،

(2/24)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 25
ومن عليه ن ففي سنن النّسائي، ومن عليه ق ففي سنن ابن ماجة. وإن كان الرجل في الكتب إلاّ فرد كتاب فعليه سوى ت مثلاً أو سوى د. وقد طالعت أيضاً عليه من التواريخ التي اختصرتها: تاريخ أبي عبد الله الحاكم. وتاريخ أبي سعيد بن يونس. وتاريخ أبي بكر الخطيب.) وتاريخ دمشق لأبي القاسم الحافظ. وتاريخ أبي سعد بن السّمعانيّ. والأنساب له. وتاريخ القاضي شمس الدين بن خلّكان. وتاريخ العلاّمة شهاب الدين أبي شامة. وتاريخ الشيخ قطب الدين بن اليونيني، وتاريخه ذيل على تاريخ مرآة الزمان للواعظ شمس الدين يوسف سبط ابن الجوزي وهما على الحوادث والسّنين. وطالعت أيضاً كثيراً من: تاريخ الطبري. وتاريخ ابن الأثير. وتاريخ ابن الفرضيّ.

(2/25)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 26
وصلته لابن بشكوال. وتكملتها لابن الأبّار. والكامل لابن عديّ. وكتباً كثيرة وأجزاء عديدة، وكثيراً من: مرآة الزمان. ولم يعتن القدماء بضبط الوفيات كما ينبغي، بل اتّكلوا على حفظهم، فذهبت وفيات خلق من الأعيان من الصّحابة ومن تبعهم إلى قريب زمان أبي عبد الله الشافعيّ، فكتبنا أسماءهم على الطّبقات تقريباً، ثم اعتنى المتأخّرون بضبط وفيات العلماء وغيرهم، حتى ضبطوا جماعةً فيهم جهالة بالنّسبة إلى معرفتنا لهم، فلهذا حفظت وفيات خلق من المجهولين وجهلت وفيات أئمة من المعروفين. وأيضاً فإن عدّة بلدان لم يقع إلينا أخبارها إمّا لكونها لم يؤرّخ علماءها أحد من الحفّاظ، أو جمع لها تاريخ ولم يقع إلينا. وأنا أرغب إلى الله تعالى وأبتهل إليه أن ينفع بهذا الكتاب، وأن يغفر لجامعه وسامعه ومطالعه وللمسلمين آمين. بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم)
)

(2/26)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 27
1 (أحداث السنة الأولى من الهجرة)
روى البخاري في صحيحه من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن المسلمين بالمدينة سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكانوا يغدون إلى الحرة ينتظرونه، حتى يردهم حر الشمس، فانقلبوا يوماً، فأوفى يهودي على أطم فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فأخبرني عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير رضي الله عنه في ركب من المسلمين كانوا تجاراً قافلين من الشام فكسا الزبير رضي الله عنه رسول لله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض.

(2/27)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 28
قال: فلم يملك اليهودي أن صاح، يا معشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون. فثار المسلمون إلى السالاح. فتلقوه بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين من ربيع الأول. فقام أبو بكر للناس فطفق من لم يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم على أبي بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر يظله بردائه، فعرف لناس عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس مسجدهم. ثم ركب راحلته وسار حوله الناس يمشون، حتى بركت به مكان المسجد، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين. وكان مربداً لسهل وسهيل. فدعاهما فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً، فقالا: بل نهبه لك يا رسول لله. ثم بناه مسجدً، وكان ينقل للبن معهم ويقول.
(هذا الجمال، لا جمال خيبر.......... هذا أبر ربنا وأطهر)
ويقول
(اللهم إن الأجر أجر الآخرة.......... فارحم الأنصار والمهاجرة)

(2/28)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 29
وخرج البخاري من حديث أبي إسحاق عن البراء حديث الهجرة بطوله. وخرج من حديث عبد العزيز بن صهيب أن أنس رضي الله عنه قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر. وأبو بكر شيخ يعرف، والنبي صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فليلقى الرجل أبا بكر فيقول: من هذا بين يديك فيقول: رجل يهديني الطريق، وإنما يعني طريق الخير. إلى أن قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب الحرة، ثم بعث إلى الأنصار، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمنين مطاعين. فركبا، وحفوا دونهما بالسلاح. فقيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله، فأقبل يسير حتى نزل إلى جانب دار أبي أيوب رضي الله عنه، وذكر الحديث. وروينا بإسناد حسن، عن أبي البداح بن عصام بن عدي، عن أبيه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة

(2/29)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 30
ليلة خلت من ربيع الأول، فأقام في المدينة عشر سنين. وقال محمد بن إسحاق: فقدم ضحى يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فأقام في بني عمرو بن عوف فيما قيل يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، ثم ظعن يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلاها بمن معه. وكان مكان المسجد فيما قال موسى بن عقبة مربداً لغلامين يتيمين، وهما سهل وسهيل ابنا رافع بن عمرو من بني النجار، وكانا في حجر أسعد بن زرارة. وقال ابن إسحاق: كان المربد لسهل وسهيل ابني عمرو، وكانا في حجر معاذ بن عفراء. وغلط ابن منده فقال: كان لسهل وسهيل ابني بيضاء، وإنما ابنا بيضاء من المهاجرين. وأسس رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامته ببني عمرو بن عوف مسجد قباء. وصلى الجمعة في بني سالم في بطن الوادي. فخرج معه رجال منهم: وهم العباس بن عبادة، وعتبان بن مالك، فسألوه أن ينزل عندهم ويقيم فيهم، فقال: خلوا الناقة فإنها مأمورة. وسار والأنصار حوله حتى أتى بني

(2/30)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 31
بياضة، فتلقاه زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو، فدعوه إلى النزول فيهم، فقال: دعوها فإنها مأمورة. فأتى دور بني عدي بن النجار وهم أخوال عبد المطلب، فتلقاه): سليط بن قيس، ورجال من بني عدي، فدعوه إلى النزول والبقاء عندهم، فقال: دعوها فإنها مأمورة. ومشى حتى أتى دور بني مالك بن النجار، فبركت الناقة في موضع المسجد، وهو مربد تمر لغلامين يتيمين. وكان فيه نخل وحرث وخرب، وقبور للمشركين. فلم ينزل عن ظهرها، فقامت ومشت قليلاً، وهو صلى الله عليه وسلم لا يهيجها، ثم التفتت فكرت إلى مكانها وبركت فيه، فنزل عنها. فأخذ أبو أيوب الأنصاري رحلها فحمله إلى داره. ونزل النبي صلى الله عليه وسلم في بيت من دار أبي أيوب. فلم يزل ساكناً عند أبي أيوب حتى بنى مسجده وحجره في المربد. وكان قد طلب شراءه فأبت بنو النجار من بيعه، وبذلوه لله وعوضوا اليتيمين. فأمر بالقبور فنبشت، وبالخرب فسويت. وبنى عضادتيه بالحجارة، وجعل سواريه من جذوع النخل، وسقفه بالجريد. وعمل فيه المسلمون حسبة. فمات أبو أمامة أسعد بن زرارة الأنصاري تلك الأيام بالذبحة. وكان من سادة الأنصار ومن نقبائهم الأبرار. ووجد النبي صلى الله عليه وسلم وجداً لموته، وكان قد كواه. ولم يجعل على بني النجار بعده نقيباً وقال: أنا نقيبكم. فكانوا يفخرون بذلك. وكانت يثرب لم تمصر، وإنما كانت قرى مفرقة: بنو مالك بن النجار في قرية، وهي مثل المحلة، وهي دار بني فلان. كما في الحديث: خير

(2/31)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 32
دور الأنصار دار بني النجار. وكان بنو عدي بن النجار لهم دار، وبنو مازن بن النجار كذلك، وبنو سالم كذلك، وبنو ساعدة كذلك، وبنو الحارث بن الخزرج كذلك، وبنو عمرو بن عوف كذلك، وبنو عبد الأشهل كذلك، وسائر بطون الأنصار كذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وفي كل دور الأنصار خير. وأمر عليه السلام بأن تبنى المساجد في الدور. فالدار كما قلنا هي القرية. ودار بني عوف هي قباء. فوقع بناء مسجده صلى الله عليه وسلم في بني مالك بن النجار، وكانت قرية صغيرة. وخرج البخاري من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في بني عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة. ثم أرسل إلى بني النجار فجاءوا. وآخى في هذه المدة بين المهاجرين والأنصار. ثم فرضت الزكاة. وأسلم الحبر عبد الله بن سلام، وأناس من اليهود، وكفر سائر ليهود.
(قصة إسلام ابن سلام)
): قال عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضي الله عنه، قال: جاء

(2/32)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 33
عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله حقاً. ولقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني أسلمت. فأرسل إليهم فأتوا، فقال لهم: يا معشر يهود، ويلكم اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله فأسلموا. قالوا: ما نعلمه، فأعاد ذلك عليهم ثلاثاً. ثم قال: فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: أفرأيتم إن أسلم قالوا: حاش الله، ما كان ليسلم. قال: يا بن سلام اخرج عليهم. فخرج عليهم، فقال: ويلكم اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقاً، قالوا: كذبت. فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري بأطول منه. وأخرج من حديث حميد عن أنس رضي الله عنه، قال: سمع عبد الله ابن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في أرض، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة وما أول طعام أهل الجنة وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه قال: أخبرني بهن جبريل آنفاً. قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة. قال: ثم قرأ من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك. أما أول أشراط الساعة، فنار تخرج

(2/33)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 34
على الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت. وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة نزع إلى أمه. فتشهد وقال: إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني. فجاءوا، فقال: أي رجل عبد الله فيكم قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. قال: أرأيتم إن أسلم قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقصوه. قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله. وقال عوف الأعرابي، عن زرارة بن أوفى، عن عبد الله بن سلام قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قبله، قالوا: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئت لأنظر، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. فكان أول شيء سمعته منه أن قال: يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام. صحيح. وروى أسباط بن نصر، عن السدي، عن أبي مالك، وأبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة،): عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به قال: كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم. وكانوا يجدون محمداً في التوراة،

(2/34)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 35
فيسألون الله أن يبعثه فيقاتلون معه العرب. فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل.
(قصة بناء المسجد)
قال أبو التياح، عن أنس رضي الله عنه: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملأ بني النجار، فجاءوا فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا. قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. فكان فيه ما أقول لكم: كان فيه قبور المشركين، وكان فيه خرب ونخل. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع. فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه حجارة، وجعلوا ينقلون ذاك الصخر، وهم يرتجزون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، ويقولون: اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فانصر الأنصار والمهاجرة. متفق عليه. وفي رواية فاغفر للأنصار.

(2/35)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 36
وقال موس بن عقبة، عن ابن شهاب، في قصة بناء المسجد: فطفق هو وأصحابه ينقلون اللبن، ويقول وهو ينقل اللبن معهم: هذا الجمال، لا جمال خيبرهذا أبرربناوأطهر ويقول:
(اللهم لا خير إلا خير الآخرة.......... فارحم الأنصار والمحاجرة)
قال ابن شهاب: فتمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعر رجل من المسلمين لم يسم في الحديث. ولم يبلغني في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر غير هذه الأبيات. ذكره البخاري في صحيحه. وقال صالح بن كيسان: ثنا نافع أن عبد الله أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنياً باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل. فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً. وزاد): فيه عمر، وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشباً. وغيره عثمان، فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج. أخرجه البخاري. وقال حماد بن سلمة، عن أبي سنان، عن يعلى بن شداد، عن عبادة

(2/36)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 37
رضي الله عنه أن الأنصار جمعوا مالاً، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابن بهذا المسجد وزينه، إلى متى نصلي تحت هذا الجريد فقال: ما بي رغبة عن أخي موسى، عريش كعريش موسى. وروي عن الحسن البصري في قوله كعريش موسى قال: إذا رفع يده بلغ العريش، يعني السقف. وقال عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق بن علي، عن أبيه قال بنيت مع النبي صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة، فكان يقول: قربوا اليمامي من الطين، فإنه من أحسنكم له بناء. وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا. أخرجه مسلم بأطول منه. وقال صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة. صحيح. وقال أبو سعيد رضي الله عنه: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنتين يعني في بناء المسجد. فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل ينفض عنه

(2/37)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 38
التراب ويقول: ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، ويدعهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. أخرجه البخاري دون قوله تقتله الفئة الباغية، وهي زيادة ثابتة الإسناد. ونافق طائفة من الأوس والخزرج، فأظهروا الإسلام مداراة لقومهم. فممن ذكر منهم: من أهل قباء: الحارث بن سويد بن الصامت.

(2/38)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 39
وكان أخوه خلاد رجلاً صالحاً، وأخوه الجلاس دون خلاد في الصلاح. ومن المنافقين: نبتل بن الحارث. وبجاد بن عثمان. وأبو حبيبة ابن الأزعر أحد من بنى مسجد الضرار. وجارية بن عامر، وابناه: زيد ومجمع. وقيل لم يصح عن مجمع النفاق، وإنما ذكر فيهم لأن قومه جعلوه إمام مسجد الضرار. وعباد بن حنيف. وأخواه سهل وعثمان من فضلاء الصحابة.): ومنهم: بشر، ورافع، ابنا زيد. ومربع، وأوس، ابنا قيظي. وحاطب بن أمية، ورافع بن وديعة، وزيد بن عمرو، وعمرو بن قيس ثلاثتهم من بني النجار، والجد بن قيس الخزرجي من بني جشم، وعبد الله بن أبي بن سلول، من بني عوف بن الخزرج، وكان رئيس القوم. وممن أظهر الإيمان من اليهود ونافق بعد:

(2/39)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 40
أسعد بن حنيف، وزيد بن اللصيت، ورافع بن حرملة، ورفاعة ابن زيد بن التابوت، وكنانة بن صوريا. ومات فيها: البراء بن معرور السلمي أحد نقباء العقبة رضي الله عنه. وهو أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وكان كبير الشأن. وتلاحق المهاجرون الذين تأخروا بمكة بالنبي صلى الله عليه وسلم. فلم يبق إلا محبوس أو مفتون. ولم يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها، إلا أوس الله، وهم حي من الأوس فإنهم أقاموا على شركهم. ومات فيها: الوليد بن المغيرة المخزومي والد خالد، والعاص بن وائل السهمي والد عمرو بمكة على الكفر. وكذلك: أبو أحيحة سعيد بن العاص الأموي توفي بما له بالطائف. وفيها: أري الأذان عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب، فشرع الأذان على ما رأيا.

(2/40)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 41
وفي شهر رمضان عقد النبي صلى الله عليه وسلم لواء لحمزة بن عبد المطلب يعترض عيراً لقريش. وهو أول لواء عقد في الإسلام. وفيها: بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة لينقلا بناته وسودة أم المؤمنين. وفي ذي القعدة عقد لواء لسعد بن أبي وقاص، ليغير على حي من بني كنانة أو بني جهينة. ذكره الواقدي. وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان أول راية عقدها راية عبيدة بن الحارث.): وفيها: آخي النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، على المواساة والحق. وقد روي أبو داود الطيالسي، عن سليمان بن معاذ، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وورث بعضهم من بعض، حتى نزلت: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض. والسبب في قلة من توفي في هذا العام وما بعده من السنين، أن المسلمين كانوا قليلين بالنسبة إلى من بعدهم. فإن الإسلام لم يكن إلا ببعض الحجاز، أو من هاجر إلى الحبشة. وفي خلافة عمر بل وقبلها

(2/41)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 42
انتشر الإسلام في الأقاليم. فبهذا يظهر لك سبب قلة من توفي في صدر الإسلام، وسبب كثرة من توفي في زمان التابعين فمن بعدهم. وكان في هذا القرب أبو قيس بن الأسلت بن جشم بن وائل الأوسي الشاعر. وكان يعدل بقيس بن الخطيم في الشجاعة والشعر. وكان يحض الأوس على الإسلام. وكان قبل الهجرة يتأله ويدعي الحنيفية، ويحض قريشاً على الإسلام، فقال قصيدته المشهورة التي أولها:
(أيا راكباً إما عرضت فبلغن.......... مغلغلة عني لؤي بن غالب)

(أقيموا لنا ديناً حنيفاً، فأنتمو.......... لنا قادة، قد يقتدى بالذوائب)
روي الواقدي عن رجاله قالوا: خرج ابن الأسلت إلى الشام، فتعرض آل جفنة فوصلوه. وسأل الرهبان فدعوه إلى دينهم فلم

(2/42)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 43
يرده. فقال له راهب: أنت تريد دين الحنيفة، وهذا وراءك من حيث خرجت. ثم إنه قدم مكة معتمراً، فلقي زيد بن عمرو بن نفيل، فقص عليه أمره. فكان أبو قيس بعد يقول: ليس أحد على دين إبراهيم إلا أنا وزيد. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقد أسلمت الخزرج والأوس، إلا ما كان من أوس الله فإنها وقفت مع ابن الأسلت وكان فارسها وخطيبها، وشهد يوم بعاث، فقيل له: يا أبا قيس، هذا صاحبك الذي كنت تصف. قال: رجل قد بعث بالحق. ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعرض عليه شرائع الإسلام، فقال: ما أحسن هذا وأجمله، أنظر في أمري. وكاد أن يسلم. فلقيه عبد الله بن أبي، فأخبره بشأنه فقال: كرهت والله حرب الخزرج. فغضب وقال: والله لا أسلم سنة. فمات قبل السنة. فروي الواقدي عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن أشياخه أنهم كانوا يقولون: لقد سمع يوحد عند الموت.):

(2/43)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 44
(فارغة)

(2/44)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 45
1 (أحداث السنة الثانية)

(غزوة الأبواء)
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة غازياً، واستعمل على المدينة سعد بن عبادة حتى بلغ ودان يريد قريشاً وبني ضمرة. فوادع بني ضمرة بن عبد مناة بن كنانة، وعقد ذلك معه سيدهم مخشي بن عمرو. ثم رجع إلى المدينة. وودان على أربع مراحل.
(بعث حمزة)
ثم في أحد الربيعين:

(2/45)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 46
بعث عمه حمزة في ثلاثين راكباً من المهاجرين إلى سيف البحر من ناحية العيص. فلقي أبا جهل في ثلاثمائة، وقال الزهري: في مائة وثلاثين راكباً. وكان مجدي بن عمرو الجهني وقومه حلفاء الفريقين جميعاً، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني.
(بعث عبيدة بن الحارث)
وبعث في هذه المدة عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، في ستين راكباً أو نحوهم من المهاجرين. فنهض حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة. فلقي بها جمعاً من قريش، عليهم عكرمة بن أبي جهل، وقيل مكرز بن حفص. فلم يكن بنيهم قتال. إلا أن سعد بن أبي وقاص كان في ذلك البعث، فرمي بسهم، فكان أول سهم رمي به في سبيل الله. وفر الكفار يومئذ إلى المسلمين: المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان المازني حليف بني عبد مناف. وكانا مسلمين، ولكنهما خرجا ليتوصلا بالمشركين.

(2/46)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 47
(غزوة بواط)
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول غازياً. فاستعمل على المدينة السائب ابن عثمان بن مظعون. حتى بلغ بواط من ناحية رضوى ثم رجع ولم يلق حرباً.
(غزوة العشيرة)
وخرج غازياً في جمادى الأولى، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، حتى بلغ العشيرة، فأقام هناك أياماًً، ووادع بني مدلج. ثم رجع فأقام بالمدينة أياماً. والعشيرة من بطن ينبع. وقال يونس بن أبي إسحاق: حدثني يزيد بن محمد بن خثيم عن محمد بن كعب القرظي قال:): حدثني أبوك محمد بن خثيم المحاربي، عن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع. فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بها شهراً،

(2/47)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 48
فصالح بها بني مدلج. فقال لي علي: هل لك يا أبا اليقظان أن نأتي هؤلاء نفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة، ثم غشينا النوم فنمنا. فوالله ما أهبنا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدمه، فجلسنا. فيومئذ قال لعلي: يا أبا تراب، لما عليه من التراب.
(غزوة بدر الأولى)
وخرج في جمادى الآخرة في طلب كرز بن جابر الفهري، وكان قد أغار على سرح المدينة. فبلغ صلى الله عليه وسلم وادي سفوان من ناحية بدر، فلم يلق حرباً. وسميت بدراً الأولى. ولم يدرك كرزاً.
(سرية سعد بن أبي وقاص)
وبعث سعد بن أبي وقاص في ثمانية من المهاجرين، فبلغ الخرار. ثم رجع إلى المدينة.
(بعث عبد الله بن جحش)
قال عروة: ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم في رجب عبد الله بن جحش

(2/48)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 49
الأسدي، ومعه ثمانية. وكتب معه كتاباً، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين. فلما قرأ الكتاب وجده: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بين نخلة والطائف، فترصد لنا قريشاً، وتعلم لنا من أخبارهم. فلما نظر عبد الله في الكتاب قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة، ونهاني أن أستكره أحداً منكم. فمن كان يريد الشهادة فلينطلق، ومن كره الموت فليرجع. فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمضى ومضى معه الثمانية، وهم: أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وسعد بن أبي وقاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله التميمي، وسهيل بن بيضاء الفهري، وخالد بن البكير. فسلك بهم على الحجاز، حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران، أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما، فتخلفا في طلبه. ومضى عبد الله بمن بقي حتى نزل بنخلة. فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً، وفيها عمرو بن الحضرمي وجماعة. فلما): رآهم القوم هابوهم. فأشرف لهم عكاشة وكان قد حلق رأسه فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عمار لا بأس عليكم منهم. وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر رجب، فقالوا: والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في

(2/49)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 50
الشهر الحرام. وترددوا، ثم أجمعوا على قتلهم وأخذ تجارتهم، فرمى واقد ابن عبد الله عمرو بن الحضرمي فقتله، واستأسروا عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان. وأفلت نوفل بن عبد الله. وأقبل ابن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا المدينة. وعزلوا خمس ما غنموا للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزل القرآن كذلك. وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن الحضرمي، فنزلت: يسألونكم عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير الآية، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم الفداء في الأسيرين. فأما عثمان فمات بمكة كافراً، وأما الحكم فأسلم واستشهد ببئر معونة. وصرفت القبلة في رجب، أو قريباً منه.
(غزوة بدر الكبرى)
من السيرة لابن إسحاق، رواية البكائي. قال ابن إسحاق: سمع النبي صلى الله عليه وسلم أن سفيان بن حرب قد أقبل من الشام في عير وتجارة عظيمة، فيها ثلاثون أو أربعون رجلاً من قريش منهم: مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها. فانتدب الناس، فخف بعضهم، وثقل بعض، ظناً منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلقى حرباً. واستشعر أبو

(2/50)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 51
سفيان فجهز منذراً إلى قريش يستنفرهم إلى أموالهم. فأسرعوا الخروج، ولم يتخلف من أشرافهم أحد، إلا أن أبا لهب قد بعث مكانه العاص أخا أبي جهل. ولم يخرج أحد من بني عدي بن كعب. وكان أمية بن خلف شيخاً جسيماً فأجمع القعود. فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو في المسجد بمجمرة وبخور فوضعها بين يديه، وقال: أبا علي، استجمر فإنما أنت من النساء. قال: قبحك الله. فتجهز وخرج معهم. وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثامن رمضان، واستعمل على المدينة عمرو بن أم مكتوم على الصلاة. ثم رد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة. ودفع اللواء إلى مصعب بن): عمير. وكان أمام النبي صلى الله عليه وسلم رايتان سودوان إحداهما مع علي رضي الله عنه، والأخرى مع رجل أنصاري. وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ. فكان مع المسلمين سبعون بعيراً يعتقبونها، وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي، ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيراً. وكان أبو بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيراً. فلما قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الصفراء بعث اثنين يتجسسان أمر أبي سفيان. وأتاه الخبر بخروج نفير قريش، فاستشار الناس، فقالوا خيراً. وقال المقداد بن الأسود: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا

(2/51)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 52
نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم له خيراً ودعا له. وقال سعد بن معاذك يا رسول الله، والله لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله، وقال: سيروا وأبشروا، فإن ربي قد وعدني إحدى الطائفتين: إما العير وإما النفير. وسار حتى نزل قريباً من بدر. فلما أمسى بعث علياً والزبير وسعداً في نفر إلى بدر يلتمسون الخبر. فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم وأبو يسار من مواليهم، فأتوا بهما النبي صلى الله عليه وسلم. فسألوهما فقالا: نحن سقاة لقريش. فكره الصحابة هذا الخبر، ورجوا أن يكونوا سقاة للعير. فجعلوا يضربونهما، فإذا آلمهما الضرب قالا: نحن من عير أبي سفيان. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فلما سلم قال: إذا صدقا ضربتموها، وإذا كذبا تركتموهما. ثم قال: أخبراني أين قريش قالا: هم وراء هذا الكثيب. فسألهما: كم ينحرون كل يوم قالا: عشراً من الإبل أو تسعاً: فقال: القوم ما بين التسعمائة إلى الألف. وأما اللذان بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم يتجسسان، فأناخا بقرب ماء بدر واستقيا

(2/52)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 53
في شنهما. ومجدي بن عمرو بقربهما لم يفطنا به. فسمعا جاريتين من جواري الحي تقول إحداهما للأخرى: إنما نأتي العير غداً أو بعد غد، فأعمل لهم ثم أقضيك. فصرفهما مجدي، وكان عيناً لأبي سفيان. فرجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه. ولما قرب أبو سفيان من بدر تقدم وحده حتى أتى ماء بدر فقال لمجدي: هل أحسست أحداً فذكر له الراكبين. فأتى أبو سفيان): مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب. فرجع سريعاً فصرف العير عن طريقها، وأخذ طريق الساحل، وأرسل يخبر قريشاً أنه قد نجا فارجعوا. فأبى أبو جهل وقال: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر، ونقيم عليه ثلاثاً، فتهابنا العرب أبداً. ورجع الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة ببني زهرة كلهم، وكان فيهم مطاعاً. ثم نزلت قريش بالعدوة القصوى من الوادي. وسبق النبي صلى الله عليه وسلم إلى ماء بدر. ومنع قريشاً من السبق إلى الماء مطر عظيم لم يصب المسلمين منه إلا ما لبد لهم الأرض. فنزل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة. فقال الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة فقال: بل الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله، إن هذا ليس لك بمنزل، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء، فنشرب ولا يشربون. فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من

(2/53)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 54
رأيه، وفعل ما أشار به، وأمر بالقلب فغورت، وبنى حوضاً وملأه ماء. وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش يكون فيه، ومشى النبي صلى الله عليه وسلم على موضع الوقعة، فأرى أصحابه مصارع قريش، يقول: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان. قال: فما عدا واحد منهم مصرعه ذلك. ثم بعثت قريش فحزروا المسلمين. وكان فيهم فارسان: المقداد والزبير. وأراد عتبة بن ربيعة، وحكيم بن حزام قريشاً على الرجوع فأبوا. وكان الذي صمم على القتال أبو جهل. فارتحلوا من الغد قاصدين نحو الماء. فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلين قال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة. وقال صلى الله عليه وسلم وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل أحمر إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا. وكان خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري بعث إلى قريش، حين مروا به، بجزائر هدية، وقال: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا. فأرسلوا إليه: أن وصلتك رحم، قد قضيت الذي ينبغي، فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا ضعف، وإن كنا إنما نقاتل الله، كما يزعم): محمد،

(2/54)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 55
ما لأحد بالله من طاقة. فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم. فما شرب يومئذ رجل إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام. ثم إنه أسلم بعد، وكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني يوم بدر. ثم بعثت قريش عمير بن وهب الجمحي ليحزر المسلمين. فجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم فقال: ما رأيت شيئاً. ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع. قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم، فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم. فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر بخير إلى آخر الدهر قال: وما ذاك يا حكيم قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عامر بن الحضرمي. قال: قد فعلت. أنت علي بذلك، إنما هو حليفي فعلي عقله وما أصيب من ماله. فائت ابن الحنظلية والحنظلية أم أبي جهل فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس

(2/55)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 56
غيره. ثم قام عتبة خطيباً فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً. والله لئن صبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه الرجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه وابن خاله أو رجلاً من عشيرته. فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك، وإن كان غير ذلك أكفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون. قال حكيم: فأتيت أبا جهل فوجدته قد شد درعاً من جرابها فهو يهيؤها قلت: يا أبا الحكم، إن عتبة قد أرسلني بكذا وكذا. فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه. كلا، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد. وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى محمداً وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه قد تخوفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك. فقام عامر فكشف رأسه وصرخ: وا عمراه، وا عمراه. فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوسقوا على ما هم عليه من الشر. وأفسد على الناس رأي عتبة الذي دعاهم إليه.): فلما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ والله سحره، قال: سيعلم مصفر أسته من انتفخ سحره. ثم التمس عتبة بيضة لرأسه، فما وجد في الجيش

(2/56)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 57
بيضة تسعة من عظم هامته، فاعتجر على رأسه ببرد له. وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي وكان شرساً سيئ الخلق فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه. وأتاه فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فالتقيا فضربه حمزة فقطع ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً. ثم جاء إلى الحوض حتى اقتحم فيه ليبر يمينه، واتبعه حمزة فقتله في الحوض. ثم إن عتبة بن ربيعة خرج للمبارزة بين أخيه شيبة، وابنه الوليد بن عتبة، ودعوا للمبارزة، فخرج إليه عوف ومعوذ ابنا عفراء وآخر من الأنصار. فقالوا: من أنتم قالوا: من الأنصار. قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث، ويا حمزة، ويا علي. فلما دنوا منهم، قالوا: من أنتم فتسموا لهم. فقال: أكفاء كرام. فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله. وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله. واختلف عتبة وعبيدة بينهما ضربتين: كلاهما أثبت صاحبه. وكر علي وحمزة على عتبة فدففا عليه. واحتملا عبيدة إلى أصحابهما. ثم تزاحف الجمعان. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم وقال: انضحوهم عنكم بالنبل. وهو صلى الله عليه وسلم في العريش، معه أبو بكر. وذلك يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من رمضان. ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2/57)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 58
الصفوف بنفسه، ورجع إلى العريش ومعه أبو بكر فقط. فجعل يناشد ربه ويقول: يا رب إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد في الأرض. وأبو بكر يقول: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك. فإن الله منجز لك ما وعدك. ثم خفق صلى الله عليه وسلم، فانتبه وقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك النصر، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع. فرمي مهجع مولى عمر بسهم، فكان أول قتيل في سبيل الله. ثم رمي حارثة بن سراقة النجاري بسهم وهو يشرب من الحوض، فقتل. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس يحرضهم على القتال. فقاتل عمير ابن): الحمام حتى قتل. ثم قاتل عوف بن عفراء وهي أمه حتى قتل. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى المشركين بحفنة من الحصباء وقال: شاهت الوجوه. وقال لأصحابه: شدوا عليهم. فكانت الهزيمة، وقتل الله من قتل من صناديد الكفر: فقتل سبعون وأسر مثلهم. ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى العريش. وقام سعد بن معاذ على الباب بالسيف في نفر من الأنصار، يخافون على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هاشم بن الحارث فلا يقتله، ومن

(2/58)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 59
لقي العباس فلا يقتله فإنه إنما خرج مستكرهاً. فقال أبو حذيفة: أنقتل آباءنا وإخواننا ونترك العباس والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف. فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر: يا أبا حفص، أيضرب وجه عم رسول الله فقال عمر: دعني فلأضرب عنق هذا المنافق. فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا آمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفاً، إلا أن تكفرها عني الشهادة. فاستشهد يوم اليمامة. وكان أبو البختري أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام في نقض الصحيفة. فلقيه المجذر بن زياد البلوي حليف الأنصار، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك. فقال: وزميلي جنادة الليثي فقال المجذر: لا والله ما أمرنا إلا بك وحدك. فقال: لأموتن أنا وهو، ولا يتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصاً على الحياة. فاقتتلا، فقتله المجذر. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر، فآتيك به، فأبى إلا أن يقاتلني. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: كان أمية بن خلف صديقاً لي بمكة. قال فمررت به ومعي أدراع قد استلبتها، فقال لي: هل لك في، فأنا خير لك من الأدراع قلت: نعم، ها الله إذن. وطرحت

(2/59)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 60
الأدراع، فأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن يعني: من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن. ثم جئت أمشي بهما، فقال لي أمية: من الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره قلت: حمزة. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. فوالله إني لأقودهما، إذ رآه بلال وكان يعذب بلالاً بمكة، فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن): خلف لا نجوت إن نجا. قال: أتسمع يا بن السوداء ما يقول ثم صرخ بلال بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال: فأحاطوا بنا، وأنا أذب عنه. فأخلف رجل السيف، فضرب رجل ابنه فوقع، فصاح أمية صيحة عظيمة، فقلت: انج بنفسك، ولا نجاء، فوالله ما أغني عنك شيئاً. فهبروهما بأسيافهم. فكان يقول: رحم الله بلالاً، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري. وروى ابن عباس رضي الله عنهما، عن رجل من غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الدائرة على من تكون، فننتهب. فبينما نحن في الجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعت فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلاً يقول: أقدم حيزوم. فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت. رواه عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عمن حدثه، عن ابن عباس. وروى الذي بعده ابن حزم عمن حدثه من بني ساعدة عن أبي أسيد

(2/60)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 61
مالك بن ربيعة قال: لو كان معي بصري وكنت ببدر لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة. قال ابن إسحاق: فحدثني أبي، عن رجال، عن أبي داود المازني قال: إني لأتبع رجلاً من المشركين يوم بدر لأضربه بالسيف، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قتله غيري. وعن ابن عباس قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر. وأما أبو جهل بن هشام فاحتمى في مثل الحرجة وهو الشجر الملتف، وبقي أصحابه يقولون: أبو الحكم لا يوصل إليه. قال معاذ بن عمرو بن الجموح: فلما سمعتها جعلته من شأني، فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربت ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه. فوالله ما أشبهها حين طارت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين تضرب بها. فضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه. فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي. فلما آذتني وضعت عليها قدمي. ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها. قال: ثم عاش بعد ذلك إلى زمن عثمان. ثم مر بأبي جهل معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته، وتركه وبه رمق. وقاتل معوذ حتى قتل. وقتل أخوه عوف قبله. واسم أبيهما: الحارث بن

(2/61)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 62
رفاعة بن الحارث الزرقي.): ثم مر عبد الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتماسه، وقال فيما بلغنا: إن خفي عليكم في القتلى فانظروا إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت أنا وهو يوماً على مأدبة لعبد الله بن جدعان، ونحن غلامان وكنت أشف منه بيسير، فدفعته، فوقع على ركبته فجحش فيها. قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رمق، فوضعت رجلي على عنقه. وقد كان ضبث بي مرة بمكة، فآذاني ولكزني. فقلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله قال: وبماذا أخزاني، وهل فوق رجل قتلتموه أخبرني لمن الدائرة اليوم قلت: لله ولرسوله. قال لقد ارتقيت، يا رويعي الغنم مرتقى صعباً. قال فاحتززت رأسه وجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل. قال: الله الذي لا إله غيره قلت: نعم. وألقيت الرأس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. ثم أمر بالقتلى أن يطرحوا في قليب هناك. فطرحوا فيه إلا ما كان من أمية بن خلف، فإنه انتفخ في درعه فملأها، فذهبوا ليخرجوه فتزايل، فأقروه به، وألقوا عليه التراب فغيبوه.

(2/62)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 63
فلما ألقوا في القليب، وقف عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً. فقالوا: يا رسول الله أتنادي أقواماً قد جيفوا فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبو. وفي رواية: فناداهم في جوف الليل: يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام. فعدد من كان في القليب. زاد ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس. وعن أنس رضي الله عنه: لما سحب عتبة بن ربيعة إلى القليب نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه أبي حذيفة ابنه، فإذا هو كثيب متغير. فقال: لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء قال: لا والله ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف منه رأياً وحلماً، فكنت أرجو أن يسلم، فلما رأيت ما أصابه وما مات عليه أحزنني ذلك. فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال له خيراً. وكان الحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، وأبو قيس بن الوليد بن): المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه ابن الحجاج قد أسلموا. فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم حبسهم آباؤهم وعشائرهم، وفتنوهم عن الدين فافتتنوا نعوذ بالله من فتنة الدين ثم ساروا مع قومهم يوم

(2/63)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 64
بدر، فقتلوا جميعاً. وفيهم نزلت إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الآية. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: فينا أهل بدر نزلت الأنفال حين تنازعنا في الغنيمة وساءت فيها أخلاقنا. فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسوله. فقسمه بين المسلمين على السواء. ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة، وزيد بن حارثة، بشيرين إلى المدينة. قال أسامة: أتانا الخبر حين سوينا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبرها. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفني عليها مع عثمان. ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الأسارى فيهم: عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث. فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل. فلما أتى الروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بالفتح. فقال لهم سلمة بن سلامة: ما الذي تهنئوننا به فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبدن المعقلة فنحرناها. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أي ابن أخي، أولئك الملأ. يعني الأشراف والرؤساء. ثم قتل النضر بن الحارث العبدري بالصفراء. وقتل بعرق الظبية عقبة بن أبي معيط. فقال عقبة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله: من للصبية يا

(2/64)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 65
محمد قال: النار. فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. وقيل: علي رضي الله عنه. وقال حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن الشعبي قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة قال: أتقتلني يا محمد من بين قريش قال: نعم، أتدرون ما صنع هذا بي جاء وأنا ساجد خلف المقام فوضع رجله على عنقي وغمزها، فما رفع حتى ظننت أن عيني ستندران. وجاء مرة أخرى بسلى شاة فألقاه على رأسي وأنا ساجد، فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي. واستشهد يوم بدر: مهجع، وذو الشمالين عمير بن عبد عمرو الخزاعي، وعاقل بن البكير، وصفوان بن بيضاء، وعمير بن أبي وقاص أخو سعد، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف المطلبي الذي): قطع رجله عتبة، مات بعد يومين بالصفراء. وهؤلاء من المهاجرين. وعمير بن الحمام، وابنا عفراء، وحارثة بن سراقة، ويزيد بن الحارث فسحم، ورافع بن المعلي الزرقي، وسعد بن خيثمة الأوسي، ومبشر بن عبد المنذر أخو أبي لبابة. فالجملة أربعة عشر رجلاً.

(2/65)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 66
وقتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وهما ابنا أربعين ومائة سنة. وكان شيبة أكبر بثلاث سنوات. قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش: الحيسمان بن عبد الله الخزاعي. فقالوا: ما وراءك قال: قتل عقبة، وشيبة، وأبو جهل، وأمية، وزمعة بن الأسود، ونبيه، ومنبه، وأبو البختري ابن هشام. فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا فاسألوه عني: فقالوا: ما فعل صفوان قال: ها هو ذاك جالس، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا. وعن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت غلاماً للعباس وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس وأسلمت. وكان العباس يهاب قومه ويكره الخلاف ويكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه. وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر بمصاب قريش كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزاً، وكنت رجلاً ضعيفاً، وكنت أنحت الأقداح في حجرة زمزم. فإني لجالس أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل، وقد سرنا الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر، حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري. فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم. فقال أبو لهب: إلي، فعندك الخبر. قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال: يا بن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا

(2/66)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 67
كيف شاءوا ويأسروننا، وأيم الله ما لمت الناس، لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئاً ولا يقوم لها شيء. قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة. قال: وثاورته، فحملني وضرب بي الأرض. ثم برك علي يضربني، وكنت رجلاً ضعيفاً. فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة، فلقيت في رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده فقام مولياً): ذليلاً. فوالله ما عاش إلا سبع ليال، حتى رماه الله بالعدسة فقتلته. وكانت قريش تتقي هذه العدسة كما يتقي الطاعون. حتى قال رجل من قريش لا بنيه: ويحكما أما تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته لا تدفنانه فقالا: نخشى عدوى هذه القرحة. فقال: انطلقا فأنا أعينكما فوالله ما غسلوه إلا قذفاً بالماء عليه من بعيد. ثم احتملوه إلى أعلى مكة، فأسندوه إلى جدار، ثم رضموا عليه الحجارة. رواه محمد بن إسحاق من طريق يونس بن بكير عنه بمعناه. قال:

(2/67)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 68
حدثني الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: حدثني أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: ناحت قريش على قتلاها ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا بكم. وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة، وعقيل، والحارث. فكان يحب أن يبكي عليهم. قال ابن إسحاق: ثم بعثت قريش في فداء الأسارى. فقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو. فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أنزع ثنيتي سهيل فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً فقال: لا أمثل به فيمثل الله بي، وعسى أن يقوم مقاماً لا تذمه. فقام في أهل مكة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وحسن إسلامه. وانسل المطلب بن أبي وداعة، ففدى أباه بأربعة آلاف درهم، وانطلق به. وبعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء زوجها أبي العاص بن الربيع ابن عبد شمسن بمال. وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص. فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها. قالوا: نعم، يا رسول الله. وأطلقوه.

(2/68)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 69
فأخذ عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيل زينب، وكانت من المستضعفين من النساء. واستكتمه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وبعث زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار، فقال: كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحبانها حتى تأتياني بها. وذلك بعد بدر بشهر.): فلما قدم أبو العاص مكة أمرهم باللحوق بأبيها، فتجهزت. فقدم أخو زوجها كنانة بن الربيع بعيراً، فركبته وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهاراً يقودها. فتحدث بذلك رجال، فخرجوا في طلبها. فبرك كنانة ونثر كنانته لما أدركوها بذي طوى، فروعها هبار بن الأسود بالرمح. فقال كنانة: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهماً. فتكركر الناس عنه. وأتى أبو سفيان في أجلة من قريش، فقال: أيها الرجل كف عنا نبلك حتى نكلمك. فكف. فوقف عليه أبو سفيان فقال: إنك لم تصب. خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت بابنته إليه علانية أن ذلك على ذلك أصابنا، وأن ذلك منا وهن وضعف، ولعمري ما بنا بحبسها عن أبيها من حاجة، ولكن ارجع بالمرأة، حتى إذا هدأت الأصوات، وتحدث الناس أنا رددناها، فسلها سراً وألحقها بأبيها. قال: ففعل. ثم خرج بها ليلاً، بعد ليال، فسلمها إلى زيد وصاحبه. فقدم بها على النبي صلى الله عليه وسلم فأقامت عنده.

(2/69)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 70
فلما كان قبل الفتح، خرج أبو العاص تاجراً إلى الشام بماله، وبمال كثير لقريش. فلما رجع لقيته سرية فأصابوا ما معه، وأعجزهم هارباً، فقدموا بما أصابوا. وأقبل أبو العاص في الليل، حتى دخل على زينب، فاستجار بها فأجارته، وجاء في طلب ماله. فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصبح فكبر وكبر الناس معه، صرخت زينب من صفة النساء: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. وبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى السرية الذين أصابوا ماله فقال: إن هذا الرجل منا حين قد علمتم، وقد أصبتم له مالاً، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، فإنا نحب ذلك. وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحق به. قالوا: بل نرده. فردوه كله. ثم ذهب به إلى مكة، فأدى إلى كل ذي مال ماله. ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد عندي منكم مال قالوا: لا، فجزاك الله خيراً، فقد وجدناه وفياً كريماً. قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أكل أموالكم. ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم زينب على النكاح الأول، لم يحدث شيئاً. ومن الأسارى: الوليد بن الوليد بن المغيرة المخزومي، أسره عبد الله ابن جحش، وقيل: سليط): المازني. وقدم في فدائه أخواه: خالد بن الوليد، وهشام بن الوليد، فافتكاه

(2/70)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 71
بأربعة آلاف درهم، وذهبا به. فلما افتدي أسلم، فقيل له في ذلك فقال: كرهت أن تظنوا بي أني جزعت من الأسر. فحبسوه بمكة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت، ثم هرب ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية. وتوفي قديماً لعل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فبكته أم سلمة، وهي بنت عمه:
(يا عين فابكي للولي.......... د بن الوليد بن المغيره)

(قد كان غيثاً في السني.......... ن ورحمة فينا وميره)

(ضخم الدسيعة ماجداً.......... يسمو إلى طلب الوتيره)

(مثل الوليد بن الوليد.......... أبي الوليد كفى العشيره)
ومن الأسرى: أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي. كان محتاجاً ذات بنات. قال للنبي صلى الله عليه وسلم: قد عرفت أني لا مال لي، وأني ذو حاجة وعيال، فامنن علي. فمن عليه، وشرط عليه أن لا يظاهر عليه أحداً. وقال عروة بن الزبير: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية، بعد مصاب أهل بدر بيسير، في الحجر. وكان عمير من شياطين

(2/71)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 72
قريش، وممن يؤذي المسلمين. وكان ابنه وهيب في الأسرى. فذكر أصحاب القليب ومصابهم. فقال صفوان: والله إن في العيش بعدهم لخير فقال عمير: صدقت، والله لولا دين علي ليس عندي له قضاء، وعيال أخشى عليهم، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي فيهم علة ابني أسير في أيديهم. فاغتنمها صفوان فقال: علي دينك وعيالك. فال: فاكتم علي. ثم شحذ سيفه وسمه، ومضى إلى المدينة. فبينا عمر في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، إذ نظر عمر رضي الله عنه إلى عمير حين أناخ على باب المسجد متوشحاً بالسيف. فقال: هذا الكلب عدو الله عمير، وهو الذي حزرنا يوم بدر. ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا عمير. قال: أدخله علي. فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه، فلببه به، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذروا عليه هذا الخبيث. ثم دخل به فقال: أرسله يا عمر، أدن يا عمير. فدنا، ثم قال: أنعموا صباحاً، قال: فما جاء بك قال:): جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم. قال: فما بال السيف في عنقك قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت شيئاً قال: أصدقني ما الذي جئت له قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بلى، قعدت أنت وصفوان في الحجر. وقص له ما قالا. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله. قد كنا يا رسول لله نكذبك بما تأتينا به من خبر السماء، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان فوالله إني

(2/72)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 73
لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن وأطلقوا له أسيره. ففعلوا. ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهداً على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعو إلى الله ورسوله، لعل الله أن يهديهم. وإلا آذيتهم في دينهم. فأذن له ولحق بمكة. وكان صفوان يعد قريشاً يقول: ابشروا بوقعة تأتيكم الآن تنسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكباً فأخبره عن إسلامه، فحلف لا يكلمه أبداً ولا ينفعه بشيء أبداً. ثم أقام يدعو إلى الإسلام، ويؤذيهم. فأسلم على يديه ناس كثير.
(بقية أحاديث غزوة بدر)
وهي كالشرح لما قدمناه فيها: قال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال: انطلق سعد بن معاذ معتمراً: فنزل على أمية ابن خلف وكان أمية ينزل عليه إذا سافر إلى الشام فقال لسعد: انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس فطف. قال: فبينا هو يطوف إذ أتاه أبو جهل فقال: من أنت: قال: أتطوف آمناً وقد أويتم محمداً وأصحابه، وتلاحيا. فقال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي. فقال: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن عليك متجرك بالشام. وجعل أمية يقول: لا ترفع صوتك. فغضب وقال: دعنا منك، فإني سمعت محمداً صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك قال: إياي قال: نعم.

(2/73)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 74
قال: والله ما يكذب محمد. فكاد أن يحدث. فرجع فقال لامرأته: أتعلمين ما قال أخي اليثربي قالت: وما قال قال: زعم أن محمداً يزعم أنه قاتلي. قالت: فوالله ما يكذب. فلما خرجوا لبدر وجاء الصريخ قالت له امرأته: أما علمت ما قال اليثربي. قال: فإني إذن لا أخرج. فقال أبو جهل: إنك من أشراف أهل الوادي فسر معنا يوماً أو يومين. فسار معهم، فقتل. أخرجه البخاري.): وأخرجه أيضاً من حديث إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي، عن أبيه، عن جده. وفيه، فلما استنفر أبو جهل الناس وقال: أدركوا عيركم كره أمية أن يخرج. فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس تخلفت وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك. فلم يزل به حتى قال: أما إذ غلبتني فوالله لأشترين أجود بعير بمكة. ثم قال: يا أم صفوان جهزيني فما أريد أن أجوز معهم إلا قريباً. فلما خرج أخذ لا ينزل منزلاً إلا عقل بعيره. فلم يزل بذاك حتى قتله الله ببدر. وذكر الزهري قال: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن خرج من أصحابه يريدون عير قريش التي قدم بها أبو سفيان من الشام، حتى جمع الله بين الفئتين من غير ميعاد. قال الله تعالى، إذا أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد.

(2/74)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 75
(رؤيا عاتكة)
قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني حسين بن عبد الله بن عبيدة الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة قال: رأت عاتكة بنت عبد المطلب فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو الغفاري على قريش مكة بثلاث ليال، رؤيا، فأصبحت عاتكة فأعظمتها، فبعثت إلى أخيها العباس فقالت له: يا أخي لقد رأيت الليلة رؤيا ليدخلن منها على قومك شر وبلاء. فقال: وما هي فقالت: رأيت فيما يرى النائم أن رجلاً أقبل على بعير له فوقف بالأبطح فقال: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، فاجتمعوا إليه، ثم أري بعيره دخل به المسجد واجتمع الناس إليه. ثم مثل به بعيره فإذا هو على رأس الكعبة، فقال: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث. ثم أري بعيره مثل به على رأس أبي قبيس، فقال: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث. ثم أخذ صخرة فأرسلها من رأس الجبل فأقبلت تهوي، حتى إذا

(2/75)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 76
كانت في أسفله ارفضت فما بقيت دار من دور مكة ولا بيت إلا دخل فيه بعضها. فقال العباس: والله إن هذه لرؤيا، فاكتميها. فقالت: وأنت فاكتمها، لئن بلغت هذه قريشاً ليؤذننا. فخرج العباس من عندها، فلقي الوليد بن عتبة وكان له صديقاً فذكرها له واستكتمه.): فذكرها الوليد لأبيه، فتحدث بها، ففشا الحديث. فقال العباس: والله إني لغاد إلى مكة لأطوف بها، فإذا أبو جهل في نفر يتحدثون عن رؤيا عاتكة، فقال أبو جهل: يا أبا الفضل تعال. فجلست إليه فقال: متى حدثت هذه النبية فيكم ما رضيتم يا بني عبد المطلب أن تنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، سنتربص بكم هذه الثلاث التي ذكرت عاتكة، فإن كان حقاً فسيكون، وإلا كتبنا عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب. قال: فوالله ما كان مني إليه من كبير، إلا أني أنكرت ما قلت، وقلت: ما رأت شيئاً ولا سمعت بهذا، فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقلن: صبرتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في

(2/76)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 77
رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، فلم يكن عندك في ذلك غير. فقلت: قد والله صدقتن وما كان عندي في ذلك من غير إلا أني أنكرت. ولأتعرضن له، فإن عاد لأكفيكنه. فغدوت في اليوم الثالث أتعرض له ليقول شيئاً فأشاتمه. فوالله إني لمقبل نحوه، وكان رجلاً حديد الوجه، حديد النظر، حديد اللسان، إذ ولى نحو باب المسجد يشتد. فقلت في نفسي: اللهم العنه، كل هذا فرقاً أن أشاتمه. وإذا هو قد سمع ما لم أسمع، صوت ضمضم ابن عمرو الغفاري، وهو واقف على بعيره بالأبطح قد حول رحله وشق قميصه وجدع بعيره يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان، قد عرض لها محمد، فالغوث الغوث فشغله ذلك عني، وشغلني عنه. فلم يكن إلا الجهاز حتى خرجنا، فأصاب قريشاً ما أصابها يوم بدر. فقالت عاتكة.
(ألم تكن الرؤيا بحق وجاءكم.......... بتصديقها فل من القوم هارب)

(2/77)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 78
(فقلتم ولم أكذب: كذبت وإنما.......... يكذبنا بالصدق من هو كاذب)
وقال أبو إسحاق: سمعت البراء يقول: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر. وكنا أصحاب محمد نتحدث أن عدة أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر، كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جازه إلا مؤمن. أخرجه البخاري. وقال: سمعت البراء يقول: كان المهاجرون يوم بدر نيفاً وثمانين. أخرجه البخاري. وقال ابن لهيعة: حدثني يزيد بن أبي حبيب، حدثني أسلم أبو عمران أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: هل لكم أن نخرج فنلقى العير لعل الله يغنمنا قلنا: نعم. فخرجنا، فلما سرنا يوماً أو يومين أمرنا أن نتعاد، ففعلا،): فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، فأخبرناه بعدتنا، فسر بذلك وحمد الله، وقال: عدة أصحاب طالوت. وقال ابن وهب: حدثني حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2/78)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 79
خرج يوم بدر بثلاثمائة وخمسة عشر من المقاتلة كما خرج طالوت فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج فقال: اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم. ففتح الله لهم، فانقلبوا وما منهم رجل إلى وقد رجع بجمل أو جملين، واكتسوا وشبعوا. وقال أبو إسحاق عن البراء قال: لم يكن يوم بدر فارس غير المقداد. وقال أبو إسحاق عن حارثة بن مضرب: إن علياً رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما منا أحد إلا وهو نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح، ولقد رأيتنا وما منا أحد فارس يومئذ إلا المقداد. رواه شعبة عنه. ومن وجه آخر عن علي، قال: ما كان معنا إلا فرسان. فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود. وعن إسماعيل بن أبي خالد، عن البهي قال: كان يوم بدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فارسان، الزبير على الميمنة، والمقداد على الميسرة. وقال عروة: كان على الزبير يوم بدر عمامة صفراء، فنزل جبريل على سيما الزبير. وقال حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: كنا يوم بدر نتعاقب ثلاثة على بعير، فكان علي وأبو لبابة زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2/79)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 80
فكانت إذا حانث عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولان له: اركب حتى نمشي. فيقول: إني لست بأغنى عن الأجر منكما، ولا أنتما بأقوى على المشي مني. المشهور عند أهل المغازي: مرثد بن أبي مرثد الغنوي بدل أبي لبابة. فإن أبا لبابة رده النبي صلى الله عليه وسلم واستخلفه على المدينة. وقال معمر: سمعت الزهري يقول: لم يشهد بدراً إلا قرشي أو أنصاري أو حليف لهما. وعن الحسن، قال: كان فيهم اثنا عشر من الموالي. وقال عمرو العنقزي، أنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي رضي الله عنه، قال: أخذنا رجلين يوم بدر. أحدهما عربي والآخر مولى، فأفلت العربي وأخذنا): المولى مولى لعقبة بن أبي معيط فقلنا: كم هم قال: كثير عددهم شديد بأسهم. فجعلنا نضربه. حتى انتهينا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يخبره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم ينحرون من الجزور فقال: في كل يوم عشراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم ألف، لكل جزور مائة. وقال يونس، عن ابن إسحاق، ثنا عبد الله بن أبي بكر، أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا نبني لك عريشاً، فتكون فيه، وننيخ لك ركائبك ونلقى عدونا، فإذا أظهرنا الله عليهم فذاك، وإن تكن الأخرى فتجلس على ركائبك وتلحق بمن وراءنا من قومنا. فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد لك حباً منهم، ولو علموا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك،

(2/80)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 81
ويوادونك وينصرونك. فأثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له. فبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش، فكان فيه وأبو بكر ما معهما غيرهما. وقال خ: ثنا أبو نعيم، ثنا إسرائيل، عن مخارق، عن طارق بن شهاب، سمع ابن مسعود يقول: شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به: أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه لذلك، وسره. وقال م د حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب أصحابه فانطلق إلى بدر، فإذا هم بروايا قريش، فيها عبد أسود لبني الحجاج، فأخذه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يسألونه: أين أبو سفيان فيقول: والله مالي بشيء من أمره علم، ولكن هذه قريش قد جاءت، فيهم أبو جهل، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأمية بن خلف. قال: فإذا قال لهم ذلك ضربوه. فيقول: دعوني دعوني أخبركم. فإذا تركوه قال

(2/81)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 82
كقوله سواء. والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يسمع ذلك. فلما انصرف قال: والذي نفسي بيده إنكم بيده إنكم لتضربونه إذا صدقكم وتدعونه إلا كذبكم. هذه قريش قد أقبلت لتمنع أبا سفيان. قال أنس رضي الله عنه: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مصرع فلان غداً ووضع يده على الأرض. وهذا مصرع فلان ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان، ووضع يده على الأرض.): قال: والذي نفسي بيده ما جاوز أحد منهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بأرجلهم، فسحبوا فألقوا في قليب بدر. صحيح. وقال حماد أيضاً، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان. فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه. فقام سعد بن عبادة كذا قال، والمعروف سعد بن معاذ فقال: إيانا تريد يا رسول الله والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها. ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا. قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً. وساق الحديث المذكور قبل هذا. أخرجه مسلم. ورواه أيضاً من حديث سليمان بن المغيرة أخصر منه عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه: حدثنا عمر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا عن مصارع

(2/82)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 83
القوم بالأمس: هذا مصرع فلان إن شاء الله غداً، هذا مصرع فلان إن شاء الله غداً. فوالذي بعثه بالحق، ما أخطأوا تلك الحدود، وجعلوا يصرعون حولها. ثم ألقوا في القليب. وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً. فقلت: يا رسول الله أتكلم أجساداً لا أرواح فيها فقال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يردوا علي. وقال شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة، عن علي رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة يصلي ويبكي، حتى أصبح. وقال أبو علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي: حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، أخبرني إسماعيل بن عون بن علي بن عبيد الله بن أبي رافع، عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ين أبي طالب، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر قاتلت شيئاً من قتال، ثم جئت لأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل، فجئت فإذا هو ساجد يقول: يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم لا يزيد عليها. فرجعت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول أيضاً. غريب.): وقال الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: ما سمعت مناشداً ينشد حقاً أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر جعل يقول: اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا

(2/83)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 84
تعبد، ثم التفت وكأن شق وجهه القمر فقال: كأنما أنظر إلى مصارع القوم عشية بدر. وقال خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبته يوم بدر: اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً. فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك وهو في الدرع. فخرج وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر أخرجه البخاري. وقال عكرمة بن عمار: حدثني أبو زميل سماك الحنفي، حدثني ابن عباس، عن عمر قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً. فاستقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه، ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه فقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله عز وجل إذا تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين فأمده الله بالملائكة. فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر

(2/84)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 85
رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم. إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً، فنظر إليه فإذا و قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع. فجاء الأنصاري، فحدث ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت، ذاك من مدد السماء الثالثة. فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين. أخرجه مسلم. وقال سلامة بن روح، عن عقيل، حدثني ابن شهاب قال: قال أبو حازم عن سهل بن سعد قال: قال أبو أسيد الساعدي بعدما ذهب بصره: يا ابن أخي، والله لو كنت أنا وأنت ببدر، ثم أطلق الله لي بصري لأريتك الشعب الذي خرجت علينا منه الملائكة، غير شك ولا تمار. وقال الواقدي: ثنا ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس. وحدثنا): موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا بكر أبشر هذا جبريل معتجر بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء والأرض. فلما نزل إلى الأرض،

(2/85)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 86
تغيب عني ساعة ثم طلع، على ثناياه النقع يقول: أتاك نصر الله إذ دعوته. وقال عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: هذا جبريل آخذ رأس فرسه، عليه أداة الحرب. أخرجه البخاري. وقال موسى بن يعقوب الزمعي: حدثني أبو الحويرث، حدثني محمد ابن جبير بن مطعم أنه سمع علياً رضي الله عنه، خطب الناس فقال: بينما أنا أمتح من قليب بدر إذ جاءت ريح شديدة لم أر مثلها ثم ذهبت، ثم جاءت ريح شديدة كالتي قبلها. فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة، وكانت الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة. وجاءت ريح ثالثة كان فيها إسرائيل في ألف. فلما هزم الله أعداءه حملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه، فجرت بي، فوقعت على عقبي، فدعوت الله فأمسكت. فلما استويت عليه طعنت بيدي هذه في القوم حتى اختضب هذا، وأشار إلى إبطه. غريب. وموسى فيه ضعف. وقوله: حملني على فرسه لا

(2/86)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 87
يعلم إلا من هذا الوجه. وقال يحيى بن بكير. حدثني محمد بن يحيى بن زكريا الحميري، ثنا العلاء بن كثير، حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، حدثني أبو أمامة بن سهل قال: قال أبي: يا بني لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف. وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاً قد أرسلوها في ظهورهم ويوم حنين عمائم حمراً. ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر. وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عدداً ومدداً. وجاء في قوله تعالى: إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا وذكر الواقدي، عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة حدثه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان الملك يتصور في صورة من يعرفون من الناس، يثبتونهم، فيقول: إني قد دنوت منهم فسمعتهم يقولون: لو حملوا علينا ما ثبتنا.

(2/87)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 88
إلى غير ذلك من القول. وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة، عن علي رضي الله عنه قال: لما قدمنا المدينة،): أصابنا من ثمارها فاجتويناها وأصابنا بها وعك. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخبر عن بدر. فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا، سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر وهي بئر فسبقنا المشركين إليها. فوجدنا فيها رجلين: رجلاً من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط. فأما القرشي فانفلت، وأما مولى عقبة فأخذناه فجعلنا نقول له: كم القوم فيقول: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم. فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه. حتى انتهوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له كم القوم قال: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم. فجهد أن يخبره كم هم فأبى. ثم سأله: كم ينحرون كل يوم من الجزور فقال: عشرة. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: القوم ألف، كل جزور لمائة وتبعها. ثم إنه أصابنا من الليل طش من مطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها. وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض. فلما طلع الفجر نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة. فجاء الناس من تحت الشجر والحجف فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحض على القتال. ثم قال: إن جمع قريش عند

(2/88)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 89
هذه الضلع الحمراء من الجبل. فلما دنا القوم منا وصاففناهم إذا رجل مهم يسير في القوم على جمل أحمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي نا لي حمزة وكان أقربهم من المشركين من صاحب الجمل الأحمر وماذا يقول لهم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن يك في القوم أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر، فجاء حمزة فقال: هو عتبة بن ربيعة، وهو ينهى عن القتال ويقول: يا قوم إني أرى أقواماً مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير. يا قوم اعصبوها اليوم برأسي وقولوا جبن عتبة، وقد تعلمون أني لست بأجبنكم. فسمع بذلك أبو جهل فقال: أنت تقول هذا والله لو غيرك يقول هذا لأعضضته. قد ملأت رئتك جوفك رعباً، فقال: إياي تعني يا مصفر أسته ستعلم اليوم أينا أجبن فبرز عتبة وابنه الوليد وأخوه شيبة. فقال: من يبارز فخرج من الأنصار شببة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن يبارزنا من بني عمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا علي، ثم يا حمزة، قم يا عبيدة بن الحارث. فقتل الله عتبة، وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة. وجرح

(2/89)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 90
عبيدة. فقتلنا منهم سبعين وأسرنا سبعين.): فجاء رجل من الأنصار قصير برجل من بني هاشم أسيراً فقال الرجل: إن هذا والله ما أسرني، ولقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهاً، على فرس أبلق، ما أراه في القوم. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله. فقال: اسكت، فقد أيدك الله بملك كريم. قال: فأسر من بني عبد المطلب: العباس، وعقيل، ونوفل بن الحارث. وقال إسحاق بن منصور السلولي: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لقد قلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين قال: أراهم مائة. فأسرنا رجلاً فقلت: كم كنتم قال: ألفاً. وقال سلميان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض. قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله عرضها السموات والأرض فقال: نعم. قال: بخ بخ قال: ما يحملك على قولك بخ بخ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها. فأخرج تميرات من قرنه فجعل يأكل منها، ثم قال:

(2/90)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 91
لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. فرمى بهن، ثم قاتل حتى قتل. أخرجه مسلم. وقال عبد الرحمن بن الغسيل، عن حمزة بن أبي أسيد، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اصطففنا يوم بدر: إذا أكثبوكم يعني غشوكم، فارموهم بالنبل، واستبقوا نبلكم. أخرجه البخاري. وروي عمر بن عبد الله بن عروة، عن عروة بن الزبير قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعار المهاجرين يوم بدر: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله. وسمى خيله: خيل الله. أخبرنا أبو محمد عبد الخالق بن عبد السلام، وابنة عمه ست الأهل بنت علوان، سنة ثلاث وتسعين وآخرون قالوا: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الفقيه، أنبأتنا شهدة بنت أحمد، أنا الحسين بن طلحة، أنا أبو عمر عبد الواحد بن مهدي، ثنا الحسين بن إٍ سماعيل، ثنا محمود بن خداش، ثنا هشيم، أنبأنا أبو هاشم عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر رضي الله عنه يقسم قسماً: هذان خصمان اختصموا في ربهم

(2/91)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 92
إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة.): أخرجه البخاري عن يعقوب الدورقي وغيره. ومسلم عن عمرو بن زرارة، عن هشيم، عن أبي هاشم يحيى بن دينار الرماني الواسطي، عن أبي مجلز لاحق بن حميد السدوسي البصري. وهو من الأبدال العوالي. وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي المطلبي، أمه ثقفية، وكان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، أسلم هو وأبو سلمة بن عبد الأسد وعثمان بن مظعون في وقت. وهاجر هو وأخواه الطفيل والحصين. وكان عبيدة كبير المنزلة عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مربوعاً مليحاً، توفي بالصفراء. وهو الذي بارز عتبة بن ربيعة، فاختلفا ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، كما تقدم. وقد جهزه النبي صلى الله عليه وسلم في ستين راكباً من المهاجرين أمره عليهم فكان أول لواء عقده النبي صلى الله عليه وسلم لواء عبيدة. فالتقى بقريش وعليهم أبو سفيان عند ثنية المرة، فكان أول قتال في الإسلام. قاله محمد بن إسحاق.

(2/92)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 93
وقال ابن إسحاق وغيره عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير أن المستفتح يوم بدر أبو جهل. قال لما التقى الجمعان: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف، فأحنه الغداة. فقتل ففيه أنزلت: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح. وقال معاذ بن معاذ: ثنا شعبة، عن عبد الحميد صاحب الزيادي، سمع أنساً يقول: قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلت: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون متفق عليه. وعن ابن عباس في قوله: وما له ألا يعذبهم الله، قال: يوم بدر بالسيف. قال عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عنه. وبه عنه في قوله: وإذا يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم قال: أقبلت عير أهل مكة تريد الشام كذا قال فبلغ أهل المدينة ذلك، فخرجوا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون العير. فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا السير، فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين.

(2/93)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 94
وكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم، وأيسر شوكة وأحضر مغنماً. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد القوم، فكره المسلمون مسيرهم لشوكة القوم، فنزل): رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وبينهم وبين الماء رملة دعصة، فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم القنط يوسوسهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم كذا. فأنزل الله عليهم مطراً شديداً، فشرب المسلمون وتطهروا. فأذهب الله عنهم رجز الشيطان. وصار الرمل يعني ملبداً. وأمدهم الله بألف من الملائكة. وجاء إبليس في جند من الشياطين، معه رايته في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم فلما اصطف القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره. ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: يا رب إنك إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً. فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب. فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم. فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه، فولوا مدبرين. وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين نزع يده وولى مدبراً وشيعته. فقال الرجل: يا سراقة، أما زعمت أنك لنا جار قال: إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله.

(2/94)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 95
وقال يوسف بن الماجشون، أنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جده، قال: إني لواقف يوم برد في الصف، فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما. فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما. فغمزني أحدهما فقال: يا عم أتعرف أبا جهل قلت: نعم، وما حاجتك إليه قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده إن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. فتعجب لذلك. فغمزني الآخر فقال لي مثلها. فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس، فقلت: ألا تريان هذا صاحبكما الذي تسألان عنه. فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه. ثم انصرفا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه. فقال: أيكما قتله فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: هل مسحتما سيفيكما قالا: لا. قال: فنظر في السيفين، فقال، كلاهما قتله. وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو، والآخر معاذ بن عفراء. متفق عليه. وقال زهير بن معاوية: حدثنا سليمان التيمي، حدثني أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ينظر ما صنع أبو جهل فانطلق ابن

(2/95)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 96
مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد. قال: أنت أبو جهل فأخذ بلحيته. فقال: هل فوق رجل قتلتموه، أو قتله قومه): أخرجه خ م. وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن عبد الله أنه أتى أبا جهل فقال: قد أخزاك الله. فقال: هل أعمد من رجل قتلتموه أخرجه البخاري. وقال عثام بن علي: ثنا الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: انتهيت إلى أبي جهل وهو صريع، وعليه بيضة، ومعه سيف جيد، ومعي سيف رث. فجعلت أنقف رأسه بسيفي، وأذكر نقفاً كان ينقف رأسي بمكة، حتى ضعفت يدي، فأخذت سيفه. فرفع رأسه فقال: على من كانت الدبرة، لنا أو علينا ألست رويعينا بمكة قال: فقتلته. ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: قتلت أبا جهل. فقال: الله الذي لا إله إلا هو فاستحلفني ثلاث مرار. ثم قام معي إليهم، فدعا عليهم. وروي نحوه عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق. وفيه: فاستحلفني وقال: الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق فأرنيه. فانطلقت فأريته. فقال: هذا فرعون هذه الأمة.

(2/96)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 97
وروي عن أبي إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتله خر ساجداً. وقال الواقدي: وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصرع ابني عفراء فقال: يرحم الله ابني عفراء، فهما شركاء في قتل فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر. فقيل: يا رسول الله، ومن قتله معهما قال: الملائكة، وابن مسعود قد شرك في قتله. وقال أبو نعيم: ثنا سلمة بن رجاء، عن الشعثاء امرأة من بني أسد، قالت: دخلت على عبد الله بن أبي أوفى، فرأيته صلى الضحى ركعتين، فقالت له امرأته: إنك صليت ركعتين. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ركعتين حين بشر بالفتح، وحين جيء برأس أبي جهل. وقال مجالد، عن الشعبي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني مررت ببدر، فرأيت رجلاً يخرج من الأرض، فيضربه رجل بمقمعة حتى يغيب في الأرض، ثم يخرج، فيفعل به مثل ذلك مراراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أبو جهل بن هشام يعذب إلى يوم القيامة. وقال خ م من حديث ابن أبي عروبة، عن قتادة قال: ذكر لنا أنس رضي الله عنه، عن أبي): طلحة أن رسول اله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث. وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال. فلما كان ببدر اليوم الثالث، أمر براحلته فشد عليها، ثم مشى واتبعه أصحابه،

(2/97)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 98
فقالوا: ما نراه إلا نطلق لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً فقال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها فقال: والذي نفسي بيده ما أنت بأسمع لما أقول منهم. قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندامة. صحيح. وقال هشام، عن أبيه، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر فقال: إنهم ليسمعون ما أقول. قال عروة: فبلغ عائشة فقالت: ليس هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال: إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق. إنهم قد تبوءوا مقاعدهم من جهنم. إن الله يقول: إنك لا تسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير أخرجه البخاري. ما روت عائشة لا ينافي ما روي ابن عمر وغيره، فإن علمهم لا يمنع من سماعهم قوله عليه الصلاة والسلام، وأما أن لا تسمع الموتى،

(2/98)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 99
فحق لأن الله أحياهم ذلك الوقت كما يحيي الميت لسؤال منكر ونكير. وقال عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله: بدلوا نعمة الله كفراً قال: هم كفار قريش. وأحلوا قومهم دار البوار قال: النار يوم بدر. أخرجه البخاري. وقال إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من القتلى قيل له: عليك العير ليس دونها شيء. فناداه العباس وهو في الوثاق: إنه لا يصلح لك. قال: لم قال: لأن الله عز وجل وعدك إحدى الطائفتين، وقد أنجز لك ما وعدك. هذا إسناد صحيح، ورواه جعفر بن محمد بن شاكر، عن أبي نعيم، عنه. وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني خبيب بن عبد الرحمن قال: ضرب خبيب بن): عدي يوم بدر فمال شقه، فتفل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأمه ورده، فانطبق. أحمد بن الأزهر: ثنا عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني، عن أنس أو غيره قال: شهد عمير بن وهب الجمحي بدراً

(2/99)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 100
كافراً، وكان في القتلى. فمر به رجل فوضع سيف في بطنه، فخرج من ظهره. فلما برد عليه الليل لحق بمكة فصح. فاجتمع هو وصفوان بن أمية فقال: لولا عيالي وديني لكنت أقتل محمداً. فقال صفوان: وكيف تقتله قال: أنا رجل جريء الصدر جواد لا ألحق، فأضربه وألحق بالجبل فلا أدرك. قال: عيالك في عيالي ودينك علي. فانطلق فشحذ سيفه وسيمه. وأتى المدينة، فرآه عمر فقال للصحابة: احفظوا أنفسكم فإني أخاف عميراً إنه رجل فاتك، ولا أدري ما جاء به. فأطاف المسلمون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء عمير، متقلداً سيفه، إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنعم صباحاً. قال: ما جاء بك يا عمير قال: حاجة. قال: فما بال السيف قال: قد حملناها يوم بدر فما أفلحت ولا أنجحت. قال: فما قولك لصفوان وأنت في الحجر وأخبره بالقصة. فقال عمير: قد كنت تحدثنا عن خبر السماء فنكذبك، وأراك تعلم خبر الأرض. أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. بأبي أنت وأمي، أعطني منك علماً تعلم أهل مكة أني أسلمت. فأعطاه. فقال عمر: لقد جاء عمير وإنه لأضل من خنزير، ثم رجع وهو أحب إلي من ولدي. وقال يونس، عن ابن إسحاق قال: عكاشة الذي قاتل بسيفه يوم بدر حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلاً من حطب، فقال: قاتل بهذا. فلما أخذه هزه فعاد سيفاً في يده، طويل القامة شديد المتن أبيض الحديد. فقاتل به، حتى فتح الله على رسوله، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قتل في قتال أهل الردة وهو

(2/100)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 101
عنده. وكان ذلك السيف يسمى العون. هكذا ذكره ابن إسحاق بلا سند. وقد رواه الواقدي قال: حدثني عمر بن عثمان الجحشي، عن أبيه، عن عمته قالت: قال عكاشة بن محصن: انقطع سيفي يوم بدر، فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً، فإذا هو سيف أبيض طويل. فقاتلت به. وقال الواقدي: حدثني أسامة بن زيد الليثي، عن داود بن الحصين، عن جماعة قالوا: انكسر سيف سلمة بن أسلم يوم بدر، فبقي أعزل لا سلاح معه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه): وسلم قضيباً كان في يده من عراجين، فقال: اضرب به. فإذا هو سيف جيد. فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد.
(

(2/101)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 102

(2/102)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 103
ذكر غزوة بدر)

(من مغازي موسى بن عقبة)
فإنها من أصح المغازي قد قال إبراهيم بن المنذر الجزامي: حدثني مطرف ومعن وغيرهما أن مالكاً كان إذا سئل عن المغازي قال: عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة، فإنه أصح المغازي. قال محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة قال: قال ابن شهاب، ح. وقال إسماعيل بن أبي أويس: ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة وهذا لفظه عن عمه موسى بن عقبة قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قتل ابن الحضرمي شهرين. ثم أقبل أبو

(2/103)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 104
سفيان في عير لقريش، ومعه سبعون راكباً من بطون قريش منهم: مخرمة ابن نوفل وعمرو بن العاص، وكانوا تجاراً بالشام، ومعهم خزائن أهل مكة، ويقال كانت عيرهم ألف بعير. ولم يكن لقريش أوقية فما فوقها إلا بعثوا بها مع أبي سفيان إلا حويطب بن عبد العزى، فلذلك تخلف عن بدر فلم يشهده. فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد كانت الحرب بينهم قبل ذاك، فبعث عدي بن أبي الزغباء الأنصاري، وبسبس بن عمرو، إلى العير، عيناً له، فسار، حتى أتيا حياً من جهينة، قريباً من ساحل البحر، فسألوهم عن العير، فأخبروهما بخبر القوم. فرجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه. فاستنفر المسلمين للعير. وذلك في رمضان. وقدم أبو سفيان على الجهنيين وهو متخوف من المسلمين، فسألهم فأخبروه خبر الراكبين، فقال أبو سفيان: خذوا من بعر بعيريهما. ففته فوجد النوى فقال: هذه علائف أهل يثرب. فأسرع وبعث رجلاً من بني غفار يقال له: ضمضم بن عمرو إلى قريش أن انفروا فاحموا عيركم من محمد وأصحابه. وكانت عاتكة قد رأت قبل قدوم ضمضم فذكر رؤياها، إلى أن قال: فقدم ضمضم فصاح: يا آل غالب بن فهر انفروا فقد خرج محمد وأهل يثرب يعترضون لأبي سفيان. ففزعوا، وأشفقوا): من رؤيا عاتكة، ونفروا على كل صعب وذلول. وقال أبو جهل: أيظن محمد أن يصيب مثل ما أصاب بنخلة سيعلم أنمنع عيرنا أم لا.

(2/104)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 105
فخرجوا بخمسين وتسعمائة مقاتل، وساقوا مائة فرس، ولم يتركوا كارهاً للخروج. فأشخصوا العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وطالب بن أبي طالب، وأخاه عقيلاً، إلى أن نزلوا الجحفة. فوضع جهيم بن الصلت بن مخرمة المطلبي رأسه فأغفى، ثم فزع فقال لأصحابه: هل رأيتم الفارس الذي وقف علي آنفاً. قالوا: لا، إنك مجنون. قال: قد وقف علي فارس فقال: قتل أبو جهل، وعتبة وشيبة، وزمعة، وأبو البختري، وأمية بن خلف، فعد جماعة. فقالوا: إنما لعب بك الشيطان. فرفع حديثه إلى أبي جهل فقال: قد جئتمونا بكذب بني المطلب مع كذب بني هاشم، سترون غداً من يقتل. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب العير، فسلك على نقب بني دينار، ورجع حين رجع من ثنية الوداع. فنفر في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً. وأبطأ عنه كثير من أصحابه وتربصوا. وكانت أول وقعة أعز الله فيها الإسلام. فخرج في رمضان ومعه المسلمون على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد. وكان زميل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، ليس مع الثلاثة إلا بعير واحد.

(2/105)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 106
فساروا، حتى إذا كانوا بعرق الظبية لقيهم رضي الله عليه راكب من قبل تهامة، فسألوه عن أبي سفيان فقال: لا علم لي به. فقالوا: سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وفيكم رسول الله قالوا: نعم. وأشاروا إليه. فقال له: أنت رسول الله قال: نعم. قال: إن كنت رسول الله فحدثني بما في بطن ناقتي هذه. فغضب سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري فقال: وقعت على ناقتك فحملت منك. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال سلمة فأعرض عنه. ثم سار لا يلقاه خبر ولا يعلم بنفرة قريش. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علينا. فقال أبو بكر: أنا أعلم بمسافة الأرض. أخبرنا عدي بن أبي الزغباء: أن العير كانت بوادي كذا. وقال عمر: يا رسول الله، إنها قريش وعزها، والله ما ذلت منذ عزت ولا آمنت منذ كفرت.): والله لتقاتلنك، فتأهب لذلك. فقال: أشيروا علي. قال المقداد بن عمرو: إنا لا نقول لك كما قال أصحاب موسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون. فقال: أشيروا علي.

(2/106)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 107
فلما رأى سعد بن معاذ كثرة استشارته ظن سعد أنه يستنطق الأنصار شفقاً أن لا يستحوذوا معه، أو قال: أن لا يستجلبوا معه على ما يريد، فقال: لعلك يا رسول الله تخشى أن لا يكون الأنصار يريدون مواساتك. ولا يرونها حقاً عليهم، إلا بأن يروا عدواً في بيوتهم وأولادهم ونسائهم. وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذته منا أحب إلينا مما تركته علينا. فوالله لو سرت حتى تبلغ البرك من غمد ذي يمن لسرنا معك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيروا على اسم الله عز وجل فإني قد أريت مصارع القوم. فعمد لبدر. وخفض أبو سفيان فلصق بساحل البحر، وأحرز ما معه، فأرسل إلى قريش، فأتاهم الخبر بالجحفة. فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نقدم بدراً فنقيم بها. فكره ذلك الأخنس بن شريق وأشار بالرجعة، فأبوا وعصوه. فرجع ببني زهرة فلم يحضر أحد منهم بدراً. وأرادت بنو هاشم الرجوع فمنعهم أبو جهل. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنى شيء من بدر. ثم بعث علياً والزبير

(2/107)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 108
وجماعة يكشفون الخبر. فوجدوا وارد قريش عند القليب، فوجدوا غلامين فأخذوهما فسألوهما عن العير، فطفقا يحدثانهم عن قريش، فضربوهما. وذكر الحديث، إلى أن قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشيروا علي في المنزل. فقام الحباب بن المنذر السلمي: أنا يا رسول الله علام بها وبقلبها إن رأيت أن نسير إلى قليب منها قد عرفتها كثيرة الماء عذبة، فننزل عليها ونسبق القوم إليها ونغور ما سواها. فقال: سروا. فإن الله قد وعدكم إحدى الطائفتين. فوقع في قلوب ناس كثير الخوف. فتسارع المسلمون والمشركون إلى الماء، فأنزل الله تلك الليلة مطراً واحداً فكان علي): المشركين بلاء شديداً منعهم أن يسيروا، وكان على المسلمين ديمة خفيفة لبد لهم الأرض، فسبقوا إلى الماء فنزلوا عليه شطر الليل. فاقتحم القوم في القليب فماحوها حتى كثر ماؤها. وصنعوا حوضاً عظيماً ثم عوروا ما سواه من المياه. ويقال: كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسان، على أحدهما: مصعب بن عمير، وعلى الآخر سعد بن خثيمة. ومرة الزبير بن العوام، والمقداد. ثم صف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحياض. فلما طلع المشركون قال رسول

(2/108)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 109
الله صلى الله عليه وسلم زعموا اللهم هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك. واستنصر المسلمون الله واستغاثوه، فاستجاب الله لهم. فنزل المشركون وتعباؤا للقتال، ومعهم إبليس في صورة سراقة المدلجي يحدثهم أن بني كنانة وراءه قد أقبلوا لنصرهم. قال: فسعى حكيم بن حزام إلى عتبة بن ربيعة فقال: هل لك أن تكون سيد قريش ما عشت قال عتبة: فأفعل ماذا قال: تجير بين الناس وتحمل دية ابن الحضرمي، وبما أصاب محمد في تلك العير، فإنهم لا يطلبون من محمد غيرها. قال عتبة: نعم قد فعلت، ونعم ما قلت، فاسع في عشيرتك فأنا أتحمل بها. فسعى حكيم في أشراف قريش بذلك. وركب عتبة جملاً له، فسار عليه في صفوف المشركين فقال: يا قوم أطيعوني ودعوا هذا الرجل فإن كان كاذباً ولي قتله غيركم من العرب فإن فيهم رجالاً لكم فيهم قرابة قريبة، وإنكم إن تقتلوهم لا يزال الرجل ينظر إلى قاتل أخيه أو ابنه أو ابن أخيه أو ابن عمه، فيورث ذلك فيكم إحناً وضغائن. وإن كان هذا الرجل ملكاً كنتم في ملك أخيكم. وإن كان نبياً لم تقتلوا النبي فتسبوا به. ولن تخلصوا إليهم حتى يصيبوا أعدادهم منكم،

(2/109)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 110
ولا آمن أن تكون لهم الدبرة عليكم. فحسده أبو جهل على مقالته. وأبى الله إلا أن ينفذ أمره. وعتبة يومئذ سيد المشركين. فعمد أبو جهل إلى ابن الحضرمي وهو أخو المقتول فقال: هذا عتبة يخذل بين الناس، وقد تحمل بدية أخيك، يزعم أنك قابلها. أفلا تستحيون من ذلك أن تقبلوا الدية وقال لقريش: إن عتبة قد علم أنكم ظاهرون على هذا الرجل ومن معه، وفيهم ابنه وبنو عمه، وهو يكره صلاحكم. وقال لعتبة: انتفخ سحرك. وأمر النساء أن يعولن عمراً، فقمن يصحن: وا): عمراه وا عمراه تحريضاً على القتال. وقام رجل فتكشفوا يعيرون بذلك قريشاً. فأخذت قريش مصافها للقتال. فذكر الحديث إلى أن قال: فأسر نفر ممن أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يقتلوهم إلا أبا البختري، فإنه أبى أن يستأسر، فذكروا له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرهم أن لا يقتلوه إن استأسر، فأبى. ويزعم ناس أن أبا اليسر قتل أبا البختري. ويأبى عظم الناس إلا أن المجذر هو الذي قتله. بل قتله أبو داود المازني. قال: ووجد ابن مسعود أبا جهل مصروعاً، بينه وبين المعركة غير كثير، مقنعاً في الحديد واضعاً سيفه على فخذيه ليس به جرح، ولا يستطيع

  تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 111
أن يحرك عضواً، وهو منكب ينظر إلى الأرض. فلما رآه ابن مسعود أطاف حوله ليقتله وهو خائف أن يثور إليه، وأبو جهل مقنع بالحديد، فلما أبصره لا يتحرك ظن أنه مثبت جراحاً، فأراد أن يضربه بسيفه، فخشي أن لا يغني سيفه شيئاً، فأتاه من ورائه، فتناول قائم سيفه فاستله وهو منكب، فرفع عبد الله سابغة البيضة عن قفاه فضربه، فوقع رأسه بين يديه ثم سلبه. فلما نظر إليه إذا هو ليس به جراح، وأبصر في عنقه حدراً، وفي يديه وفي كتفيه كهيئة آثار السياط، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك ضرب الملائكة. قال: وأذل الله بوقعه بدر رقاب المشركين والمنافقين، فلم يبق بالمدينة منافق ويهودي إلا وهو خاضع عنقه لوقعة بدر. وكان ذلك يوم الفرقان فرق الله بين المشركين والإيمان. وقالت اليهود: تيقناً أنه النبي الذي نجد نعته في التوراة. والله، لا يرفع راية بعد اليوم إلا ظهرت. وأقام أهل مكة على قتلاهم النوح بمكة شهراً. ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فدخل من ثنية الوداع.

(2/111)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 112
ونزل القرآن يعرفهم الله نعمته فيما كرهوا من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فقال: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون، وثلاث آيات معها. ثم ذكر موسى بن عقبة الآيات التي نزلت في سورة الأنفال في هذه الغزوة وآخرها.): وقال رجال ممن أسر: يا رسول الله، إنا كنا مسلمين، وإنما أخرجنا كرهاً، فعلام يؤخذ منا الفداء فنزلت: قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً، مما أخذ منكم ويغفر لكم. حذفت من هذه القصة كثيراً مما سلف من الأحاديث الصحيحة استغناء بما تقدم. وقد ذكر هذه القصة بنحو قول موسى بن عقبة ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة، ولم يذكر أبا داود المازني في قتال أبي البختري. وزاد يسيراً. وقال هو وابن عقبة: إن عدد من قتل من المسلمين ستة من قري، وثمانية من الأنصار. وقتل من المشركين تسعة وأربعون رجلاً، وأسر تسعة وثلاثون رجلاً. كذا قالا.

(2/112)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 113
وقال ابن إسحاق: استشهد أربعة من قريش وسبعة من الأنصار. وقتل من المشركين بضعة وأربعون، وكانت الأسارى أربعة وأربعين أسيراً. وقال الزهري عن عروة: هزم المشركون وقتل منهم زيادة على سبعين، وأسر مثل ذلك. ويشهد لهذا القول حديث البراء الذي في البخاري قال: أصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين يوم بدر أربعين ومائة سبعين أسيراً وسبعين قتيلاً. وأصابوا منا يوم أحد سبعين. وقال حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم خلف عثمان وأسامة بن زيد على بنته رقية أيام بدر. فجاء زيد بن حارثة على العضباء، ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبشارة. قال أسامة: فسمعت الهيعة، فخرجت فإذا أبي قد جاء بالبشارة، فوالله ما صدقت حتى رأينا الأسارى. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بسهمه. وقال عبدان بن عثمان: ثنا ابن المبارك، أنا عبد الرحمن بن يزيد ين جابر، عن عبد الرحمن رجل من أهل صنعاء قال: أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخلوا عليه وهو في بيت، عليه خلقان

(2/113)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 114
جالس على التراب. قال جعفر: فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال. فقال: أبشركم بما يسركم إنه جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله تعالى قد نصر نبيه صلى الله عليه وسلم وأهلك عدوه، وأسر فلان وفلان وقتل فلان وفلان، التقوا بواد يقال له بدر، كثير الأراك، كأني أنظر إليه، كنت أرعى به لسيدي رجل من بني ضمرة): إبله. فقال له جعفر: ما بالك جالس على التراب، ليس تحتك بساط، وعليك هذه لأخلاق قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى عليه السلام أن حقاً على عباد الله أن يحدقوا لله تواضعاً عندما ما أحدث لهم من نعمته. فلما أحدث الله لي نصر نبيه أحدثت له هذا التواضع. ذكر مثل هذه الحكاية الواقدي في مغازيه بلا سند.
(فصل في غنائم بدر والأسرى)
قال خالد الطحان، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: من فعل كذا وكذا، فله من النفل كذا وكذا. قال: فتقدم الفتيان ولزم المشيخة الرايات. فلما فتح الله عليهم قالت المشيخة: كنا ردءاً لكم، لو انهزمتم، فئتم إلينا، فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى. فأبى الفتيان وقالوا: جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا.

(2/114)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 115
فأنزل الله تعالى يسئلونك عن الأنفال إلى قوله: وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون. يقول: فكان ذلك خيراً لهم. فكذلك أيضاً أطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم. أخرجه أبو داود. ثم ساقه من وجه آخر عن داود بإسناده. وقال: فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسواء. وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر. وقال عمر بن يوسن: حدثني عكرمة بن عمار، حدثني أبو زميل، حدثني ابن عباس، حدثني عمر قال: لما كان يوم بدر، فذكر القصة. قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترون في هؤلاء فقال أبو بكر: هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا بن الخطاب قلت: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من

(2/115)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 116
فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت. فلما كان من الغد): جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يبكيان. قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكيان، فإن وجدت بكاء بكيت، وإلا تباكيت لبكائكما. فقال: أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء. لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم. وأنزل الله تعالى: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى قوله فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً، فأحل الله لهم الغنيمة. أخرجه مسلم. وقال جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه قال: لما كان يوم بدر قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء الأسارى فقال عبد الله بن رواحة: أنت في واد كثير الحطب فاضرم ناراً ثم ألقهم فيها. فقال العباس: قطع الله رحمك. فقال عمر: قادتهم ورؤوسهم قاتلوك وكذبوك، فاضرب أعناقهم. فقال أبو بكر: عشيرتك وقومك. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض حاجته. فقالت طائفة: القول ما قال عمر. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقولون في هؤلاء إن مثل هؤلاء كمثل إخوة لهم كانوا من قبلهم قال نوح: رب لا تذر على

(2/116)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 117
الأرض من الكافرين دياراً، وقال موسى: ربنا اطمس على أموالهم وأشدد على قلوبهم، وقال إبراهيم: فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم، وقال عيسى: إن تعذبهم فإنهم عبادك الآية. وأنتم قوم بكم عيلة، فلا ينقلبن أحد منهم إلا بفداء أو بضربة عنق. فقلت: إلا سهيل بن بيضاء فإنه لا يقتل، قد سمعته يتكلم بالإسلام. فسكت. فما كان يوم أخوف عندي أن يلقي الله علي حجارة من السماء من يومي ذلك، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل ابن بيضاء. وقال أبو إسحاق عن البراء أو غيره قال: جاء رجل من الأنصار بالعباس قد أسره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال العباس: ليس هذا أسرني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد آزرك الله بملك كريم. وقال ابن إسحاق: حدثني من سمع عكرمة، عن ابن عباس قال: كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو السلمي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أسرته قال: لقد أعلق عليه رجل ما رأيته قبل ولا بعد، هيئته كذا وكذا. فقال: لقد أعانك عليه ملك كريم.): وقال للعباس: افد نفسك وابن أخيك عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن

(2/117)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 118
الحارث. فأبى وقال: إني كنت مسلماً وإنما استكرهوني. قال: الله أعلم بشأنك إن يك ما تدعي حقاً فالله يجزيك بذلك. وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافد نفسك. وكان قد أخذ معه عشرون أوقية ذهباً. فقال: يا رسول الله أحسبها لي من فدائي. قال: لا، ذاك شيء أعطانا الله منك. وقال عبد العزيز بن عمران الزهري وهو ضعيف: حدثني محمد ابن موسى، عن عمارة بن عمار أبي اليسر، عن أبيه، عن جده قال: نظرت إلى العباس يوم بدر، وهو قائم كأنه صنم وعيناه تذرفان، فقلت: جزاك الله من ذي رجم شراً، تقاتل ابن أخيك مع عدوه قال: ما فعل، أقتل قلت: الله أعز له وأنصر من ذلك. قال: ما تريد إلي قلت: إسار، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلك. قال: ليست بأول صلته. فأسرته. وروى ابن إسحاق، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بعثت قريش في فداء أسراهم. وقال العباس: إني كنت مسلماً. فنزل فيه إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين أوقية عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من المغفرة.

(2/118)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 119
وقال أزهر السمان، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة، عن علي رضي الله عنه وبعضهم يرسله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأسارى يوم بدر. إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء، واستشهد منكم بعدتهم. وكان آخر السبعين ثابت بن قيس، قتل يوم اليمامة. هذا الحديث داخل في معجزاته صلى الله عليه وسلم، وإخباره عن حكم الله فيمن يستشهد، فكان كما قال. وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني نبيه بن وهب العدبري قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسارى فرقهم على المسلمين، وقال: استوصوا بهم خيراً. قال نبيه: فسمعت من يذكر عن أبي عزيز، قال: كنت في الأسارى يوم بدر، فسمعت رسول الله صلى): الله عليه وسلم يقول: استوصوا بالأسارى خيراً. فإن كان ليقدم إليهم الطعام فما تقع بيد أحدهم كسرة إلا رمى بها إلى أسيره، ويأكلون التمر. فكنت أستحي فآخذ الكسرة فأرمي بها إلى الذي رمى بها إلي، فيرمي بها إلي. أبو عزيز هو أخو مصعب بن عمير، يقال إنه أسلم. وقال ابن الكلبي وغيره: إنه قتل يوم أحد كافراً. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة. أخرجه أبو داود من حديث شعبة، عن أبي العنبس، عن أبي الشعثاء عنه.

(2/119)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 120
وقال أسباط، عن إسماعيل السدي: كان فداء أهل بدر العباس، وعقيل ابن أخيه، ونوفل، كل رجل أربعمائة دينار. وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس أن رسول الله قال يوم بدر: إني قد عرفت أن ناساً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً منهم فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مستكرهاً. فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل آباءنا وإخواننا ونترك العباس والله لئن لقيته لألحمنه بالسيف. فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص، أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه، فوالله لقد نافق. فكان أبو حذيفة بعد يقول: والله ما أنا آمن من تلك الكلمة التي قلت، ولا أزال منها خائفاً، إلا أن يكفرها الله عني بشهادة. فاستشهد يوم اليمامة. قال ابن إسحاق: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة. وكان العباس أكثر الأسر فداء لكونه موسراً، فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهب.

(2/120)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 121
وقال ابن شهاب: حدثني أنس أن رجالاً من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا فداءه. فقال: لا والله لا تذرون درهماً. أخرجه البخاري. وقال إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قالوا: يا رسول الله بعد ما فرغ من بدر عليك بالعير ليس دونها شيء. فقال العباس وهو في وثاقه: لا يصلح. قال: ولم قال: لأن): الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك. وقد ذكر إرسال زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادتها في فداء أبي العاص زوجها. وقال سعيد بن أبي مريم: ثنا يحيى بن أيوب، ثنا ابن الهاد، حدثني عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة أو ابن كنانة فخرجوا في أثرها. فأدركها هبار بن الأسود، فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها، وألقت ما في بطنها وأهريقت دماً. فتحملت. فاشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية. فقالت بنو أمية: نحن أحق بها. وكانت تحت أبي العاص، فكانت عند هند بنت عتبة بن ربيعة. وكانت تقول لها هند: هذا من سبب أبيك. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: ألا تنطلق فتأتي بزينب فقال: بلى يا رسول الله. قال: فخذ خاتمي فأعطها إياه. فانطلق زيد، فلم يزل يتلطف حتى لقي راعياً فقال له: لمن ترعى قال: لأبي العاص. قال: فلمن هذه الغنم قال: لزينب بنت محمد. فسار معه شيئاً ثم قال

(2/121)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 122
له: هل لك أن أعطيك شيئاً تعطيها إياه، ولا تذكره لأحد قال: نعم. فأعطاه الخاتم. وانطلق الراعي حتى دخل فأدخل غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته. فقالت: من أعطاك هذا قال: رجل. قالت: فأين تركته قال: بمكان كذا وكذا. فسكتت، حتى إذا كان الليل خرجت إليه. فقال لها: اركبي بين يدي. على بعيره. فقالت: لا، ولكن أركب أنت بين يدي. وركبت وراءه حتى أتت المدينة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هي أفضل بناتي، أصيبت في. قال: فبلغ ذلك علي بن الحسين، فانطلق إلى عروة فقال: ما حديث بلغني عنك أنك تحدثه تتنقص به فاطمة فقال عروة: والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أتنقص فاطمة حقاً هو لها، وأما بعد فلك أن لا أحدثه أبداً.
(أسماء من شهد بدراً)
جمعها الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد في جزء كبير. فذكر من أجمع عليه ومن اختلف فيه من البدريين، ورتبهم على حروف المعجم. فبلغ عددهم ثلاثمائة وبضعة وثلاثين رجلاً.): وإنما وقعت هذه الزيادة في عددهم من جهة الاختلاف في بعضهم.

(2/122)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 123
وقد جاء في فضلهم حديث سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي، والزبير، والمقداد وكلنا فارس، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، وهو موضع بين مكة والمدينة. فذكر الحديث، ومكاتبة حاطب ابن أبي بلتعة قريشاً. فقال عمر: دعني أضرب عنقه فقد خان الله ورسوله. قال: أليس هو من أهل بدر وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة. أو قد غفرت لكم. فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم. متفق عليه. وقال الليث، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه أن عبداً لحاطب ابن أبي بلتعة جاء يشكوه فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار. فقال: كذبت لا يدخلها إنه شهد بدراً والحديبية. أخرجه مسلم. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي وكان أبوه بدرياً أنه كان يقول لابنه: ما أحب أني شهدت بدراً ولم أشهد العقبة. قال: سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أهل بدر فيكم قال: خيارنا. قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة هم خيار الملائكة. أخرجه البخاري.==

2. الكتاب: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام.
تأليف: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي.

تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 124
(ذكر طائفة من أعيان البدريين)
أبو بكر. وعمر. وعلي. واحتبس عنهما عثمان بمرض زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم. فتوفيت في العشر الأخير من رمضان يوم قدوم المسلمين المدينة من بدر. وضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره. ومن البدريين: سعد بن أبي وقاص. وأما سعيد بن زيد، وطلحة بن عبيد الله، فكانا بالشام، فقدما بعد بدر وأسهم لهما النبي صلى الله عليه وسلم. الزبير بن العوام، أبو عبيدة بن الجراح، عبد الرحمن بن عوف، حمزة بن عبد المطلب، زيد بن حارثة، عبيدة بن الحارث بن المطلب، وأخواه: الطفيل، والحصين، وابن عمه: مصطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب وأربعتهم لم يعقبوا، مصعب بن عمير العبدري، المقداد بن الأسود، عبد الله بن مسعود، صهيب بن سنان، أبو سلمة بن عبد الأسد، عمار بن ياسر، زيد بن الخطاب أخو عمر.): ومن أعيان الأنصار من الأوس: سعد بن معاذ. ومن بني عبد الأشهل: عباد بن بشر، محمد بن مسلمة، أبو الهيثم ابن التيهان. ومن بني ظفر: قتادة بن النعمان. ومن بني عمرو بن عوف: مبشر بن عبد المنذر، وأخوه: رفاعة. ولم

(2/124)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 125
يحضرها أخوهما أبو لبابة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رده فاستعمله على المدينة، وضرب له بسهمه وأجره. ومن بني النجار: أبو أيوب خالد بن زيد، عوف، ومعوذ، ومعاذ بنو الحارث بن رفاعة ابن سواد بن مالك بن غنم بن عوف. وهم بنو عفراء، أبي بن كعب، أبو طلحة زيد بن سهل، بلال مولى أبي بكر، عبادة بن الصامت، معاذ بن جبل الخزرجي، عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، عتبان بن مالك الخزرجي، عكاشة بن محصن، كعب بن عمرو أبو اليسر السلمي، معاذ بن عمرو الخزرجي ابن الجموح. حشرنا الله في زمرتهم. قد ذكرنا من استشهد يومئذ. وقتل من المشركين: حنظلة بن أبي سفيان بن حرب، وعبيد بن سعيد بن العاص، وأخوه: العاص، وعتبة، وشيبة، وابنا ربيعة، وولد عتبة: الوليد، وعقبة بن أبي معيط، قتل صبراً، والحارث بن عامر النوفلي وابن عمه طعيمة بن عدي، وزمعة بن الأسود، وابنه: الحارث وأخوه: عقيل، وأبو البختري ابن هشام بن الحارث بن أسد واسمه العاص ونوفل بن خويلد أخو خديجة، والنضر بن الحارث، قتل صبراً بعد يومين، وعمير بن عثمان التيمي عم طلحة بن عبيد الله، وأبو جهل، وأخوه: العاص بن هشام،

(2/125)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 126
ومسعود بن أبي أمية المخزومي أخو أم سلمة، وأبو قيس أخو خالد بن الوليد، والسائب بن أبي السائب المخزومي، وقيل لم يقتل، بل أسلم بعد ذلك، وقيس بن الفاكه بن المغيرة، ومنبه ونبيه: ابنا الحجاج بن عامر السهمي، وولدا منبه: الحارث، والعاص. وأمية بن خلف الجمحي، وابنه: علي. وذكر ابن إسحاق وغيره سائر المقتولين، وكذا سمي الذين أسروا. تركتهم خوفاً من التطويل. وفي رمضان: فرض الله صوم رمضان، ونسخ فريضة يوم عاشوراء وفي آخره: فرضت): الفطرة. وفي شوال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة، وهي بنت تسع سنين. وفي صفر: توفي أبو جبير المطعم بن عدي بن نوفل ونوفل أخو هاشم بن عبد مناف بن قصي توفي مشركاً عن سن عالية، وكان من عقلاء قريش وأشرافهم. وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان المطعم بن عدي حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لأجبته. وكانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد لأنه قام في نقض الصحيفة. وفيها: توفي أبو السائب عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن

(2/126)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 127
خذافة بن جمح الجمحي، بعد بدر بيسير. وقد شهدها هو وأخواه: قدامة، وعبد الله. فعثمان أحد السابقين، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلاً، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى، ولما قدم أجاره الوليد بن المغيرة أياماً. ثم رد على الوليد جواره. وكان صواماً قواماً قانتاً لله. وفيها: توفي أبو سلمة ت ق عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر. وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة. وأمه: برة بنت عبد المطلب. من السابقين الأولين، شهد بدراً، وتزوجت أم سلمة بعده بالنبي صلى الله عليه وسلم، وروت عنه القول عند المصيبة. وقيل توفي سنة ثلاث بعد أحد أو قبلها. وفيها: ولد عبد الله بن الزبير، بالمدينة. والمسور بن مخرمة. ومروان بن الحكم: بمكة. وفيها قتل ببدر من الكفار: أبو جهل بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، والوليد ولد عتبة، وعقبة بن أبي معيط قتل

(2/127)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 128
صبراً، والحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف قتله علي، وابن عمه طعيمة ابن عدي بن نوفل قتله حمزة على الصحيح، وزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، وابنه الحارث، وأخوه عقيل. وأبو البختري بن العاص بن هشام بن الحارث بن أسد، ونوفل بن خويلد بن أسد قتله علي وقيل الزبير، والنضر ابن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي العبدري، قتله علي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لشدة إيذائه الإسلام وأهله، وعمير بن عثمان التيمي عم طلحة بن عبيد الله، والعاص): أخو أبي جهل قتله عمر، ومسعود بن أبي أمية المخزومي أخو أم سلمة، وأبو قيس أخو خالد بن الوليد، وابن عمه قيس بن الفاكه بن المغيرة، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج بن عامر السهمي، والعاص والحارث ابنا منبه المذكور، وأمية بن خلف الجمحي وابنه علي. ومات في الأسر: ملك أخو طلحة بن عبيد الله. وقتل: هشام بن أبي حذيفة بن المغيرة، وأسر أخوه حذيفة ثم قتل، وأسر يومئذ العباس وابنا أخويه عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث. وقد أفرد الحافظ ضياء الدين المقدسي أسماء من شهد بدراً من المسلمين بأنسابهم في جزء كبير، وساق اختلاف الناس في بعضهم.

(2/128)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 129
(قصة النجاشي من السيرة)
ثم إن قريشاً قالوا: إن ثأرنا بأرض الحبشة. فانتدب إليها عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة. قال الزهري: بلغني أن مخرجهما كان بعد وقعة بدر. فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مخرجهما، بعث عمرو بن أمية الضمري بكتابه إلى النجاشي. وقال سعيد بن المسيب وغيره: فبعث الكفار مع عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة للنجاشي، ولعظماء الحبشة هدايا. فلما قدما على النجاشي قبل الهدايا، وأجلس عمرو بن العاص على سريره. فكلم النجاشي فقال: إن بأرضك رجالاً منا ليسوا على دينك ولا على ديننا، فادفعهم إلينا. فقال عظماء الحبشة: صدق، فادفعهم إليه. فقال: حتى أكلمهم. قال الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أم سلمة، رضي الله عنهما قالت:

(2/129)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 130
نزلنا الحبشة، فجاورنا بها خير جار، النجاشي. أمناً على ديننا وعبدنا الله تعالى، لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه. فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي مع رجلين بما يستطرف من مكة. وكان من أعجب ما يأتيه منها: الأدم. فجمعوا له أدماً كثيراً. ولم يتركوا بطريقاً عنده إلا أهدوا له. وبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص وقالوا: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي. فقدما، وقالا لكل بطريق: إنه قد ضوى إلى بلد الملك): منا غلمان سفهاء، خالفوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم. وقد بعثنا أشرافنا إلى الملك ليردهم، فإذا كلمناه فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا. فقالوا: نعم. ثم قربا هداياهما إلى النجاشي فقبلها، فكلماه. فقلت بطارقته: صدقاً أيها الملك، فوقهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم. فغضب النجاشي، ثم قال: لا ها الله أبداً، لا أرسلهم إليهم. قوم جاوروني ونزلوا بلادي، واختاروني على سواي. حتى أدعوهم فأسألهم عما تقولون. ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما جاء رسوله اجتمعوا، قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا: نقول والله ما علمنا الله، وأمرنا به نبينا، كائن في ذلك ما كان. فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته، ونشروا مصاحفهم حوله سألهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من الملل. قالت: فكلمه جعفر بن أبي طالب، فقال: أيها الملك: كنا قوماً أهل

(2/130)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 131
جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء إلى الجار ويأكل القوي منا الضعيف. كنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعا إلى الله لنعبده ونوحده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. وعد أمور الإسلام. قال: فصدقناه واتبعناه. فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، وآثرناك على من سواك فرغبنا في جوارك: ورجونا أن لا نظلم عندك. قال: فبكى النجاشي وأساقفته حتى أخضلوا لحاهم، حين سمعوا القرآن. فقال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكما أبداً. قالت: فلما خرجنا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لأتينه غداً بما استأصل به خضراءهم. فقال ابن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل، فإن لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا. قال: فوالله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى عبد.

(2/131)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 132
قالت: ثم غدا عليه، فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً. فأرسل إلينا ليسألنا.): قالت: ولم ينزل بنا مثلها. فقال: ما تقولون في عيسى فقال جعفر: نقول فيه الذي جاء به نبينا: عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، وأخذ منها عوداً، وقال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا المقدار. قال: فتناخرت بطارقته حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله. ثم قال لجعفر وأصحابه: اذهبوا آمنين. ما أحب أن لي دبر ذهب، وأني آذيت واحداً منكم والدبر بلسان الحبشة: الجبل فردوا عليهما هديتهما، فلا حاجة لنا فيها. فوالله ما أخذ الله في الرشوة فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه. فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به. قالت: فوالله إنا لعلى ذلك، إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في

(2/132)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 133
ملكه، فوالله ما علمنا حزناً قط، أشد من حزن حزناه عند ذلك، تخوفاً أن يظهر عليه من لا يعرف حقنا. فسار إليه النجاشي، وبينهما عرض النيل. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يخرج حتى يحضر الوقعة ويخبرنا فقال الزبير بن العوام: أنا أخرج. وكان من أحدث القوم سناً. فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، وسبح عليها إلى الناحية التي فيها الوقعة. ودعونا الله للنجاشي. فوالله إنا لعلى ذلك، متوقعون لما هو كائن، إذ طلع علينا الزبير يسعى ويلوح بثوبه. ألا أبشروا، فقد ظهر النجاشي، وأهلك الله عدوه. فوالله ما علمنا فرحة مثلها قط. ورجع النجاشي سالماً، وأهلك الله عدوه. واستوثق له أمر الحبشة. فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. خرجه د من حديث ابن إسحاق عن الزهري. وهؤلاء قدموا مكة، ثم هاجروا إلى المدينة. وبقي جعفر وطائفة بالحبشة إلى عام خيبر. وقد قيل إن إرسال قريش إلى النجاشي كان مرتين. وأن المرة الثانية كان مع عمرو، عمارة بن الوليد المخزومي أخو خالد.): ذكر ذلك ابن إسحاق أيضاً. وذكر ما دار لعمرو بن العاص مع عمارة ابن الوليد من رميه إياه في البحر، وسعى عمرو به إلى النجاشي في وصوله إلى بعض حرمه أو أخدمه. وأنه ظهر ذلك في ظهور طيب الملك

(2/133)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 134
عليه، وأن الملك دعا سحرة فسحروه ونفخوا في إحليله. فتبرر ولزم البرية، وهام، حتى وصل إلى موضع رام أهله أخذه فيه، فلما قربوا منه فاضت نفسه ومات. وقال ابن إسحاق قال الزهري: حدثت عروة بن الزبير حديث أبي بكر عن أم سلمة، فقال: هل تدري ما قوله: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه قلت: لا. قال: فإن عائشة حدثتني أن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد إلا النجاشي. وكان للنجاشي عم، له من صلبه اثنا عشر رجلاً، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة. فقالت الحبشة: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه لتوارث بنوه ملكه بعده، ولبقيت الحبشة دهراً. قالت: فقتلوه وملكوا أخاه. فنشأ النجاشي مع عمه. وكان لبيباً حازماً، فغلب على أمر عمه. فلما رأت الحبشة ذلك قالت: إنا نتخوف أن يملكه بعده، ولئن ملك ليقتلنا بأبيه. فمشوا إلى عمه فقالوا: إما أن تقتل هذا الفتى، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا. فقال: ويكلم قتلت أباه بالأمس، وأقتله اليوم بل أخرجه. قال: فخرجوا به فباعوه من تاجر بستمائة درهم. فانطلق به في سفينة. فلما كان العشي، هاجت سحابة من سحائب الخريف، فخرج عمه يستمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته. ففزعت الحبشة إلى ولده، فإذا هو محمق

(2/134)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 135
ليس في ولده خير. فمرج على الحبشة أمرهم وضاق عليهم ما هم فيه. فقال بعضهم لبعض: تعلموا، والله، إن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره للذي بعتم. قال: فخرجوا في طلبه وطلب الذي باعوه منه، حتى أدركوه فأخذوه منه. ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج وأجلسوه على سرير الملك. فجاء التاجر فقال: إما أن تعطوني مالي وإما أن أكلمه في ذلك. فقالوا: لا نعطيك شيئاً. قال: إذن والله أكلمه. قالوا: فدونك. فجاءه فجلس بيديه، فقال: أيها الملك، ابتعت غلاماً من قوم بالسوق بستمائة درهم، حتى إذا سرت به أدركوني، فأخذوه ومنعوني دراهمي. فقال النجاشي: لتعطنه غلامه أو دراهمه. قالوا: بل نعطيه دراهمه. قالت: فلذلك يقول: ما أخذ الله مني رشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه. وكان ذلك أول ما خبر من صلابته في دينه وعدله.): قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة قالت: لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال على قبره نور. قال: وحدثني جعفر بن محمد، عن أبيه قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك فارقت ديننا. وخرجوا عليه. فأرسل إلى جعفر وأصحابه. فهيأ لهم سفناً، وقال اركبوا فيها، وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا. ثم عمد إلى كتاب فكتب: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى

(2/135)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 136
عبده ورسوله وروحه وكلمته. ثم جعله في قبائه وخرج إلى الحبشة. وصفوا له، فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحق الناس بكم قالوا: بلى. قل: فكيف رأيتم سيرتي فيكم قالوا: خير سيرة. قال: فما بالكم قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد. قال: فما تقولون أنتم قالوا: هو ابن الله. فوضع يده على صدره، على قبائه، وقال: هو يشهد أن عيسى بن مريم. لم يزد على هذا شيئاً، وإنما يعني على ما كتب. فرضوا وانصرفوا. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات صلى عليه واستغفر له، رضي الله عنه وإنما ذكرنا هذا استطراداً.
(سرية عمير بن عدي الخطمي)
ذكر الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه لخمس بقين من رمضان، إلى عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد كانت تعيب الإسلام، وتحرض على النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول الشعر. فجاءها عمير بالليل فقتلها غيلة.

(2/136)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 137
(غزوة بني سليم)
قال ابن إسحاق: لم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه عن بدر بالمدينة، إلا سبعة أيام. ثم خرج بنفسه يريد بني سليم. واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وقيل ابن أم مكتوم. فبلغ ماء يقال له: الكدر. فأقام عليه ثلاثاً، ثم انصرف. ولم يلق أحداً.

(2/137)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 138
(سرية سالم بن عمير)

(لقتل أبي عفك)
وذكر الواقدي أن أبا عفك اليهودي، كان قد بلغ مائة وعشرين سنة، وهو من بني عمرو بن): عوف، كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول الشعر، ويحرض عليه. فانتدب له سالم بن عمير، فقتله غيلة، في شوال منها.
(غزوة السويق)
في ذي الحجة قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: كان أبو سفيان بن حرب، حين بلغه وقعة بدر، نذر أن لا يمس رأسه دهن ولا غسل، ولا يقرب أهله، حتى يغزو محمداً ويحرق في طوائف

(2/138)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 139
المدينة. فخرج من مكة سراً خائفاً، في ثلاثين فارساً، ليحل يمينه. فنزل بجبل من جبال المدينة يقال له: ثيب. فبعث رجلاً أو رجلين من أصحابه، وأمرهم أن يحرقا أدنى نخل يأتيانه من نخل المدينة. فوجدا صوراً من صيران نخل العريض. فأحرقا فيها وانطلقا. وانطلق أبو سفيان مسرعاً. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين، حتى بلغ قرقرة الكدر ففاته أبو سفيان، فرجع. وذكر مثل هذا ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة. وقال: وركب المسلمون في آثارهم، فأعجزوهم وتركوا أزوادهم.

(2/139)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 140
فسميت غزوة أبي سفيان: غزوة السويق. وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، ويزيد ابن رومان، وحدثني من لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، قالوا: لما رجع أبو سفيان إلى مكة، ورجع فل قريش من يوم بدر، نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً. فخرج في مائتي راكب، إلى أن نزل بجبل يقال له: ثيب، على نحو بريد من المدينة. ثم خرج من الليل حتى أتى حيي بن أخطب، فضرب عليه بابه، فلم يفتح له وخافه. فانصرف إلى سلام بن مشكم، وكان سيد بني النضير، فأذن له وقراه، وأبطن له من خبر الناس. ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث رجالاً، فأتوا ناحية العريض، فوجدوا رجلين من المسلمين، فقتلوهما وردوا ونذر بهم الناس. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم، حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم انصرف راجعاً وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، قد رموا زاداً لهم في الحرث، وسويقاً كثيراً، يتخففون منها للنجاء.): فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنطمع أن يكون لنا غزوة فقال: نعم.

(2/140)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 141
قال: وذلك بعد بدر بشهرين. وفي هذه السنة: تزوج عثمان بأم كلثوم. وفيها تزوج علي بفاطمة الزهراء رضي الله عنهم. قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن علي، قال: خطبت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت لي مولاة لي: علمت أن فاطمة خطبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: لا. قالت: فما يمنعك أن تأتيه فيزوجك فقلت: وعندي شيء أتزوج به قالت: إن جئته زوجك. قال: فوالله ما زالت ترجيني، حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جلالة وهيبة. فأفحمت، فوالله ما استطعت أن أتكلم. فقال: ما جاء بك، ألك حاجة فسكت. ثم قال: لعلك جئت تخطب فاطمة قلت: نعم. قال: وهل عندك من شيء تستحلها به فقلت: لا والله. فقال: ما فعلت درع سلحتكها فوالذي نفس علي بيده إنها لحطمية ما ثمنها أربعة دراهم. فقلت: عندي. قال: قد زوجتكها، فابعث إلي بها. فإن الحطمية كانت لصداق فاطمة رضي الله عنها.

(2/141)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 142
وقال أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما تزوج علي فاطمة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعطها شيئاً. قال: ما عندي شيء. قال: أين درعك الحطمية أخرجه أبو داود. وقال عطاء بن السائب، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه، قال: جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة في خميل، وقربة، ووسادة أدم حشوها إذخر. وفيها: توفي سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة الخزرجي الساعدي، والد سهل بن سعد. وكان تجهز إلى بدر فمات قبلها في رمضان. فيقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب له بسهمه، ورده على ورثته. وفيها: بعد بدر، توفي خنيس بن حذافة السهمي، أحد المهاجرين، شهد بدراً. وتأيمت منه حفصة بنت عمر بن الخطاب.): وفي شوال: بنى النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة، وعمرها تسع سنين.

(2/142)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 143
1 (أحداث السنة الثالثة)

(غزوة ذي أمر)
في المحرم، غزا النبي صلى الله عليه وسلم نجداً، يريد غطفان. واستعمل على المدينة عثمان. فأقام بنجد صفراً كله، ورجع من غير حرب. قاله ابن إسحاق. وأما الواقدي فقال: كانت في ربيع الأول. وأن غيبته أحد عشر يوماً. ثم روى عن أشياخه، عن التابعي: عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وغيره، قالوا: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن جمعاً من غطفان، من بني ثعلبة، بذي أمر، قد تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف المسلمين.

(2/143)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 144
(غزوة بحران)
قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ربيع الأول. ثم

(2/144)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 145
غزا يريد قريشاً. قال عبد الملك بن هشام: فبلغ بحران، معدناً بالحجاز، فأقام هناك ربيع الآخر كله، وجمادى الأولى. وبحران من ناحية الفرع. ثم رجع ولم يلق كيداً. وقال الواقدي: غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني سليم ببحران، لست خلون من جمادى الأولى. وبحران من ناحية الفرع بينها وبين المدنية ثمانية برد. فغاب عشر ليال. وكان بلغه أن بها جمعاً من بني سليم، فخرج في ثلاثمائة. واستخلف ابن أم مكتوم.
(غزوة بني قينقاع)
ذكرها ابن إسحاق هكذا، بعد غزوة الفرع. وأما الواقدي، فقال: كانت يوم السبت نصف شوال، على رأس عشرين شهراً من الهجرة. فحاصرهم إلى هلال ذي القعدة.

(2/145)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 146
وقال البكائي: قال ابن إسحاق: ومن حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال: يا معشر): يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم. قالوا: يا محمد، إنك ترى أنا كقومك لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة. إنا والله لو حاربتنا لتعلمن أنا نحن الرجال. عن ابن عباس، قال: ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيهم قال للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم الآيتين. وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا وحاربوا فيما بين بدر وأحد. قال: وعن أبي عون، قال: كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوقهم، وجلست إلى صائغ بها. فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فلم تفعل. فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها. فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا، فصاحت. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهودياً. فشدت اليهودي على المسلم فقتلوه. فأغضب المسلمون ووقع الشر. وحدثني عاصم، قال: فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على

(2/146)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 147
حكمه. فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في موالي. فأعرض عنه. فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلني، وغضب أرسلني، ويحك. قال: والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي: أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة. إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم لك. وحدثني أبي إسحاق عن عبادة بن الوليد، قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبث بأمرهم ابن سلول وقام دونهم. قال: ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أحد بني عوف لهم من حلفه مثل الذي لابن سلول، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم، وقال: أتولى الله ورسوله والمؤمنين، فنزلت فيه وفي ابن سلول: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض إلى قوله: فترى الذين في): قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة إلى قوله إنما

(2/147)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 148
وليكم الله ورسوله والذين آمنوا لتولى عبادة الله ورسوله. وذكر الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصرهم خمس عشرة ليلة، إلى هلال ذي القعدة. وكانوا أول من غدر من اليهود. وحاربوا حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، ونزلوا على حكمه، وأن له أموالهم. فأمر صلى الله عليه وسلم فكتفوا، واستعمل على كتافهم المنذر بن قدامة السلمي من بني السلم. فكلم عبد الله بن أبي بن سلول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألح عليه. فقال: خذهم. وأمر بهم أن يجلوا من المدينة، وولى إخراجهم منها عبادة بن الصامت. فلحقوا بأذرعات، فما كان أقل من بقائهم فيها. وتولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة. ثم خمست، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من سلاحهم ثلاثة أسياف، ودرعين، وغير ذلك.
(غزوة بني النضير)
قال معمر، عن الزهري، عن عروة: كانت غزوة بني النضير وهم طائفة من اليهود، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر. وكانت منازلهم ونخلهم بناحية المدينة. وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، على أن لهم ما أقلت الإبل إلا السلاح. فأنزلت هو الذي أخرج الذين

(2/148)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 149
كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر الآيات. فأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء. وكان الله قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي. وقوله لأول الحشر أي كان جلاؤهم ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام. ويرويه عقيل عن الزهري قوله: وأسنده زيد بن المبارك الصنعاني، ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة. وذكر عائشة فيه غير محفوظ. وقال ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: إن يهود بني النضير، وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى بني النضير، وأقر قريظة ومن عليهم، حتى حاربوا بعد ذلك. أخرجه البخاري. وقال معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس): والخزرج قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبناً، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه أو لنسيرن إليكم بجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغه ذلك فلقيهم فقال: لقد بلغ وعد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم. تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم فلما سمعوا ذلك تفرقوا. فبلغ ذلك كفار قريش فكتبوا

(2/149)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 150
بعد بدر، إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصن وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء. وهي الخلاخيل. فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم، أجمعت بنو النضير بالغدر. وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبراً، حتى نلتقي بمكان المنصف، فيسمعوا منك، فإن صدقوا وآمنوا بك آمنا بك. فقص خبرهم. فلما كان الغد، غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحصرهم، فقال لهم: إنكم والله لا تأمنون عندي إلا بعهد تاهدوني عليه. فأبوا أن يعطوه عهداً، فقاتلهم يومهم ذلك. ثم غدا على بني قريظة بالكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه. فعاهدوه، فانصرف عنهم. وغدا إلى بني النضير بالكتائب، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء. فجلت بنو النضير، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبوابهم وخشبهم. فكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، أعطاه الله إياها، فقال وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، يقول: بغير قتال. فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها المهاجرين وقسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من الأنصار كانا ذوي حاجة. وبقي

(2/150)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 151
منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة رضي الله عنها. وذهب موسى بن عقبة، وابن إسحاق إلى أن غزوة بني النضير كانت بعد أحد، وكذلك قال غيرهما. ورواه ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة. وهذا حديث موسى وحديث عروة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بني النضير يستعينهم في عقل الكلابيين. وكانوا زعموا قد دسوا إلى قريش حين نزلوا بأحد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحضرهم على القتال ودلوهم على العورة. فلما كلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقل الكلابيين، قالوا: إجلس يا أبا القاسم حتى تطعم وترجع بحاجتك ونقوم فنتشاور. فجلس بأصحابه. فلما): خلوا والشيطان معهم، ائتمروا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لن تجدوه أقرب منه الآن، فاستريحوا منه تأمنوا. فقال رجل: إن شئتم ظهرت فوق البيت الذي هو تحته فدليت عليه حجراً فقتلته. فأوحى الله إليه فأخبره بشأنهم وعصمه، فقام كأنه يقضي حاجة. وانتظره أعداء الله، فراث عليهم. فأقبل رجل من المدينة فسألوه عنه فقال: لقيته قد دخل أزقة المدينة. فقالوا لأصحابه: عجل أبو القاسم أن نقيم أمرنا في حاجته. ثم قام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا ونزلت يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم الآية. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجلاءهم، وأن يسيروا حيث شاءوا. وكان النفاق قد كثر بالمدينة. فقالوا: أين تخرجناً قال: أخرجكم إلى الحشر. فلما

(2/151)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 152
سمع المنافقون ما يراد بأوليائهم أرسلا إليهم: إنا معكم محيانا ومماتنا، إن قوتلتم فلكم علينا النص، وإن أخرجتم لم نتخلف عنكم. وسيد اليهود أبو صفية حيي بن أخطب. فلما وثقوا بأماني المنافقين عظمت غرتهم ومناهم الشيطان الظهور، فنادوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إنا، والله، لا نخرج ولئن قاتلتنا لنقاتلنك. فمضى النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الله فيهم، وأمر أصحابه فأخذوا السلاح ثم مضى إليهم. وتحصنت اليهود في دورهم وحصونهم. فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزقتهم وحصونهم كره أن يمكنهم من القتال في دورهم وحصونهم، وحفظ الله له أمره وعزم له على رشده، فأمر أن يهدم الأدنى فالأدنى من دورهم، وبالنخل أن تحرق وتقطع، وكف الله أيديهم وأيدي المنافقين فلم ينصروهم، وألقى في قلوب الفريقين الرعب. ثم جعلت اليهود كلما خلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من هدم ما يلي مدينتهم، ألقى الله في قلوبهم الرعب، فهدموا الدور التي هم فيها من أدبارها، ولم يستطيعوا أن يخرجوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يهدمون شيئاً فشيئاً. فلما كادت اليهود أن تبلغ آخر دورها، وهم ينتظرون المنافقين وما كانوا منوهم، فلما يئسوا مما عندهم، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان عرض عليهم قبل ذلك، فقاضاهم على أن يجليهم، ولهم أن يحملوا ما استقلت به الإبل إلا السلاح. وطاروا كل مطير، وذهبوا كل مذهب. ولحق بنو أبي الحقيق بخيبر ومعهم آنية كثيرة من فضة، فرآها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون. وعمد حيي بن أخطب حتى قدم مكة على): قريش، فاستغواهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبين الله لرسوله حديث أهل النفاق، وما بينهم وبين اليهود، وكانوا قد عيروا المسلمين حين قطعوا النخل وهدموا. فقالوا: ما ذنب الشجرة وأنتم تزعمون أنكم مصلحون فأنزل الله سبح لله سورة الحشر. ثم جعلها نفلاً لرسوله، فقسمها فيمن أراه الله من المهاجرين. وأعطى منها أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف،

(2/152)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 153
الأنصاريين. وأعطى زعموا سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق. وكان إجلاء بني النضير في المحرم سنة ثلاث. وأقامت بنو قريظة في المدينة في مساكنهم، لم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ولا إخراج حتى فضحهم الله بحيي بن أخطب وبجموع الأحزاب. هذا لفظ موسى، وحديث عروة بمعناه، إلى إعطاء سعد السيف. وقال موسى بن عقبة وغيره، عن نافع، عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحق. لها يقول حسان بن ثابت.
(وهان على سراة بني لؤي.......... حريق بالبويرة مستطير)
وفي ذلك نزلت هذه الآية ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله. متفق عليه. وقال عمرو بن دينار، عن الزهري، عن مالك بن أوس، عن عمر رضي الله عنه أن أموال بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب. فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ينفق

(2/153)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 154
منها على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله. أخرجاه.
(سرية زيد بن حارثة إلى القردة)
قال ابن إسحاق: وسرية زيد التي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، حين أصاب عير قريش وفيها أبو سفيان على القردة ماء من مياه نجد. وكان من حديثها أن قريشاً خافوا طريقهم التي كانوا يسلكون إلى الشام حين جرت وقعة بدر، فسلكوا طريق العراق. فخرج منها تجار فيهم أبو سفيان، واستأجروا رجلاً من بني بكر بن وائل يقال له: فرات بن حيان يدلهم. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، فلقيهم على ذلك الماء، فأصاب تلك العير وما فيها، وأعجزهم الرجال، فقدم بها على رسول الله): صلى الله عليه وسلم.
(غزوة قرقرة الكدر)
قال الواقدي: إنها في المحرم سنة ثلاث. وهي ناحية معدن بني سليم. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم. وكان صلى الله عليه وسلم بلغه أن بهذا الموضع جمعاً من سليم وغطفان. فلم يجد في المجال أحداً، ووجد رعاء منهم غلام يقال له يسار، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2/154)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 155
وقد ظفر بالنعم، فانحدر به إلى المدينة فاقتسموها بصرار على ثلاث أميال من المدينة، وكانت النعم خمسمائة بعير، وأسلم يسار. القرقرة أرض ملساء، والكدر طير في ألوانها كدرة، ومنهم من يقول قرارة الكدر يعني أنها مستقر هذا الطير.

(2/155)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 156

(2/156)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 157
(مقتل كعب بن الأشرف)
قال ابن إسحاق من طريق يونس بن بكير: حدثني عبد الله بن أبي بكر، وصالح بن أبي أمامة بن سهل، قالا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر بشيرين إلى أهل المدينة فبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، وبعث عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية، فبشروا ونعوا أبا جهل وعتبة والملأ من قريش. فلما بلغ ذلك كعب بن الأشرف قال: ويلكم، أحق هذا هؤلاء ملوك العرب وسادة الناس. ثم خرج إلى أبي وداعة، فجعل يبكي على قتلى قريش، ويحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
(طحنت رحى بدر لمهلك أهلها.......... ولمثل بدر تستهل وتدمع)

(قتلت سراة الناس حول حياضهم.......... لا تبعدوا إن الملوك تصرع)

(2/157)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 158
(كم قد أصيب بها من أبيض ماجد.......... ذي بهجة تأوي إليه الضيع)

(ويقول أقوام أذل بسخطهم.......... إن ابن الأشرف ظل كعباً يجزع)

(صدقوا فليت الأرض ساعة قتلوا.......... ظلت تسوخ بأهلها وتصدع)

(نبئت أن بني كنانة كلهم.......... خشعوا لقول أبي الوليد وجدعوا)
قال ابن إسحاق: ثم رجع إلى المدينة فشبب بأم الفضل بنت الحارث:):
(أراحل أنت لم تحلل بمنقبة.......... وتارك أنت أم الفضل بالحرم)
في كلام له. ثم شبب بنساء المسلمين حتى آذاهم. وقال موسى بن عقبة: كان ابن الأشرف قد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء، وركب إلى قريش فقدم عليهم فاستغواهم على رسول الله، فقال له أبو سفيان: أناشدك الله، أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه قال: أنتم أهدى منهم سبيلاً. ثم خرج مقبلاً قد أجمع رأي المشركين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم معلناً بعداوته وهجائه. وقال محمد بن يونس الجمال المخرمي الذي قال فيه ابن عدي: كان عندي ممن يسرق الحديث. قلت: لكن روى عنه مسلم ثنا ابن

(2/158)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 159
عيينة، ثنا عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قدم حبي بن أخطب، وكعب بن الأشرف مكة على قريش فحالفوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا لهم: أنتم أهل العلم القديم وأهل الكتاب، فأخبرونا عنا وعن محمد، قالوا: ما أنتم وما محمد قالوا: نحن ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونفك العناة ونسقي الحجيج، ونصل الأرحام. قالوا: فما محمد قالوا: صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار. قالوا: لا، بل أنتم خير منه وأهدى سبيلاً. فأنزل الله ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت الآية. قال سفيان: كانت غفار سرقة في الجاهلية. وقال إبراهيم بن جعفر بن محمد بن مسلمة، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: ولحق كعب بن الأشرف بمكة إلى أن قدم المدينة معلناً بمعاداة النبي صلى الله عليه وسلم وهجائه، فكان أول ما خرج منه قوله:
(أذاهب أنت لم تحلل بمنقبة.......... وتارك أنت أم الفضل بالحرم)

(صفراء رادعة لو تعصر أنعصرت.......... من ذي القوارير والحناء والكتم)

(إحدى بني عامر هام الفؤاد بها.......... ولو تشاء شفت كعباً من السقم)

(2/159)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 160
(لم أر شمساً بليل قبلها طلعت.......... حتى تبدت لنا في ليلة الظلم)
وقال: طحنت رحى بدر لمهلك أهلها الأبيات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً: من لكعب بن الأشرف فقد آذانا بالشعر وقوى المشركين علينا. فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله. قال: فأنت. فقام فمشى ثم رجع فقال: إني قائل): قال: فأنت في حل: فخرج محمد، بعد يوم أو يومين، حتى أتى كعباً وهو في حائط فقال: يا كعب، جئت لحاجة الحديث. وقال ابن عيينة: قال عمرو بن دينار: سمعت جابراً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله، أعجب إليك أن أقتله قال: نعم. قال: فأذن لي أن أقول شيئاً. قال: قل. فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وقد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك. قال: وأيضاً لتملنه. قال: إنا قد اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا. قال: ارهنوني نساءكم. قال: نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب قال: فارهنوني أبناءكم. قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب قال: فارهنوني أبناءك. قال: كيف نرهنك أبناءنا فيقال رهن بوسق أو وسقين قال: فأي شيء قال: نرهنك اللأمة.

(2/160)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 161
فواعده أن يأتيه ليلاً، فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاه من الحصن فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة قال: إنما هو أخي أبو نائلة ومحمد بن مسلمة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب. قال محمد: إني إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه ثم أشمكم، فإذا رأيتموني أثبت يدي فدونكم. فنزل إليهم متوشحاً، وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال محمد: ما رأيت كاليوم ريحاً، أي أطيب، أتأذن لي أن أشم رأسك قال: نعم. فشمه ثم شم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي يعني ثانياً. قال: نعم. فلما استمكن منه قال: دونكم. فضربوه فقتلوه. وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه. أخرجه البخاري. وقال شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه، أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعراً، وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط، منهم المسلمون، ومنهم عبدة الأوثان، ومنهم اليهود، وهم أهل الحلقة والحصون، وهم حلفاء الأوس والخزرج، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يؤذونه أشد الأذى، فأمر الله رسوله والمسلمين بالصبر والعفو، فقال تعالى: ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وقال: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم

(2/161)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 162
من بعد إيمانكم كفاراً حسداً): من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أن يبعث رهطاً ليقتلوا كعباً، فبعث إليه سعد محمد بن مسلمة وأبا عبس، والحارث ابن أخي سعد بن معاذ في خمسة رهط أتوه عشية، وهو في مجلسهم بالعوالي. فلما رآهم كعب أنكرهم وكاد يذعر منهم، فقال لهم: ما جاء بكم قالوا: جاءت بنا إليك الحاجة. قال: فليدن إلي بعضكم فليحدثني بها. فدنا إليه بعضهم فقال: جئناك لنبيعك أدراعاً لنا لنستنفق أثمانها. فقال: والله لئن فعلتم ذلك لقد جهدتم، قد نزل بكم هذا الرجل. فواعدهم أن يأتوه عشاء حين يهدأ عنهم الناس. فجاءوا فناداه رجل منهم، فقام ليخرج فقالت امرأته: ما طرقوك ساعتهم هذه لشيء تحب. فقال: بل إنهم قد حدثوني حديثهم. فاعتنقه أبو عبس، وضربه محمد بن مسلمة بالسيف، وطعنه بعضهم بالسيف في خاصرته. فلما قتلوه فزعت اليهود ومن كان معهم من المشركين. فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبحوا فقالوا: إنه طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من سادتنا فقتل، فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول في أشعاره. ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب بينه وبينهم كتاباً، فكتب بينهم صحيفة، وكانت تلك الصحيفة بعده عند علي. أخرجه أبو داود.

(2/162)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 163
وذكر موسى بن عقبة وغيره أن عباد بن بشر كان معهم، فأصيب في وجهه بالسيف أو رجله. وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ومشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم. وذكر البكائي، عن ابن إسحاق هذه القصة بأطول مما هنا وأحسن عبارة، وفيه: فاجتمع في قتله محمد، وسلكان بن سلامة بن وقش وهو أبو نائلة الأشهلي وعباد بن بشر، وأبو عبس بن جبر الحارثي. فقدموا إلى ابن الأشرف سلكان، فجاءه فتحدث معه ساعة وتناشدا شعراً، ثم قال: ويحك يا بن الأشرف، إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني. ورمونا من قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدنا. إلى ما أقول. فقال: إني أردت أن تبيعنا طعاماً ونرهنك ونوثق لك، إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم، وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء. قال: فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم): خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه. واجتمعوا، وساق القصة.

(2/163)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 164
قال ابن إسحاق: وأطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل اليهود، وقال: من ظفرتم به من اليهود فاقتلوه. وحينئذ أسلم حويصة بن مسعود. وكان قد أسلم قبله أخوه محيصة. فقتل محيصة بن سنينة اليهودي التاجر، فقام محيصة قبل أن يسلم وجعل يضرب أخاه ويقول: أي عدو الله قتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله. فقال: والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك. قال: والله إن ديناً بلغ بك هذا لعجب. فأسلم حويصة. وفي رمضان: ولد السيد أبو محمد الحسن بن علي، رضي الله عنهما. وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بحفصة بنت عمر. وفي هذه السنة: تزوج أيضاً بزينب بنت خزيمة، من بني عامر بن صعصعة، وهي أم المساكين، فعاشت عنده شهرين أو ثلاثة، وتوفيت. وقيل أقامت عنده ثمانية أشهر، والله تعالى أعلم.

(2/164)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 165
(غزوة أحد)
وكانت في شوال قال شيبان، عن قتادة: واقع نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من العام المقبل بعد بدر في شوال، يوم السبت لإحدى عشرة ليلة مضت من شوال. وكان أصحابه يومئذ سبعمائة، والمشركون ألفين أو ما شاء الله من ذلك. وقال ابن إسحاق: للنصف من شوال وقال مالك: كان القتال يومئذ في أول النهار. وقال بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: رأيت أني قد هززت سيفاً فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت في رؤياي بقراً، والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير

(2/165)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 166
وثواب الصدق الذي آتانا يوم بدر. أخرجاه. وقال وهب بن منبه: أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن ابن عباس قال: تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه): الرؤيا يوم أحد. وذلك أنه لما جاءه المشركون كان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم بالمدينة فيقاتلهم فيها، فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدراً: يخرج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم نقاتلهم بأحد، ورجوا أن يصيبوا من الفضيلة ما أصاب أهل بدر. فما زالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لبس أداته، ثم ندموا وقالوا: يا رسول الله، أقم فالرأي رأيك. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد أن لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه. قالوا: وكان ما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يلبس الأداة: إني رأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة، وأني مردف كبشاً فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أن سيفي ذا الفقار فل فأولته فلاً فيكم، ورأيت بقراً تذبح، فبقر والله خير، فبقر والله خير. وقال يونس، عن الزهري في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، قال: حتى إذا كان بالشوط بني المدينة وأحد، انخزل عبد الله بن أبي بقريب من ثلث الجيش. ومضى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم في سبعمائة. وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، وجعلوا على ميمنة الخيل

(2/166)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 167
خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل. وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، وعن عروة قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وهم ألف، والمشركون ثلاثة آلاف. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، ورجع عن عبد الله بن أبي في ثلاثمائة، فسقط في أيدي الطائفتين، وهمتا أن تفشلا والطائفتان: بنو سلمة وبنو حارثة. وقال ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر: إذ همت طائفتان منكم إن تفشلا بنو سلمة وبنو حارثة، ما أحب أنها لم تنزل لقوله والله وليهما. متفق عليه. وقال شعبة، عن عدي بن ثابت، سمع عبد الله بن يزيد يحدث، عن زيد بن ثابت قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد، رجع ناس خرجوا معه. فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم. فنزلت فما لكم في المنافقين فئتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها طيبة تنفي الخبيث كما تنفي النار خبث الفضة. متفق عليه. وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وقال ميزهم يوم أحد.):

(2/167)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 168
وقال البكائي، عن ابن إسحاق قال: كان من حديث أحد كما حدثني الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر، والحصين بن عبد الرحمن، وغيرهم، كل قد حدث بعض الحديث، وقد اجتمع حديثهم كله فيما سقت في هذا الحديث عن يوم أحد أن كفار قريش لما أصيب منهم أصحاب القليب، ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان ابن حرب بالعير، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان ومن كان له في تلك العير تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأراً بمن أصاب منا. فاجتمعوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة. وكان أبو عزة الجمحي قد من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذا عيال وحاجة، فقال: يا رسول الله، إني فقير ذو عيال وحادة، فامنن علي. فقال له صفوان: يا أبا عزة، إنك أمرؤ شاعر، فأعنا بلسانك فاخرج معنا، فقال: إن محمداً قد من علي فلا أريد أن أظاهر عليه. قال بلى، فأعنا بنفسك، فلك الله علي إن رجعت أن أعينك، وإن أصبت أن

(2/168)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 169
أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. فخرج أبو عزة يسير في تهامة ويدعو كنانة، ويقول:
(إيهاً بني عبد مناة الرزام.......... أنتم حماة وأبوكم حام)

(لا يعدوني نصركم بعد العام.......... لا تسلموني لا يحل إسلام)
وخرج مسافع بن عبد مناف الجمحي إلى بني مالك بن كنانة يدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول شعراً. ودعا جبير بن مطعم غلاماً له حبشياً يقال له وحشي، يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ بها، فقال له: أخرج مع الناس فإن أنت قتلت حمزة بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق. فخرجت قريش بحدها وحديدها وأحابيشها ومن تابعها، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا. وخرج أبو سفيان، وهو قائد الناس، بهند بنت عتبة، وخرج عكرمة بأم حكيم بنت الحارث بن هشام، حتى نزلوا بعينين بجبل أحد ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث

(2/169)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 170
نزلوا، فإن أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها. وكان يكره الخروج إليهم. فقال رجال ممن فاته يوم بدر: يا رسول الله، أخرج بنا إليهم لا): يرون أنا جبناً عنهم. فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ الناس من الصلاة. فذكر خروجه وانخزال ابن أبي بثلث الناس، فاتبعهم عبد الله والد جابر، يقول: أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال. وقالت الأنصار: يا رسول الله، ألا نستعين بحلفائنا من يهود قال: لا حاجة لنا فيهم. ومضى حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال. وتعبأ للقتال وهو في سبعمائة، وأمر على الرماة عبد الله بن جبير وهم خمسون رجلاً، فقال: انضحوا عنا الخيل بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كنت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا تؤتين من قبلك وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير. وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنبوها فجعلوا على الميمنة خالداً، وعلى الميسرة عكرمة. وقال سلام بن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد مرطاً أسود كان لعائشة، وراية الأنصار يقال لها العقاب، وعلى ميمنته علي، وعلى ميسرته المنذر بن عمرو الساعدي، والزبير بن العوام كان على الرجال، ويقال المقداد بن الأسود، وكان حمزة على القلب، واللواء مع مصعب، فقتل، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم

(2/170)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 171
علياً: قال: ويقال كانت ثلاثة ألوية، لواء إلى مصعب بن عمير للمهاجرين، ولواء إلى علي، ولواء إلى المنذر. وقال ثابت، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفاً يوم أحد فقال: من يأخذ مني هذا السيف بحقه فبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول: أنا، أنا. فقال من يأخذه بحقه فأحجم القوم، فقال له أبو دجانة سماك: أنا آخذه بحقه. قال: فأخذه ففلق به هام المشركين. أخرجه مسلم. وقال ابن إسحاق: حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة، أخو بني ساعدة، فقال: وما حقه قال: أن تضرب به في العدو حتى ينحني. قال: فأنا آخذه يا رسول الله. فأعطاه إياه، وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكان إذا قاتل علم بعصابة له حمراء فاعتصب بها على رأسه، ثم جعل يتبختر بين الصفين. فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رآه يتبختر: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن.): وقال عمرو بن عاصم الكلابي: حدثني عبيد الله بن الوزاع، حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير بن العوام قال: عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً يوم أحد فقال: من يأخذه بحقه فقمت فقلت: أنا يا رسول الله. فأعرض عني، ثم قال: من يأخذ هذا السيف بحقه فقام أبو دجانة سماك ابن خرشة فقال: أنا يا رسول الله، فما حقه قال: أن لا تقتل به مسلماً ولا تفر به عن كافر. قال: فدفعه إليه، وكان إذا أراد القتال أعلم بعصابة، فقلت: لأنظرن اليوم كيف يصنع. قال: فجعل لا يرتفع له شيء إلا هتكه

(2/171)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 172
وأفراه، حتى انتهى إلى نسوة في سفح جبل معهن دفوف لهن، فيهن امرأة وهي تقول:
(نحن بنات طارق.......... نمشي على النمارق)

(إن تقبلوا نعانق.......... أو تدبروا نفارق)
فراق غير وامق قال: فأهوى بالسيف إلى امرأة ليضربها، ثم كف عنها. فلما انكشف القتال قلت له: كل عملك رأيت ما خلا رفعك السيف على المرأة ثم لم تضربها. قال أكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقتل به امرأة. وروى جعفر بن عبد الله بن أسلم، مولى عمر، عن معاوية بن معبد ابن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رأى أبا دجانة يتبختر: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن. وقال ابن إسحاق، عن الزهري وغيره، إن رجلاً من المشركين خرج يوم أحد، فدعا إلى البراز، فأحجم الناس عنه حتى دعا ثلاثاً، وهو على جمل له، فقام اليه الزبير فوثب حتى استوى معه على بعيره، ثم عانقه فاقتتلا فوق البعير جميعاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي يلي حضيض الأرض مقتول. فوقع المشرك ووقع عليه الزبير فذبحه. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم

(2/172)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 173
قرب الزبير فأجلسه على فخذه وقال: إن لكل نبي حوارياً والزبير حواري. قال ابن إسحاق: واقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وآخرون. وقال زهير بن معاوية: ثنا أبو إسحاق، سمعت البراء يحدث قال: جعل رسول الله صلى الله): عليه وسلم على الرماة يوم أحد، وكانوا خمسين، عبد الله بن جبير، وقال: إذا رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، قال: فهزمهم. فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل قد بدت خلاخيلهن وسوقهن رافعات ثيابهن. فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة، أي قوم، الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون فقال عبد الله لهم: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة: فأتوهم فصرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين. فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم. فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً. فأصابوا منا سبعين. فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد أفي القوم محمد ثلاث مرات. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة، فأي القوم ابن أبي قحافة ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب ثلاثاً. ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك. فقال:

(2/173)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 174
يوم بيوم بدر والحرب سجال، إنكم ستجدون مثلة لم أمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز: أعل هبل، أعل هبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبوه قالوا: ما نقول قال: قولوا: الله أعلى وأجل. ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ألا تجيبوه قالوا: ما نقول قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. أخرجه البخاري. وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق فحدثني الحصين بن عبد الرحمن، عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السكن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد حين غشيه القوم: من رجل يشري منا نفسه فقام زياد بن السكن في خمسة من الأنصار وبعض الناس يقول: هو عمارة بن زياد بن السكن، فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجل ثم رجل يقتلون دونه، حتى كان آخرهم زياداً أو عمارة، فقاتل حتى أثبتته الجراحة. ثم فاءت من المسلمين فئة فأجهضوهم عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدنوه مني. فأدنوه منه، فوسده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.): وترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه، يقع النبل في ظهره، وهو

(2/174)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 175
منحني على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كثرت فيه النبل. وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، وغيره، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل وتقدم آخر حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا. رواه مسلم. وقال سليمان التيمي، عن أبي عثمان قال: لم يبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن غير طلحة بن عبيد الله وسعد عن حديثهما. متفق عليه. وقال قيس بن أبي حازم: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم، يعني ويوم أحد. أخرجه البخاري. وقال عبد الله بن صالح: حدثني يحيى بن أيوب، عن عمارة بن غزية، عن أبي الزبير مولى حكيم بن حزام، عن جابر قال: انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فبقي معه أحد عشر رجلاً، وطلحة بن عبيد الله، وهو يصعد في الجبل، فلحقهم المشركون. فقال ألا أحد لهؤلاء فقال طلحة:

(2/175)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 176
أنا يا رسول الله. قال: كما أنت يا طلحة. فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله. فقاتل عنه، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، ثم قتل الأنصاري فلحقوه فقال: ألا أحد لهؤلاء فقال طلحة مثل قوله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فأذن له فقاتل ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصعدون، ثم قتل فلحقوه. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل قوله ويقول طلحة: أنا فيحبسه. ويستأذنه رجل من الأنصار فيأذن له، حتى لم يبق معه إلا طلحة، فغشوهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من لهؤلاء فقال طلحة: أنا. فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله، فقال حس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت بسم الله أو ذكرت اسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء. ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون.): وقال عبد الوارث: ثنا عبد العزيز، عن أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوب عنه بحجفة معه. وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثة. وكان الرجل يمر بالجعبة فيها النبل فينثرها لأبي طلحة. ويشرف نبي الله صلى الله عليه وسلم فينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك. ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم وإنهما مشمرتان أرى خدم سوقهما، تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم. ولقد وقع السيف من يدي طلحة من النعاس إما مرتين أو ثلاثاً.

(2/176)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 177
متفق عليه. وقال ابن إسحاق. وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله حتى قتل قتله ابن قميئة الليثي، وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمداً. ولما قتل مصعب أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب ورجالاً من المسلمين. وقال موسى بن عقبة: واستجلبت قريش من شاءوا من مشركي العرب، وسار أبو سفيان في جمع قريش. ثم ذكر نحو ما تقدم، وفيه: فأصابوا وجهه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وقصموا رباعيته، وخرقوا شفته. يزعمون أن الذي رماه عتبة بن أبي وقاص. وعنده المنام، وفيه: فأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا واجعلوا الذراري في الآطام، فإن دخلوا علينا في الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت. وكانوا قد سكوا أزقة المدينة بالبيان حتى كانت كالحصن. فأبى كثير من الناس إلا الخروج، وعامتهم لم يشهدوا بدراً. قال: وليس مع المسلمين فرس. وكان حامل لواء المشركين طلحة بن عثمان، أخو شيبة العبدري، وحامل لواء المسلمين رجل من المهاجرين، فقال: أنا عاصم إن شاء الله لما معي، فقال له طلحة بن عثمان: هل لك في المبارزة قال: نعم فبدره

(2/177)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 178
ذلك الرجل فضرب بالسيف على رأسه حتى وقع السيف في لحيته. فكان قتل صاحب المشركين تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله أرى أني مردف): كبشاً. فلما صرع انتشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وصاروا كتائب متفرقة، فحاسوا العدو ضرباً حتى أجهضوهم عن أثقالهم. وحملت خيل المشركين على المسلمون فنهكوهم قتلاً، فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله قد فتح، قالوا: والله ما نجلس هاهنا لشيء. فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول، فأوجفت الخيل فيهم قتلاً، وكان عامتهم في العسكر. فلما أبصر ذلك المسلمون اجتمعوا، وصرخ صارخ: أخراكم أخراكم، قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسقط في أيديهم، فقتل منهم من قتل، وأكرمهم الله بالشهادة. وأصعد الناس في الشعب لا يلوون على أحد، وثبت الله نبيه، وأقبل يدعو أصحابه مصعداً في الشعب، والمشركون على طريقه، ومعه عصابة منهم طلحة بن عبيد الله والزبير، وجعلوا يسترونه حتى قتلوا إلا ستة أو سبعة. ويقال: كان كعب بن مالك أول من عرف عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين فقد، من وراء المغفر. فنادى بصوته الأعلى: الله أكبر، هذا رسول الله، فأشار إليه زعموا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اسكت. وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيته.

(2/178)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 179
وكان أبي بن خلف قال حين افتدي: والله إن عندي لفرساً أعلفها كل يوم فرق ذرة، ولأقتلن عليها محمداً. فبلغ قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله. فأقبل أبي مقنعاً في الحديد على فرسه تلك يقول: لا نجوت إن نجا محمد. فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال موسى: قال سعيد بن المسيب: فاعترض له رجال، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلوا طريقه، واستقبله مصعب بن عمير يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل مصعب. وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي من فرجة بين سابغة البيضة والدرع، فطعنه فيها بحربته، فوقع أبي عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم. قال سعيد: فكسر ضلع من أضلاعه، ففي ذلك نزلت وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا: ما جزعك إنما هو خدش. فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتل أبياً. ثم قال: والذي نفسي بيده، لو كان هذا الذي بي بأهل): المجاز لماتوا أجمعون. فمات قبل أن يقدم مكة. وقال ابن إسحاق: حدثني حيي بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، أن الزبير قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم سوق هند وصواحباتها مشمرات هوارب، ما دون إحداهن قليل ولا كثير، إذا مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمداً قد قتل، فانكفأنا

(2/179)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 180
وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب لوائهم، حتى ما يدنو منه أحد من القوم. قال ابن إسحاق: لم يزل لواؤهم صريعاً حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية، فرفعته لقريش فلاذوا به. وقال ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله تعالى إذ تحسونهم بإذنه أي تقتلونهم، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم يعني إقبال من أقبل منهم على الغنيمة، والرسول يدعوكم في أخراكم، من بعد ما أراكم ما تحبون يعني النصر. ثم أديل للمشركين عليهم بمعصيتهم الرسول حتى حصبهم النبي صلى الله عليه وسلم. وروى السدي، عن عبد خير، عن عبد الله قال: ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزلت فينا منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة. وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: هزم المشركون يوم أحد هزيمة بينة، فصرخ إبليس: أي عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم واجتلدوا هم وأخراهم. فنظر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أبي، أبي. فوالله ما انحجزوا عنه حتى قتلوه. فقال حذيفة: غفر الله لكم. قال

(2/180)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 181
عروة: فوالله مازالت في حذيفة بقية خير حتى لقي الله. أخرجه البخاري. وقال ابن عون، عن عمير بن إسحاق، عن سعد بن أبي وقاص قال: كان حمزة يقاتل يوم أحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيفين، ويقول: أنا أسد الله. رواه يونس بن بكير، عن ابن عون، عن عمير مرسلاً، وزاد: فعثر فصرع مستلقياً وانكشفت الدرع عن بطنه، فزرقه العبد الحبشي فبقره. وقال عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن أمية الضمري قال: خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار إلى الشام. فلما قدمنا حمص قال عبيد الله: هل لك في وحشي نسأله عن قتل حمزة قلت: نعم. وكان وحشي يسكن): حمص، فسألنا عنه، فقيل لنا: هو ذاك في ظل قصره كأنه حميت. فجئنا حتى وقفنا عليه يسيراً فسلمنا، فرد علينا السلام. وكان عبيد الله معتجراً بعمامته، ما يرى وحشي إلا عينيه ورجليه. فقال عبيد الله: يا وحشي، تعرفني فنظر إليه فقال: لا والله، إلا أني أعلم أن عدي بن الخيار تزوج امرأة يقال لها أم قتال بنت أبي العيص، فولدت غلاماً بمكة فاسترضعته، فحملت ذلك الغلام مع أمه فناولتها إياه، لكأني نظرت إلى قدميك. قال: فكشف عبيد الله عن وجهه، ثم قال: ألا تخبرنا بقتل حمزة قال: نعم. إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ببدر. فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت

(2/181)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 182
حمزة بعمي فأنت حر. فلما خرج الناس عن عينين وعينين جبل تحت أحد، بينه وبين أحد واد خرجت مع الناس إلى القتال. فلما أن اصطفوا للقتال خرج سباع: فقال: هل من مبارز فخرج إليه حمزة، فقال: يا سباع يا بن مقطعة البظور، تحاد الله ورسوله ثم شد عليه، فكان كأمس الذاهب. قال فمكنت لحمزة تحت صخرة حتى مر علي، فرميته بحربتي فأضعها في ثنته حتى خرجت من وركه، فكان ذاك العهد به. فلما رجع الناس رجعت معهم، فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف. قال: وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً، وقيل إنه لا تهيج الرسل، فخرجت معهم. فلما رآني قال: أنت وحشي قلت: نعم. قال: الذي قتل حمزة قلت: نعم، قد كان الأمر الذي بلغك. قال: ما تستطيع أن تغيب عني وجهك قال: فرجعت. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج مسيلمة، قلت: لأخرجن إليه لعلي أقتله فأكافيء به حمزة. فخرجت مع الناس وكان من أمرهم ما كان، فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر رأسه. قال: فأرميه بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته. قال سليمان بن يسار: فسمعت ابن عمر يقول: قالت جارية على ظهر بيت: وا أمير المؤمنين، قتله العبد الأسود.

(2/182)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 183
أخرجه البخاري. قال ابن إسحاق: ذكر الزهري قال: كان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وقول الناس: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كعب بن مالك. قال: عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت: يا معشر المسلمين، أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه): وسلم. فأشار إلي أن أنصت، ومعه جماعة. فلما أسند في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: يا محمد، لا نجوت إن نجوت. الحديث. وقال هاشم بن هاشم الزهري: سمعت سعيد بن المسيب، سمع سعداً يقول: نثل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد، وقال: إرم، فداك أبي وأمي. أخرجه البخاري. وقال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن الزبير قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظاهر بين درعين يومئذ، فلم يستطع أن ينهض إليها، يعني إلى صخرة في الجبل، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استوى عليها. فقال رسول

(2/183)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 184
الله صلى الله عليه وسلم: أوجب طلحة. وقال حميد، عن أنس قال: غاب أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، عن قتال بدر، فقال: غبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئن الله أشهدني قتالاً ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين، واعتذر معاذ، فقال: أي سعد والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد، واهاً لريح الجنة قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. قال أنس: وجدناه بين القتلى، به بضع وثمانون جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، قد مثلوا به فما عرفناه، حتى عرفته أخته ببنانه. قال أنس: فكنا نقول: أنزل فيه هذه الآية رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، أنها فيه وفي أصحابه. متفق عليه، لكن مسلم من حديث ثابت البناني، عن أنس. وقال محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن عمرو بن أقيش كان له رباً في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه. فجاء يوم أحد فقال: أين بنو عمي قالوا: بأحد. فلبس لأمته وركب فرسه ثم توجه قبلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا. قال: إني قد آمنت. فقاتل حتى جرح، فحمل جريحاً، فجاءه سعد بن معاذ فقال لأخته: سليه، حمية

(2/184)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 185
لقومك أو غضباً لله قال: بل غضباً لله ورسوله. فمات فدخل الجنة وما صلى صلاة. أخرجه أبو داود. وقال حيوية بن شريح المصري: حدثني أبو صخر حميد بن زياد، أن يحيى بن النضر حدثه عن أبي قتادة، قال: أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول): الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة وكان أعرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فقتل يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كأني أراك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة. وأمر بهما وبمولاهما فجعلا في قبر واحد. وقال ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب قال، قال عبد الله بن جحش: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غداً فيقتلوني ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني بم ذاك، فأقول: فيك. قال سعيد بن المسيب: إني لأرجو أن يبر الله آخر قسمه كما أبر أوله. وروى الزبير بن بكار في الموفقيات، عن عبد الله بن جحش، أن سيفه انقطع، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عرجوناً فصار في يده سيفاً. فكان يسمى العرجون، ولم يزل يتناول حتى بيع من بغا التركي بمائتي دينار.

(2/185)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 186
وكان عبد الله من السابقين، أسلم قبل دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة هو واخوته وشهد بدراً. وقال معمر، عن سعيد بن عبد الرحمن الجحشي: ثنا أشياخنا أن عبد الله بن جحش جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وقد ذهب سيفه، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عسيباً من نخل، فرجع في يد عبد الله سيفاً. مرسل. عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع، وقال لي: إن رأيته فاقره مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله كيف تجدك فجعلت أطوف بين القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق وبه سبعون ضربة، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول لك: خبرني كيف تجدك قال: على رسول الله السلام وعليك، قل له: يا رسول اله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شفر يطرف. قال: وفاضت نفسه. أخرجه البيهقي، ثم ساقه فيما بعد من حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن المازني، منقطعاً، فهو شاهد لما رواه خارجة. وقال موسى بن عقبة: ثم انكفأ المشركون إلى أثقالهم، لا يدري المسلمون ما يريدون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن رأيتموهم ركبوا وجعلوا الأثقال

(2/186)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 187
تتبع آثار الخيل، فهم يريدون أن يدنوا من البيوت والآطام التي فيها الذراري، وأقسم بالله لئن فعلوا لأوقعنهم في جوفها، وإن): كانوا ركبوا الأثقال وجنبوا الخيل فهم يريدون الفرار. فلما أدبروا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في آثارهم. فلما رجع قال: رأيتهم سائرين على أثقالهم والخيل مجنوبة. قال: فطابت أنفس القوم، وانتشروا يبتغون قتلاهم. فلم يجدوا قتيلاً إلا مثلوا به، إلا حنظلة بن أبي عامر، وكان أبوه مع المشركين فترك لأجله. وزعموا أن أباه وقف عليه قتيلاً فدفع صدره برجله ثم قال: ذنبان أصبتهما، قد تقدمت إليك في مصرعك هذا يا دبيس، ولعمر الله إن كنت لواصلاً للرحم براً بالوالد. ووجدوا حمزة بن عبد المطلب قد بقر بطنه وحملت كبده، احتملها وحشي وقد قتله، فذهب بكبده إلى هند بنت عتبة في نذر نذرته حين قتل أباها يوم بدر. فدفن في نمرة كانت عليه، إذا رفعت إلى رأسه بدت قدماه، فغطوا قدميه بشيء من الشجر. وقال الزهري: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: زملوهم بدمائهم، فإنه ليس أحد

(2/187)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 188
يكلم في الله إلا وهو يأتي يوم القيامة وجرحه يدمي، لونه لون الدم وريحه ريح المسك. وقال: إن المشركين لن يصيبوا منا مثلها. وقد كان أبو سفيان ناداهم حين ارتحل المشركون: إن موعدكم الموسم، موسم بدر. وهي سوق كانت تقوم ببدر كل عام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا له: نعم. قال: ودخل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا النوح في الدور. قال: ما هذا قالوا: نساء الأنصار يبكين قتلاهم. وأقبلت امرأة تحمل ابنها وزوجها على بعير، قد ربطتهما بحبل ثم ركبت بينهما وحمل، قيل: فدفنوا في مقابر المدينة، فنهاهم عن ذلك وقال: واروهم حيث أصيبوا. وقال لما سمع البكاء: لكن حمزة لا بواكي له. واستغفر له، فسمع ذلك سعد بن معاذ وابن رواحة وغيرهما، فجمعوا كل نائحة وباكية بالمدينة، فقالوا: والله لا تبكين قتلى الأنصار حتى تبكين عم رسول الله. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، قال: ما هذا قال: فأخبر، فاستغفر لهم وقال لهم خيراً، وقال: ما هذا أردت وما أحب البكاء، ونهى عنه. وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري قال: انتهى أنس بن النضر إلى عمر، وطلحة، ورجال قد ألقوا بأيديهم فقال: ما يجلسكم فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما تصنعون بالحياة بعده فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم

(2/188)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 189
استقبل القوم فقاتل حتى قتل.): قال ابن إسحاق: وقد كان حنظلة بن أبي عامر التقي هو وأبو سفيان بن حرب، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود. فضرب حنظلة بالسيف فقتله. وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن صاحبكم لتغسله الملائكة، يعني حنظلة، فسألوا أهله ما شأنه فسئلت صاحبته قالت: خرج وهو جنب حين سمع الهيعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لذلك غسلته الملائكة. وقال البكائي، قال ابن إسحاق: وخلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدث بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته. وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص. فحدثني حميد الطويل، عن أنس، قال: كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وشج في وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسحه ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم فنزلت ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم و يعذبهم فإنهم ظالمون. وقال عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد، قال:

(2/189)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 190
جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم، وعلي يسكب الماء عليه بالمجن. فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة حصير أحرقته، حتى إذا صار رماداً ألصقته بالجرح، فاستمسك الدم. أخرجاه، ورواه مسلم من حديث سعيد بن أبي هلال، عن أبي حازم عن سهل، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أصيبت رباعيته وهشمت بيضته. وذكر باقي الحديث. وقال معمر، عن همام، عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله وهو يشير إلى رباعيته اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله. متفق عليه، وللبخاري مثله من حديث عكرمة، عن ابن عباس، لكن فيه: دموا وجه رسول الله، بدل ذكر رباعيته. وقال ابن المبارك، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله: أخبرني عيسى بن طلحة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى ثم قال: ذاك يوم كان كله يوم): طلحة. ثم أنشأ يحدث قال:

(2/190)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 191
كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلاً يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه. وأراده قال: يحميه، فقلت: كان طلحة حيث فاتني ما فاتني، قلت: يكون رجلاً من قومي أحب إلي. وبيني وبين المشركين رجلاً لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وهو يخطف المشي خطفاً لا أخطفه. فإذا هو أبو عبيدة. فانتهينا إلى رسول لله صلى الله عليه وسلم وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه، وقد دخل في وجهه حلقتان من حلق المغفر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكما صاحبكما يريد طلحة وقد نزف. فلم نلتفت إلى قوله، وذهبت لأنزع ذلك من وجهه. فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك بحقي لما تركتني. فتركته. فكره أن يتناولها بيده فيؤذي النبي، فأزم عليهما بفيه، فاستخرج إحدى الحلقتين. ووقعت ثنيته مع الحلقة. وذهبت لأصنع ما صنع، فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني. ففعل ما فعل في المرة الأولى، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة. فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتماً، فأصلحنا من شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار، فإذا بضع وسبعون، أقل أو أكثر، من بين طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه. فأصلحنا من شأنه. وروى الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي الحويرث، عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلاً من المهاجرين يقول: شهدت أحداً، فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه. ولقد رأيت عبد الله بن شهاب

(2/191)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 192
الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد، ثم تجاوزه. فعاتبه في ذلك صفوان، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله أنه منا ممنوع، خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك. قال الواقدي: الثبت عندنا أن الذي رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجنتيه: ابن قمئة، والذي رمى شفتيه وأصاب رباعيته: عتبة بن أبي وقاص. وقال ابن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان، عمن حدثه، عن سعد بن أبي وقاص، قال: والله ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص، وإن كان ما علمته لسيئ الخلق مبغضاً في قومه، ولقد كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.): وقال معمر، عن الزهري، وعن عثمان الجزري، عن مقسم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة حين كسر رباعيته: اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً. فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار. مرسل. ابن وهب: أنبأ عمرو بن الحارث، حدثني عمر بن السائب، أنه بلغه أن والد أبي سعيد الخدري لما جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، مص جرحه حتى أنقاه ولاح أبيض، فقيل له: مجه. فقال: لا والله لا أمجه أبداً. ثم

(2/192)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 193
أدبر فقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا. فاستشهد. قال ابن إسحاق: قال حسان بن ثابت:
(إذا الله جازى معشراً بفعالهم.......... ونصرهم الرحمن رب المشارق)

(فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك.......... ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق)

(بسطت يميناً للنبي تعمداً.......... فأدميت فاه، قطعت بالبوارق)

(فهلا ذكرت الله والمنزل الذي.......... تصير إليه عند إحدى البوائق)
قال ابن إسحاق: وعن أبي سعيد الخدري، أن عتبة كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى. وأن عبد الله بن شهاب شجه في جبهته. وأن ابن قمئة جرح وجنته، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون، فأخذ علي بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعه طلحة حتى استوى قائماً. ومص مالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري الدم عن وجهه ثم ازدرده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مس دمه دمي لم تمسه النار. منقطع. قال البكائي: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده. وأصيبت يومئذ عين قتادة، حتى وقعت على وجنته. فحدثني

(2/193)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 194
عاصم بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها بيده، وكانت أسن عينيه وأحدهما. وقال الواقدي: ثنا موسى بن يعقوب الزمعي، عن عمته، عن أمها، عن المقداد بن عمر، قال: فربما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يوم أحد يرمي عن قوسه، ويرمي بالحجر،): حتى تحاجزوا، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو في عصابة صبروا معه. هذان الحديثان ضعيفان، فيهما أنه رمى بالقوس. وقال سليمان بن أحمد نزيل واسط: ثنا محمد بن شعيب، سمعت إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، يحدث عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري، عن قتادة بن النعمان وكان أخا أبي سعيد لأمه، أن عينه ذهبت يوم أحد، فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فردها، فاستقامت. وقال يحيى الحماني، ثنا عبد الرحمن بن الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن قتادة بن النعمان، أنه أصيبت عينه يوم بدر، فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا. فدعا به فغمز حدقته براحته. فكان لا يدري أي عينيه أصيبت.

(2/194)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 195
كذا قال ابن الغسيل: يوم بدر. وقال موسى بن عقبة: إن أبا حذيفة بن اليمان، واسمه حسيل بن جبير حليف الأنصار، أصابه المسلمون، زعموا، في المعركة لا يدرون من أصابه. فتصدق حذيفة بدمه على من أصابه. قال موسى: وجميع من استشهد من المسلمين تسعة وأربعون رجلاً. وقتل من المشركين ستة عشر رجلاً. وقال بن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قال: حمل أبي بن خلف على النبي صلى الله عليه وسلم يريد قتله، فاستقبله مصعب بن عمير، فقتل مصعباً. وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي فطعنه بحربته فوقع عن فرسه، ولم يخرج منها دم فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور. وروى نحوه الزهري عن ابن المسيب. وذكره الواقدي، عن يونس بن محمد، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه. قال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أبي ببطن رابغ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل إذا نار تأجج لي فهبتها، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح: العطش. ورجل يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبي بن خلف.): وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: ما نصر النبي صلى الله عليه وسلم في موطن كما نصر يوم

(2/195)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 196
أحد. فأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله، إن الله يقول في يوم أحد ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه والحس: القتل حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون الآية. وإنما عني بهذا الرماة. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع. وقال: احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا. فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكفأ عسكر المشركين، نزلت الرماة فدخولا في العسكر ينتهبون، وقد التفت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا وشبك أصابعه، وانتشبوا. فلما خلى الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها، دخل الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فضرب بعضهم بعضاً، والتبسوا. وقتل من المسلمين ناس كثير. وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار، حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة. وجال المسلمون جولة نحو الجبل. وصاح الشيطان: قتل محمد. فلم يشك فيه أنه حق. وساق الحديث. وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة، قال: كنت ممن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مراراً. أخرجه البخاري. وقال حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس، عن أبي طلحة، قال:

(2/196)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 197
رفعت رأسي يوم أحد، فجعلت أنظر، وما منهم أحد إلا وهو يميد تحت حجفته من النعاس. فذلك قوله: ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً الآية. وقال يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، عن الزبير، قال: والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير، وإن النعاس ليغشاني ما أسمعها منه إلا كالحلم، وهو يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. وروى الزهري، عن عبد الرحمن بن مسور بن مخرمة، عن أبيه، قال: ألقي علينا النوم يوم أحد. وقال ابن إسحاق عن عاصم بن عمر، والزهري وجماعة، قالوا: كان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص، اختبر الله به المؤمنين، ومحق به المنافقين ممن كان يظهر إسلامه بلسانه، ويوم): أكرم الله فيه بالشهادة غير واحد، وكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران. وقال المديني، عن سلام بن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم مرطاً أسود كان لعائشة، وراية الأنصار يقال لها العقاب، وعلى الميمنة علي رضي الله عنه، وعلى الميسرة المنذر بن عمرو الساعدي، والزبير بن العوام على الرجال، ويقال

(2/197)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 198
المقداد بن عمرو، وحمزة بن عبد المطلب على القلب، رضي الله عنهم أجمعين. ولواء قريش مع طلحة بن أبي طلحة فقتله علي، فأخذ اللواء سعد بن أبي طلحة فقتله سعد بن مالك، فأخذه عثمان بن أبي طلحة، فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فأخذه الجلاس بن طلحة، فقتله ابن أبي الأقلح أيضاً، ثم كلاب والحارث ابنا طلحة، فقتلهما قزمان حليف بني ظفر، وأرطاة بن عبد شرحبيل العبدري قتله مصعب بن عمير رضي الله عنه، وأخذه أبو يزيد بن عمير العبدري، وقيل عبد حبشي لبني عبد الدار، قتله قزمان. قال ابن إسحاق: وبقي اللواء ما يأخذه أحد، وكانت الهزيمة على قريش. وقال مروان بن معاوية الفزاري: ثنا عبد الواحد بن أيمن، ثنا عبيد بن رفاعة الزرقي، عن أبيه، قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استووا حتى أثني على ربي. فصاروا خلفه صفوفاً فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت. اللهم ابسط علينا من بركاتك، أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم عائذاً بك من سوء ما أعطيتنا وشر ما منعت منا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان،

(2/198)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 199
واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذي أوتوا الكتاب، إله الحق. هذا حديث غريب منك، رواه البخاري في الأدب، عن علي بن المديني، عن مروان.
(عدد الشهداء)
قد مر أن البخاري أخرج من حديث البراء، أن المشركين أصابوا منا سبعين. وقال حماد بن سملة، عن ثابت، عن أنس، قال: يا رب السبعين من الأنصار، سبعين يوم أحد، وسبعين يوم بئر معونة، وسبعين يوم مؤتة، وسبعين يوم اليمامة.): وقال عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب قال: قتل من الأنصار في ثلاثة مواطن سبعون سبعون: يوم أحد، ويوم اليمامة، ويوم جسر أبي عبيد. وقال ابن جريج: أخبرني عمر بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: قد أصبتم مثليها، قال: قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين. وأما ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، فقال: جميع من قتل

(2/199)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 200
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، من قريش والأنصار: أربعة وأربعون، أو قال: سبعة وأربعون رجلاً. وجميع من قتل يوم أحد، يعني من المشركين تسعة عشر رجلاً. وقال موسى بن عقبة: جميع من استشهد من المسلمين، من قريش والأنصار تسعة أو سبعة وأربعون رجلاً. وقال ابن إسحاق: جميع من استشهد من المسلمين، من المهاجرين والأنصار، يوم أحد، خمسة وستون رجلاً. وجميع قتلى المشركين اثنان وعشرون. قلت: قول من قال سبعين أصح. ويحمل قول أصحاب المغازي هذا عدد من عرف اسمه من الشهداء، فإنهم عدوا أسماء الشهداء وأنسابهم. قال ابن إسحاق: استشهد من المهاجرين: حمزة، وعبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي، حليف بني عبد شمس، وهو ابن عمة رسول لله صلى الله عليه وسلم، وقد دفن مع حمزة في قبر واحد. ومصعب بن عمير، وعثمان بن عثمان، ولقبه شماس، وهو عثمان ابن عثمان بن الشريد بن سويد بن هرمي بن عامر بن مخزوم القرشي

(2/200)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 201
المخزومي، ابن أخت عتبة بن ربيعة، هاجر إلى الحبشة وشهد بدراً. ولقب شماساً لملاحته. ومن الأنصار: عمرو بن معاذ بن النعمان الأوسي، أخو سعد، وابن أخيه الحارث بن أوس بن معاذ، والحارث بن أنس بن رافع، وعمارة بن زياد بن السكن، وسلمة، وعمرو، ابنا ثابت بن وقش. وعمهما: رفاعة بن وقش، وصيفي بن قيظي، وأخوه: حباب، وعباد بن سهل، وعبيد بن التيهان، وحبيب بن زيد، وإياس بن أوس، الأشهيلون. واليمان أبو حذيفة، حليف لهم. ويزيد بن): حاطب بن أمية الظفري، وأبو سفيان بن الحراث بن قيس، وغسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر الراهب، ومالك بن أمية وعوف بن عمرو، وأبو حية بن عمرو ابن ثابت، وعبد الله بن جبير بن النعمان، أمير الرماة، وأنس بن قتادة، وخيثمة والد سعد بن خيثمة، وحليفه: عبد الله بن سلمة العجلاني، وسبيع بن حاطب بن الحارث، وحليفه: مالك بن أوس، وعمير بن عدي الخطمي.

(2/201)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 202
وكلهم من الأوس. واستشهد من الخزرج: عمرو بن قيس النجاري، وابنه: قيس، وثابت بن عمرو بن زيد، وعامر بن مخلد، وأبو هبيرة بن الحارث بن علقمة، وعمرو بن مطرف، وإياس بن عيد، وأوس، أخو حسان بن ثابت. وهو والد شداد بن أوس، وأنس بن النضر بن ضمضم، وقيس بن مخلد. وعشرتهم من بني النجار. وعبد لهم اسمه: كيسان، وسلمة بن الحارث، ونعمان بن عبد عمرو، وهما من بني دينار بن النجار. ومن بني الحارث بن الخزرج: خارجة بن زيد بن أبي زهير، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير، وأوس بن أرقم بن زيد، أخو زيد بن أرقم. ومن بني خدرة: مالك بن سنان، وسعيد بن سويد، وعتبة بن ربيع. ومن بني ساعدة: ثعلبة بن سعد بن مالك. وثقف بن فروة، وعبد الله بن عمرو بن وهب. وضمرة، حليف لهم من جهينة. ومن بني عوف بن الخزرج، ثم من بني سالم:

(2/202)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 203
عمرو بن إياس، ونوفل بن عبد الله، وعبادة بن الخشخاش، والعباس بن عبادة بن نضلة. والنعمان بن مالك. والمجذر ابن ذياد البلوي، حليف لهم. ومن بني الحبلي: رفاعة بن عمرو.): ومن بني سواد بن مالك: مالك بن إياس. ومن بني سلمة: عبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح بن زيد بن حرام. وكنا متآخيين وصهرين، فدفنا في قبر واحد. وخلاد بن عمرو بن الجموح. ومولاه أسير، أبو أيمن، مولى عمرو. ومن بني سواد بن غنم: سليم بن عمرو بن حديدة. ومولاه عنترة، وسهيل بن قيس. ومن بني زريق: ذكوان بن عبد قيس، وعبيد بن المعلى بن لوذان.

(2/203)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 204
قال ابن إسحاق: وزعم عاصم بن عمر بن قتادة أن ثابت بن وقش قتل يومئذ مع ابنيه. وذكر الواقدي جماعة قتلوا سوى من ذكرنا. وقال البكائي: قال ابن إسحاق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد رفع حسيل بن جابر والد حذيفة بن اليمان وثابت بن وقش في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران: لا أبا لك، ما ننتظر فوالله ما بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار، إنما نحن هامة اليوم أو غد، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله يرزقنا الشهادة مع رسوله فخرجا حتى دخلا في الناس، ولم يعلم بهما. فأما ثابت فقتله المشركون، وأما حسيل فقتله المسلمون ولا يعرفونه. قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: كان فينا رجل أتي لا يدري ممن هو، يقال له قزمان. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر له: إنه لمن أهل النار. فلما كان يوم أحد قتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين وكان ذا بأس، فأثبتته الجراحة، فاحتمل إلى دار بني ظفر، فجعلوا يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان، فأبشر. قال: بماذا أبشر والله): إن

(2/204)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 205
قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك لما قاتلت. فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهماً فقتل به نفسه. قال ابن إسحاق: وكن ممن قتل يومئذ مخيريق، وكان أحد بني ثعلبة بن الفطيون، قال لما كان يوم أحد: يا معشر اليهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت لكم. فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء. ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا: مخيريق خير يهود. ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى، يجدعن الآذان والأنف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنفهم خدماً، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها. ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها:
(نحن جزيناكم بيوم بدر.......... والحرب بعد الحرب ذات سعر)

(ما كان عن عتبة لي من صبر.......... ولا أخي، وعمه وبكري)

(شفيت صدري وقضيت نذري.......... شفيت وحشي غليل صدري)

(2/205)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 206
وقتل من المشركين، على ما ذكر ابن إسحاق أحد عشر رجلاً من بني عبد الدار، وهم: طلحة، وأبو سعيد، وعثمان: بنو أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى. ومولاهم: صؤاب، وبنو طلحة المذكور: مسافع، والحارث، والجلاس، وكلاب. وأبو يزيد بن عمير أخو مصعب بن عمير، وابن عمه: أرطأة بن عبد شرحبيل بن هاشم، وابن عمهم: قاسط بن شريح، وعبد الله بن حميد بن زهير الأسدي، وسباع بن عبد العزى الخزاعي حليف بني أسد. وأربعة من بني مخزوم: أخو أم سلمة هشام بن أبي أمية بن المغيرة. والوليد بن العاص بن هشام بن المغيرة، وأبو أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، وحليفهم: خالد بن الأعلم. ومن بني زهرة: أبو الحكم بن الأخنس بن شريق، حليف لهم. ومن بني جمح:): أبي بن خلف. وأبو عزة عمرو بن عبد الله بن عمير. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه صبراً، وذلك أنه أسر يوم بدر، وأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم بلا فداء لفقره، وأخذ عليه أن لا يعين عليه. فنقض العهد وأسر يوم أحد، فقال

(2/206)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 207
رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول خدعت محمداً مرتين. وأمر به فضربت عنقه. وقيل لم يؤسر سواه. ومن بني عامر بن لؤي: عبيدة بن جابر. وشبيبة بن مالك. وقال سليمان بن بلال، عن عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة، ورواه حاتم بن إسماعيل، عن عبد الأعلى فأرسله مرة وأسنده مرة عن أبي ذر عوض أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو مقتول على طريقه فوقف عليه ودعا له، ثم قرأ: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً. ثم قال: أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه السلام. وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، وحدثنيه بريدة بن سفيان، عن محمد بن كعب قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بحمزة رضي الله عنه من المثل جدع أنفه ولعب به قال: لولا أن تجزع صفية

(2/207)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 208
وتكون سنة من بعدي ما غيب حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير. وحدثني بريدة، عن محمد بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم. فلما رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما به من الجزع قالوا: لئن ظفرنا بهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد، فأنزل الله: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، إلى آخر السورة. فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى ابن إسحاق عن شيوخه الذين روى عنهم قصة أحد، أن صفية أقبلت لتنظر إلى حمزة وهو أخوها لأبويها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير: إلقها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها. فلقيها فقال: أي أمه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي.): قالت: ولم فقد بلغني أنه مثل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، فلأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فجاء الزبير فأخبره قولها، قال: فخل سبيلها. فأتته، فنظرت إليه واسترجعت واستغفرت له ثم أمر به فدفن. وقال أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس قال: لما قتل حمزة أقبلت صفية، فلقيت علياً والزبير، فأرياها أنهما لا يدريان. فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فإني أخاف على عقلها. فوضع

(2/208)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 209
يده على صدرها ودعا لها، فاسترجعت وبكت. ثم جاء فقام عليه وقد مثل به فقال: لولا جزع النساء لتركته حتى يحشر من حواصل الطير وبطون السباع. ثم أمر بالقتلى فجعل يصلي عليهم سبع تكبيرات، ويرفعون ويترك حمزة، ثم يجاء بسبعة فيكبر عليهم سبعاً، حتى فرغ منهم. وحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليهم أصح. وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد صلاته على الميت. فالله أعلم. عثمان بن عمرو، وروح بن عباد، بإسناد الحاكم في المستدرك إليهما ثنا أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أنس قال: لما كان يوم أحد، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة وقد جدع ومثل به، فقال: لولا أن تجد صفية تركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع. فكفنه في نمرة. ولم يصل على أحد من الشهداء غيره. الحديث. وقال يحيى الحماني: ثنا قيس هو ابن الربيع عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قتل حمزة ومثل به: لئن ظفرت بقريش لأمثلن بسبعين منهم فنزلت: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نصبر يا رب. إسناده ضعيف من قبل قيس. وقد روى نحوه حجاج بن منهال، وغيره، عن صالح المري وهو

(2/209)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 210
ضعيف عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة. وزاد: فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط أوجع منه لقلبه. أخبرنا محمد بن محمد بن صاعد القاضي أنبأ الحسن بن أحمد الزاهد ببيت المقدس سنة تسع وعشرين وستمائة، ثنا أحمد بن محمد السلفي، أنبأ أبو بكر أحمد بن علي، أنبأ الحسن بن أحمد): بن إبراهيم، أنبأ عبد الله ابن جعفر الفارسي، ثنا يعقوب الفسوي، ثنا عبد الله بن عثمان، أنا عيسى ابن عبيد الكندي، حدثني ربيع بن أنس، حدثني أبو العالي، عن أبي بن كعب أنه أصيب من الأنصار يوم أحد أربعة وستون، وأصيب من المهاجرين ستة منهم حمزة. فمثلوا بقتلاهم. فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً من الدهر لنربين عليهم. فلما كان يوم فتح مكة نادى رجل لا يعرف: لا قريش بعد اليوم، مرتين، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم. الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كفوا عن القوم. وقال يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: جاءت صفية يوم أحد ومعها ثوبان لحمزة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم كره أن ترى حمزة على حاله، فبعث إليها الزبير يحبسها وأخذ الثوبين. وكان إلى جنب حمزة قتيل

(2/210)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 211
من الأنصار، فكرهوا أن يتخيروا لحمزة، فقال: أسهموا بينهما، فأيهما طار له أجود الثوبين فهو له. فاسهموا بينهما، فكفن حمزة في ثوب والأنصاري في ثوب. وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال: لما أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد قال: أنا الشهيد على هؤلاء، ما من جريح يجرح في الله إلا بعث يوم القيامة وجرحه يثعب دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك، أنظروا أكثرهم جمعاً للقرآن فاجعلوه أمام صاحبه في القبر. فكانوا يدفنون الاثنين والثلاثة في القبر. قال ابن إسحاق: وحدثني والدي، عن رجال من بني سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أصيب عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو بن حرام: اجمعوا بينهما، فإنهما كانا متصافيين في الدنيا. قال أبي: فحدثني أشياخ من الأنصار قالوا: لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشهداء، واستصرخنا عليهم وقد انفجرت عليهما في قبرهما، فأخرجناهما وعليهما بردتان قد غطى بهما وجوههما. وعلى أقدامهما شيء من نبات الأرض، فأخرجناهما كأنهما يتثنيان تثنياً كأنما دفنا بالأمس. وقال حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر قال: استصرخنا إلى قتلانا يوم أحد، وذلك حين أجرى معاوية العين، فأتيناهم فأخرجناهم تثنى أطرافهم رطاباً، على رأس أربعين سنة.):

(2/211)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 212
قال حماد: وزادني صاحب لي في الحديث: فأصاب قدم حمزة فانثعب دماً. وقال ابن عيينة، عن الأسود، عن نبيح العنزي، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم. وقال أبو عوانة: ثنا الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين لقتالهم. فقال لي أبي: ما عليك أن تكون في النظارة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا، فوالله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي. فبينما أنا في النظارين إذ جاءت عمتي بأبي وخالي عادلتهما على ناضح، فدخلت بهما المدينة، لتدفنهما في مقابرنا، فجاء رجل ينادي: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها. فبينما أنا في خلافة معاوية، إذ جاءني رجل فقال: يا جابر، قد والله أثار أباك عمال معاوية فبدا طائفة منه. قال: فأتيته فوجدته على النحو الذي تركته، لم يتغير منه شيء إلا ما لم يدع القتل أو القتال فواريته. وقال حسين المعلم، عن عطاء، عن جابر قال: لما حضر أحد قال أبي: ما أراني إلا مقتولاً، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن علي ديناً فاقض واستوص بإخوانك خيراً. فأصبحنا

(2/212)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 213
فكان أول قتيل، فدفنت معه آخر في قبر، ثم لم تطب نفسي أن أنزله مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته هنية غير أذنه. أخرجه البخاري. وقال الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب، ثم يقول: أيهما أكثر أخذاً للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد. وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا. أخرجه البخاري عن قتيبة، عن الليث، عنه. وقال أيوب، عن حميد بن هلال، عن هشام بن عامر قال: قالوا يوم أحد: يا رسول الله قد أصابنا قرح وجهد فكيف تأمر قال: احفروا وأوسعوا وأعمقوا واجعلوا الاثنين والثلاثة في القبر، وقدموا أكثرهم قرآناً. ومنهم من يقول: حميد بن هلال، عن سعيد بن هشام بن عامر، عن أبيه. وقال شعبة، عن ابن المنكدر: سمعت جابراً يقول: لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عنه،): وجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهوني، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، وقال لا تبكيه، أو ما تبكيه، فما زالت الملائكة تظله

(2/213)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 214
بأجنحتها حتى رفعتموه. أخرجاه. وأخرج البخاري من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بدفن قتلى أحد في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. وكان يجمع بين الرجلين في الثوب الواحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد. وقال علي بن المديني: ثنا موسى بن إبراهيم الأنصاري، سمع طلحة ابن خراش، قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالي أراك مهتماً قلت: يا رسول الله قتل أبي وترك ديناً وعيالاً. فقال: ألا أخبرك ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحاً، فقال له: يا عبدي سلني أعطك. فقال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانياً. فقال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال: يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله عز وجل: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء الآية. ويروى نحوه عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها. وكان أبو جابر من سادة الأنصار شهد بدراً، وهو أحد النقباء ليلة العقبة، وهو عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة. وأمه الرباب بنت قيس من بني سلمة. شهد معه العقبة ولده رضي الله عنهما.

(2/214)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 215
وعمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم الأنصاري السلمي، سيد بني سلمة، الذي دفن معه. قال ابن سعد وغيره: شهد بدراً. وابنه معاذ بن عمرو بن الجموح هو الذي قطع رجل أبي جهل، وقضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ. وكان عمرو بن الجموح رضي الله عنه زوج أخت عبد الله بن عمرو بن حرام. وعن ثابت البناني، عن عكرمة قال: كان مناف في بيت عمرو بن الجموح. فلما قدم مصعب بن عمير المدينة، بعث إليهم عمرو: ما هذا الذي جئتمونا به قالوا: إن شئت جئنا وأسمعناك، فواعدهم فجاءوا، فقرأ عليه مصعب ألر تلك آيات الكتاب المبين، فقرأ ما شاء الله أن يقرأ. فقال: إن لنا مؤامرة في قومنا وكان سيد بني سلمة فخرجوا، فدخل على مناف فقال: يا مناف، تعلم والله ما يريد القوم غيرك، فهل عندك من نكير قال: فقلده سيفاً، فخرج فقام أهله فأخذوا السيف، فجاء فوجدهم أخذوا السيف فقال: يا مناف أين السيف ويحك إن العنز لتمنع): استها، والله ما أرى في أبي جعار غداً من خير. ثم قال لهم: إني ذاهب إلى مالي فاستوصوا بمناف خيراً. فذهب فكسروا مناف وربطوه مع كلب ميت. فلما جاء رأى مناف، فبعث إلى قومه فجاءوه فقال: ألستم على ما أنا عليه قالوا: بل، أنت سيدنا، قال: فإني أشهدكم أني قد آمنت بمحمد. فلما كان يوم أحد قال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى جنة عرضها

(2/215)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 216
السماوات والأرض فقام وهو أعرج، فقاتل حتى قتل، رضي الله عنه. قال أبو صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عمرو بن الجموح. وروى محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، وروى فطر بن خليفة، عن حبيب بن أبي ثابت وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بني سلمة من سيدكم قالوا: الجد بن قيس، وإنا لنبخله. قال: وأي داء أدوى من البخل بل سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح. وقد قال الواقدي: لم يشهد بدراً، ولما أرد الخروج إلى أحد منعه بنوه وقالوا: قد عذرك الله وبك عرج، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: أما أنت فقد عذرك الله. وقال لبنيه: لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة. فخرج واستشهد هو وابنه خلاد، رضي الله عنهما. وعن إسرائيل، عن سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى، أن عمرو ابن الجموح قال لبنيه: منعتموني الجنة يوم بدر، والله لئن بقيت لأدخلن الجنة. فكان يوم أحد في الرعيل الأول، رضي الله عنه. وقال إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده قال: أتى ابن عوف بطعام فقال: قتل مصعب بن عمير وكان خيراً مني فلم يوجد له إلا بردة

(2/216)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 217
يكفن فيها، ما أظننا إلا قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا. أخرجه البخاري. وقال الأعمش، عن أبي وائل، عن خباب قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من ذهب لم يأكل من أجره، وكان منه مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، ولم يكن له إلا نمرة، كنا إذا غطينا رأسه خرجت رجلاه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر. ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها. متفق عليه. وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن إسماعيل بن محمد بن سعد): بن أبي وقاص، قال: كانت امرأة من بني الأنصار من بني دينار قد أصيب زوجها وأخوها وأبوها يوم أحد. فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: خيراً، يا أم فلان. فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه. فأشاروا لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل أي هين. ويكون في غير ذا بمعنى عظيم.

(2/217)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 218
عن أبي برزة أن جليبيباً كان من الأنصار. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم لرجل: زوجني ابنتك. قال: نعم ونعمة عين. قال: لست أريدها لنفسي. قال: فلمن قال: لجليبيب. قال: أستأمر أمها. فأتاها فأجابت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما يريد ابنتك لجليبيب. قالت: الجليبيب لا لعمر الله لا تزوجه. فلما قام أبوها ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم. قالت: أفتردون عليه أمره ادفعني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لن يضيعني. فذهب أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شأنك بها. فزوجها جليبيباً، ودعا لهما. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغزى له قال: هل تفقدون من أحد قالوا: نفقد فلاناً ونفقد فلاناً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: أفقد جليبيباً، فاطلبوه فنظروا فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مني وأنا منه. قتل سبعة ثم قتلوه. فوضعوه على ساعديه ثم حفروا له، ماله سرير إلا ساعدا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وضع في قبره.

(2/218)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 219
قال ثابت البناني: فما في الأنصار أنفق منها. أخرجه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن كنانة بن نعيم، عن أبي برزة. وقال الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق سألنا عبد الله ابن مسعود عن قوله تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. قال: فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربك إطلاعة فقال: سلوني ما شئتم. فقالوا: يا ربنا وما نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا: فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا قالوا: نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا فنقتل في سبيلك. فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا، تركوا. أخرجه مسلم. وقال عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن): سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر

(2/219)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 220
ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق، لئلا ينكلوا عند الحرب ولا يزهدوا في الجهاد. قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزلت: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً. وقال يونس: قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ذكر أصحاب أحد: أما والله لوددت أني غودرت مع أصحاب نحص الجبل يقول: قتلت معهم. وقال الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم. الحديث أخرجه البخاري. وروى العطاف بن خالد: حدثني عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبور الشهداء بأحد. وروى عبد العزيز بن عمران بن موسى: عن عباد بن أبي صالح، عن أبيه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي قبور الشهداء، فإذا أتى

(2/220)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 221
فرضة الشعب يقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. وكان يفعله أبو بكر ثم عمر بعده ثم عثمان. وذكر نحو هذا الحديث الواقدي في مغازيه بلا سند. وقال أبو حسان الزيادي: ومات في شوال يوم جمعة عمرو بن مالك الأنصاري أحد بني النجار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد فصلى عليه في موضع الجبان. وكان أول من فعل به ذلك.

(2/221)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 222

(2/222)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 223
(غزوة حمراء الأسد)
قال ابن إسحاق: فلما كان الغد من يوم أحد يعني صبيحة وقعة أحد أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لطلب العدو، وأذن مؤذنه: لا يخرج معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس. وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهباً للعدو ليبلغهم أنه قد خرج في أثرهم وليظنوا به قوة.): وقال ابن لهيعة: ثنا أبو الأسود، عن عروة قال: قدم رجل فاستخبره النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان. فقال: نازلتهم فسمعتهم يتلاومون، يقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكة القوم وحدهم، ثم تركتموهم ولم تبيدوهم، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وبهم أشد القرح بطلب العدو، وليسمعوا بذلك. قال: لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال. فقال عبد الله بن أبي: أركب معك

(2/223)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 224
قال: لا. فاستجابوا لله والرسول على ما بهم من البلاء. فانطلقوا، فطلبهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ حمراء الأسد. وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل قال: شهدت أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي وقال لي: تفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووالله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جراحة منه، فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاثاً ثم رجع. وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: يا ابن أختي كان أبوك تعني الزبير وأبا بكر من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. قال: لما انصرف المشركون من أحد وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما أصابهم، خاف أن يرجعوا فقال: من ينتدب لهؤلاء في آثارهم حتى يعلموا أن بنا قوة قال: فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين خرجوا في آثار القوم، فسمعوا بهم. وانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء. قال: لم يلقوا عدواً. أخرجاه.

(2/224)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 225
وقال ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن معبداً الخزاعي مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد. وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله بمكة، صغوهم معه لا يخفون عليه شيئاً كان بها. ومعبد يومئذ مشرك. فقال: يا محمد، والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله عافاك فيهم. ثم خرج حتى لقي أبا محمد): وقادتهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم لنكون على بقيتهم فلنفرغن منهم. فلما رأى أبو سفيان معبداً قال: ما وراءك قال: محمد قد خرج في طلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقاً، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط. قال: ويلك ما تقول قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك، والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتاً. قال: وما قلت قال:
(كادت تهد من الأصوات راحلتي.......... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل)

(2/225)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 226
(تردي بأسد كرام لا تنابلة.......... عند اللقاء، ولا ميل معازيل)

(فظلت عدواً أظن الأرض مائلة.......... لما سموا برئيس غير مخذول)

(فقلت: ويل ابن حرب من لقائكم.......... إذا تغطمطت البطحاء بالجيل)

(إني نذرت لأهل البسل ضاحية.......... لكل ذي إربة منهم ومعقول)

(من جيش أحمد، لا وخش تنابله.......... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل)
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومر ركب من عبد القيس، فقال أبو سفيان: أين تريدون قالوا: المدينة، لنمتار. فقال: أما أنتم مبلغون عني محمداً رسالة، وأحملكم على إبلكم هذه زبيباً بعكاظ غداً إذا وافيتموه قالوا: نعم. قال: إذا جئتم محمداً فأخبروه أنا قد أجمعنا الرجعة إلى أصحابه لنستأصلهم. فلما مر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد أخبروه. فقال هو والمسلمون: حسبنا الله ونعم الوكيل. فأنزلت

(2/226)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 227
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم الآيات. وقال البكائي: قال ابن إسحاق: وكان عبد الله بن أبي بن سلول، كما حدثني الزهري، له مقام يقومه كل جمعة لا يتركه شرفً له في نفسه وفي وقومه. فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يخطب قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم أكرمكم الله به وأعزكم به. فعزروه وانصروه واسمعوا له وأطيعوه. ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ورجع، قام يفعل كفعله، فأخذ المسلمون ثيابه من نواحيه، وقالوا: اجلس أي عدو الله، لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقب الناس ويقول: والله لكأني قلت بجراً أن قمت أشد أمره: فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد فقال: مالك ويلك): قال: قمت أشد أمره فوثب علي رجال من أصحابه يجبذونني ويعنفونني، لكأنما قلت بجراً. قال: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: والله ما أبغي أن يستغفر لي. وقال الواقدي: ثنا إبراهيم بن جعفر، عن أبيه. وثنا سعيد بن محمد ابن أبي زيد، ثنا يحيى بن عبد العزيز بن سعيد قالوا: كان سويد بن

(2/227)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 228
الصامت قد قتل زياداً. فقتله المجذر بن زياد، فهيج بقتله وقعة بعاث. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم المجذر، والحارث بن سويد بن الصامت، فشهدا بدراً. فجعل الحارث يطب مجذراً ليقتله بأبيه. فلما كان يوم أحد أتاه من خلفه فقتله. فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حمراء الأسد أتاه جبريل عليه السلام فأخبره بأنه قتل مجذراً. فركب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء، فأتاه الحارث بن سويد في ملحفة مورسة. فلما رآه دعا عويم بن ساعدة وقال: اضرب عنق الحارث بمجذر ابن ذياد. فقال: والله ما قتلته رجوعاً عن الإسلام ولكن حمية، وإني أتوب إلى الله وأخرج ديته وأصوم وأعتق. وجعل يتمسك بركاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن فرغ من كلامه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قدمه يا عويم فاضرب عنقه. فضرب عنقه على باب المسجد.:

(2/228)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 229
1 (أحداث السنة الرابعة)

(سرية أبي سلمة إلى قطن)
قال الواقدي: حدثنا عمرو بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد اليربوعي، عن سملة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد، وغيره قالوا: شهد أبو سلمة أحداً، وكان نازلاً في بني أمية بن زيد بالعالية، حتى تحول من قباء فجرح بأحد، وأقام شهرً يداوي جرحه. فلما كان هلال المحرم دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها: وعقد له لواء وقال: سر حتى تأتي أرض بني أسد فأغر عليهم. وكان معه خمسون ومائة، فساروا حتى انتهوا إلى أدنى قطن ماء من مياههم فيجدون سرحاً لبني أسد، فأغاروا عليه وأخذوا مماليك ثلاثة، وأفلت سائرهم. ثم رجع إلى المدينة فغاب بضع عشرة ليلة. قال عمرو بن عثمان: فحدثني عبد الملك بن عمير، قال: لما

(2/229)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 230
دخل أبو سلمة المدينة انتقض جرحه، فمات لثلاث بقين من جمادى الآخرة.
(غزوة الرجيع)
وهي في صفر من السنة الرابعة، فيما ورخه الواقدي. وقال: هي على سبعة أميال من عسفان. فحدثني موسى بن يعقوب، عن أبي الأسود قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الرجيع عيوناً إلى مكة ليخبروه. قال إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، أخبرني ابن أسيد بن جارية الثقفي، أن أبا هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط عيناً، وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهداة بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام. فاقتصوا آثارهم، حتى وجدوا مأكلهم التمر، فقالوا، نوى يثرب، فاتبعوا آثارهم. فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد فأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا، فأعطوا بأيديكم، ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحداً. قال عاصم: أما أنا فوالله لا أنزل في ذمة مشرك، اللهم أخبر عنا نبيك. فرموهم بالنبل، فقتلوا عاصماً في سبعة

(2/230)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 231
من أصحابه، ونزل إليهم ثلاثة على العهد والميثاق: خبيب، وزيد بن الدثنة، وآخر. فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها. فقال الرجل الثالث: هذا أول): الغدر، والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء أسوة. يريد القتلى. فجروه وعالجوه، فأبى أن يصحبهم، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب، وزيد، حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر. فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيباً. وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر. فلبث عندهم أسيراً حتى أجمعوا على قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها للقتل فأعارته. فدرج بني لها وهي غافلة حتى أتاه، فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، ففزعت فزعة عرفها خبيب فقال: أتخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك، فقالت: والله ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، والله لقد وجدته يكل قطفاً من عنب وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة، وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيباً. فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم: دعوني أركع ركعتين. فتركوه فركع ركعتين، ثم قال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع من القتل لزدت، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، وقال:
(فلست أبالي حين أقتل مسلماً.......... على أي جنب كان في الله مصرعي)

(وذلك في ذات الإله، وإن يشأ.......... يبارك على أوصال شلو ممزع)
ثم قام أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله.

(2/231)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 232
وكان خبيب هو سن لكل مسلم قتل صبراً الصلاة. واستجاب الله لعاصم يوم أصيب فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أصيبوا خبرهم. وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت ليأتوا منه بشيء يعرف، وكان قتل رجلاً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله على عاصم مثل الظلة من الدبر، فحمته من رسلهم فلم يقدروا على أن يقطعوا منه شيئاً. أخرجه البخاري. وقال موسى بن عقبة، وغير واحد: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت وأصحابه عيناً له، فسلكوا النجدية، حتى إذا كانوا بالرجيع. فذكروا القصة. قال موسى: ويقال: كان أصحاب الرجيع ستة منهم: عاصم، وخبيب، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق حليف لبني ظفر وخالد بن البكير الليثي، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة. وساق حديثهم. وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن نفراً من عضل والقارة): قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بعد أحد فقالوا: إن فينا إسلاماً، فابعث معنا نفراً من أصحابك ليفقهونا في الدين ويقرئونا القرآن، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم خبيب بن عدي.

(2/232)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 233
قال ابن إسحاق: بعث معهم ستة، أمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وسماهم كما قال موسى. قال ابن إسحاق: فخرجوا مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية الحجاز على صدور الهدأة غدروا بهم. فاستصرخوا عليهم هذيلاً، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم، فقالوا لهم: ما نريد قتلكم ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكم علينا عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم. فأما مرثد، وعاصم، وابن الكير فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهداً ولا عقداً أبداً. وأرادت هذيل أخذ رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد، لئن قدرت على عاصم لتشربن في قحفه الخرم، فمنعته الدبر، فانتظروا ذهابها عنه، فأرسل الله الوادي فحمل عاصماً فذهب به. وقد كان عاصم أعطى الله عهداً أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً تنجساً. وأسروا خبيباً، وابن الدثنة، وعبد الله بن طارق، ثم مضوا بهم إلى مكة ليبيعوهم. حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله يده من القران ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بالظهران.

(2/233)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 234
وقال البكائي، عن ابن إسحاق، حدثني يحيى، عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عقبة بن الحارث، سمعته يقول: ما أنا والله قتلت خبيباً، لأنا كنت أصغر من ذلك، ولكن أبا ميسرة أخا بني عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في يدي، ثم أخذ بيدي وبالحربة، ثم طعنه بها حتى قتله. ثم ذكر ابن إسحاق أن خبيباً قال:
(لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا.......... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع)

(فكلهم مبدي العداوة جاهد.......... علي لأني في وثاق مضيع)

(وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم.......... وقربت من جذع طويل ممنع)

(إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي.......... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي)
):
(فذا العرش صبرني على ما يرادني.......... فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي)

(وذلك في ذات الغله وإن يشأ.......... يبارك على أوصال شلو ممزع)

(وقد خيروني الكفر والموت دونه.......... وقد هملت عيناي من غير مجزع)

(وما بي حذار الموت، إني لميت.......... ولكن حذاري جحم نار ببلقع)

(2/234)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 235
(ووالله ما أرجو إذا مت مسلماً.......... على أي جنب كان في الله مصرعي)

(فليست بمبد للعدو تخشعاً.......... ولا جزعاً إني إلى الله مرجعي)
وقال يونس بن بكير، وجعفر بن عون، عن إبراهيم بن إسماعيل، حدثني جعفر بن عمرو بن أمية أن أباه حدثه عن جده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعثه عيناً قال: فجئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون، فأطلقته فوقع بالأرض، ثم اقتحمت فانتبذت قليلاً، ثم التفت فلم أر خبيباً، فكأنما ابتلعته الأرض. زاد جعفر بن عون: فلم يذكر لخبيب رضي الله عنه رمة حتى الساعة.
(غزوة بئر معونة)
قال ابن إسحاق: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب بئر معونة في صفر، على رأس أربعة أشهر من أحد.

(2/235)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 236
وقال موسى بن عقبة: قال الزهري: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله ابن كعب بن مالك، ورجال من أهل العلم، أن عامر بن مالك الذي يدعى ملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرك، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام. فأبى أن يسلم، وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية. فقال: إني لا أقبل هدية مشرك. فقال: ابعث معي من شئ من رسلك، فأنا لهم جار. فبعث رهطاً، فيهم المنذر بن عمرو الساعدي وهو الذي يقال له أعنق ليموت، بعثه عيناً له في أهل نجد. فسمع بهم عامر بن الطفيل، فاستنفر بني عامر، فأبوا أن يطيعوه. فاستنفر بني سليم فنفروا معه. فقتلوهم ببئر معونة، غير عمرو بن أمية الضمري، فإنه أطلقه عامر بن الطفيل. فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن إسحاق: حدثني والدي، عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، وغيرهما، قالوا: قدم أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر، ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام. وقال: يا محمد لو): بعثت معي رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. قال: أخشى عليهم أهل نجد. قال أبو البراء: أنا لهم جار. فبعث المنذر بن عمرو في أربعين رجلاً، فيهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلميي ونافع بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، في خيار المسلمين، فساروا حتى بلغوا بئر معونة، بين أرض بني عامر وحرة بني

(2/236)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 237
سليم. ثم بعثوا حرام بن ملحان بكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلم ينظر في الكتاب حتى قتل الرجل. ثم استصرخ بني سليم فأجابوه وأحاطوا القوم، فقاتلوهم حتى استشهدوا كلهم إلا كعب بن زيد، من بني النجار، تركوه وبه رمق فارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق. وكان في سرح القوم عمرو بن أمية ورجل من الأنصار، فلم يخبرهما بمصاب القوم إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأناً، فأقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري لعمرو: ماذا ترى قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر. فقال الأنصاري: لكني لم أكن لأرغب بنفسي عن مواطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لأخبر عنه الرجال. وقاتل حتى قتل، وأسروا عمراً. فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه. فلما كان بالقرقرة أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا في ظل هو فيه، وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار لم يعلم به عمرو. حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما. فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره فقال: قد قتلت قتيلين، لادينهما. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً. فبلغ ذلك أبا البراء فشق عليه إخفار عامر إياه،

(2/237)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 238
فحمل ربيعة ولد أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه في فخذه فأشواه فوقع من فرسه وقال: هذا عمل أبي براء إن مت فدمي لعمي فلا يتبعن به، وإن أعش فسأرى رأيي. وقال موسى بن عقبة: ارتث في القتلى كعب بن زيد، فقتل يوم الخندق. وقال حماد بن سلمة: أنا ثابت، عن أنس أن ناساً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجالاً يعلموننا القرآن، والسنة. فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم القراء، وفيهم خالي حرام بن ملحان، يقرءون القرآن ويتدارسون بالليل ويتعلمون، وكانوا): بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويتحطبون فيبيعون ويشترون به الطعام لأهل الصفة، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان. قالوا: اللهم بلغ عنا نبيك أن قد لقيناك فرضيت عنا ورضينا عنك. قال: وأتى رجل خالي من خلفه فطعنه بالرمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن إخوانكم قد قتلوا وقالوا: اللهم أبلغ عنا نبيك أن قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا. رواه مسلم. وقال همام وغيره، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: حدثني أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خاله حراماً في سبعين رجلاً فقتلوا يوم بئر معونة. كان رئيس المشركين عامر بن الطفيل، وكان أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

(2/238)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 239
أخيرك بين ثلاث خصال: أن يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء، قال: فطعن في بيت امرأة من بني فلان، فقال: غدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني فلان ائتوني بفرسي، فركبه، فمات على ظهر فرسه. وانطلق حرام ورجلان معه أحدهما أعرج فقال: كونا قريباً مني حتى آتيهم فإن آمنوني كنت كفواً، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم. فأتاهم حرام فقال: أتؤمنوني أبلغكم رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: نعم. فجعل يحدثهم، وأومأوا إلى رجل فأتاه من خلفه فطعنه. قال همام، وأحسبه قال: فزت ورب الكعبة. قال: وقتل كلهم إلا الأعرج، كان في رأس الجبل. قال أنس: أنزل علينا، ثم كان من المنسوخ، إنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضيناه. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين صباحاً على رعل وذكوان وبني لحيان وعصية عصت الله ورسوله. أخرجه البخاري، وقال: ثلاثين صباحاً، هو الصحيح. وروى نحوه قتادة، وثابت، وغيرهما، عن أنس. وبعضهم يختصر الحديث. قال سليمان بن المغيرة، عن ثابت قال: كتب أنس في أهله كتاباً فقال: اشهدوا معاشر القراء. فكأني كرهت ذلك، فقلت: لو سميتهم بأسمائهم وأسماء آبائهم فقال: وما بأس أن أقول لكم): معاشر القراء، أفلا أحدثكم عن إخوانكم الذين كنا ندعوهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم القراء

(2/239)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 240
قال: فذكر أنس سبعين من الأنصار كانوا إذا جنهم الليل أووا إلى معلم بالمدينة فيبيتون يدرسون، فإذا أصبحوا فمن كانت عنده قوة أصاب من الحطب واستعذب من الماء، ومن كانت عنده سعة أصابوا الشاة فأصلحوها. فكان معلقاً بحجر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أصيب خبيب، بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فيهم خالي حرام. فأتوا على حي من بني سليم، فقال حرام لأميرهم: دعني، فلا خير في هؤلاء. إنا ليس إياهم نريد فيخلون وجوهنا. فأتاهم فقال ذلك، فاستقبله رجل منهم برمح فأنفذه به. قال: فلما وجد حرام مس الرمح قال: الله أكبر فزت ورب الكعبة. قال: فانطووا عليهم فما بقي منهم مخبر. قال: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما صلى الغداة رفع يديه يدعو عليهم: فلما كان بعد ذلك، إذا أبو طلحة يقول: هل لك في قاتل حرام قلت: ما له، فعل الله به وفعل. فقال: لا تفعل، فقد أسلم. وقال أبو أسامة: ثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان عامر بن فهيرة غلاماً لعبد الله بن الطفيل بن سخبرة، أخي عائشة لأمها وكانت لأبي بكر منحة، فكان يغدو بها ويروح، ويصبح فيدلج إليهما ثم يسرح فلا يفطن به أحد من الرعاء. ثم خرج معهما يعقبانه حتى قدم المدينة معهما. فقتل عامر بن فهيرة يوم بئر معونة، وأسر عمرو بن أمية. فقال له عامر بن الطفيل: من هذا وأشار إلى قتيل. قال: هذا عامر ابن فهيرة. فقال: لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض. وذكر الحديث. أخرجه البخاري.

(2/240)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 241
قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت يحرض بني أبي البراء على عامر بن الطفيل:
(بني أم البنين ألم يرعكم.......... وأنتم من ذوائب أهل نجد)

(تهكم عامر بأبي براء.......... ليخفره، وما خطأ كعمد)

(ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي.......... فما أحدثت في الحدثان بعدي)

(أبوك أبو الحروب أبو براء.......... وخالك ماجد حكم بن سعد)

(2/241)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 242

(2/242)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 243
(الخلاف في غزوة بني النضير)
وقد تقدمت في سنة ثلاث): ذهب الزهري إلى أنها كانت قبل أحد. وقال غير واحد: كانت بعد أحد، وبعد بئر معونة. أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن، أنا الحسن بن علي بن الحسين بن البن، أنا جدي، أنا أبو القاسم المصيصي، أنا عبد الرحمن بن أبي نصر، أنا لي بن أبي العقب، أنا أحمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن عائذ، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه إلى بني النضير يستعينهم في عقل الكلابيين. قالوا: إجلس أبا القاسم، حتى تطعم وترجع بحاجتك. ثم ساق الحديث كله وتقدم ذكره. وقال الواقدي: حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه قال: لما خرجت بنو النضير أقبل عمرو بن سعدى فأطاف بمنازلهم فرأى خرابها، وفكر ثم

(2/243)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 244
رجع إلى قريظة فيجدهم في الكنيسة فينفخ في بوقهم، فاجتمعوا. فقال الزبير بن باطا: يا أبا سعيد أين كنت منذ اليوم. وكان لا يفارق الكنيسة وكن يتأله في اليهودية، قال: رأيت اليوم عبراً قد عبرنا بها، رأيت منازل إخواننا خالية بعد ذلك العز والجلد والشرف الفاضل والعقل البارع، قد تركوا أموالهم وملكها غيرهم وخرجوا خروج ذل. ولا والتوارة ما سلط هذا على قوم قط لله بهم حاجة. فقد أوقع قبل ذلك بابن الأشرف ذي عزهم بيته في بيته آمناً، وأوقع بابن سنية سيدهم، وأوقع ببني قينقاع فأجلاهم وهم جد يهود، وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة، وحصرهم فلم يخرج إنسان منهم رأسه حتى سباهم، وكلم فيهم فتركهم على أن أجلاهم من يثرب، يا قوم قد رأيتم ما رأيت فأطيعوني وتعالوا نتبع محمداً، فوالله إنكم لتعلمون أنه نبي، وقد بشرنا به وبأمره ابن التيهان وابن الحواس، وهما أعلم يهود، جاءانا من بيت المقدس يتوكفان قدومه، أمرانا باتباعه، وأمرانا أن نقرئه منهما السلام، ثم ماتا على دينهما، فأسكت القوم، فأعاد هذا القول ونحوه، وتخوفهم بالحرب والسباء والجلاء. فقال ابن باطا: والله لقد قرأت في التوراة صفته التي أنزلت على موسى، ليس في المثاني التي أحدثنا. فقال له كعب بن أسد: ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من إتباعه قال: أنت، قال كعب: ولم، التوراة ما حالت بينك وبينه قط، قال الزبير: أنت صاحب عهدنا وعقدنا فإن اتبعته اتبعناه وإن أبيت أبينا. فأقبل عمرو بن

(2/244)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 245
سعدى على كعب فذكر ما تقاولا في ذلك، إلى أن قال كعب: ما عندي في أمره إلا ما قلت، ما تطيب نفسي أن أصير تابعاً.): وقال ابن إسحاق: كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة أربع. وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم ست ليال. قال: ونزل تحريم الخمر.
(غزوة بني لحيان)
قال ابن إسحاق: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى، على رأس ستة أشهر من صلح بني قريظة إلى بني لحيان بطلب بأصحاب الرجيع: خبيب وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة. وقال يونس، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن حزم، وغيره قالوا: لما أصيب خبيب وأصحابه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم طلباً لدمائهم ليصيب من بني لحيان غرة، فسلك طريق الشام وروى على الناس أنه لا يريد بني لحيان، حتى نزل أرضهم وهم من هذيل فوجدهم قد حذروا فتمنعوا في رؤوس الجبال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أنا هبطنا عسفان لرأت قريش أنا قد جئنا مكة. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب حتى نزل

(2/245)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 246
عسفان، ثم بعث فارسين حتى نزلا كراع الغميم ثم انصرفا إليه. فذكر أبو عياش الزرقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعسفان صلاة الخوف. وقال بعض أهل المغازي إن غزوة بني لحيان كانت بعد قريظة.
(غزوة ذات الرقاع)
قال ابن إسحاق: إنها في جمادى الأولى سنة أربع، وهي غزوة خصفة من بني ثعلبة من غطفان. وقال محمد بن إسماعيل رحمه الله: كانت بعد خيبر، لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، يعني وشهدها. قال: وإنما جاء أبو هريرة فأسلم أيام خيبر. وقال ابن إسحاق: في هذه الغزوة سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل نخلاً، فلقي بها جمعاً من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب.

(2/246)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 247
وقد خاف الناس بعضهم بعضاً، حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف. ثم انصرف بالناس. وقال الواقدي: إنما سميت ذات الرقاع لأنها قبل جبل كان فيه بقع حمرة وسواد وبياض، فسمي): ذات الرقاع. قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر خلون من المحرم، على رأس سبعة وأربعين شهرا، وقدم صراراً لخمس بقين من المحرم. وذات الرقاع قريبة من النخيل بين السعد والشقرة. قال الواقدي: فحدثني الضحاك بن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر، وحدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن جابر، قال: وعن مالك، وغيره، عن وهب بن كيسان، عن جابر قال: قدم قادم بجلب له، فاشترى بسوق النبط، وقالوا: من أين جلبك قال: جئت به من نجد، وقد رأيت أنماراً وثعلبة قد جمعوا لكم جموعاً، وأراكم هادين عنهم. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله. فخرج في أربعمائة من أصحابه

(2/247)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 248
وقيل سبعمائة وسلك على المضيق، ثم أفضى إلى وادي الشقرة، فأقام بها يوماً، وبث السرايا، فرجعوا إليه من الليل وأخبروه أنهم لم يروا أحداً، وقد وطئوا آثاراً حديثة. ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى أتى محالهم، فإذا ليس فيها أحد، وهربوا إلى الجبال، فهم مطلون على النبي صلى الله عليه وسلم. وخاف الناس بعضهم بعضاً. وفيها صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف. وقال عبد الملك بن هشام: وإنما قيل لها ذات الرقاع لأنهم رقعوا فيها راياتهم. قال: ويقال ذات الرقاع شجرة هناك. والظاهر أنهما غزوتان. وقال شعيب، عن الزهري، حدثني سنان الدؤلي، وأبو سلمة، عن جابر أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل قفل معه، فأدركته القائلة في واد كثير العضاة، فنزل وتفرق الناس في العضاة يستظلون بالشجر. وقال: هو تحت شجرة فعلق بها سيفه. فنمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فأجبناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتاً، فقال: من يمنعك مني قلت: الله. فشام السيف وجلس. فلم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فعل ذلك. متفق عليه.

(2/248)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 249
قال أبو عوانة، عن أبي بشر: اسم الأعرابي غورث بن الحارث. ثم روى أبو بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم): محارب خصفة بنخل، فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث، حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال: من يمنعك مني قال: الله. فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني قال: كن خير آخذ. قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال: لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله. فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس. ثم ذكر صلاة الخوف، وأنه صلى بكل طائفة ركعتين. وهذا حديث صحيح إن شاء الله. وقال البكائي، عن ابن إسحاق، حدثني وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت الرفاق تمضي، وجعلت أتخلف، حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا جابر قلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا. قال: أنخه. وساق قصة الجمل.
(غزوة بدر الموعد)
قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب وروي عن عروة: أن رسول

(2/249)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 250
الله صلى الله عليه وسلم استنفر المسلمين لموعد أبي سفيان بدراً. وكان صلى الله عليه وسلم أهلاً للصدق والوفاء، فاحتمل الشيطان أولياء من الناس، فمشوا في الناس يخوفونهم وقالوا: أخبرنا أن قد جمعوا لكم مثل الليل من الناس، يرجون أن يوافقوكم فينتهوا بكم، فالحذر لا تغدوا. فعصم الله المسلمين من تخويف الشيطان فاستجابوا لله ولرسوله وخرجوا ببضائع لهم، وقالوا: إن لقينا أبا سفيان فهو الذي خرجنا له، وإن لم نلقه ابتعنا ببضائعنا. وكان بدر متجراً يوافي كل عام. فانطلقوا حتى أتوا موسم بدر، فقضوا منه حاجتهم، وأخلف أبو سفيان الموعد، فلم يخرج هو ولا أصحابه. وأقبل رجل من بني ضمرة، بينه وبين المسلمين حلف فقال: والله إن كنا قد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد، فما أعملكم إلى أهل هذا الموسم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يبلغ ذلك عدوه من قريش: إعمالنا إليه موعد أبي سفيان وأصحابه وقتالهم، وإن شئت مع ذلك نبذنا إليك والى قومك حلفهم ثم جالدناكم. فقال الضمري: معاذ الله.): قال: وذكروا أن ابن الحمام قدم على قريش فقال: هذا محمد وأصحابه ينتظرونكم لموعدكم. فقال أبو سفيان: قد والله صدق. فنفروا وجمعوا الأموال، فمن نشط منهم قوره، ولم يقبل من أحد منهم دون أوقية. ثم سار حتى أقام بمجنة من عسفان ما شاء الله أن يقيم، ثم ائتمر هو وأصحابه فقال أبو سفيان: ما يصلحكم إلا خصب ترعون فيه السمر

(2/250)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 251
وتشربون من اللبن، ثم رجع إلى مكة، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بنعمة من الله وفضل، وكانت تلك غزوة جيش السويق. وكانت في شعبان سنة أربع. وقال الواقدي: كانت بدر الموعد، وتسمى بدر الصغرى، لهلال ذي القعدة على رأس خمسة وأربعين شهراً من مهاجره عليه الصلاة والسلام، وأنه خرج في ألف وخمسمائة من أصحابه، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وكان موسم بدر يجتمع فيه العرب لهلال ذي القعدة إلى ثامنه. فأقام بها المسلمون ثمانية أيام وباعوا بضائعهم، فربح الدرهم درهماً. فانقلبوا بنعمة من الله وفضل.
(غزوة الخندق)
قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع. وقال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة خمس. فالله أعلم. ويقوي الأول قول ابن عمر إنه عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة، فلم يجزه النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه. ولكن هذه التقوية مردودة بما سنذكره في سنة خمس. وفيها توفي عبد الله بن رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوه عثمان رضي الله عنه عن ست سنين. ونزل أبوه في حفرته.

(2/251)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 252
وفيها في شعبان ولد الحسين بن علي رضي الله عنهما. وفيها قتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وأصحابه. وقد ذكروا. وكنية عاصم: أبو سليمان، واسم جده: الأقلح قيس بن عصمة بن بني عمرو بن عوف. ومن ذريته الأحوص الشاعر ابن عبد الله بن محمد بن عاصم بن ثابت. وكان عاصم من الرماة المذكورين، ثبت يوم أحد وقتل غير واحد، وشهد بدراً. وقتل يوم بئر معونة من الصحابة: عامر بن فهيرة مولى الصديق وكان من سادة المهاجرين.): ومن قريش: الحكم بن كيسان المخزومي، ونافع بن بديل بن ورقاء السهمي. وقتل يومئذ من الأنصار: الحراث بن الصمة بن عمرو بن عتيك بن عمرو بن مبذول أبو سعد. فعن محمد بن إبراهيم التيمي، أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين الحارث بن الصمة وصهيب. وقال الواقدي: شهد الحارث أحداً، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعه على الموت، وقتل عثمان بن عبد الله بن المغيرة. وعن المسور

(2/252)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 253
ابن رفاعة أن الحارث خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فكسر بالروحاء، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وضرب له بسهمه وآجره. قال ابن سعد: وله ذرية بالمدينة وبغداد. حرام بن ملحان: واسم ملحان مالك بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار شهد بدراً، وهو أخو أم سليم. قال لما طعن يوم بئر معونة: فزت ورب الكعبة. رضي الله عنه. عطية بن عمرو، من بني دينار. وهذا لم أراه في الصحابة لا بن الأثير. المنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبد ود الساعدي، أحد النقباء ليلة العقبة. شهد بدراً وأحداً. وخنيس هو المعروف بالمعنق ليموت. أنس بن معاوية بن أنس، أحد بني النجار. أبو شيخ بن ثابت بن المنذر، سهل بن عامر بن سعد، من بني النجار كلاهما. معاذ بن مناعص الزرقي، بدري. عروة بن الصلت السلمي حليف الأنصار.

(2/253)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 254
مالك بن ثابت وأخوه: سفيان، كلاهما من بني النبيت. فهؤلاء الذين حفظت أسماؤهم من الشهداء السبعين الذين صح أنه نزل فيهم بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخت. وقيل: بل كانوا اثنين وعشرين راكباً. ولعل الراوي عد الركاب دون الرجالة. أخبرنا إسماعيل بن أبي عمرو، أنا ابن البن، أنا جدي، أنا ابن أبي العلاء، أنا ابن أبي نصر، أنا ابن أبي العقب، أنا أحمد بن البسري، ثنا محمد بن عائذ، أخبرني حجوة بن مدرك الغساني، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث عامر ابن مالك ملاعب الأسنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابعث إلي رهطاً ممن معك يبلغوني عنك وهم في جواري. فأرسل إليه المنذر بن عمرو في اثنين وعشرين راكباً، فلما أتوا): أدنى أرض بني عامر بعث أربعة ممن بعث إلى بعض مياههم، أو قال إلى بعضهم. قال: وسمع عامر بن الطفيل فأتاهم فقاتلهم فقتلهم قال: ورجع الأربعة رهط الذين كان وجه بهم المنذر، فلما دنوا إذا هم بنسور تحوم، قالوا: إنا لنرى نسوراً تحوم، وإنا نرى أصحابنا قد قتلوا فلما أتوهم قال رجلان منهم: لا نطلب الشهادة بعد اليوم، فقاتلا حتى قتلا. ورجع الرجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيا رجلين من بني عامر فسألاهما من هما فأخبراهما فقتلاهما وأخذا ما معهما. وأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه خبر أصحابهم وخبر الرجلين العامريين، وأتياه بما أصابا لهما. فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حلتين كان كساهما فقال: قد كانا منا في عهد. فوداهما إلى قومهما دية الحرين المسلمين. وقال حسان بعد موت عامر بن مالك يحرض ابنه ربيعة:

(2/254)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 255
بني أم البنين ألم يرعكم الأبيات فقال ربيعة: هل يرضى مني حسان طعنة أطعنها عامراً قيل: نعم فشد عليه فطعنه فعاش منها. وفيها توفيت أم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله ابن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة القيسية الهوازنية العامرية الهلالية رضي الله عنها، وكانت تسمى أم المساكين لإحسانها إليهم، تزوجت أولاً بالطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، ثم طلقها فتزوجها أخوه عبيدة بن الحارث، فاستشهد يوم بدر، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثلاث، ومكثت عنده على الصحيح ثمانية أشهر، وقيل كانت وفاتها في آخر ربيع الآخر، وصلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ودفنها بالبقيع، ولها نحو ثلاثين سنة رضي الله عنها. وفيها تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة أم المؤمنين هند بنت أبي أمية واسمه حذيفة، وقيل سهيل، ويدعى زاد الراكب ابن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية، وكانت قبله عند ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأمه برة بنت عبد المطلب، وهاجر بها إلى الحبشة فولدت لها هناك زينب، وولدت له سلمة وعمر ودرة، وكان أخا النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أرضعها وحمزة ثويبة مولاة أبي لهب، ويقال إنه كان أسلم بعد عشرة): أنفس، وكان أول من هاجر إلى الحبشة، ثم كان أول من هاجر إلى المدينة، ولما عبر إلى الله كان الذي أغمضه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا له، وكان قد جرح بأحد

(2/255)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 256
جرحاً، ثم انتفض عليه، فمات منه في جمادى الآخرة سنة أربع. فلما توفي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، حين حلت في شوال، وكانت من أجمل النساء وهي آخر نسائه وفاة. ثم تزوج بعدها بأيام يسيرة، بنت عمته أم الحكم زينب بنت جحش بن رثاب الأسدي، وكان اسمها برة فسماها زينب. وكانت هي وإخوتها من المهاجرين، وأمهم أميمة بنت عبد المطلب، وهي التي نزلت هذه الآية فيها: فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها. وكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من السماء. وفيها نزلت آية الحجاب. وتزوجها وهي بنت خمس وثلاثين سنة. وفي هذه السنة رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهودي واليهودية اللذين زنيا. وفيها توفيت أم سعد بن عبادة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب في بعض مغازيه، ومعه ابنها سعد، قال قتادة، عن سعيد بن المسيب، إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر أم سعد بعد أشهر، والله أعلم.:

(2/256)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 257
1 (أحداث السنة الخامسة)

(غزوة ذات الرقاع)
خرج لها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر خلون من المحرم. قاله الواقدي كما تقدم. وقال ابن إسحاق: إنها في جمادى الأولى سنة أربع.
(غزوة دومة الجندل)
وهي بضم الدال قيل سميت بدومى بن إسماعيل عليه السلام، لكونها كانت منزله ودومة بالفتح موضع آخر. وهذه الغزوة كانت في ربيع الأول. ورجع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليها، ولم يلق كيداً. وقال المدائني: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحرم، يريد أكيدر دومة،

(2/257)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 258
فهرب أكيدر، وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الله بن أبي لبيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر وغيرهما، قالوا: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرب إلى أدنى الشام ليرهب قيصر، وذكر له أن بدومة الجندل جمعاً عظيماً يظلمون من مر بهم. وكان بها سوق وتجار، فخرج رسول الله بألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار، ودليله مذكور العذري، فنكب عن طريقهم، فلما كان بينه وبين دومة يوم قوي، قال له: يا رسول الله إن سوائمهم ترعى عندك، فأقم حتى أنظر. وسار مذكور حتى وجد آثار النعم، فرجع وقد عرف مواضعهم، فهجم النبي صلى الله عليه وسلم على ماشيتهم ورعائهم فأصاب من أصاب، وجاء الخبر إلى دومة فتفرقوا، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم. وهي عن المدينة ستة عشر يوماً، وبينها وبين دمشق خمس ليال للمجد، وبينها وبين الكوفة سبع ليال، وهي أرض ذات نخل، يزرعون الشعير وغيره، ويستقون على النواضح، وبها عين ماء.
(غزوة المريسيع)
وتسمى غزوة بني المصطلق، كانت في شعبان سنة خمسة على الصحيح، بل المجزوم به. قال الواقدي: استخلف النبي صلى الله عليه وسلم فيها على المدينة زيد بن حارثة.

(2/258)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 259
فحدثني): شعيب بن عباد عن المسور بن رفاعة قال: خرج رسول اله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة. وقال يونس بن بكير: قال ابن إسحاق حدثني محمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغه أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية أم المؤمنين، فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالمريسيع، ماء من مياههم، فأعدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتزاحف الناس فاقتتلوا، فهزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وقتل من قتل منهم ونفل نساءهم وأبناءهم وأموالهم، وأقاموا عليهم من ناحية قديد والساحل. وقال الواقدي عن معمر وغيره: أن بني المصطلق من خزاعة كانوا ينزلون ناحية الفرع، وهم حلفاء بني مدلج، وكان رأسهم الحارث بن أبي ضرار، وكان قد سار في قومه ومن قدر عليه، وابتاعوا خيلاً وسلاحاً، وتهيأ للمسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الواقدي: وحدثني سعيد بن عبد الله بن أبي الأبيض، عن أبيه،

(2/259)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 260
عن جدته، وهي مولاة جويرية، قالت سمعت جويرية تقول: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على المريسيع، فأسمع أبي يقول: أتانا ما لا قبل لنا به، قالت وكنت أرى من الناس والخيل والعدد ما لا أوصف من الكثرة، فلما أن أسلمت وتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعنا جعلت أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، فعرفت أنه رعب من الله. وكان رجل منهم قد أسلم يقول: لقد كنا نرى رجالاً بيضاً على خيل بلق، ما كنا نراهم قبل ولا بعد. قال الواقدي: ونزر رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء، وضربت له قبة من أدم، ومعه عائشة وأم سلمة، وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، ثم أمر عمر فنادى فيهم: قولوا: لا إله إلا الله، تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، ففعل عمر، فأبوا. فكان أول من رمى رجل منهم بسهم، فرمى المسلمون ساعة بالنبل، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يحملوا، فحملوا، فما أفلت منهم إنسان، وقتل منهم عشرة وأسر سائرهم، وقتل من المسلمين رجل واحد. وقال ابن عون: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، فكتب إنما كان ذلك في أول الإسلام، قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلهم وسبى سبيهم، فأصاب يومئذ أحسبه قال: جويرية. وحدثني ابن): عمر بذلك، وكان في ذلك الجيش. متفق عليه. وقال إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة الرأي، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، سمع أبا سعيد يقول: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني

(2/260)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 261
المصطلق فسبينا كرائم العرب، وطالت علينا العزبة، ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمع ونعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا عليكم أن لا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون. متفق عليه عن قتيبة عن إسماعيل.

(2/261)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 262

(2/262)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 263
(تزويجه جويرية رضي الله عنها)
وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية في السهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهتها، وقلت: سيرى منها مثل ما رأيت. فلما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، وقد كاتبت فأعني. فقال: أو خير من ذلك، أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك. فقالت: نعم. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ الناس أنه قد تزوجها فقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق فلقد أعتق بها أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة

(2/263)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 264
على قومها منها. وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية. وقال يونس، عن ابن إسحاق حدثني محمد بن يحيى بن حبان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، في قصة بني المصطلق: فبينا النبي صلى الله عليه وسلم مقيم هناك، إذ اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري أجير عمر، وسنان بن وبر. قال: فحدثني محمد بن يحيى أنهما ازدحما على الماء فاقتتلا، فقال سنان: يا معشر الأنصار. وقال جهجاه: يا معشر المهاجرين. وكان زيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبي، يعني ابن سلول، فلما سمعها قال: قد ثاورونا في بلادنا. والله ما أعدنا وجلاليب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك. والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من عنده من): قومه فقال: هذا ما صنعتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم. أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم. فسمعها زيد، فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غليم، وعنده عمر فأخبره الخبر. فقال عمر: يا رسول الله مر عباد بن بشر فليضرب عنقه. فقال: فكيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه لا ولكن ناد يا عمر في الرحيل. فلما بلغ ذلك ابن أبي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر، وحلف له بالله ما قال ذلك، وكان عند قومه بمكان.

(2/264)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 265
فقالوا: يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أوهم. وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجراً في ساعة كان لا يروح فيها. فلقيه أسيد بن حضير فسلم عليه بتحية النبوة ثم قال: والله لقد رحت في ساعة منكرة. فقال: أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبي فقال: يا رسول الله فأنت والله العزيز وهو الذليل. ثم قال: يا رسول الله أرفق به، فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه فإنه ليرى أن قد استبلته ملكاً. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس بقية يومه وليلته، حتى أصبحوا وحتى اشتد الضحى. ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث، فلم يلبث الناس أن وجدوا مس الأرض فناموا. ونزلت سورة المنافقين. وقال ابن عيينة: ثنا عمرو بن دينار، سمعت جابراً يقول: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال دعوى الجاهلية دعوها فإنها منتنة. فقال عبد الله بن أبي بن سلول: أو قد فعلوها لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال: وكانت الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم ثم كثر المهاجرون بعد ذلك. فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه. متفق عليه. وقال عبيد الله بن موسى: أنا إسرائيل، عن أبي سعيد الأزدي، ثنا زيد بن أرقم، قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معنا ناس من

(2/265)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 266
الأعراب. فكنا نبتدر الماء، وكانت الأغراب يسبقوننا، فيسبق الأعرابي أصحابه: فيملأ الحوض ويجعل حوله حجارة، ويجعل النطع حتى يجيء أصحابه فأتى الأنصاري فأرخى زمام ناقته لتشرب فمنعه، فانتزع حجراً ففاض الماء فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبي فأخبره فغضب وقال: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا من): حوله يعني الأعراب. وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال زيد: فسمعته فأخبرت عمي، فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلف وجحد، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني. فجاء إلى عمي فقال: ما أردت أن مقتك رسول الله أو كذبك المسلمون. فوقع علي من الغم ما لم يقع على أحد قط. فبينا أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خفقت برأسي من الهم، إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد أو الدنيا. ثم إن أبا بكر لحقني فقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: ما قال لي شيئاً. فقال أبشر. فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين حتى بلغ منها: الأذل. وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم، قال: سمعت عبد الله بن أبي يقول لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله. وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فذكرت ذلك لعمي فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلفوا ما قالوا، فصدقهم وكذبني، فأصابني هم، فأنزل الله تعالى: إذا جاءك المنافقون، فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها علي، وقال:

(2/266)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 267
إن الله قد صدقك يا زيد. أخرجه خ. وقال أنس بن مالك: زيد بن أرقم هو الذي يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا الذي أوفى الله له بأذنه. أخرجه خ، من حديث عبد الله بن الفضل، عن أنس. وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح تكاد أن تدفن الراكب. فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثت هذه الريح لموت منافق. قال: فقدم المدينة فإذا منافق عظيم مات. أخرجه مسلم. وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قال: فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق عمان سرحوا ظهروهم، وأخذتهم ريح شديدة، حتى أشفق الناس منها، وقيل: يا رسول الله ما شأن هذه الريح فقال: مات اليوم منافق عظيم النفاق، ولذلك عصفت الريح وليس عليكم منها بأس إن شاء الله، وذلك في قصة بني المصطلق. وقال يونس، عن ابن إسحاق، عن شيوخه الذين روى عنهم قصة بني المصطلق قالوا: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان ببقعاء من

(2/267)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 268
أرض الحجاز دون البقيع هبت ريح شديدة فخافها الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تخافوا فإنها هبت): لموت عظيم من عظماء الكفر. فوجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات يومئذ، وكان من بني قينقاع، وكان قد أظهر الإسلام وكان كهفاً للمنافقين. وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من بني المصطلق، أتاه عبد الله بن عبد الله بن أبي فقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالده مني، ولكني أخشى أن تأمر به رجلاً مسلماً فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله يمشي في الأرض حياً حتى أقتله، فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل تحسن صحبته وتترفق به ما صحبنا.

(2/268)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 269
(الإفك)
وكان في هذه الغزوة قال سليمان: ثنا حماد بن زيد، عن معمر، والنعمان بن راشد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه. قالت: فأقرع بيننا في غزاة المريسيع، فخرج سهمي. فهلك في من هلك. وكذلك قال ابن إسحاق، والواقدي وغيرهما إن حديث الإفك كان في غزوة المريسيع. وروي عن عباد بن عبد الله قال: قلت يا أماه حدثيني حديثك في غزوة المريسيع. قرأت على أبي محمد عبد الخالق بن عبد السلام، ببعلبك، أنا عبد الرحمن بن إبراهيم، أنا أبو الحسين عبد الحق اليوسفي، أنا أبو سعد ابن خشيش، أنا أبو علي الحسن بن أحمد، أنا ميمون بن إسحاق،

(2/269)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 270
ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد تحدث بأمري في الإفك واستفيض فيه وما أشعر. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أناس من أصحابه، فسألوا جارية لي سوداء كانت تخدمني فقالوا: أخبرينا ما علمك بعائشة فقالت: والله ما أعلم منها شيئاً أعيب من أنها ترقد ضحى حتى إن الداجن داجن أهل البيت تأكل خميرها. فأداروها وسألوها حتى فطنت، فقالت: سبحان الله، والذي نفسي بيده ما أعلم على عائشة إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر. قالت: فكان هذا وما شعرت. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما): بعد، فأشيروا علي في أناس أبنوا أهلي، وأيم الله إن علمت على أهلي من سوء قط، وأبنوهم بمن، والله إن علمت عليه سوءاً قط، ولا دخل على أهلي إلا وأنا شاهد، ولا غبت في سفر إلا غاب معي. فقال سعد ابن معاذ رضي الله عنه: أرى يا رسول الله أن تضرب أعناقهم. فقال رجل من الخزرج وكانت أم حسان من رهطه، وكان حسان من رهطه: والله ما صدقت، ولو كان من الأوس ما أشرت بهذا. فكاد يكون بين الأوس والخزرج شر في المسجد، ولا علمت بشيء منه، ولا ذكره لي ذاكر. حتى أمسي من ذلك اليوم فخرجت في نسوة لحاجتنا، وخرجت معنا أم مسطح بنت خالة أبي بكر رضي الله عنه فإنا لنمشي ونحن عامدون لحاجتنا، عثرت أم مسطح فقالت: تعس مسطح. فقلت: أي أم، أتسبين ابنك فلم

(2/270)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 271
تراجعني. فعادت فعثرت قالت: تعس مسطح. فقلت: أي أم أتسبين ابنك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تراجعني. ثم عثرت ثالثة فقالت: تعس مسطح. فقلت: أي أم، أتسبين ابنك صاحب رسول الله فقالت: والله ما أسبه إلا من أجلك وفيك. فقلت: وفي أي شأني قالت: وما علمت بما كان فقلت: لا، وما الذي كان قالت: أشهد أنك مبرأة مما قيل فيك. فقلت: وفي أي شأني قالت: وما علمت بما كان فقلت: لا، وما الذي كان قالت: أشهد أنك مبرأة مما قيل فيك. ثم بقرت لي الحديث، فأكر راجعة إلى البيت ما أجد مما خرجت له قليلاً ولا كثيراً. وركبتني الحمى فحممت. فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألني عن شأني، فقلت: أجدني موعوكة، إئذن لي أذهب إلى أبوي. فأذن لي، وأرسل معي الغلام، فقال: إمش معها. فجئت فوجدت أمي في البيت الأسفل، ووجدت أبي يصلي في العلو فقلت لها: أي أمه، ما الذي سمعت فإذا هي لم ينزل بها من حيث نزل مني، فقالت: أي بنية وما عليك، فما من امرأة لها ضرائر تكون جميلة يحبها زوجها إلا وهي يقال لها بعض ذلك. فقلت: وقد سمعه أبي فقالت: نعم، فقلت: وسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم فبكيت، فسمع أبي البكاء، فقال: ما شأنها قالت: سمعت الذي تحدث به. ففاضت عيناه يبكي، فقال: أي بنية، ارجعي إلى بيتك، فرجعت، وأصبح أبواي عندي، حتى إذا صليت العصر دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بين أبوي، أحدهما عن يميني والآخر عن شمالي، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد يا عائشة إن كنت ظلمت أو أخطأت أو أسأت فتوبي وراجعي أمر الله واستغفري، فوعظني، وبالباب امرأة من الأنصار قد سلمت، فهي): جالسة بباب البيت في الحجرة، وأنا أقول: ألا تستحي أن تذكر هذا، والمرأة تسمع، حتى إذا قضى كلامه قلت لأبي وغمزته: ألا

(2/271)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 272
تكلمه فقال: وما أقول له والتفت إلى أمي فقلت: ألا تكلمينه فقالت: وماذا أقول له فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ثم قلت: أما بعد فوالله لئن قلت لكم أن قد فعلت والله يشهد أني لبريئة ما فعلت لتقولن قد باءت به على نفسها واعترفت به، ولئن قلت لم أفعل والله يعلم أني لصادقة ما أنتم بمصدقي. لقد دخل هذا في أنفسكم واستفاض فيكم، وما أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف العبد الصالح وما أعرف يومئذ اسمه: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ونزل الوحي ساعة قضيت كلامي، فعرفت والله البشر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتكلم. فمسح جبهته وجبينه ثم قال: أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله عذرك. وتلا القرآن. فكنت أشد ما كنت غضباً، فقال لي أبواي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا إياكما ولكني أحمد الله الذي برأني. لقد سمعتم فما أنكرتم ولا جادلتم ولا خاصمتم. فقال الرجل الذي قيل له ما قيل، حين بلغه نزول العذر: سبحان الله، فوالذي نفسي بيده ما كشفت قط كنف أنثى. وكان مسطح يتيماً في حجر أبي بكر ينفق عليه، فحلف لا ينفع مسطحاً بنافعة أبداً. فأنزل الله ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة إلى قوله ألا تحبون أن يغفر الله لكم. فقال أبو بكر: بلى والله يا رب، إني أحب أن تغفر لي وفاضت عيناه فبكى، رضي الله عنه. وهذا حديث عال حسن الإسناد، أخرجه البخاري تعليقاً فقال:

(2/272)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 273
وقال أبو أسامة، عن هشام بن عروة. فذكره. وقال الليث واللفظ له وابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، أخبرني عروة، وابن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله ابن عبد الله، عن حديث عائشة، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله وكل حدثني بطائفة من الحديث، وبعض حديثهم يصدق بعضاً، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض. قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج سهمي، فخرجت معه بعد ما نزل الحجاب،): وأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش. فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فالتمسته، وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي واحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت. وهم يحسبون أني فيه. وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام. فلم يستنكروا خفة الهودج حين رفعوه. وكنت جارية حديثة السن. فبعثوا الجمل وساروا. فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب. فأممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم

(2/273)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 274
سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة غلبتني عيني فنمت. وكان صفوان ابن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش. فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفت، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه. فأناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة. فهلك من هلك. وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول. فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهراً، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك. وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل علي فيسلم ثم يقول: كيف تيكم ثم ينصرف. فذلك الذي يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت يوماً بعد ما نقهت. فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. فانطلقت أنا وأم مسطح قبل بيتي، قد فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح. فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهد بدراً قالت: أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال قلت: وماذا فأخبرتني بقول أهل الإفك. فازددت مرضاً على مرضي. فلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال:

(2/274)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 275
كيف تيكم فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي، فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس قالت: يا بنية هوني عليك، فوالله لقلما كنت): امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر، إلا كثرن عليها. فقلت: سبحان الله، ولقد تحدث الناس بهذا فبكيت الليلة حتى لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثم أصبحت أبكي. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله. فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود، فقال أسامة: يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيراً. وأما علي فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، واسأل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك قالت: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، فقال وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت في أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي. فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية، فقال:

(2/275)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 276
كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن خضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان: الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت. قالت: فبكيت يومي ذلك وليلتي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. فأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوماً لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنت علي امرأة من الأنصار فجلست تبكي معي. فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قليل ما قيل قبلها ولقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني شيء. قالت: فتشهد حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه. قالت: فلما قضى): رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة. فقلت لأبي: أجب رسول الله فيما قال. قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله. فقلت لأمي: أجيبي رسول الله. قالت: ما أدري ما أقول له. فقلت وأنا يومئذ حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت

(2/276)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 277
لكم بأمر والله يعلم أني برئية لتصدقني، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا أعلم أني بريئة وأن الله يبرئني ببراءتي. ولكن والله ما ظننت أن الله منزل في شأني وحياً يتلى، ولشأني كان في نفسي أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها. قالت: فوالله ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه. فلما سري عنه وهو يضحك كان أول كلمة تكلم بها: يا عائشة أما والله لقد برأك الله. فقالت أمي: قومي إليه. فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله. وأنزل الله: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم العشر الآيات كلها. فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة. فأنزلت ولا يأتل أول الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولو القربى والمساكين والمهاجرين، في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم قال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً. قالت:

(2/277)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 278
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقالت: أحمي سمعي وبصري ما علمت إلا خيراً. وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك. متفق عليه من حديث يونس الأيلي. وقال أبو معشر: حدثني أفلح بن عبد الله بن المغيرة، عن الزهري قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك فذكر الحديث بطوله عن الأربعة عن عائشة، فقال الوليد: وما ذاك قال: إن رسول الله): صلى الله عليه وسلم غزا غزوة بني المصطلق فساهم بين نسائه، فخرج سهمي وسهم أم سلمة. وقال عبد الرزاق: أنا معمر، عن الزهري قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال: الذي تولى كبره منهم علي. فقلت: لا. حدثني سعيد، وعروة، وعلقمة، وعبيد الله كلهم سمع عائشة تقول: الذي تولى كبره عبد الله بن أبي. قال فقال لي: فما كان جرمه قلت: سبحان الله، أخبرني رجلان من قومك: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول: كان مسلماً في أمري. أخرجه البخاري.

(2/278)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 279
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عروة، عن عائشة قالت: لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم القصة التي نزل بها عذري على الناس، نزل فأمر برجلين وامرأة ممن كان تكلم بالفاحشة في عائشة فجلدوا الحد. قال: وكان رماها ابن أبي، ومسطح، وحسان، وحمنة بنت جحش. وقال شعبة، عن سليمان، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: دخل حسان بن ثابت على عائشة رضي الله عنها فشبب بأبيات له:
(حصان رزان ما تزن بريبة.......... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل)
قالت: لست كذاك. قلت: تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم، قالت: وأي عذاب أشد من العمى وقالت: كان يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي قال: وكان صفوان بن المعطل قد كثر عليه حسان في شأن عائشة، وقال يعرض به:
(أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا.......... وابن الفريعة أمس بيضة البلد)

(2/279)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 280
فاعترضه صفوان ليلة وهو آت من عند أخواله بني ساعدة، فضربه بالسيف على رأسه، فيعدو عليه ثابت بن قيس فجمع يديه إلى عنقه بحبل أسود وقاده إلى دار بني حارثة، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا فقال: ما أعجبك عدا على حسان بالسيف، فوالله ما أراه إلا قد قتله. فقال: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنعت به فقال: لا. فقال: والله لقد اجترأت، خل سبيله. فلما أصبحوا غدوا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له ذلك فقال: أين ابن المعطل فقام إليه، فقال: هاأنذا يا رسول الله، فقال: ما دعاك إلى ما صنعت قال: آذاني وكثر): علي ولم يرض حتى عرض بي في الهجاء، فاحتملني الغضب، وهاأنذا، فما كان علي من حق فخذني به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادعوا لي حسان، فأتى به فقال: يا حسان: أتشوهت على قومي أن هداهم الله للإسلام، يقول: تنفست عليهم يا حسان، أحسن فيما أصابك. فقال: هي لك يا رسول الله. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرين القبطية. فولدت له عبد الرحمن، وأعطاه أرضاً كانت لأبي طلحة تصدق بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحدثني يعقوب بن عتبة، أن صفوان قال حين ضربه:
(تلق ذباب السيف عني فإنني.......... غلام إذا هوجيت لست بشاعر)

(2/280)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 281
وقال حسان لعائشة رضي الله عنها:
(رأيتك وليغفر لك الله، حرة.......... من المحصنات غير ذات غوائل)

(حصان رزان ما تزن بريبة.......... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل)

(وإن الذي قد قيل ليس بلائق.......... بك الدهر بل قيل امرئ متماحل)

(فإن كنت أهجوكم كما بلغوكم.......... فلا رفعت سوطي إلي أناملي)

(فكيف وودي ما حييت ونصرتي.......... لآل رسول الله زين المحافل)

(وإن لهم عزاً يرى الناس دونه.......... قصاراً، وطال العز كل التطاول)
ومنها:
(مهذبة قد طيب الله خيمها.......... وطهرها من كل سوء وباطل)

(عقيلة حي من لؤي بن غالب.......... كرام المساعي مجدهم غير زائل)
استشهد صفوان في وقعة أرمينية سنة تسع عشرة. قاله ابن إسحاق. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد سئل عن ابن المعطل فوجدوه حصوراً ما يأتي النساء. ثم قتل بعد ذلك شهيداً.

(2/281)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 282

(2/282)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 283
(غزوة الخندق)
قال الواقدي: وهي غزوة الأحزاب، وكانت في ذي القعدة. قالوا: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ساروا إلى خيبر، وخرج نفر من وجوههم إلى مكة فألبوا قريشاً ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم على قتاله، وواعدوهم لذلك وقتاً. ثم أتوا غطفان وسليما فدعوهم إلى ذلك، فوافقوهم.): وتجهزت قريش وجمعوا عبيدهم وأتباعهم، فكانوا في أربعة آلاف، وقادوا معهم نحو ثلاثمائة فرس سوى الإبل. وخرجوا وعليهم أبو سفيان ابن حرب، فوافتهم بنو سليم بمر الظهران، وهم سبعمائة. وتلقتهم بنو أسد يقودهم طلحة بن خويلد الأسدي. وخرجت فزارة وهم في ألف بعير يقودهم عيينة بن حصن. وخرجت أشجع وهم أربعمائة يقودهم مسعود بن رخيلة.

(2/283)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 284
وخرجت بنو مرة وهم أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف. وقيل إنه رجع ببني مرة، والأول أثبت. فكان جميع الأحزاب عشرة آلاف، وأمر الكل إلى أبي سفيان. وكان المسلمون في ثلاثة آلاف. هذا كلام الواقدي. وأما ابن إسحاق فقال: كانت غزوة الخندق في شوال. قال: وكان من حديثها أن سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع، وهوذة، في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قدموا مكة فدعوا قريشاً إلى القتال، وقالوا: إنا نكون معكم حتى نستأصل محمداً. فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل كتاب وعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد. أفديننا خير أم دينه قالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق وفيهم نزل: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً الآيات. فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا إلى الحرب واستعدوا له. ثم خرج أولئك النفر اليهود حتى جاءوا غطفان، فدعوهم فوافقوهم. فخرجت قريش، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة في بني فزارة، والحارث بن عوف المري في قومه، ومسعود بن رخيلة فيمن تابعه من قومه

(2/284)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 285
أشجع. فلما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم حفر الخندق على المدينة وعمل فيه بيده، وأبطأ عن المسلمين في عمله رجال منافقون، وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه. وكان في حفره أحاديث بلغتني، منها: بلغني أن جابراً كان يحدث أنهم اشتدت عليهم كدية فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله، ثم نضح الماء على الكدية حتى عادت كثيباً.): وحدثني سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله قال: عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، فكانت عندي شويهة، فقلت: والله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت امرأتي فطحنت لنا شيئاً من شعير، فصنعت لنا منه خبزاً، وذبحت تلك الشاة فشويناها، فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنصراف، وكنا نعمل في الخندق نهاراً فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا، فقلت: يا رسول الله إني قد صنعت كذا وكذا، وأحب أن تنصرف معي، وإنما أريد أن ينصرف معي وحده. فلما قلت له ذلك، قال: نعم. ثم أمر صارخاً فصرخ أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فأقبل وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه، فبرك وسمى، ثم أكل، وتواردها الناس، كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها. وحدثني سعيد بن ميناء أنه حدث أن ابنة لبشير بن سعد قالت: دعتني

(2/285)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 286
أمي عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك، عبد الله بغذائها. فانطلقت بها فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أب وخالين فقال: ما هذا معك قلت: تمر بعثت به أمي إلى أبي وخالي، قال: هاتيه. فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأتهما ثم أمر بثوب فبسط، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق أن هلموا إلى الغداء. فاجتمعوا فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب. وحدثني من لا أتهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه كان يقول حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر وعثمان وما بعده: افتحوا ما بدا لكم، والذي نفس أبي هريرة بيده، ما افتتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة لا وقد أعطى الله محمداً مفاتيحها قبل ذلك. قال: وحدثت عن سلمان الفارسي قال: ضربت في ناحية من الخندق فغلظت علي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني، فلما رآني أضرب نزل وأخذ المعول فضرب به ضربة فلمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب أخرى فلمعت تحته أخرى، ثم ضرب الثالثة فلمعت أخرى. قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا قال: أو قد رأيت قلت: نعم. قال: أما الأولى، فإن الله فتح علي بها اليمن، وأما الثانية، فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق.):

(2/286)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 287
قال ابن إسحاق: ولما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول من رومة بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة وغطفان، فنزلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد بذنب نقمي إلى جانب أحد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف، فعسكروا هنالك، والخندق بينه وبين القوم. فذهب حيي بن أخطب إلى كعب بن أسد القرظي صاحب عهد بني قريظة وعقدهم، وقد كان وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، فلما سمع كعب بحيي أغلق دونه الحصن فأبى أن يفتح له، فناداه: يا كعب افتح لي. قال: إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمداً فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقاً. قال: ويلك افتح لي أكلمك. قال: ما أنا بفاعل. قال: والله إن أغلقت دوني إلا عن جشيشتك أن آكل معك منها. فأحفظه ففتح له فقال: ويحك يا كعب، جئتك بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها فأنزلتهم بذنب نقمي إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا

(2/287)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 288
حتى نستأصل محمداً ومن معه. قال: له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماءه برعد وبرق ليس فيه شيء، يا حيي فدعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاء. فلم يزل حيي بكعب حتى سمح له بأن أعطاه عهداً لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب عهده وبريء مما كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم. ولما انتهى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة سيد الأنصار، ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير رضي الله عنهم، فقال: انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء فإن كان حقاً فالحنوالي لحناً أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس. فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان فيه جدة، فقال له ابن عبادة: دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة. ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه وقالوا: عضل والقارة، أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين. فعظم عند ذلك): الخوف. قال الله تعالى: إذا جاءكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون

(2/288)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 289
وزلزلوا زلزالاً شديداً الآيات. وتكلم المنافقون حتى قال معتب بن قشير أحد بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام عليه المشركون بضعاً وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصار. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما، فجرى بينه وبينهما الصلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك. فلما أن أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، بعث إلى السعدين فاستشارهما فقالا: يا رسول الله أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به لا بد لنا منه، أن شيئاً تصنعه لنا قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم. فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك ولا يطعمون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال: فأنت وذاك. فأخذ سعد الصحيفة فمحاها، ثم قال: ليجهدوا علينا.

(2/289)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 290
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والأحزاب، فلم يكن بينهم قتال إلا فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد ود، وعكرمة بن أبي جهر، وهبيرة بن أبي وهب، وضرار بن الخطاب، تلبسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم، حتى مروا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تهيئوا للقتال يا بني كنانة فستعلمون من الفرسان اليوم، ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كنت العرب تكيدها. فتيمموا مكاناً من الخندق ضيقاً فضربوا خيلهم، فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع. وخرج علي رضي الله عنه في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة، فأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد،): فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه، فلما وقف وهو وخيله قال: من يبارزني فبرز له علي رضي الله عنه، فقال له علي: يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه. قال له: أجل. قال له: فإني أدعوك إلى الله ورسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فإني أدعوك إلى النزال. قال له: لم يا ابن أخي، فوالله ما أحب أن أقتلك. قال علي رضي الله عنه: لكني والله أحب أن أقتلك. فحمي عمرو واقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا، فقتله علي. وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق. وألقى عكرمة يومئذ رمحه وانهزم. وقال علي رضي الله عنه في ذلك:
(نصر الحجارة من سفاهة رأيه.......... ونصرت دين محمد بضراب)

(2/290)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 291
(نازلته فتركته متجدلاً.......... كالجذع بين دكادك وروابي)

(لا تحسبن الله خاذل دينه.......... ونبيه يا معشر الأحزاب)
وحدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل، أن عائشة رضي الله عنها كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن، فمر سعد وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها، وفي يده حربة يرفل بها ويقول:
(لبثت قليلاً يشهد الهيجا حمل.......... لا بأس بالموت إذا حان الأجل)
فقالت له أمه: إلحق أي بني فقد أخرت. قالت عائشة: فقلت لها يا أم سعد لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي. فرمي سعد بسهم قطع منه الأكحل رماه ابن العرقة، فلما أصابه قال: خذها مني وأنا ابن العرقة. فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم فيك من

(2/291)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 292
قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. وكانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت وكان معها فيه مع النساء والولدان. قالت: فمر بنا يهودي فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة ونقضت وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، والنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا. فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن،): وإلي والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأنزل إليه فاقتله. قال: يغفر لك الله يا ابنة عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئاً، احتجزت ثم أخذت عموداً ونزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته. فلما فرغت رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان إنزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل. قال: مالي بسلبه من حاجة. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم. وروى نحوه يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه.

(2/292)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 293
ثم إن نعيم بن مسعود الغطفاني أتى رسول الله فأسلم. وقال: إن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت يا رسول الله. قال إنما أنت فينا رجل واحد فاخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة. فأتى قريظة وكان نديماً لهم في الجاهلية فقال لهم: قد عرفتم ودي إياكم. قالوا صدقت. قال: إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، فلا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمداً حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت بالرأي. ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم فاكتموه علي. قالوا: نفعل. قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد: وأرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، قريش وغطفان، رجلاً من أشرافهم، فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى تستأصلهم. فأرسل إليهم: نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهناً منكم من رجالكم فلا تفعلوا. ثم خرج فأتى غطفان فقال: يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي

(2/293)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 294
وأحب الناس إلي، ولا أراكم): تتهموني. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم قال: فاكتموا عني. قالوا: نفعل. ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم. فلما كانت ليلة السبت من شوال، وكان من صنع الله لرسوله أنه أرسل أبو سفيان ورؤس غطفان، إلى بني قريظة، عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً. فأرسلوا إليهم أن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً، وقد كان بعضنا أحدث فيه حدثاً فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: والله لقد حدثكم نعمي بن مسعود بحق. فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله ما ندفع إليكم رجلاً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها. وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم. فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً. فأبوا عليهم. وخذل الله بينهم. فلما أنهى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا حذيفة بن اليمان فبعثه ليلاً لينظر ما فعل القوم.

(2/294)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 295
قال: فحدثني يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه قال: نعم يا ابن أخي قال: فكيف كنتم تصنعون قال: والله لقد كنا نجهد، فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا. فقال: يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى هوياً من الليل، ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة. فما قام أحد من شدة الخوف وشدة الجوع والبرد. فلما لم يقم أحد دعاني فلم يكن لي من القيام بد حين دعاني، فقال: يا حذيقة اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يفعلون ولا تحدثني): شيئاً حتى تأتينا. فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا يقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم. ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تحدث شيئاً حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته بسهم. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض

(2/295)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 296
نسائه مراجل وهو ضرب من وشي اليمن فسره ابن هشام فلما رآني أدخلني إلى رجليه وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه فلما سلم أخبرته الخبر. وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم. قال الله تعالى: ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً. وهذا كله من رواية البكائي عن محمد بن إسحاق. وقال يونس بن بكير، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، أن رجلاً قال لحذيفة: صحبتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركتموه، فذكر الحديث نحو حديث محمد بن كعب، وفي آخره: فجعلت أخبر رسول لله صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان، فجعل يضحك حتى جعلت أنظر إلى أنيابه. وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل يوم بدر في رمضان سنة اثنتين. ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث. ثم قاتل يوم الخندق، وهو يوم الأحزاب وبني قريظة، في شوال سنة أربع، وكذا قال عروة في حديث ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه. كذا قالا: سنة أربع، وقالا في قصة الخندق إنها كانت بعد أحد بسنتين.

(2/296)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 297
وقال قتادة من رواية شيبان عنه: كان يوم الأحزاب بعد أحد بسنتين، فهذا هو المقطوع به. وقول موسى وعروة إنها في سنة أربع وهم بين، ويشبهه قول عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة، فلم يجزني.): فلما كان يوم الخندق عرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني فيحمل قوله على أنه كان قد شرع في أربع عشرة، وأنه يوم الخندق كان قد استكمل خمس عشرة سنة، وزاد عليها بعد تلك الزيادة. والعرب تفعل هذا في مددها وتواريخها وأعمارها كثيراً، فتارة يعتدون بالكسر ويعدونه سنة، وتارة يسقطونه. وذهب بعض العلماء إلى ظاهر هذا الحديث وعضدوه بقول موسى بن عقبة: وغزوة الأحزاب في شوال سنة أربع وذلك مخالف لقول الجماعة، ولما اعترف به موسى وعروة من أن بين أحد والخندق سنتين والله أعلم. وقال أبو إسحاق الفزاري، عن حميد، عن أنس قال: خرج رسول اله صلى الله عليه وسلم في غداة باردة إلى الخندق، والمهاجرون والأنصار يحفرون الخندق بأيديهم، ولم يكن لهم عبيد: فلما رأى ما بهم من الجوع والنصب قال:
(اللهم إن العيش عيش الآخرة.......... فاغفر للأنصار والمهاجرة)

(2/297)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 298
فقالوا مجيبين له:
(نحن الذين بايعوا محمداً.......... على الجهاد ما بقينا أبداً)
أخرجه البخاري. ولمسلم نحوه من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت. وقال عبد الوارث: ثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس نحوه، وزاد قال: ويؤتون بملء حفنتين شعيراً يصنع لهم بإهالة سنخة وهي بشعة في الحلق، فتوضع بي يدي القوم. أخرجه البخاري. وقال شعبة وغيره: أبو إسحاق، سمع البراء يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معنا التراب يوم الأحزاب، وقد وارى التراب بياض بطنه وهو يقول:
(اللهم لولا أنت ما اهتدينا.......... ولا تصدقنا ولا صلينا)

(فأنزلن سكينة علينا.......... وثبت الأقدام إن لاقينا)

(إن الألى قد بغوا علين.......... وإن أرادوا فتنة أبينا)

(2/298)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 299
رفع بها صوته. أخرجه البخاري. وعنده أيضاً من وجه آخر: ويمد بها صوته. وقال عبد الواحد بن أيمن المخزومي، عن أبيه، سمع جابرا يقول: كنا يوم الخندق نحفر الخندق فعرضت فيه كدية وهي الجبل فقلنا: يا رسول الله: إن كدية قد عرضت فقال: رشوا عليها. ثم قام فأتاها وبطنه معصوب بحجر من الجوع، فأخذ المعول أو المسحاة فسمى ثلاثاً ثم): ضرب فعاد ت كثيباً أهيل فقلت له: ائذن لي يا رسول الله إلى المنزل، ففعل، فقلت للمرأة: هل عندك من شيء وذكر نحو ما سقناه من مغازي ابن إسحاق. أخرجه البخاري. وقال هوذة بن خليفة: ثنا عوف الأعرابي، عن ميمون بن أستاذ الزهراني، حدثني البراء بن عازب قال: لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة لا تأخذ فيها المعاول، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها أخذ المعول وقال: بسم الله، وضرب ضربة فكسر ثلثها. فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله. ثم ضرب الثانية وقطع ثلثاً آخر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض. ثم ضرب الثالثة فقطع بقية الحجر فقال: الله أكبر أعطيت

(2/299)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 300
مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة. وقال الثوري: ثنا ابن المنكدر، سمعت جابراً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: من يأتينا بخبر القوم فقال الزبير: أنا. فقال: من يأتينا بخبر القوم فقال الزبير: أنا. فقال: إن لكل نبي حوارياً وحواري الزبير. أخرجه البخاري. وقال الحسني بن الحسن بن عطية العوفي: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها قال: كان ذلك يوم أبي سفيان يوم الأحزاب. ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة، قال هم بنو حارثة، قالوا: بيوتنا مخلية نخشى عليها السرق. قوله: ولما رأى المؤمنون الأحزاب الآية، قال: لأن الله قال لهم في سورة البقرة: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين أمنوا معه متى نصر الله، فلما مسهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق، تأول المؤمنون ذلك، ولم يزدهم إلا إيماناً وتسليماً. وقال حماد بن سلمة: أنا حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن

(2/300)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 301
عباس: أن رجلاً من المشركين قتل يوم الأحزاب، فبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا بجسده ونعطيهم اثني عشر ألفاً، فقال: لا خير في جسده ولا في ثمنه.): وقال الأصمعي: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: ضرب الزبير بن العوام يوم الخندق عثمان بن عبد الله بن المغيرة بالسيف على مغفره فقده إلى القربوس، فقالوا: ما أجود سيفك، فغضب، يريد إن العمل ليده لا لسيفه. قال شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن علي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوم الأحزاب قاعداً على فرضة من فرض الخندق فقال صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غربت الشمس، ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً، أو بطونهم. أخرجه مسلم. وقال يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر، أن عمر جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس جعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا والله ما صليتها بعد. فنزلت مع رسول الله أحسبه قال إلى بطحان، فتوضأ للصلاة وتوضأنا، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى المغرب. متفق عليه.

(2/301)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 302
وقال جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: كنا عند حذيفة بن اليمان، فقال رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلت معه وأبليت. فقال: أنت كنت تفعل ذاك، لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله. ثم قال: يا حذيفة قم فائتنا بخبر القوم. فلم أجد أبداً إذ دعاني باسمي أن أقول. فقال ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي. قال: فمضيت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار. فوضعت سهمي في كبد قوسي وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تذعروهم علي، ولو رميته لأصبته. قال: فرجعت كأنما أمشي في حمام، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائماً حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا نومان. أخرجه مسلم. وقال أبو نعيم: ثنا يوسف بن عبد الله بن أبي بردة، عن موسى بن أبي المختار، عن بلال العبسي، عن حذيفة: أن الناس تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، فلم): يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جاث من البرد فقال: انطلق إلى عسكر الأحزاب. فقلت: والذي بعثك بالحق ما قمت إليك من البرد إلا حياء منك. قال: فانطلق يا ابن اليمان فلا بأس عليك من حر ولا برد حتى ترجع إلي. فانطلقت إلى عسكرهم،

(2/302)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 303
فوجدت أبا سفيان يوقد النار في عصبة حوله، قد تفرق الأحزاب عنه، حتى إذا جلست فيهم، حس أبو سفيان أنه دخل فيهم من غيرهم، فقال: يأخذ كل رجل منكم بيد جليسه. قال: فضربت بيدي على الذي عن يميني فأخذت بيده، ثم ضربت بيدي إلى الذي عن يساري فأخذت بيده. فكنت فيهم هنية. ثم قمت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي، فأومأ إلي بيده أن: ادن، فدنوت. ثم أومأ إلي فدنوت. حتى أسبل علي من الثوب الذي عليه وهو يصلي. فلما فرغ قال: ما الخبر قلت: تفرق الناس عن أبي سفيان، فلم يبق إلا في عصبة يوقد النار، قد صب الله عليه من البرد مثل الذي صب علينا، ولكنا نرجو من الله ما لا يرجو. وقال عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبيد الحنفي، عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال: ذكر حذيفة مشاهدهم، فقال جلساؤه: أما والله لو كنا شهدنا ذلك لفعلنا وفعلنا فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك، فلقد رأيتنا ليلة الأحزاب. وساق الحديث مطولاً. وقال إسماعيل بن أبي خالد: ثنا ابن أبي أوفى قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم. متفق عليه. وقال الليث: حدثني المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر

(2/303)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 304
عبده، وغلب الأحزاب وحده فلا شيء بعده. متفق عليه. وقال إسرائيل وغيره، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجلى عنه الأحزاب: الآن نغزوهم ولا يغزونا نسير إليهم. أخرجه البخاري. وقال خارجة بن مصعب، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة، قال: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين، وصار معاوية خال المؤمنين. كذا روى الكلبي وهو متروك. ومذهب العلماء في أمهات المؤمنين أن هذا حكم مختص بهن ولا يتعدى التحريم إلى بناتهن): ولا إخوانهن ولا أخواتهن. واستشهد يوم الأحزاب: عبد الله بن سهل بن رافع الأشهلي، تفرد ابن هشام بأنه شهد بدراً.

(2/304)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 305
وأنس بن أوس بن عتيك الأشهلي، والطفيل بن النعمان بن خنساء، وثعلبة بن غنمة كلاهما من بني جشم بن الخزرج. وكعب بن زيد أحد بني النجار، أصابه سهم غرب، وقد شهد هؤلاء الثلاثة بدراً. ذكر ابن إسحاق أن هؤلاء الخمسة قتلوا يوم الأحزاب. وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قال: قتل من المشركين يوم الخندق: نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي أقبل على فرس له ليوثبه الخندق فوقع في الخندق فقتله الله، وكبر على المشركين وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه. فرده إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه خبيث الدية لعنه الله ولعن ديته ولا نمنعكم أن تدفنوه، ولا أرب لنا في ديته.

(2/305)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 306

(2/306)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 307
(غزوة بني قريظة)
وكانوا قد ظاهروا قريشاً وأعانوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيهم نزلت وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم الآيتين. قال هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل وقال: وضعت السلاح والله ما وضعناه، اخرج إليهم. قال: فأين قال: هاهنا. وأشار إلى بني قريظة. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. وقال حميد بن هلال، عن أنس: كأني أنظر إلى الغبار ساطعاً من سكة بني غنم، موكب جبريل حين سار إلى بني قريظة.

(2/307)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 308
وقال جويرية، عن نافع، عن ابن عمر قال: نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف من الأحزاب أن لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة. فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون قريظة. وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت. فما عنف واحداً من الفريقين. متفق عليه.): وعند مسلم في بعض طرقه: الظهر بدل العصر. وكأنه وهم. وقال بشر بن شعيب، عن أبيه، حدثنا الزهري، أنا عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عمه عبيد الله بن كعب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من طلب الأحزاب وضع عنه اللأمة واغتسل واستجمر، فتبدى له جبريل عليه السلام فقال: عذيرك من محارب، ألا أراك قد وضعت اللأمة وما وضعناها بعد. فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً فعزم على الناس أن لا يصلوا العصر حتى يأتوا بني قريظة. فلبسوا السلاح، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس: فاختصم الناس عند غروبها، فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي بني قريظة، فإنما نحن في عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس علينا إثم. وصلى طائفة من الناس احتساباً. وتركت طائفة حتى غربت الشمس فصلوا حين جاءوا بني قريظة. فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً من الفريقين. وقال نحوه عبد الله بن عمر، عن أخيه عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة، وفيه أن رجلاً سلم علينا ونحن في البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2/308)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 309
فزعاً، فقمت في إثره، فإذا بدحية الكلبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة، وقال: وضعتم السلاح، لكنا لم نضع السلاح، طلبنا المشركين حتى بلغنا حمراء الأسد. وفيه: فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجالس بينه وبين بني قريظة، فقال: هل مر بكم من أحد قالوا: مر علينا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج. قال: ليس ذاك بدحية الكلبي ولكنه جبريل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرعب، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه أن يستره بالجحف حتى يسمعهم كلامه. فناداهم: يا إخوة القردة والخنازير. فقالوا: يا أبا القاسم لم تك فحاشاً. فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، وكانوا حلفاءه، فحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم ونساؤهم. وقال محمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده علقمة، عن عائشة قالت: فجاءه جبريل وعلى ثناياها النقع فقال: أوضعت السلاح والله ما وضعت الملائكة، أخرج إلى بني قريظة. فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وأذن بالرحيل، ثم مر على بني غنم فقال: من مر بكم قالوا: دحية. وكان دحية تشبه لحيته ووجهه جبريل. فأتاهم فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، ثم نزلوا): على حكم سعد، وذكر الحديث بطوله في مسند أحمد.

(2/309)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 310
وقال يونس، عن ابن إسحاق: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا معه رايته وابتدر الناس. وقال موسى بن عقبة. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثر جبريل، فمر على مجلس بني غنم وهم ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم: مر عليكم فارس آنفاً فقالوا: مر علينا دحية على فرس أبيض تحته نمط أو قطيفة من ديباج عليه اللأمة. قال: ذاك جبريل. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبه دحية بجبريل. قال: ولما رأى علي بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً تلقاه. وقال: ارجع يا رسول الله، فإن الله كافيك اليهود. وكان علي سمع منهم قولاً سبيبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه. فكره علي أن يسمع ذلك، فقال: لم تأمرني بالرجوع فكتمه ما سمع منهم. فقال: أظنك سمعت لي منهم أذى فامض فإن أعداء الله لو قد رأوني لم يقولوا شيئاً مما سمعت. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصنهم، وكانوا في أعلاه، نادى بأعلى صوته نفراً من أشرافهم حتى أسمعهم فقال: أجيبونا يا معشر يهود يا أخوة القردة، لقد نزل بكم خزي الله. فحاصرهم صلى الله عليه وسلم بكتائب المسلمين بضع عشرة ليلة، ورد الله حيي بن أخطب حتى دخل حصنهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، واشتد عليهم الحصار، فصرخوا بأبي لبابة بن عبد المنذر وكانوا حلفاء الأنصار. فقال: لا آتيهم حتى يأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال:

(2/310)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 311
قد أذنت لك. فأتاهم، فبكوا وقالوا: يا أبا لبابة، ماذا ترى، فأشار بيده إلى حلقه، يريهم إنما يراد بكم القتل. فلما انصرف سقط في يده ورأى أنه قد أصابته فتنة عظيمة فقال: والله لا أنظر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحدث لله توبة نصوحاً يعلمها الله من نفسي. فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذع من جذوع المسجد. فزعموا أنه ارتبط قريباً من عشرين ليلة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكر، حين راث عليه أبو لبابة: أما فرغ أبو لبابة من حلفائه قالوا: يا رسول الله، قد والله انصرف من عند الحصن، وما ندري أين سلك. فقال: قد حدث له أمر. فأقبل رجل فقال: يا رسول الله، رأيت أبا لبابة ارتبط بحبل إلى جذع من جذوع المسجد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أصابته بعدي فتنة، ولو جاءني لاستغفرت): له. فإذا فعل هذا فلن أحركه من مكانه حتى يقضي الله فيه ما شاء. قال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، فذكر نحو ما قص موسى ابن عقبة. وعنده: فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وأذن بالخروج، وأمرهم أن يأخذوا السلاح. ففرغ الناس للحرب، وبعث علياً على المقدمة ودفع إليه اللواء. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على آثارهم. ولم يقل بضع عشرة ليلة. وقال يونس بن بكير، والبكائي واللفظ له عن ابن إسحاق قال: حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب. وكان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان

(2/311)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 312
عاهده عليه، فلما أيقنوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد: يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً، فخذوا أيها شئتم. قالوا: وما هي قال: نبايع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تعين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم. قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم على هذه. فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه مصلتين السيوف لم نترك وراءنا ثقلاً، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك ولم نترك وراءنا نسلاً نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين، فما خير العيش بعدهم قال فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا وتحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً. رواه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق. لكنه قال عن أبيه، عن معبد ابن كعب بن مالك، فذكره وزاد فيه: ثم بعثوا يطلبون أبا لبابة، وذكر ربطه نفسه. وقال سعيد بن المسيب: إن ارتباطه بسارية التوبة كان بعد تخلفه عن غزوة تبوك حين أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليم، بما فعل يوم قريظة، ثم تخلف عن غزوة تبوك فيمن تخلف. والله أعلم.): وذكر علي بن أبي طلحة، وعطية العوفي، عن ابن عباس في ارتباطه حين تخلف عن تبوك ما يؤكد قول ابن المسيب، قال: نزلت هذه

(2/312)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 313
الآية في أبي لبابة يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول. وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط، أن توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة فقالت أم سلمة، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك، قالت: فقلت: مم تضحك قال: تيب على أبي لبابة. قالت: قلت: أفلا أبشره قال: إن شئت. قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك. قالت: فثار إليه الناس ليطلقوه. قال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده. فلما مر عليه خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه. قال عبد الملك بن هشام: أقام أبو لبابة مرتبطاً بالجذع ست ليال: تأتيه امرأته في وقت كل صلاة تحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع، فيما حدثني بعض أهل العلم. والآية التي نزلت في توبته: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً الآية. قال ابن إسحاق: ثم إن ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسيد ابن عبيد، وهم نفر من بني هدل، أسلموا تلك الليلة التي نزل فيها بنو

(2/313)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 314
قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال شعبة: أخبرني سعد بن إبراهيم، سمعت أبا أمامة بن سهل يحدث عن أبي سعد قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه على حمار. فلما دنا قريباً من المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم، أو إلى خيركم فقال: إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك، فقال: نقتل مقاتلتهم ونسبي ذراريهم. فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت عليهم بحكم الله. وربما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت عليهم بحكم الله. وربما قال: بحكم الملك. متفق عليه. وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: فأومأوا إليه فقالوا: يا أبا عمرو، قد ولاك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر موالكيم لتحكم فيهم. فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه قالوا: نعم. قال: وعلى من هاهنا من الناحية التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:) نعم. فقال سعد: أحكم بأن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبي الذراري. وقال شعبة وغيره، عن عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي قال: كنت في سبي قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أنبت أن يقتل، فكنت فيمن لم ينبت.

(2/314)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 315
قال موسى بن عقبة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألوه أن يحكم فيهم رجلاً: اختاروا من شئتم من أصحابي فاختاروا سعد بن معاذ، فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على حكمه. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلاحهم فجعل في قبته، وأمر بهم فكتفوا وأوثقوا وجعلوا في دار أسامة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فأقبل على حمار أعرابي يزعمون أن وطاء برذعته من ليف، واتبعه رجل من بني عبد الأشهل، فجعل يمشي معه ويعظم حق بني قريظة ويذكر حلفهم والذي أبلوه يوم بعاث، ويقول: أختاروك على من سواك رجاء رحمتك وتحننك عليهم، فاستبقهم فإنهم لك جمال وعدد. فأكثر ذلك الرجل، وسعد لا يرجع إليه شيئاً، حتى دنوا، فقال الرجل: ألا ترجع إلي فيما أكلمك فيه فقال سعد: قد آن لي أن لا تأخذني في الله لومة لائم. ففارقه الرجل، فأتاني قومه فقالوا: ما وراءك فأخبرهم أنه غير مستقيم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل مقاتلتهم، وكانوا فيما زعموا ستمائة مقاتل قتلوا عند دار أبي جهم بالبلاط، فزعموا أن دماءهم بلغت أحجار الزيت التي كانت بالسوق، وسبى نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بين من حضر من المسلمين. وكانت خيل المسلمين ستاً وثلاثين فرساً. وأخرج حيي بن أخطب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أخزاك الله قال له: ظهرت علي وما ألوم إلا نفسي في جهادك والشدة عليك. فأمر به فضربت عنقه. كل ذلك بعين سعد. وكان عمرو بن سعد اليهودي في الأسرى، فلما قدموه ليقتلوه ففقدوه فقيل: أين عمرو قالوا: والله ما نراه، وإن هذه لرمته التي كان فيها،

(2/315)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 316
فما ندري كيف انفلت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلت بما علم الله في نفسه. وأقبل ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هب لي الزبير يعني ابن باطا وامرأته. فوهبهما له، فرجع ثابت إلى الزبير. فقال: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني وكان الزبير يومئذ كبيراً أعمى قال: هل ينكر الرجل أخاه قال ثابت: أردت أن أجزيك اليوم بيدك. قال: أفعل، فإن الكريم يجزي الكريم، فأطلقه. فقال: ليس لي قائد، وقد أخذتم امرأتي وبني. فرجع ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فسأله ذرية الزبير وامرأته، فوهبهم له، فرجع إليه فقال: قد رد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتك وبنيك. قال الزبير: فحائط لي فيه أعذق ليس لي ولأهلي عيش إلا به. فوهب له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له ثابت: أسلم قال: ما فعل المجلسان فذكر رجالاً من قومه بأسمائهم. فقال ثابت: قد قتلوا وفرغ منهم، ولعل الله أن يهديك. فقال الزبير. أسألك بالله وبيدي عندك إلا ما ألحقتني بهم. فما في العيش خير بعدهم. فذكر ذلك ثابت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بالزبير فقتل. قال الله تعالى في بني قريظة في سياق أمر الأحزاب: وأنزل الذين ظاهروهم يعين الذين ظاهروا قريشاً: من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً. وقال عروة في قوله: وأرضاً لم تطؤها. هي خيبر. وقال البكائي، عن ابن إسحاق، حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.

(2/316)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 317
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث النجارية، وخرج إلى سوق المدينة، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق. وفيهم حيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة. وقد قالوا لكعب وهو يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً: يا كعب ما تراه يصنع بنا قال: أفي كل موطن لا تعقلون. أما ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذهب منكم لا يرجع هو والله القتل. وأتى حيي بن أخطب وعليه حلة فقاحية قد شقها من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله ما لمست نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل. ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله. كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه. وقال ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عمه عروة، عن عائشة قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، قالت: إنها والله لعندي تحدث معي وتضحك ظهراً وبطناً، ورسول) الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسيوف إذ هتف هاتف: يا بنت فلانة. قالت: أنا والله. قلت: ويلك، مالك قالت: أقتل. قلت: ولم قالت: حدث أحدثته. فانطلق بها فضربت عنقها. وقال عكرمة وغيره: صياصيهم: حصونهم.

(2/317)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 318
وقال يونس، عن ابن إسحاق: ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد، أخا بني عبد الأشهل بسبايا بني قريظة إلى نجد. فابتاع له بهم خيلاً وسلاحاً. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خنافة، وكانت عنده حتى توفي وهي في ملكه، وعرض عليها أن يتزوجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله بل تتركني في مالك فهو أخف عليك وعلي. فتركها. وقد كانت أولاً توقفت عن الإسلام ثم أسلمت، فسر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وفي ذي الحجة من هذه السنة:
(وفاة سعد بن معاذ)
قال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة، رماه في الأكحل. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب. فلما رجع من الخندق وذكر الحديث، وفيه قالت عائشة: ثم إن كلمه تحجر للبرء فقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهد فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك. وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل

(2/318)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 319
موتي فيها. قال فانفجرت لبته، فلم يرعهم ومعهم أهل خيمة من بني غفار إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم فإذا سعد جرحه يغذ دماً فمات منها. متفق عليه. وقال الليث: حدثني أبو الزبير، عن جابر قال: رمي سعد يوم الأحزاب فقطعوا أكحله، فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، فانتفخت يده، فتركه، فنزفه الدم فحسمه أخرى. فانتفخت يده، فلما رأى ذلك قال: اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة. فاستمسك عرقه فما قطرت منه قطرة. حتى نزلوا على حكم سعد، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم أن يقتل رجالهم ويستبي نساؤهم وذراريهم. قال: وكانوا أربعمائة. فلما فرغ من قتلهم،) انفتق عرقه فمات. حديث صحيح. وقال ابن راهويه: ثنا عمرو بن محمد القرشي، ثنا عبد الله بن إدريس، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الذي تحرك له العرش يعني سعد بن معاذ وشيع جنازته سبعون ألف ملك، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه. وقال سليمان التيمي، عن الحسن: اهتز عرش الرحمن فرحاً بروحه.

(2/319)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 320
وقال يزيد بن عبد الله بن النجار، عن معاذ، عن جابر قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات فتحت له أبواب السماء وتحرك العرش قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سعد بن معاذ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره وهو يدفن، فبينما هو جالس قال: سبحان الله مرتين فسبح القوم. ثم قال: الله أكبر الله أكبر، فكبر القوم. فقال: عجبت لهذا العبد الصالح شدد عليه في قبره حتى كان هذا حين فرج له. ذكر بعضه محمد بن إسحاق، عن معاذ بن رفاعة، أخبرني محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح، عن جابر. وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني معاذ بن رفاعة الزرقي قال: أخبرني من شئت من رجال قومي أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في جوف الليل معتجراً بعمامة من استبرق، فقال: يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه مبادراً إلى سعد ابن معاذ فوجده قد قبض. وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم، عن الحسن البصري قال: كان سعد رجلاً بادناً، فلما حمله الناس وجدوا له خفة. فقال رجال من المنافقين: والله إن كان لبادناً وما حملنا من جنازة أخف منه. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن له حملة غيركم، والذي نفسي بيده لقد استبشرت

(2/320)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 321
الملائكة بروح سعد واهتز له العرش. وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد: ما بلغكم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا فقالوا: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: كان يقصر في بعض الطهور من البول. وقال يزيد بن هارون: أنا محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبيه، عن جده، عن عائشة قلت:) خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس، فسمعت وئيد الأرض: تعني حس الأرض ورائي، فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنه. فجلست، فمر سعد وهو يقول:
(ليث قليلاً يدرك الهيجا حمل.......... ما أحسن الموت إذا حان الأجل)
قالت: وعليه درع قد خرجت منها أطرافه، فتخوفت على أطرافه، وكان من أطول الناس وأعظمهم. قالت: فاقتحمت حديقة، فإذا فيها نفر فيهم عمر، وفيهم رجل عليه مغفر. فقال لي عمر: ما جاء بك والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يصيبوا تحوزاً وبلاء. فما زال يلومني حتى تمنيتا أن الأرض انشقت ساعتي ذي فدخلت فيها. فرفع الرجل المغفر عن

(2/321)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 322
وجهه، فإذا طلحة بن عبيد الله، فقال: ويحك، وأين التحوز والفرار إلا إلى الله قالت: ويرمي سعداً رجل من قريش، يقال له ابن العرقة، بسهم، فقال: خذها، وأنا ابن العرقة. فأصاب أكحله. فدعا الله سعد فقال: اللهم لا تمتني حتى تشفيني من قريظة. كانوا مواليه وحلفاءه في الجاهلية. فرقأ كلمه وبعث الله الريح على المشركين. وساقت الحديث بطوله. وفيه قالت: فانفجر كلمه وقد كان بريء حتى ما يرى منه إلا مثل الخرص. ورجع إلى قبته. قالت: وحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر. فإني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر، وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله تعالى رحماء بينهم. قال: فقلت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع قالت: كانت عيناه لا تدمع على أحد ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته. وقال حماد بن سملة، عن محمد بن زياد، عن عبد الرحمن بن عمرو ابن سعد بن معاذ، أن بني قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى سعد بن معاذ فأتي به محمولاً على حمر وهو مضني من جرحه، فقال له: أشر علي في هؤلاء. فقال: إني أعلم أن الله قد أمرك فيهم بأمر أنت فاعله. قال: أجل، ولكن أشر علي فيهم، فقال: لو وليت أمرهم قتلت مقاتلتهم وسبيت ذراريهم وقسمت أموالهم. فقال: والذي نفسي بيده

(2/322)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 323
لقد أشرت فيهم بالذي أمرني الله به. وقال محمد بن سعد: أنبأ خالد بن مخلد حدثني محمد بن صالح التمار، عن سعد بن إبراهيم، سمع عامر بن سعد، عن أبيه، قال: لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة أن يقتل من جرت عليه المواسي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكم فيهم بحكم الله الذي حكم به من) فوق سبع سماوات. وقال ابن سعد: أنا يزيد، أنا إسماعيل بن أبي خالد، عن رجل من الأنصار قال: لما قضى سعد في بني قريظة ثم رجع انفجر جرحه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه فأخذ رأسه فوضعه في حجره، وسجي بثوب أبيض إذا مد على وجهه بدت رجلاه، وكان رجلاً أبيض جسيماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إن سعداً قد جاهد في سبيلك وصدق رسولك وقضى الذي عليه، فتقبل روحه بخير ما تقبلت روح رجل. فلما سمع سعد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح عينيه، فقال: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أنك رسول الله. قال: وأمه تبكي وتقول:
(ويل أم سعد سعداً.......... حزامة وجداً)

(2/323)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 324
فقيل لها: أتقولين الشعر على سعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوها فغيرها من الشعراء أكذب. وقال عبد الرحمن بن الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود ابن لبيد قال: لما أصيب أكحل سعد حولوه عند امرأة يقال لها رفيدة، وكانت تداوي الجرحى، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر به يقول: كيف أصبحت وإذا أمسى قال: كيف أمسيت فتخبره، فذكر القصة. وقال: فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي إلى سعد، فشكا ذلك إليه أصحابه، فقال: إني أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة. فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت وهو يغسل، وأمه تبكي وتقول:
(ويل أم سعد سعداً.......... حزامة وجداً)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل نائحة تكذب إلا أم سعد. ثم خرج به فقالوا: ما حملنا ميتاً أخف منه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يمنعه أن يخف عليكم وقد هبط من الملائكة كذا، وكذا لم يهبطوا قط، قد حملوه معكم. وقال شعبة: أخبرني سماك بن حرب، سمعت عبد الله بن شداد يقول: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد بن معاذ وهو يكيد بنفسه فقال: جزاك الله خيراً من سيد قوم، فقد أنجزت الله ما وعدته ولينجزنك الله ما وعدك. وقال ابن نمير: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع قال: بلغني أنه

(2/324)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 325
شهد سعداً سبعون ألف ملك) لم ينزلوا إلى الأرض. زاد غيره: عن عبيد الله، عن نافع فقال: عن ابن عمر. وقال شبابه: أنا أبو معشر، عن المقبري قال: لما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً قال: لو نجا أحد من ضغطة القبر لنجا سعد ولقد ضم ضمة اختلفت فيها أضلاعه من أثر البول. وقال يزيد بن هارون: أنا محمد بن عمرو، عن محمد بن المنكدر عن محمد بن شرحبيل، أن رجلاً أخذ قبضة من تراب قبر سعد يوم دفن، ففتحها بعد فإذا هي مسك. وقال محمد بن موسى الفطري: أنا معاذ بن رفاعة الزرقي قال: دفن سعد بن معاذ إلى أُسّ دار عقيل بن أبي طالب. قال محمد بن عمرو بن علقمة حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ فجاءه جبريل، أو قال: ملك فقال من رجل من أمتك مات الليلة استبشر بموته أهل السماء قال: لا أعلمه، إلا أن سعد ابن معاذ أمسى دنياً. ما فعل سعد قالوا: يا رسول الله قبض وجاء قومه فاحتملوه إلى دارهم. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الصبح، ثم خرج وخرج

(2/325)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 326
الناس مشياً حتى شسوع نعالهم تقطع من أرجلهم ون أرديتهم لتسقط من عواتقهم، فقال قائل: يا رسول الله قد بتت الناس مشياً قال: أخشى أن تسبقنا إليه الملائكة كما سبقتنا إلى حنظلة. قال شعبة: أنا سعد بن إبراهيم، عن نافع، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن للقبر ضغطة، ولو كان أحد ناجياً منها لنجا منها سعد بن معاذ. وقال شعبة: حدثني أبو إسحاق، عن عمرو بن شرحبيل قال: لما انفجر جرح سعد بن معاذ التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل الدم يسيل على النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو بكر فقال: وا كسر ظهراه، فقال: مه يا أبا بكر. ثم جاء عمر فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. روى عقبة بن مكرم: ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سعد بني إبراهيم، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن عائشة، مرفوعاً: لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا منها سعد، وقد تقدم هذا، وما فيه صفية. وليس هذا الضغط من عذاب القبر في شيء. بل هو من روعات المؤمن كنزع روحه، وكألمه) من بكاء حميمه، وكروعته من هجوم ملكي الامتحان عليه، وكروعته يوم الموقف وساعة ورود جهنم، ونحو ذلك. نسأل الله أن يؤمن روعاتنا. وقال يزيد بن هارون: أنا محمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده، عن

(2/326)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 327
عائشة قالت: ما كان أحد أشد فقداً على المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أو أحدهما من سعد بن معاذ. وقال الواقدي: أنا عتبة بن جبيرة، عن الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ قال: كان سعد بن معاذ رجلاً أبيض طوالاً، جميلاً، حسن الوجه، أعين، حسن اللحية. فرمي يوم الخندق سنة خمس فمات منها، وهو ابن سبع وثلاثين سنة. ودفن بالبقيع. وقال أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اهتز عرش الله لموت سعد بن معاذ. وقال عوف عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اهتز العرش لموت سعد بن معاذ. وقال يزيد بن هارون: أنا إسماعيل بن أبي خالد، عن إسحاق بن راشد، عن امرأة من الأنصار يقال لها أسماء بنت يزيد بن السكن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم سعد بن معاذ: ألا يرقأ دمعك ويذهب حزنك بأن ابنك أول من ضحك الله له واهتز له العرش وقال يوسف بن الماجشون، عن أبيه، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن جدته رميئة أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أشاء أن أقبل الخاتم

(2/327)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 328
الذي بين كتفيه من قربي منه لفعلت يقول لسعد بن معاذ يوم مات: اهتز له عرش الرحمن. وقال محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: اهتز العرش لحب لقاء الله سعداً. قال: إنما يعني السرير. قال: ورفع أبويه على العرش قال: تفسخت أعواده. قال: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبره فاحتبس، فما خرج قيل له: يا رسول الله: ما حبسك قال: ضم سعد في القبر ضمة فدعوت الله أن يكشف عنه. وقال الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بثوب حرير، فجعل أصحابه يتعجبون من لينه فقال: إن مناديل سعد ابن معاذ في الجنة ألين من هذا. متفق على صحته.) وقال يزيد بن هارون: أنا محمد بن عمرو، عن واقد بن عمرو بن سعد ابن معاذ قال: دخلت على أنس بن مالك وكان واقد من أعظم الناس وأطولهم فقال لي: من أنت قلت: أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ. فقال: إنك بسعد لشبيه، ثم بكى فأكثر البكاء. ثم قال: يرحم الله سعداً، كان من أعظم الناس وأطولهم. ثم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى أكيدر دومة، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبة من ديباج منسوجة فيها الذهب، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل الناس يمسحونها وينظرون إليها، فقال: أتعجبون من هذه الجبة قالوا: يا رسول الله ما رأينا ثوباً قط أحسن منه، قال: فوالله

(2/328)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 329
لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن مما ترون. قلت: هو سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس أخي الخزرج وهما ابنا حارثة بن عمرو ويدعى حارثة العنقاء وإليه جماع الأوس والخزرج أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويكنى سعد أبا عمرو، وأمه المذكورة كبشة بنت رافع الأنصارية، من المبايعات. أسلم هو وأسيد بن الحضير على يد مصعب بن عمير. وكان مصعب قدم المدينة قبل العقبة الآخرة يدعو إلى الإسلام ويقرئ القرآن. فلما أسلم سعد لم يبق من بني عبد الأشهل عشيرة سعد أحد إلا أسلم يومئذ. ثم كان مصعب في دار سعد هو وأسعد بن زرارة،، يدعون إلى الله. وكان سعد وأسعد ابني خالة. وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سعد بن معاذ وأبي عبيدة بن الجراح. قاله ابن إسحاق. وقال الواقدي عن عبد الله بن جعفر، عن سعد بن إبراهيم، وغيره: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن أبي وقاص. شهد سعد بدراً، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين ولي الناس. روي أبو نعيم: ثنا إسماعيل بن مسلم العبدي، ثنا أبو المتوكل، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحمى فقال: من كانت به فهي حظه من النار. فسألها سعد ابن معاذ ربه، فلزمته فلم تفارقه حتى فارق الدنيا.

(2/329)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 330
وكان لسعد من الولد: عمرو، وعبد الله، وأمهما: عمة أسيد بن الحضير هند بنت سماك بني عبد الأشهل، صحابية. وكان تزوجها أوس ابن معاذ أخو سعد وقيل: عبد الله بن عمرو بن) سعد يوم الحرة. وكان لعمرو من الولد: واقد بن عمرو، وجماعة قيل إنهم تسعة. وقتل عمرو وأخو سعد بن معاذ يوم أحد. وقتل ابن أخيهما الحارث ابن أوس يومئذ شاباً. وقد شهدوا بدراً. والحارث أصابه السيف ليلة قتل كعب بن الأشرف، واحتمله أصحابه. وشهد بعد ذلك أحداً. روى عن سعد بن معاذ: عبد الله بن مسعود، وقصته بمكة مع أمية بن خلف، وذلك في صحيح البخاري. وحصن بني قريظة على أميال من المدينة، حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة. واستشهد من المسلمين: خلاد بن سويد الأنصاري الخزرجي، طرحت عليه رحى، فشدخته. ومات في مدة الحصار أبو سنان بن محصن، بدري مهاجري، وهو

(2/330)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 331
أخو عكاشة بن محصن الأسدي. شهد هو وابنه سنان بدراً. ودفن بمقبرة بني قريظة التي يتدافن بها من نزل دورهم من المسلمين. وعاش أربعين سنة. ومنهم من قال: بقي إلى أن بايع تحت الشجرة.
(إسلام ابني سعية وأسد بن عبيد)
قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بني قريظة قال: هل تدري عم كان إسلام ثعلبة وأسد ابني سعية، وأسد بن عبيد، نفر من هدل، لم يكونوا من بني قريظة ولا نضير، كانوا فوق ذلك، قلت: لا. قال: إنه قدم علينا رجل من الشام يهودي، يقال له ابن الهيبان، ما رأينا خيراً منه. فكنا نقول إذا احتبس المطر: استسق لنا. فيقول: لا والله، حتى تخرجوا صدقة صاع من تمر أو مدين من شعير. فنفعل، فيخرج بنا إلى ظاهر حرتنا. فوالله ما يبرح مجلسه حتى تمر بنا الشعاب بسيل. وفعل ذلك غير مرة ولا مرتين. فلما حضرته الوفاة قال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع قلنا: أنت أعلم. قال: أخرجني نبي أتوقعه يبعث الآن فهذه البلدة مهاجره، وإنه يبعث بسفك الدماء وسبي

(2/331)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 332
الذرية، فلا يمنعنكم ذلك منه ولا تسبقن إليه. ثم مات. زاد يونس بن بكير في حديثه: فلما كانت الليلة التي افتتحت فيها قريظة قال أولئك الثلاثة،) وكانوا شباباً أحداثاً: يا معشر يهود، هذا الذي كان ذكر لكم ابن الهيبان. قالوا: ما هو قالوا: بلى والله إنه لهو بصفته. ثم نزلوا فأسلموا وخلوا أموالهم وأهلهم، وكانت في الحصن، فلما فتح رد ذلك عليهم.

(2/332)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 333
1 (أحداث السنة السادسة)
قال البكائي، عن ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفراً وشهري ربيع، وخرج في جمادى الأولى إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع: خبيب بن عدي وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوة غرة، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤس الجبال. فقال: لو أن هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة. فهبط في مائتي راكب من أصحابه حتى نزلوا عسفان. ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم، ثم كرا. وراح قافلاً.
(غزوة الغابة)

1 (أو غزوة ذي قرد ثم قدم فأقام بها ليالي، فأغار عيينة بن حصن في خيل من غطفان على)

(2/333)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 334
لقاح النبي صلى الله عليه وسلم بالغابة، وفيها رجل من بني غفار وامرأة، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح. وكان أول من نذر بهم سلمة بن الأكوع، غدا يريد الغابة ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرسه، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم فأشرف في ناحية من سلع، ثم صرخ: وا صباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم، وكان مثل السبع، حتى لحق بالقوم. وجعل يردهم بنبله، فإذا وجهت الخيل نحوه هرب ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمي رمى. وبلغ رسول لله صلى الله عليه وسلم ذلك فصرخ بالمدينة: الفزع الفزع. فنزلت الخيول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أول من انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرسان المقداد وعباد بن بشر، وأسيد بن ظهير، وعكاشة بن محصن وغيرهم. فأمر عليهم سعد بن زيد، ثم قال: أخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لأبي عياش: لو أعطيت فرسك رجلاً منك فقلت: يا رسول الله أنا أفرس الناس. وضربت الفرس فوالله ما مشى بي إلا خمسين ذراعاً حتى طرحني فعجبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو أعطيته أفرس منك وجوابي له.) ولم يكن سلمة بن الأكوع يومئذ فارساً، وكان أول من لحق القوم على رجليه. وتلاحق الفرسان في طلب القوم. فأول من أدركهم محرز بن نضلة

(2/334)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 335
الأسدي. فأدركهم ووقف بين أيديهم ثم قال: قفوا يا معشر بني اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من المسلمين. فحمل عليه رجل منهم فقتله. ولم يقتل من المسلمين سواه. قال عبد الملك بن هشام: وقتل من المسلمين وقاص بن مجزز المدلجي. وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك، أن مجززاً إنما كان على فرس عكاشة يقال له الجناح، فقتل مجزز واستلب الجناح. ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة بن ربعي، حبيب بن عيينة بن حصن، وغشاه ببرده، ثم لحق بالناس. وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، فاسترجعوا وقالوا: قتل أبو قتادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بأبي قتادة ولكنه قتيل لأبي قتادة وضع عليه برده ليعرفوا به صاحبه. وأدرك عكاشة بن محصن أوباراً وابنه عمرو بن أوبار، كلاهما على بعير، فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعاً. واستنقذوا بعض اللقاح. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالجبل من ذي قرد، وتلاحق الناس به فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وأقام عليه يوماً وليلة. وقال سلمة: يا رسول الله لو سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح وأخذت بأعناق

(2/335)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 336
القوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني: إنهم الآن ليغبقون في غطفان. فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، في كل مائة رجل، جزوراً. وأقاموا عليها ثم رجعوا إلى المدينة. قال: وانفلتت امرأة الغفاري على ناقة من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدمت عليه، وقالت: إني نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها، إنه لا نذر فيما لا يملك ابن آدم إنما هي ناقة من إبلي، ارجعي على بركة الله. قلت: هذه الغزوة تسمى غزوة الغابة، وتسمى غزوة ذي قرد. وذكر ابن إسحاق وغيره: إنها كانت في سنة ست. وأخرج مسلم أنها زمن الحديبية. قال أبو النضر هاشم بن القاسم: أنا عكرمة بن عمار حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: قدمنا المدينة زمن الحديبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت أنا ورباح غلام) النبي صلى الله عليه وسلم بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت بفرس لطلحة بن عبيد الله كنت أريد أن أنديه مع الإبل. فلما كان بغلس، أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل راعيها وخرج يطردها وأناس معه في خيل. فقلت: يا رباح اقعد على هذا الفرس فألحقه بطلحة وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر. فقتمت على تل فجعلت وجهي من قبل المدينة ثم ناديت ثلاث مرات: يا صباحاه. ثم أتبعت القوم مع سيفي ونبلي فجعلت أرميهم وأعقر بهم وذلك حين يكثر الشجر، فإذا رجع إلي فارس جلست له

(2/336)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 337
في أصل شجرة ثم رميت، فلا يقبل علي فارس إلا عقرت به. فجعلت أرميهم وأقول:
(أنا ابن الأكوع.......... واليوم يوم الرضع)
فألحق برجل منهم فأرميه وهو على راحلة رحله، فيقع سهمي في الرحل حتى انتظمت كتفه، فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع. وكنت إذا تضايقت الثنايا علوت على الجبل فردأتهم بالحجارة، فما زال ذلك شأني وشأنهم أتبعهم فأرتجز، حتى ما خلق الله شيئاً من سرح النبي صلى الله عليه وسلم إلا خلفته ورائي واستنقذته من أيديهم. ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحاً وأكثر من ثلاثين بردة يستخفون منها، ولا يلقون من ذلك شيئاً إلا جعلت عليه حجارة وجمعته على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا مد الضحاء أتاهم عيينة بن بدر الفزاري مدداً لهم، وهم في ثنية ضيقة. ثم علوت الجبل، فقال عيينة: ما هذا الذي أرى قالوا: لقينا من هذا البرح، ما فارقنا سحراً حتى الآن وأخذ كل شيء كان في أيدينا وجعله وراء ظهره. فقال عيينة: لولا أن هذا يرى أن وراءه مدداً لقد ترككم، ليقم إليه نفر منكم. فقام إلي أربعة فصعدوا في الجبل. فلما أسمعتهم الصوت قلت: أتعرفوني قالوا: ومن أنت قلت: أنا ابن الأكوع، والذي كرم وجه محمد لا يطلبني رجل منكم فيدركني ولا أطلبه فيفوتني. قال رجل منهم: إني أظن يعني كما قال. فما برحت مقعدي ذلك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر، وإذا أولهم الأخرم

(2/337)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 338
الأسدي، وعلى إثره أبو قتادة، وعلى إثره المقداد. فولى المشركون. فأنزل من الجبل فأعرض للأخرم فأخذ عنان فرسه فقلت: يا أخرم أنذر القوم يعني احذرهم فإني لا آمن أن يقطعوك، فاتئد حتى يلحق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تحل بيني وبين الشهادة،) قال: فخليت عنان فرسه فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة ويعطف عليه عبد الرحمن فاختلفا طعنتين، فغفر الأخرم بعبد الرحمن، فطعنه عبد الرحمن فقتله. وتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم فيلحق أبو قتادة به، فاختلفا طعنتين، فعقر بأبي قتادة، وقتله أبو قتادة، وتحول على فرس الأخرم. ثم خرجت أعدو في أثر القوم حتى ما أرى من غبار أصحابي شيئاً. ويعرضون قبل المغيب إلى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد، فأرادوا أن يشربوا منه، فأبصروني أعدو وراءهم، فعطفوا عنه واشتدوا في الثنية، ثنية ذي دبر، وغربت الشمس، فألحق رجلاً فأرميه فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع. قال فقال: يا ثكل أمي، أكوعي بكرة قلت: نعم يا عدو نفسه، وكان الذي رميته بكرة، فاتبعته سهماً آخر فعلق به سهمان. ويخلفون فرسين فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي حليتهم عنه ذو قرد فإذا نبي الله في خمسمائة، وإذا بلال قد نحر جزوراً مما خلفت، فهو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله خلني فأنتخب

(2/338)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 339
من أصحابك مائة واحدة فآخذ على الكفار بالعشوة فلا يبقى منهم مخبر قال: أكنت فاعلاً يا سلمة قلت: نعم، والذي أكرمك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه في ضوء النار. ثم قال: إنهم يقرون الآن بأرض غطفان. فجاء رجل من غطفان قال: مروا على فلان الغطفاني فنحر لهم جزوراً، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة فتركوها وخرجوا هراباً. فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة. وأعطاني سهم الراجل والفارس جميعاً. ثم أردفني وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة. فلما كان بيننا وبينها قريباً من صحوة، وفي القوم رجل من الأنصار كان لا يسبق، فجعل ينادي: هل من مسابق وكرر ذلك. فقلت له: أما تكرم كريماً ولا تهاب شريفاً قال: لا، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: يا رسول الله بأبي وأمي خلني فلأسابقه. قال: إن شئت. قلت: اذهب إليك. فطفر عن راحلته، وثنيت رجلي فطفرت عن الناقة. ثم إني ربطت عليه شرفاً أو شرفين يعني استبقيت نفسي، ثم إني غدوت حتى ألحقه فأصك بين كتفيه بيدي. قلت: سبقتك والله. فضحك وقال: أنا أظن. فسبقته حتى قدمنا المدينة. أخرجه مسلم عن ابن أبي شيبة، عن هاشم.)

(2/339)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 340
قرأت على أبي الحسن علي بن عبد الغني الحراني بمصر، وعلى أبي حسن علي بن أحمد الهاشمي بالإسكندرية، وعلى أبي سعيد سنقر بن عبد الله بحلب، وعلى أحمد بن سليمان المقدسي بقاسيون، وأخبرنا محمد بن عبد السلام الفقيه، وأبو الغنائم بن محاسن، وعمر بن إبراهيم الأديب، قالوا: أخبرنا أبو الحسن علي بن أبي بكر بن روزبة. ح وقرأت على أبي الحسين اليونيني، ومحمد بن هاشم العباسي، وإسماعيل بن عثمان الفقيه، ومحمد بن حازم، وعلي بن بقاء، وأحمد بن عبد الله بن عزيز، وخلق سواهم أخبرهم أبو عبد الله الحسين بن أبي بكر ابن الزبيدي قالوا: أنبأنا أبو الوقت السجزي، أنا أبو الحسن الدراوردي، أنا أبو محمد بن حمويه، أنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل البخاري، ثنا مكي بن إبراهيم، ثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة أنه أخبره قال: خرجت من المدينة ذاهباً نحو الغابة، حتى إذا كنت بثنية الغابة لقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف قلت: ويحك ما بك قال: أخذت لقاح النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: من أخذها قال: غطفان وفزارة. فصرخت ثلاث صرخات أسمعت ما بين لابتيها: يا صباحاه، يا صباحاه. ثم اندفعت حتى ألقاهم وقد أخذوها، فجعلت أرميهم وأقول:
(أنا ابن الأكوع.......... واليوم يوم الرضع)
فاستنقذتها منهم قبل أن يشربوا. فأقبلت بها أسوقها، فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إن القوم عطاش، وإني أعجلتهم أن يشربوا

(2/340)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 341
سقيهم، فابعث في أثرهم فقال: يا بن الأكوع ملكت فأسجع، إن القوم يقرون في قومهم.
(مقتل ابن أبي الحقيق)
وهو سلام بن أبي الحقيق وقيل عبد الله بن أبي الحقيق اليهودي، لعنه الله. قال البكائي، عن ابن إسحاق: ولما انقضى شأن الخندق وأمر بني قريظة، وكان سلام بن أبي الحقيق أبو رافع فيمن حزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت الأوس قبل أحد قتلت كعب بن الأشرف. فاستأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل ابن أبي الحقيق وهو بخيبر، فأذن لهم. وحدثني الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: كان مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذين الحيين من الأنصار كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول) الفحلين لا تصنع الأوس شيئاً فيه غناء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلاً علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام. فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها. وإذا فعلت الخزرج شيئاً قالت الأوس مثل ذلك. ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلاً علينا. فتذاكروا من رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كابن الأشرف، فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر. فاستأذنوا رسول

(2/341)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 342
الله صلى الله عليه وسلم، فأذن لهم. فخرج إليه من الخزرج خمسة من بني سلمة: عبد الله ابن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة بن ربعي، وآخر هو أسود بن خزاعي، حليف لهم. فأمر عليهم ابن عتيك، فخرجوا حتى قدموا خيبر، فأتوا دار ابن أبي الحقيق ليلاً، فلم يدعوا بيتاً في الدار إلا أغلوه على أهله، ثم قاموا على بابه فاستأذنوا، فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم قالوا: نلتمس الميرة. قالت: ذاك صاحبكم، فادخلوا عليه. قال: فلما دخلنا عليه أغلقنا علينا وعليها الحجرة تخوفاً أن يكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه. قال: فصاحت امرأته فنوهت بنا، وابتدرناه وهو على فراشه، والله ما يدلنا عليه في سواد البيت إلا بياضه، كأنه قبطية ملقاة. فلما صاحت علينا جعل الرجل منا يرفع سيفه عليها ثم يذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء، فكيف يده. فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس في بطنه حتى أنفذه، وهو يقول: قطني قطني، أي حسبي. قال: وخرجنا، وكان ابن عتيك سيئ

(2/342)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 343
البصر فوقع من الدرجة، فوثئت يده وثئاً شديداً وحملناه حتى نأتي منهراً من عيونهم فندخل فيه. فأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجه يطلبوننا، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه. فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أنه هلك فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم. فانطلق حتى دخل في الناس. قال: فوجدتها وفي يدها المصباح وحوله رجال وهي تنظر في وجهه وتحدثهم وتقول: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت نفسي فقلت: أني ابن عتيك بهذه البلاد ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه، ثم قالت: فاظ، وإله يهود. فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلي منها. قال: ثم جاء فأخبرنا بالخبر، فاحتملنا صاحبنا فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه واختلفنا في قتله، فكلنا يدعيه. فقال: هاتوا أسيافكم. فجئناه بها، فقال لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام والشراب.) وقال زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً من الأنصار إلى أبي رافع، فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلاً فقتله وهو نائم. أخرجه البخاري. وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع رجالاً من الأنصار، عليهم عبد الله يعني ابن عتيك. وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه. وكان في حصن له بأرض الحجاز. فلا دنوا وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله لأصحابه:

(2/343)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 344
اجلسوا مكانكم فإني منطلق فمتلطف للبواب لعلي أدخل. فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته. وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل لأغلق. فدخلت فكمنت، فأغلق الباب وعلق الأقاليد على ود، فقمت ففتحت الباب. وكان أبو رافع يسمر عنده وكان في علالي. فلما أن ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، وجعلت كلما فتحت باباً أغلقه علي من داخل، وقلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله. فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت. قلت: يا أبا رافع، قال: من هذا فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش، فما أغني شيئاً، فصاح، فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الضرب يا أبا رافع قال: لأمك الويل، إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت صدر السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعلمت أني قد قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً فباباً حتى انتهيت إلى درجة، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد أنتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامتي، ثم انطلقت حتى جلست عند الباب. فقال: لا أبرح الليلة حتى أعلم أقتلته أم لا. فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعي أبا رافع. فانطلقت إلى أصحابي، فقلت: النجاء النجاء، فقد قتل الله أبا رافع. فانتهينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثناه فقال: ابسط رجلك. فبسطتها.

(2/344)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 345
فمسحها، فكأنما لم أشكها قط. أخرجه البخاري. وأخرجه أيضاً من حديث إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن جده عن البراء بنحوه. وفيه: ثم انطلقت إلى أبواب بيوتهم فغلقتها عليهم من ظاهر. وفيه: ثم جئت كأني أغيثه) وغيرت صوتي، وقلت: مالك يا أبا رافع. قال: ألا أعجبك، دخل علي رجل فضربني بالسيف. قال: فعمدت له أيضاً فأضربه ضربة أخرى فلم تغن شيئاً، فصاح وقام أهله، ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث، وإذا هو مستلق على ظهره، فأضع السيف في بطنه ثم أتكئ عليه حتى سمعت صوت العظم. ثم خرجت دهشاً إلى السلم، فسقطت فاختلعت رجلي فعصبتها. ثم أتيت أصحابي أحجل فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية. فلما كان وجه الصبح صعد الناعية فقال: أنعي أبا رافع. فقمت أمشي، ما بي قلبة، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فبشرته. وقال ابن لهيعة: ثنا أبو الأسود، عن عروة قال: كان سلام بن أبي الحقيق قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب يدعوهم إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجعل لهم الجعل العظيم. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه جماعة فبيتوه ليلاً. وقال موسى بن عقبة في مغازيه: فطرقوا أبا رافع اليهودي بخيبر فقتلوه في بيته.

(2/345)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 346
(قتل ابن نبيح الهذلي)
قال ابن لهيعة: ثنا أبو الأسود، عن عروة قال: بعث رسول اله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس السلمي إلى خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي ثم اللحياني ليقتله وهو بعرنة وادي مكة. وقال محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه بلغني أن ابن نبيح الهذلي يجمع الناس ليغزوني وهو بنخلة أو بعرنة، فأته فاقتله. قلت: يا رسول الله انعته لي حتى أعرفه. قال: آيه ما بينك وبينه أنك إذا رأيته وجدت قشعريرة. فخرجت متوشحاً بسيفي، حتى دفعت إليه في ظعن يرتاد بهن منزلاً وقت العصر. فلما رأيته وجدت له ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة. فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أوميء برأسي إيماء. فلما انتهيت إليه قال: من الرجل قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاء لذلك. قال: أجل نحن في ذلك. فمشيت معه حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف فقتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنة مكبات عليه. فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أفلح الوجه. قلت: قد قتلته يا رسول الله.) قال: صدقت. ثم قام بي فدخل بيته فأعطاني عصاً، فقال:

(2/346)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 347
امسك هذه عندك. فخرجت بها على الناس. فقالوا: ما هذه العصا فقلت: أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرني أن أمسكها عندي. قالوا: أفلا ترجع فتسأله فرجعت فسألته: لم أعطيتنيها يا رسول الله قال: آية بيني وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المتخصرون يومئذ. قال: فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضمت معه في كفنه، فدفنا جميعاً. رواه عبد الوارث بن سعيد، عن ابن إسحاق فقال: إلى خالد بن سفيان الهذلي. وقال موسى بن عقبة: بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سفيان بن عبد الله بن أبي نبيح الهذلي.

(2/347)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 348

(2/348)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 349
(غزوة بني المصطلق وهي المريسع)
قال ابن إسحاق: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق من خزاعة، في شعبان سنة ست. كذا قال ابن إسحاق. وقال ابن شهاب وعروة: هي في شعبان سنة خمس. وكذلك يروى عن قتادة. وقاله أيضاً الواقدي، فقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس، وقدم المدينة لهلال رمضان. قلت: وفيها حديث الإفك، وقد تقدم ذلك في سنة خمس. وهو الصحيح.

(2/349)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 350
(سيرة نجد)
قيل إنها كانت في المحرم سنة ست، قال الليث بن سعد: حدثني سعيد المقبري أنه سمع أبا هريرة يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك قال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كان من الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة قال: عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال: أطلقوه. فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. يا محمد، والله ما كان على وجه الأرض أبغض إلي من) وجهك، وقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي. والله ما كان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي. والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر. فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت يا ثمامة. قال: لا، ولكني أسلمت، فوالله لا يأتيكم من اليمامة حبة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.

(2/350)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 351
وأيضاً من حديث عبد الحميد بن جعفر عن المقبري، به. وخالفهما محمد بن إسحاق، فيما روى يونس بن بكير عنه: حدثني سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: كان إسلام ثمامة بن أثال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الله حين عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرض له وهو مشرك، فأراد قتله، فأقبل معتمراً حتى دخل المدينة، فتحير فيها حتى أخذ، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به فربط إلى عمود من عمود من عمد المسجد. وفيه: وإن تسأل مالاً تعطه. قال أبو هريرة: فجعلنا نحن المساكين نقول: ما نصنع بدم ثمامة والله لأكلة من جزور سمينة من فدائه أحب إلينا من دمه. قلت: وهذا يدل على أن إسلام ثمامة كان بعد إسلام أبي هريرة، وهو في سنة سبع. فذكر الحديث، وفيه: فانصرف من مكة إلى اليمامة، ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش، فكتبوا إلى رسول الله يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي لهم حمل الطعام. وكانت اليمامة ريف مكة. قال: فأذن النبي صلى الله عليه وسلم. وفيها: كان من السرايا، على ما زعم الواقدي:

(2/351)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 352
(سرية عكاشة إلى الغمر)
قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول أو الآخر عكاشة بن محصن في أربعين رجلاً إلى الغمر. وفيهم ثابت بن أقرم وشجاع بن وهب. فأسرعوا، ونذر بهم القوم وهربوا. فنزل عكاشة على مياههم وبعث الطلائع فأصابوا من دلهم على بعض ماشيتهم، فوجدوا مائتي بعير، فساقوها إلى المدينة.
(سرية أبي عبيدة إلى ذي القصة)
) قال: وفيها بعث سرية أبي عبيدة إلى ذي القصة، في أربعين رجلاً، فساروا ليلهم مشاة ووافوا ذا القصة مع عماية الصبح. فأغار عليهم وأعجزهم هرباً في الجبال. وأصابوا رجلاً فأسلم.

(2/352)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 353
(سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة)
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة في عشرة، فكمن القوم لهم حتى نام هو وأصحابه، فما شعروا إلا بالقوم. فقتل أصحاب محمد، وأفلت هو جريحاً.
(سرية زيد بن حارثة إلى الجموم)
قال: وفيها كانت سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم. فأصاب امرأة من مزينة، يقال لها: حليمة، فدلتهم على مكان فأصابوا مواشي وأسراء منهم زوجها. فوهبها النبي صلى الله عليه وسلم نفسها وزوجها.
(سرية زيد بن حارثة إلى الطرف)
وفيها سرية زيد بن حارثة إلى الطرف إلى بني ثعلبة في خمسة

(2/353)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 354
عشر رجلاً. فهربت الأعراب وخافوا، فأصاب من نعمهم عشرين بعيراً. وغاب أربع ليال.
(سرية زيد بن حارثة إلى العيص)
وفيها كانت سرية زيد بن حارثة إلى العيص في جمادى الأول وأخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص، فاستجار بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجارته.
(سرية زيد بن حارثة إلى حسمي)
وحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه قال: أقبل دحية الكلبي من عند قيصر، قد أجازه بمال. فأقبل حتى كان بحسمي، فلقيه ناس من جذام، فقطعوا عليه الطريق وسلبوه. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل بيته فأخبره. فبعث زيد بن حارثة إلى حسمي وهي وراء وادي القرى وكانت في جمادى الآخرة.

(2/354)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 355
(سرية زيد إلى وادي القرى)
ثم سرية زيد إلى وادي القرى في رجب.
(سرية علي بن أبي طالب إلى فدك)
علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفدك ثم قال: وحدثني عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة قال: خرج علي رضي الله عنه في مائة إلى فدك إلى حي من بني سعد بن بكر. ذلك) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه عنهم أن لهم جمعاً يريدون أن يمدوا يهود خيبر. فسار إليهم الليل وكمن النهار، وأصاب عيناً فأقر له أنه بعث إلى خيبر يعرض عليهم نصرهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر. قال الواقدي: وذلك في شعبان.
(سرية عبد الرحمن الي دومة الجندل)
قال الواقدي: وفيها سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في شعبان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أطاعوا فتزوج ابنة ملكهم. فأسلم

(2/355)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 356
القوم، وتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ والدة أبي سلمة، وكان أبوها ملكهم.
(سرية كرز إلى العرنيين)
وفي شوال كانت سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذي قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل. فبعثه في عشرين فارساً وراءهم. وقال ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس: أن رهطاً من عكل وعرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أناس من أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف، فاستوخمنا المدينة. فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من أبوالها وألبانها. فانطلقوا حتى إذا كانوا في ناحية الحرة قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم، فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعنيهم، وتركهم في ناحية الحرة حتى ماتوا وهم كذلك. قال قتادة: فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية. قال قتادة: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان

(2/356)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 357
يحث في خطبته بعد ذلك على الصدقة وينهى عن المثلة. متفق عليه. وفي بعض طرقه: من عكل، أو عرينة. رواه شعبة، وهمام، وغيرهما، عن قتادة فقال: من عرينة من غير شك. وكذلك قال حميد، وثابت، وعبد العزيز بن صهيب، عن أنس. وقال زهير: سماك بن حرب، عن معاوية بن قرة، عن أنس: إن نفراً من عرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه، وقد وقع في المدينة الموم وهو البرسام فقالوا: هذا الوجع قد) وقع يا رسول الله، فلو أذنت لنا فرحنا إلى الإبل. قال: فاخرجوا وكونوا فيها. فخرجوا، فقتلوا أحد الراعيين وذهبوا بالإبل. وجاء الآخر وقد جرح، قال: قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل. وعنده شبان من الأنصار قريب من عشرين، فأرسلهم إليهم وبعث معهم قائفاً يقتص أثرهم. فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم. أخرجه مسلم. وقال أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: قدم رهط من عكل فأسلموا فاجتووا المدينة، فذكره، وفيه: فلم ترتفع الشمس حتى أتي بهم،

(2/357)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 358
فأمر بمسامير فأحميت لهم، فكواهم وقطع أيديهم وأرجلهم، ولم يحسمهم وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا. أخرجه البخاري.
(إسلام أبي العاص مبسوطاً)
أسلم أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف ابن قصي العبشمي، ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته زينب، أم أمامة، في وسط سنة ست. واسمه لقيط، قاله ابن معين والفلاس. وقال ابن سعد: اسمه مقسم وأمه هالة بنت خويلد خالة زوجته، فهما أبناء خالة. تزوج بها قبل المبعث، فولدت له علياً فمات طفلاً، وأمامة التي صلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو حاملها وهي التي تزوجها علي بعد موت خالتها فاطمة رضي الله عنها وكان أبو العاص يدعى جرو البطحاء، وأسر يوم بدر، وكانت زينب بمكة. قال يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة،

(2/358)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 359
قالت: فبعثت في فدائه بمال منه قلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم القلادة رق لها وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا. ففعلوا. فأخذ عليه عهداً أن يخلي زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً. وقال ابن إسحاق: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار، فقال: كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب. وذلك بعد بدر بشهر. قال: وكان أبو العاص من رجال قريش المعدودين مالاً وأمانة وتجارة. وكان الإسلام قد فرق بينه وبين زينب، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقدر أن يفرق بينهما. قال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: خرج أبو العاص تاجراً إلى الشام، وكان رجلاً مأموناً. فكانت معه بضائع لقريش. فأقبل فلقيته سرية للنبي صلى الله عليه وسلم، فاستاقوا عيره وهرب. وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أصابوا) فقسمه بينهم. وأتى أبو العاص حتى دخل على زينب فاستجار بها، وسألها أن تطلب له من رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ماله عليه. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم السرية فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم. وقد أصبتم له مالاً ولغيره ممن كان معه، وهو فيء، فإن رأيتم أن تردوا عليه فافعلوا، وإن كرهتم فأنتم وحقكم: قالوا: بل نرده عليه. فردوا

(2/359)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 360
والله عليه ما أصابوا، حتى إن الرجل ليأتي بالشنة، والرجل بالإداوة وبالجبل. ثم خرج حتى قدم مكة، فأدى إلى الناس بضائعهم. حتى إذا فرغ قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم معي مال قالوا: لا فجزاك الله خيراً. فقال أما والله ما معنى أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلا تخوفاً أن تظنوا أني إنما أسلمت لأذهب بأموالكم. فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. وأما موسى بن عقبة فذكر أن أموال أبي العاص إنما أخذها أبو بصير في الهدنة بعد هذا التاريخ. وقال ابن نمير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال قدم أبو العاص من الشام ومعه أموال المشركين. وقد أسلمت امرأته زينب وهاجرت. فقيل له: هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال التي معك فقال: بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي. وكفلت عنه امرأته أن يرجع فيؤدي إلى كل ذي حق حقه فيرجع ويسلم. ففعل. وما فرق بينهما، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن لهيعة عن موسى بن جبير الأنصاري، عن عراك بن مالك، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أم سلمة أن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليها زوجها أبو العاص أن خذي لي أماناً من أبيك. فأطلعت رأسها من باب

(2/360)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 361
حجرتها، والنبي صلى الله عليه وسلم في الصبح، فقالت: أيها الناس أنا زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني قد أجرت أبا العاص. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال: أيها الناس إني لا علم لي بهذا حتى سمعتموه، ألا وإنه يجير على الناس أدناهم. وقال ابن إسحاق عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته على أبي العاص على النكاح الأول بعد ست سنين. وقال حجاج بن أرطاة، عن محمد بن عبيد الله العرزمي وهو ضعيف، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها بمهر جديد ونكاح جديد.) قال الإمام أحمد: هذا حديث ضعيف، والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرها على النكاح الأول. وقال ابن إسحاق: ثم إن أبا العاص رجع إلى مكة مسلماً، فلم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشهداً. ثم قدم المدينة بعد ذلك، فتوفي في آخر سنة اثنتي عشرة.
(سرية عبد الله بن رواحة)
إلى أسير بن زارم في شوال قيل إن سلام بن أبي الحقيق لما قتل أمرت يهود عليهم أسير بن رازم

(2/361)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 362
فسار في غطفان وغيرهم يجمعهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن رواحة في ثلاثة سراً، فسأل عن خبره وغرته فأخبر بذلك. فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره. فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلاً، فبعث عليهم ابن رواحة. فقدموا على أسير فقالوا: نحن آمنون نعرض عليك ما جئنا له قال: نعم، ولي منكم مثل ذلك. فقالوا: نعم. فقالوا: إن رسول اله صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك لتخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك. فطمع في ذلك فخرج، وخرج معه ثلاثون من اليهود، مع كل رجل رديف من المسلمين. حتى إذا كانوا بقرقرة ثبار ندم أسير فقال عبد الله بن أنيس وكان في السرية: وأهوى بيده إلى سيفي ففطنت له ودفعت بعير وقلت: غدراً، أي عدو الله. فعل ذلك مرتين. فنزلت فسقت بالقوم حتى انفردت إلى أسير فضربته بالسيف فأندرت عامة فخذه، فسقط وبيده مخرش فضربني فشجني مأمومة، وملنا على أصحابه فقتلناهم، وهرب منهم رجل. فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد نجاكم الله من القوم الظالمين.

(2/362)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 363
(قصة غزوة الحديبة)
وهي على تسعة أميال من مكة خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة ست. قاله نافع، وقتادة، والزهري، وابن إسحاق، وغيرهم. وعروة في مغازيه، رواية أبي الأسود. وتفرد علي بن مسهر، عن هشام، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في رمضان. وكانت الحديبية في شوال.) وفي الصحيحين عن هدبة، عن همام، ثنا قتادة، أن أنساً أخبره أن نبي الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة، إلا العمرة التي مع حجته: عمرة الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل، وعمرة من الجعرانة، حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته.

(2/363)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 364
وقال الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها. أخرجه البخاري. وقال شعبة، عن عمرو بن مرة حدثني عبد الله بن أبي أوفى وكان قد شهد بيعة الرضوان قال: كنا يومئذ ألفاً وثلاثمائة. وكانت أسلم يومئذ ثمن المهاجرين. أخرجه مسلم. وعلقه البخاري في صحيحه. وقال حصين بن عبد الرحمن، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة. متفق عليه. وخالفه الأعمش، عن سالم عن جابر، قال: كنا أربع عشرة مائة، أصحاب الشجرة. اتفقا أيضاً عليه. وكان جابراً قال ذلك على التقريب. ولعلهم كانوا أربع عشرة مائة كاملة تزيد عدداً لم يعتبره، أو خمس عشرة مائة تنقص عدداً لم يعتبره. والعرب

(2/364)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 365
تفعل هذا كثيراً، كما تراهم قد اختلفوا في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتبروا تارة السنة التي ولد فيها والتي توفي فيها فأدخلوهما في العدد. واعتبروا تارة السنين الكاملة وسكتوا عن الشهور الفاضلة. ويبين هذا أن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان قال: خمس عشرة مائة. قلت: إن جابراً قال: كانوا أربع عشرة مائة. قال: يرحمه الله، وهم. هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة. أخرجه البخاري. وقال عمرو بن دينار: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم خير أهل الأرض. أتفقا عليه من حديث ابن عيينة. وقال الليث، عن أبي الزبير، عن جابر: كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة. صحيح. وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر: نحرنا عام الحديبية سبعين بدنة، البدنة عن سبعة.) قلنا لجابر: كم كنتم يومئذ قال: ألفاً وأربعمائة بخيلنا ورجلنا. وكذلك قاله البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع، في أصح الروايتين. والمسيب بن حزم، من رواية قتادة، عن سعيد، عن أبيه.

(2/365)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 366
وقال معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور، ومروان بن الحكم، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه. حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره، وأحرم بالعمرة. وبعث بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش. وسار حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك جموعاً، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي. أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن لجوا تكن عنقاً قطعها الله. أم ترون أن نؤم البيت فيمن صدنا عنه قاتلناه قال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين ولم نجيء لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. قال: فروحوا إذاً. قال الزهري في الحديث: فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين. فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش. وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت راحلته فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت

(2/366)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 367
القصواء خلأت القصواء. قال: فروحوا إذاً. قال الزهري: قال أبو هريرة: ما رأيت أحداً كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المسور ومروان في حديثهما: فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقري رجع الحديث إلى موضعه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل. ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها. ثم زجرها فوثبت به. قال: فعدل حتى نزل بأقصى الحديبة على ثمد قليل الماء، نما يتبرضه الناس) تبرضاً، فلم يلبثه الناس أن نزحوه، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش. فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله مازال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه. فبينما هم كذلك إذ جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة. فقال: إني تركت كعب ابن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبة، معهم العوذ

(2/367)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 368
المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجيء لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل في الناس فعلوا، ولا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره. فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشاً فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم نعرضهم عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا في أن تحدثنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا وكذا. فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: أي قوم ألستم بالوالد قالوا: بلى. قال: ألست بالولد قالوا: بلى. قال: هل تتهموني قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها ودعوني آته. قالوا: ائته. فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال نحواً من قوله لبديل. فقال: أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك وإن تكن الأخرى

(2/368)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 369
فوالله إني لأرى وجوهاً وأرى أوباشاً من الناس خلقاً أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر رضي الله عنه: أمصص بظر اللات. أنحن نفر عنه وندعه قال: من ذا قال أبو بكر. قال: والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، كلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك. فرفع رأسه فقال: من هذا قالوا: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر، أو لست أسعى في غدرتك قال: وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما) الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء. ثم إن عروة جعل يرمق صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم يدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروه، وإذا توضأ ثاروا يقتتلون على

(2/369)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 370
وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يجدون إليه النظر تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، ولا يجدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني أته. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له. فبعثت له. واستقبله القوم يلبون. فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا مكرز وهو رجل فاجر. فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم. فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو. قال معمر: وأخبرني أيوب، عن عكرمة أنه قال: لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم: سهل لكم من أمركم. قال الزهري في حديثه: فجاء سيهل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينك كتاباً. فدعا الكاتب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن أكتب محمد بن

(2/370)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 371
عبد الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لرسول الله وإن كذبتموني، أكتب محمد بن عبد الله. قال الزهري: وذلك لقوله لا يسألون خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها.) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف. فقال: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل. فكتب. فقال سهيل: على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. فقال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: وهذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد. قال: فوالله إذاً لا نصالحك على شيء أبداً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجره لي. قال: ما أنا بمجيره لك. قال: بل، فافعل قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجرناه. قال أبو جندل: يا معاشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله. فقال عمر: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ألست نبي الله قال: بلى قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال: بلى قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قلت: أولست

(2/371)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 372
كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف حقاً قال: بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه العام قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقاً قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً قال: أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي الله وهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت. فوالله إنه لعلى الحق. قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به قال: بلى فأخبرك أنك تأتيه العام قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال: الزهري. قال عمر: فعلمت لذلك أعمالاً. فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا فانحروا ثم احلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت: يا نبي الله أتحب ذلك أخرج ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك، ثم تدعو بحالقك فيحلقك. فقام فخرج فلم يكلم أحداً حتى فعل ذلك. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. ثم جاء نسوة) مؤمنات، وأنزل الله: إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن حتى بلغ ولا تمسكوا بعصم

(2/372)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 373
الكوافر. فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له من الشرك، فتزوج إحداهما معاوية، والأخرى صفوان بن أمية. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير، رجل من قريش، وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا. فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم. فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيداً جداً فاستله الأخر فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت. فقال أبو بصير: أرني إليه. فأمكنه منه فضربه حتى برد. وفر الآخر حتى بلغ المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: قتل والله صاحبي وإني لمقتول. قال: فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد أوفى الله ذمتك، والله قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله بسيفهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد. فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم. فخرج حتى أتى سيف البحر. وينفلت منه أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة.

(2/373)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 374
قال: فوالله لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه منهم فهو آمن. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأنزل: وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم حتى بلغ حمية الجاهلية. وكانت حميتهم أنهم لم يقروا بنبي الله ولم يقروا ببسم الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين الموت. أخرجه البخاري، عن المسندي، عن عبد الرزاق، عن معمر، بطوله. وقال قرة، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يصعد الثنية، ثنية المرار، فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل. فكان أول من صعد خيل بني الخزرج. ثم تبادر الناس بعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر. فقلنا: تعال يستغفر لك رسول الله. قال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم. وإذا هو رجل ينشد ضالة. أخرجه مسلم.) وقال عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد

(2/374)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 375
الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبة. كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها فما تركنا فيها قطرة. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء منها فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا نحن وركابنا. أخرجه خ. وقال عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية، ونحن أربع عشرة ومائة، وعليها خمسون شاة ما ترويها. فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جباها، فإما دعا وإما بزق فيها فجاشت فسقتنا وأسقينا. أخرجه مسلم. وقال البكائي: قال ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عروة، عن مسور، ومروان بن الحكم أنهما قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالاً. وساق معه للهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر. قال ابن إسحاق: وكان جابر بن عبد الله فيما بلغني يقول: كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة. قلت: قد ذكرنا عن جماعة من الصحابة كقول جابر.

(2/375)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 376
ثم ساق ابن إسحاق، حديث الزهري بطوله، وفيه ألفاظ غريبة، منها: وجعل عروة بن مسعود يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، والمغيرة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد. قال: فجعل يقرع يد عروة إذا تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أكفف يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك. فيقول عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عروة: من هذا يا محمد قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. قال: أي غدر، وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس. قال ابن هشام: أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشرة دية، وأصلح الأمر. وقال ابن لهيعة: ثنا أبو الأسود، قال عروة: وخرجت قريش من مكة، فسبقوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى بلدح وإلى الماء، فنزلوا عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد) سبق نزل على الحديبية، وذلك في حر شديد وليس بها إلا بئر واحدة، فأشفق القوم من الظمأ وهم كثير، فنزل فيها رجال يمتحونها، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء فتوضأ في الدلو ومضمض فاه ثم

(2/376)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 377
مج فيه، وأمر أن يصب في البئر، ونزع سهماً من كنانته فألقاه في البئر ودعا الله تعالى، ففارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها، وهم جلوس على شفتها. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سلك على غير الطريق التي بلغه أن قريشاً بها. قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رجلاً من أسلم قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فسلك بهم طريقاً وعراً أجرل بين شعاب، فلما خرجوا منه وقد شق ذلك على المسلمين، وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: أستغفر الله ونتوب إليه فقالوا ذلك. فقال: والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرايئل فلم يقولوها. قال عبد الملك بن هشام: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: اسلكوا ذات اليمين بين ظهري المحمص في طريق تخرجه على ثنية المرار، مهبط الحديبية من أسفل مكة فلما رأت قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش. وقال شعبة، وغيره، عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد قال: قلت لجابر: كم كنتم يوم الشجرة قال: كنا ألفاً وخمس مائة: وذكر عطشاً

(2/377)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 378
أصابهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء في تور فوضع يده فيه، فجعل الماء يخرج من بين أصابعه كأنه العيون، فشربنا ووسعنا وكفانا، ولو كنا مائة ألف لكفانا. وقد أخرجه البخاري من وجه آخر عن حصين. وقال أبو عوانة، عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي قال: قال جابر ابن عبد الله: غزونا أو سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن يومئذ أربع عشرة مائة، فحضرت الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل في القوم من طهور فجاء رجل يسعى بإداوة فيها شيء من ماء ليس في القوم ماء غيره، فصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدح ثم توضأ، ثم انصرف وترك القدح. قال: فركب الناس ذلك القدح وقالوا: تمسحوا تمسحوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلكم، حين سمعهم يقولون ذلك. قال: فوضع كفه في) الماء والقدح وقال: سبحان الله. ثم قال: أسبغو الوضوء. فوالذي ابتلاني ببصري لقد رأيت العيون عيون الماء تخرج من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرفعها حتى توضأوا أجمعون. رواه مسدد عنه. وقال عكرمة بن عمار العجلي، ثنا إياس بن سلمة، عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فأصابنا جهد، حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا. فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم فجمعنا مزاودنا فبسطنا له نطعاً، فاجتمع زاد القوم على النطع. فتطاولت لأحزركم هو فحزرته كربضة العنز ونحن

(2/378)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 379
أربع عشرة مائة. قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعاً ثم حشونا جربنا. ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: هل من وضوء فجاء رجل بإداوة له، فهيا نطفة فأفرغها في قدح. فتوضأنا كلنا، ندغفقه دغفقة، أربع عشرة مائة. قال: ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا: هل من طهور فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرغ الوضوء. أخرجه مسلم. وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: قال ابن عباس: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية كلمه بعض أصحابه فقالوا: جهدنا وفي الناس ظهر فأنحره. فقال عمر: لا تفعل يا رسول الله فإن الناس إن يكن معهم بقية ظهر أمثل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابسطوا أنطاعكم وعباءكم. ففعلوا. ثم قال: من كان عنده بقية من زاد وطعام فلينثره. ودعا لهم ثم قال: قربوا أوعيتكم. فأخذوا ما شاء الله. يحدثه نافع بن جبير. وقال يحيى بن سليم الطائفي، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر الظهران في صلح قريش قال أصحابه: لو انتحرنا يا رسول الله من ظهورنا فأكلنا من لحومها وشحومها وحسونا من المرق أصبحنا غداً إذا عدونا عليهم وبنا جمام. قال: لا، ولكن ائتوني بما فضل من أزوادكم. فبسطوا أنطاعاً ثم صبوا عليها فضول أزوادهم. فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، فأكلوا حتى تضلعوا شبعاً، ثم لففوا فضول ما فضل من أزوادهم في جربهم.

(2/379)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 380
وقال مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر والتمسوا الوضوء، فلم يجدوه. فأتي بوضوء، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الإناء وأمر الناس أن يتوضأوا منه. قال: فرأيت الماء ينبع) من تحت أصابعه. فتوضأ الناس حتى توضأوا من عند آخرهم. متفق عليه. وقال حماد بن زيد: ثنا ثابت، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء فأتي بقدح رحراح فجعل القوم يتوضأون. فحزرت ما بين السبعين إلى الثمانين من توضأ منه، فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه. متفق عليه. وقال عبد الله بن بكر: نا حميد عن أنس قال: حضرت الصلاة، فقام من كان قريب الدار إلى أهله يتوضأ وبقي قوم. فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بمخضب من حجارة فيه ماء، فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه فتوضأ القوم. قلنا: كم هم قال: ثمانون وزيادة. أخرجه البخاري. وجاء أنهم كانوا بقباء.

(2/380)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 381
وقال ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالزوراء مع أصحابه يتوضأون. فوضع كفه في الماء، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى توضأوا. فقلنا لأنس: كم كنتم قال: زهاء ثلاث مائة. أخرجه مسلم، والبخاري أيضاً بمعناه، والزوراء بالمدينة عند السوق والمسجد. وقال أبو عبيد الرحمن المقري: ثنا عبد الرحمن بن زياد، حدثني زياد ابن نعيم الحضرمي، سمعت زياد بن الحارث الصدائي قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثاً طويلاً منه: فوضع كفه صلى الله عليه وسلم في الماء فرأيت بين أصبعين من أصابعه عيناً تفور. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أن استحيي من ربي لسقينا واستقينا. عبد الرحمن ضعيف. وهذه الأحاديث تدل على البركة في الماء غير مرة. وقال إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله

(2/381)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 382
قال: كنا نأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع تسبيح الطعام. وأتي بإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم. فقال: حي على الطهور المبارك والبركة من الله. حتى توضأنا كلنا. أخرجه البخاري. وقال أبو كدينة، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء من ماء، فجعل أصابعه في فم الإناء وفتح أصابعه، فرأيت العيون تنبع من بين أصابعه. وذكر الحديث. إسناده جيد.) وقال ابن لهيعة: ثنا أبو الأسود قال: قال عروة في نزوله صلى الله عليه وسلم بالحديبية: فزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب أن يبعث إليهم رجلاً. فدعا عمر ليبعثه فقال: إني لا أمنه، وليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي، فأرسل عثمان فإن عشيرته بها. فدعا عثمان فأرسله وقال: أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وادعهم إلى الإسلام. وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح. فانطلق عثمان فمر على قريش ببلدح. فقالت قريش: إلى أين فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم لأدعوكم إلى الإسلام، ويخبركم أنا لم نأت لقتال وإنما جئنا عماراً. فدعاهم عثمان كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: قد سمعنا ما تقول فانفذ لحاجتك. وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص فرحب به وأسرج فرسه، فحمل عليه عثمان فأجاره، وردفه أبان حتى جاء مكة. ثم إن قريشاً بعثوا بديل بن ورقاء فذكر الحديث والصلح. وذكر أنهم أمن بعضهم بعضاً وتزاوروا. فبينا هم كذلك، وطوائف من المسلمين في المشركين، إذ رمى رجل رجلاً

(2/382)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 383
من الفريق الآخر. فكانت معاركة، وتراموا بالنبل والحجارة. وصاح الفريقان وارتهن كل واحد من الفريقين من فيهم، فارتهن المسلمون سهيل بن عمرو وغيره، وارتهن المشركون عثمان وغيره. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة. ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن القدس قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا أبداً. فذكر القصة بطولها، وفيها: فقال المسلمون وهم بالحديبية قبل أن يرجع عثمان بن عفان: خلص عثمان من بيننا إلى البيت فطاف به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون. قالوا: وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص قال: ذلك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى يطوف معنا. فرجع إليهم عثمان، فقال المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت فقال: بئس ما ظننتم بي، فوالذي نفسي بيده لو مكثت بها مقيماً سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت. وقال البكائي، عن ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم. فدعا الناس إلى البيعة. فكانت بيعة) الرضوان تحت الشجرة. فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، وكان جابر يقول: لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر.

(2/383)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 384
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني بعض آل عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب بإحدى يديه على الأخرى وقال: هذه لي وهذه لعثمان إن كان حياً. ثم بلغهم أن ذلك باطل، ورجع عثمان، ولم يتخلف عن بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة. قال جابر: والله لكأني أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس. وقال الحسن بن بشر البجلي: ثنا الحكم بن عبد الملك وليس بالقوي قاله النسائي عن قتادة، عن أنس قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعة الرضوان كان عثمان قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة. فبايع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عثمان في حاجة الله ورسوله. فضرب بإحدى يديه على الأخرى فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خيراً من أيديهم لأنفسهم. وقال ابن عيينة: ثنا الزبير، سمع جابراً يقول: لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة وجدنا رجلاً منا يقال له الجد بن قيس مختبئاً تحت إبط بعير. أخرجه مسلم من حديث ابن جريج، عن أبي الزبير. وبه: قال لم نبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر. أخرجه مسلم عن أبي شيبة، عن ابن عيينة. وأخرجه من حديث الليث، عن أبي الزبير، وقال: فبايعناه وعمر رضي الله عنه آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة.

(2/384)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 385
وقال خالد الحذاء، عن الحكم بن عبد الله الأعرج، عن معقل بن يسار قال: لقد رأيتني ويوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة. ولم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر. أخرجه مسلم. وقال ابن عيينة: ثنا ابن أبي خالد، عن الشعبي قال: لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة كان أول من انتهى إليه أبو سنان الأسدي فقال: أبسط يدك أبايعك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: علام تبايعني قال: على ما في نفسك. وقال مكي بن إبراهيم، وأبو عاصم واللفظ له عن زيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع) قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبة، ثم عدلت إلى ظل شجرة. فلما خف الناس قال: يا بن الأكوع ألا تبايع قلت قد بايعت يا رسول الله. قال: وأيضاً. فبايعته الثانية. فقلت لسلمة: يا أبا مسلم على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ قال: على الموت. متفق عليه. وقال عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة، عن أبيه فذكر الحديث وقال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى البيعة في أصل الشجرة، فبايعته أول

(2/385)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 386
الناس وبايع وبايع حتى إذا في وسط الناس قال: بايعني يا سلمة. فقلت يا رسول الله قد بايعك. قال: وأيضاً. قال: ورآني غزلاً فأعطاني حجفة أو درقة. ثم بايع، حتى إذا كان في آخر الناس قال: ألا تبايع قلت: يا رسول الله قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم. قال: وأيضاً. فبايعت الثالثة. فقال: يا سلمة أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك قلت: لقيني عامر فأعطيتها إياه. فضحك ثم قال: إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيباً هو أحب إلي من نفسي. ثم إن مشركي مكة راسلونا بالصلح حتى مشى بعضنا إلى بعض فاصطلحنا. وكنت خادماً لطلحة بن عبيد الله أسقي فرسه وأحسه وآكل من طعامه. وتركت أهلي ومالي مهاجراً إلى الله ورسوله. فلما اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فكسحت شوكها فاضطجعت في ظلها. فأتاني أربعة من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، فعلقوا سلاحهم واضطجعوا. فبينا هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين، قتل ابن زنيم. فاخترطت سيفي فشددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثاً في يدي، ثم قلت، والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه. ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاء

(2/386)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 387
عمي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز يقوده مجففاً حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين من المشركين، فنظر إليهم. وقال: دعوهم، يكون لهم بدء الفجور وثناه. فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزلت: وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم الآية. أخرجه مسلم وقال حماد بن سلمة، عن أنس، أن رجالاً من أهل مكة هبطوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قبل جبل التنعيم ليقاتلوه. قال: فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذاً، فأعتقهم. فأنزل) الله: وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم الآية، أخرجه مسلم. وقال الوليد بن مسلم: ثنا عمرو بن محمد العمري، أخبرني نافع، عن ابن عمر أن الناس كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبة، قد تفرقوا في ظلال الشجر. فإذا الناس محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يعني عمر يا

(2/387)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 388
عبد الله انظر ما شأن الناس فوجدهم يبايعون، فبايع ثم رجع إلى عمر، فخرج فبايع. أخرجه خ فقال: وقال هشام بن عمار: ثنا الوليد. قلت: ورواه دحيم، عن الوليد. قلت: وسميت بيعة الرضوان من قوله تعالى: لقد رضي الله عن المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً. قال أبو عوانة، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الشجرة، قال: فانطلقنا في قابل حاجين، فخفي علينا مكانها، فإن كانت تبينت لكم فأنتم أعلم. متفق عليه. وقال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير المكي أنه سمع جابراً يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد. قلت: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقالت: وإن منكم إلا واردها، فقال: قد

(2/388)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 389
قال تعالى: ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً. أخرجه مسلم. قرأت على عبد الحافظ بن بدران، أخبركم موسى بن عبد القادر، والحسين بن أبي بكر قالا: أنا عبد الأول بن عيسى، أنا محمد بن أبي مسعود، نا عبد الرحمن بن أبي شريح، ثنا أبو القاسم البغوي، نا العلاء بن موسى إملاء، سنة سبع وعشرين ومائتين، أنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير المكي، عن جابر بن عبد لله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل أحد ممن بايع تحت الشجرة النار. أخرجه النسائي. وقال قتيبة: نا الليث عن أبي الزبير عن جابر أن عبداً خاطب ابن أبي بلتعة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً قال يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدر والحديبة. وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة،) ومروان في قصة الحديبية قالا: فدعت قريش سهيل بن عمرو قالوا: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه ولا يكونن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامة هذا، لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة. فخرج سهيل من عندهم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً قال: قد أراد القوم

(2/389)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 390
الصلح حين بعثوا هذا الرجل. فوقع الصلح على أن توضع الحرب بنيهما عشر سنين، وأن يخلوا بينه وبين مكة من العام المقبل، فيقيم بها ثلاثاً، وأنه لا يدخلها إلا بسلاح الراكب والسيوف في القرب، وأنه من أتانا من أصحابك بغير إذن وليه لم نرده عليك، ومن أتاك منا بغير إذن وليه رددته علينا، وأن بيننا وبينك عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال. وذكر الحديث. الاسلال الخفية وقيل الغارة وقيل سل السيوف و الإغلال الغارة وقال شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي مكة كتب كتاباً: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله. قالوا: لو علمنا أنك رسول الله لم نقاتلك. قال لعلي: امحه. فأبى، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله. واشترطوا عليه أن يقيموا ثلاثاً، وأن لا يدخلوا مكة بسلاح إلا جلبان السلاح، يعني السيف بقرابه. متفق عليه. وقال حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس نحوه أو قريباً منه. أخرجه مسلم.

(2/390)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 391
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني يزيد بن سفيان، عن محمد بن كعب أن كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان علياً رضي الله عنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. فجعل علي يتلكأ ويأبى إلا أن يكتب: محمد رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب، فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد، فكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله. وقال عبد العزيز بن سياه: نا حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل قال: قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال: أيها الناس اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا. فأتى عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل قال: بلى. قال: أليس قتلاناً في الجنة وقتلاهم في النار قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في أنفسنا ونرجع ولما) يحكم الله بيننا وبينهم قال: يا بن الخطاب، إني رسول الله ولن يضيعني الله، فانطلق متغيظاً إلى أبي بكر، فقال له كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر فأقرأه إياه. فقال: يا رسول الله، أو فتح هو قال: نعم، فطابت نفسه ورجع. متفق عليه. وقال يونس، عن ابن إسحاق، عن الزهري عن عروة عن

(2/391)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 392
المسور، ومروان قالا: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند أم سلمة فلم يكلم أحداً حتى أتى هديه فنحر وحلق فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا وحلق بعض وقصر بعض. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر للمحلقين. فقيل: يا رسول الله والمقصرين فقال للمحلقين، ثلاثاً. قيل: يا رسول الله وللمقصرين قال: وللمقصيرين. وقال يونس، عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قيل له لم ظاهر رسول لله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين واحدة فقال: إنهم لم يشكوا. وقال يونس هو ابن بكير، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي إبراهيم، عن أبي سعيد قال: حلق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية كلهم غير رجلين قصرا ولم يحلقا. أبو إبراهيم مجهول. وقال ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن وهب بن عبد الله بن قارب قل: كنت مع أبي، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يرحم الله المحلقين. قال رجل: والمقصرين يا رسول الله فلما كانت الثالثة قال: والمقصرين. وقال يحيى بن أبي بكير: ثنا زهير بن محمد، نا محمد بن عبد الرحمن، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: نحر يوم الحديبية سبعون بدنة فيها جمل أبي جهل، فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها.

(2/392)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 393
ويروى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في عمرة الحديبية جملاً كان لأبي جهل، في أنفه برة من ذهب أهداه ليغيظ به قريشاً.) وقال فليح بن سليمان، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً، فحال كفار قريش بينه وبين البيت. فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحاً عليها إلا سيوفاً، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا، فاعتمر من العام المقبل، فدخلها كما صالحهم. فلما أن أقام بها ثلاثاً، أمروه أن يخرج فخرج. أخرجه البخاري. وقال مالك عن أبي الزبير، عن جابر: نحرنا بالحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. رواه مسلم.

(2/393)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 394

(2/394)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 395
(نزول سورة الفتح)
قال مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره، وعمر معه ليلاً. فسأله عمر عن شيء فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر: ثكلتك أمك، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن، فلم أنشب أن سمعت صارخاً يصرخ، قال: قلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فقال: لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر. أخرجه البخاري.

(2/395)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 396
وقال يونس بن بكير، عن عبد الرحمن المسعودي، عن جامع بن شداد، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، عن أبي مسعود قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، جعلت ناقته تثقل، فتقدمنا، فأنزل عليه: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً. وقال شعبة، عن قتادة، عن أنس: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً، قال: فتح الحديبية، فقال رجل: هنيئاً مريئاً يا رسول رسول الله هذا لك، فما لنا فأنزلت: ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري. قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثتهم عن قتادة، عن أنس، ثم قدمت البصرة فذكرت ذلك لقتادة فقال: أما الأول فعن أنس، وأما الثاني: ليدخل المؤمنين والمؤمنات، فعن عكرمة، أخرجه البخاري. وقال همام: ثنا قتادة، عن أنس، قال: لما نزلت: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً إلى آخر الآية على) رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية، وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة، فقال: نزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا. فلما تلاها قال رجل: قد بين الله لك ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا فأنزلت التي بعدها: ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار. أخرجه مسلم. وقال يونس، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن

(2/396)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 397
المسور، ومروان قالا في قصة الحديبية: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً. فلما أن كان بين مكة والمدينة نزلت عليه سورة الفتح. فكانت القضية في سورة الفتح وما ذكره الله من بيعة الرضوان تحت الشجرة. فلما أمن الناس وتفاوضوا، لم يكلم أحد بالإسلام إلا دخل فيه. فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام أكثر مما كان فيه قبل ذلك. كان صلح الحديبية فتحاً عظيماً. وقال ابن لهيعة: ثنا أبو الأسود عن عروة قالوا: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبيية راجعاً. فقال رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا، وعكف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من المسلمين خرجا فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول رجال من أصحابه: إن هذا ليس بفتح. فقال: بئس الكلام، هذا أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالرواح عن بلادهم ويسألونكم القضية ويرغبون إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا، وقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين، فهذا أعظم الفتوح. أنسيتم يوم أحد، إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخركم أنسيتم يوم الأحزاب، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم فقال المسلمون: صدق الله ورسوله، هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله. وقال ابن أبي عروبة، عن قتادة، قال: ظهرت الروم على فارس عند مرجع المسلمين من الحديبية. وقال مثل ذلك عقيل، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. وكانت بين الروم وبين فارس ملحمة مشهودة نصر الله فيها الروم. ففرح المسلمون بذلك، لكون أهل الكتاب في الحملة نصروا على المجوس

(2/397)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 398
وقال مغيرة، عن الشعبي في قوله: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً قال: فتح الحديبية، وبايعوا بيعة الرضوان، وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس. ففرح المسلمون بتصديق كتاب الله ونصر أهل الكتاب على المجوس.) وقال شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: وأثابهم فتحاً قريباً، قال: خيبر. وأخرى لم تقدروا عليها، قال: فارس والروم. وقال ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أري رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية أن يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، فقالوا له حين نحر بالحديبية: أين رؤياك يا رسول الله فأنزل الله: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق إلى قوله فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً يعني النحر بالحديبية ثم رجعوا ففتحوا خيبر، فكان تصديق رؤياه في السنة المقبلة. وقال هشيم: أنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، وعكرمة: ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد، قالا: هوازن يوم حنين رواه سعيد بن منصور في سننه.

(2/398)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 399
وقال بندار: ثنا غندر، ثنا شعبة، عن هشيم، فذكره، وزاد: هوازن وبنو حنيفة. وقال عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله: أولي بأس شديد، قال: فارس. وقال: السكينة هي الرحمة. وقال أبو حذيفة النهدي: ثنا سفيان، عن سملة بن كهيل، عن أبي الأحوص، عن علي هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، ثم هي بعد ريح هفافة. وقال ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: السكينة كهيئة الريح، لها رأس كرأس الهرة وجناحان. وقال المسعودي، عن قتادة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: تصيبهم بما صنعوا قارعة، قال: السرية، أو تحل قريباً من دارهم، قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم. حتى يأتي وعد الله، قال: فتح مكة. وعن مجاهد: أو تحل قريباً من دارهم، قال: الحديبية ونحوها. رواه شريك، عن منصور، عنه.

(2/399)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 400
وقال الليث، عن عقيل عن ابن شهاب، أخبرني عروة أنه سمع مروان بن الحكم، والمسور يخبران عن رسول لله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كاتب سهيل بن عمرو، فذكر الحديث، وفيه: وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم) يرجعها إليهم، فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن: إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار. قال عروة: فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن بهذه الآية: إذا جاءك المؤمنات يبايعنك الآية. قالت: فمن أقر بهذا الشرط منهن قال لها قد بايعتك، كلاماً يكلمها به، والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما بايعني إلا بقوله. أخرجه البخاري. وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انفلت من ثقيف أبو بصير بن أسيد بن حارثة الثقفي من المشركين، فذكر من أمره نحواً مما قدمنا. وفيه زيادة وهي: فخرج أبو بصير معه خمسة كانوا قدموا من مكة، ولم ترسل قريش في طلبهم كما أرسلوا في أبي بصير، حتى كانوا بين العيص وذي المروة من أرض جهينة

(2/400)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 401
على طريق عير قريش مما يلي سيف البحر، لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها. وانفلت أبو جندل في سبعين راكباً أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبي بصير، وقطعوا مادة قريش من الشام، وكان أبو بصير يصلي بأصحابه، فلما قدم عليه أبو جندل كان يؤمهم. واجتمع إلى أبي جندل حين سمعوا بقدومه ناس من بني غفار وأسلم وجهينة وطوائف، حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يبعث إلى أبي بصير ومن معه فيقدموا عليه، وقالوا: من خرج منا إليك فأمسكه، قال: ومر بأبي بصير أبو العاص بن الربيع من الشام فأخذوه، فقدم على امرأته زينب سراً. وقد تقدم شأنه. وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه إلى أبي بصير أن لا يعترضوا لأحد. فقدم الكتاب على أبي جندل وأبي بصير، وأبو بصير يموت. فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجداً. وقال يحيى بن أبي كثير: حدثني أبو سلمة، أن أبا هريرة حدثه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى العشاء الآخرة نصب في الركعة الأخيرة بعدما يقول: سمع الله لمن حمده: اللهم نج الوليد بن الوليد، اللهم نج سملة بن هشام، اللهم نج عياش بن أبي ربيعة، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر. اللهم اجعلها سنين مثل سني

(2/401)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 402
يوسف. ثم لم يزل يدعو حتى نجاهم الله تعالى، ثم ترك الدعاء لهم بعد ذلك. وفي سنة ست:) مات سعد بن خولة رضي الله عنه في الأسر بمكة. ورثى له النبي صلى الله عليه وسلم لكونه مات بمكة. وفيها: قتل هشام بن صبابة أخو مقيس، قتله رجل من المسلمين وهو يظن أنه كافر، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم مقيساً ديته. ثم إن مقيساً قتل قاتل أخيه، وكفر وهرب إلى مكة. وفي ذي الحجة: ماتت أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، أم عائشة رضي الله عنهما، أخرج البخاري من رواية مسروق عنها حديثاً وهو منقطع لأنه لم يدركها، أو قد أدركها فيكون تاريخ موتها هذا خطأ. والله أعلم.

(2/402)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 403
1 (أحداث السنة السابعة)

(غزوة خيبر)
قال عبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر قال: كان افتتاح خيبر في عقب المحرم، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر صفر. قلت: وكذا رواه ابن إسحاق عن غيره عبد الله بن أبي بكر. وذكر الواقدي، عن شيوخه، في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر: في أول سنة سبع، وشذ الزهري فقال، فيما رواه عنه موسى بن عقبة في مغازيه قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر يوم سنة ست. وخيبر: بليدة على ثمانية برد من المدينة. قال وهيب: ثنا خثيم بن عراك، عن أبيه، عن نفر من بني غفار قالوا: إن أبا هريرة قدم المدينة وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، واستخلف

(2/403)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 404
على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري قال أبو هريرة: فوجدناه في صلاة الصبح، فقرأ في الركعة الأولى كهيعص، وقرأ في الثانية ويل للمطففين. قال أبو هريرة: فأقول في صلاتي: ويل لأبي فلان له مكيالان، إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص. قال: فلما فرغنا من صلاتنا أتينا سباع بن عرفطة فزودنا شيئاً حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فتح خيبر، فكلم المسلمين فأشركونا في سهمانهم. وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، أخبرني سويد ابن النعمان، أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء وهي أدنى خيبر صلى) العصر، ثم دعا بأزواد فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به فثري، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلنا. ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ: أخرجه البخاري. وقال حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً. فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك. وكان عامر رجلاً شاعراً فنزل يحدو بالقوم ويقول:
(اللهم لولا أنت ما اهتدينا.......... ولا تصدقنا ولا صلينا)

(2/404)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 405
(فاغفر فداء لك ما اقتفينا.......... وثبت الأقدام إن لاقينا)

(وألقين سكينة علينا.......... إنا إذا صيح بن أتينا)
وبالصياح عولوا علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا السائق قالوا: عامر. قال: يرحمه الله. قال رجل من القوم: وجبت يا رسول لله، لولا أمتعتنا به. فأتينا خيبر فحاصرناهم، حتى أصابتنا مخمصة شديدة. فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم أوقدوا نيراناً كثيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذه النيران على أي شيء توقد قالوا: على لحم حمر إنسية. فقال: أهريقوها واكسروها. فقال رجل: أويهريقوها ويغسلوها. قال: أو ذاك. قال: فلما تصاف القوم كان سيف عامر فيه قصر، فتناول به ساق يهودي ليضربه، فيرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر، فمات منه. فلما قفلوا قال سلمة، وهو آخذ بيدي قال: لما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساكتاً: قال: مالك قلت: فداك أبي وأمي، زعموا أن عامراً حبط

(2/405)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 406
عمله. قال، من قاله قلت: فلان وفلان وأسيد بن حضير. فقال: كذب من قاله، أن له أجران، وجمع بين أصبعيه، إنه لجاهد مجاهد قل عربي مشى بها مثله. متفق عليه. وقال مالك، عن حميد، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى خيبر أتاها ليلاً. وكان إذا أتى قوماً بليل لم يغر حتى يصبح. فلما أصبح خرجت يهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر خربت خيبر. إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين أخرجه البخاري. وأخرجاه من حديث ابن صهيب، عن أنس. وقال غير واحد: شعبة، وابن فضيل، عن مسلم الملائي، عن أنس قال: كان رسول الله صلى) الله عليه وسلم يعود المريض، ويتبع الجنازة، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار. ولقد رأيته يوم خيبر على حمار خطامه ليف. وقال يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، أخبرني سهل بن سعد

(2/406)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 407
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: أين علي بن أبي طالب قيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه. فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له، فبرأ حتى لم يكن به وجع. فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا قال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم. أخرجاه عن قتيبة، عن يعقوب. وقال سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فقال عمر: فما أحببت الإمارة قط حتى يومئذ. فدعا عليناً فبعثه، ثم قال: اذهب فقاتل حتى يفتح الله عليك ولا تلتفت، قال علي: علام أقاتل الناس قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله. أخرجه مسلم، وأخرجا نحوه من حديث سلمة بن الأكوع.

(2/407)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 408
وقال عكرمة بن عمار: حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع، حدثني أبي أن عمه عامراً حدا بهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: غفر لك ربك. قال: وما خص بها أحد إلا استشهد. فقال عمر: هلا متعتنا بعامر فقدمنا خيبر، فخرج مرحب وهو يخطر بسيفه، ويقول:
(علمت خيبر أني مرحب.......... شاكي السلاح بطل مجرب)
إذا الحرب أقبلت تلهب فبرز له عامر، وهو يقول:
(قد علمت خيبر أني عامر.......... شاكي السلاح بطل مغامر)
قال: فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب ففي ترس عامر، فذهب عامر يسفل له، فرجع بسيفه) على نفسه فقطع أكحله، وكانت فيها نفسه. قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: بطل عمل عامر، قتل نفسه. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قال: مالك فقلت: قالوا إن عامراً بطل عمله. قال: ومن قال ذلك قلت: نفر من أصحابك. فقال: كذب أولئك بل له من الأجر مرتين قال: فأرسل إلى علي يدعوه وهو أرمد فقال: لأعطين الراية اليوم رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال: فجئت به أقوده. قال: فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه فبرأ، فأعطاه الراية. قال: فبرز مرحب وهو يقول.
(قد علمت خيبر أني مرحب.......... شاكي السلاح بطل مجرب)
إذا الحروب أقبلت تلهب

(2/408)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 409
قال: فبرز له علي رضي الله عنه وهو يقول:
(أنا الذي سمتني أمي حيدره.......... كليث غابات كريه المنظر)
أوفيهم بالصاع كيل السندره فضرب مرحباً ففلق رأسه فقتله، وكان الفتح أخرجه مسلم. وقال البكائي: قال ابن إسحاق، فحدثني محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي الهيثم بن نصر الأسلمي أن أباه حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: في مسيره لخيبر لعامر بن الأكوع: خذ لنا من هناتك فنزل يرتجز، فقال.
(والله لولا الله ما اهتدينا.......... ولا تصدقنا ولا صيلنا)

(إنا إذاً قوم بغوا علينا.......... وإن أرادوا فتنة أبينا)

(فأنزلن سكينة علينا.......... وثبت الأقدام إن لاقينا)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله. فقال عمر: وجب والله يا رسول الله، لو أمتعتنا به. فقتل يوم خيبر شهيداً. وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن أبيه، عن سلمة بن الأكوع قال: فخرج علي رضي الله

(2/409)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 410
عنه بالراية يهرول وأنا خلفه حتى ركزها في رضم من حجارة تحت الحصن. فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن فقال: من أنت قال: أنا علي بن أبي طالب قال: غلبتم وما أنزل على موسى. فما رجع حتى فتح الله عليه.) وقال يونس بن بكير، عن المسيب بن مسلم الأزدي، حدثنا عبد الله ابن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما أخذته الشقيقة فيلبث اليوم واليومين لا يخرج، ولما نزل خيبر أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، وإن أبا بكر أخذ راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهض فقاتل قتالاً شديداً، ثم رجع. فأخذها عمر فقاتل قتالاً هو أشد قتالاً من القتال الأول، ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لأعطينها غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يأخذها عنوة، وليس ثم علي. فتطاولت لها قريش، ورجا كل رجل منهم أن يكون صاحب ذلك. فأصبح وجاء علي على بعير حتى أناخ قريباً، وهو أرمد قد عصب عينه بشق برد قطري. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك قال: رمدت بعدك، قال: أدن مني، فتفل في عينه، فما وجعها حتى مضى لسبيله، ثم أعطاه الراية فنهض بها، وعليه جبة

(2/410)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 411
أرجوان حمراء قد أخرج خملها، فأتى مدينة خيبر. وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر مظهر يماني وحجر قد ثقبه مثل البيض على رأسه، وهو يرتجز، فارتجز علي واختلفا ضربتين، فبدره علي بضربة، فقد الحجر والمغفرر ورأسه ووقع في الأضراس، وأخذ المدينة. وقال عوف الأعرابي، عن ميمون أبي عبد الله الأزدي، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: فاختلف مرحب وعلي ضربتين، فضربه علي على هامته حتى عض السيف بأضراسه. وسمع أهل العسكر صوت ضربته. وما تتام آخر الناس مع علي حتى فتح الله له ولهم. وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن الحسن، عن بعض أهله، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرجنا مع علي حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم برايته. فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يديه، فتناول علي الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه. ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم، نجهد أن نقلب الباب فما استطعنا أن نقلبه.

(2/411)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 412
رواه البكائي، عن ابن إسحاق، عن أبي رافع منقطعاً، وفيه: فتناول علي باباً كان عند الحصن. والباقي بمعناه. وقال إسماعيل بن موسى العبدي: ثنا مطلب بن زياد، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي جعفر) محمد بن علي قال: دخلت عليه فقال: حدثني جابر بن عبد الله أن علياً حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه. فافتتحوها، وأنه خرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلاً. تابعه فضيل بن عبد الوهاب، عن مطلب. وقال يونس بن بكير، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم، والمنهال بن عمرو، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان علي يلبس في الحر والشتاء القباء المحشو الثخين وما يبالي الحر، فأتاني أصحابي فقالوا: إنا قد رأينا من أمير المؤمنين شيئاً فهل رأيته فقلت: وما هو قالوا: رأيناه يخرج علينا في الحر الشديد في القباء المحشو وما يبالي الحر، ويخرج علينا في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين وما يبالي البرد، فهل سمعت في ذلك شيئاً فقلت: لا. فقالوا: سل لنا أباك فإنه يسمر معه. فسألته فقال: ما سمعت في ذلك شيئاً. فدخل عليه فسمر معه فسأله فقال علي: أوما شهدت معنا خيبر قال: بلى. قال: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا أبا بكر فعقد له وبعثه إلى القوم، فانطلق فلقي القوم، ثم جاء بالناس وقد هزموا فقال: بلى. قال: ثم بعث إلى عمر فعقد له وبعثه إلى القوم، فانطلق فلقي القوم فقاتلهم ثم رجع وقد هزم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: لأعطين الراية رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله يفتح الله عليه غير فرار فدعاني فأعطاني الراية، ثم قال: اللهم اكفه الحر والبرد، فما وجدت بعد ذلك حراً ولا برداً.

(2/412)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 413
وقال أبو عوانة، عن مغيرة الضبي، عن أم موسى قالت: سمعت علياً يقول: ما رمدت ولا صدعت مذ دفع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية يوم خيبر. رواه أبو داود الطيالسي في مسنده.

(2/413)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 414

(2/414)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 415
(فصل في قتل مرحبا)
فيمن ذكر أن مرحباً قتله محمد بن مسلمة قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم خيبر فوعظهم. وفيه: فخرج اليهود بعاديتها، فقتل صاحب عادية اليهود فانقطعوا. وقتل محمد بن مسلمة الأشهلي مرحباً اليهودي. وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة نحوه. وقال يونس، عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن سهل الحارثي، عن جابر بن عبد الله قال:) خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر، قد جمع سلاحه وهو يرتجز ويقول: من يبارز فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهذا فقال محمد بن مسلمة: أنا له وأنا والله الموتور الثائر، قتلوا أخي بالأمس. قال: قم إليه، اللهم أعنه عليه. فلما تقاربا دخلت بينهما شجرة

(2/415)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 416
عمرية، فجعل كل واحد منهما يلوذ بها من صاحبه، كلما لاذ بها أحدهما اقتطع بسيفه ما دونه، حتى برز كل واحد منها لصاحبه، وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن. ثم حمل على محمد فضربه فاتقاه بالدرقة، فعضت بسيفه فأمسكته، وضربه محمد حتى قتله. فقيل إنه ارتجز وقال:
(قد علمت خيبر أني ماضي.......... حلو إذا شئت وسم قاضي)
وكان ارتجاز مرحب:
(قد علمت خيبر أني مرحب.......... شاكي السلاح بطل مجرب)

(إذا الحروب أقبلت تلهب.......... وأحجمت عن صولة المغلب)

(أطعن أحياناً وحيناً أضرب.......... إن حماي للحمى لا يقرب)
وقال الواقدي: حدثني محمد بن الفضل بن عبيد الله عن رافع ابن خديج عن أبيه، عن جابر قال: وحدثني زكريا بن زيد، عن عبد الله ابن أبي سفيان، عن أبيه، عن سلمة بن سلامة. قال: وعن مجمع بن

(2/416)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 417
يعقوب، عن أبيه، عن مجمع بن جارية قالوا جميعاً: إن محمد بن مسلمة قتل مرحباً. وذكر الواقيد، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن سملة، عن أبيه، أن علياً حمل على مرحب فقطره على الباب، وفتح علي الباب الآخر، وكان للحصن بابان. قال الواقدي: وقيل إن محمد بن مسلمة ضرب ساقي مرحب فقطعهما، فقال: ذق الموت كما ذاقه أخي محمود، وجاوزه، ومر به علي فضرب عنقه وأخذ سلبه. فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلبه، فأعطاه محمداً. وكن عند آل محمد بن مسلمة فيه كتاب لا يدري ما هو، حتى قرأه يهودي من يهود تيماء فإذا هو: هذا سيف مرحب من يذقه يعطب. قال الواقدي: حدثني محمد بن الفضل بن عبيد الله عن رافع، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: برز عامر وكان طوالاً جسيماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين برز وطلع: أترونه خمسة أذرع وهو يدعو إلى البراز فبرز له علي فضربه ضربات، كل ذلك لا يصنع) شيئاً، حتى ضرب ساقيه فبرك، ثم دفف عليه وأخذ سلاحه. قال ابن إسحاق: ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر، فبرز له الزبير فقتله. وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة. ورواه موسى بن عقبة

(2/417)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 418
واللفظ له قال: ثم دخلوا حصناً لهم منيعاً يدعى القموص. فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم قريباً من عشرين ليلة. وكانت أرضاً وخمة شديدة الحر. فجهد المسلمون جهداً شديداً. فوجدوا أحمرة ليهود، فذكر قصها، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكلها. ثم قال: وجاء عبد حبشي من أهل خيبر كان في غنم لسيده، فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح، سألهم ما يريدون قالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي. فوقع في نفسه ذكر النبي فأقبل بغنمه حتى عمد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقال: ماذا لي قال: الجنة فقال: يا رسول الله إن هذه الغنم عندي أمانة. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجها من عسكرنا وارمها بالحصباء فإن الله سيؤدي عنك أمانتك. ففعل فرجعت الغنم إلى سيدها. ووعظ النبي صلى الله عليه وسلم الناس. إلى أن قال: وقتل من المسلمين العبد الأسود، فاحتملوه فأدخل في فسطاط. وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع في الفسطاط، ثم أقبل على أصحابه فقال: لقد أكرم الله هذا العبد، وقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين. وقال ابن وهب: أخبرني حيوة بن شريح، عن ابن الهاد، عن شرحبيل بن سعد، عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، فخرجت سرية فأخذوا إنساناً معه غنم يرعاها، فجاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فقال له الرجل: إني قد آمنت بك وبما جئت به

(2/418)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 419
فكيف بالغنم فإنها أمانة، وهي للناس الشاة والشاتان وأكثر من ذلك، قال: احصب وجوهها ترجع إلى أهلها. فأخذ قبضة من حصباء أو تراب فرمى بها وجوهها، فخرجت تشتد حتى دخلت كل شاة إلى أهلها. ثم تقدم إلى الصف، فأصابه سهم فقتله. ولم يصل لله سجدة قط قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدخلوه الخباء فأدخل خباء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه ثم خرج فقال: لقد حسن إسلام صاحبكم، لقد دخلت عليه وإن عنده لزوجتين له من الحور العين. وهذا حديث حسن أو صحيح. وقال مؤمل بن إسماعيل: نا حماد، نا ثابت عن أنس، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله إني رجل أسود اللون، قبيح الوجه، منتن الريح، لا مال لي، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أدخل الجنة قال: نعم. فتقدم فقاتل حتى قتل. فأتى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتول، فقال: لقد أحسن الله وجهك وطيب روحك وكثر مالك. قال: وقال لهذا أو لغيره: لقد رأيت زوجتيه من الحور العين يتنازعانه جبته عنه، تدخلان فيما بين جلده وجبته. وهذا حديث صحيح. وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن بعض أسلم أن بعض بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فقالوا: يا رسول الله، والله لقد جهدنا وما بأيدينا شيء. فلما يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال: اللهم إنك قد علمت حالهم وأنهم ليست لهم قوة

(2/419)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 420
وليس بيدي ما أعطيهم إياه. فافتح عليهم أعظم حصن بها غنى، أكثره طعاماً وودكاً. فغدا الناس ففتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن أكثر طعاماً وودكاً منه. فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنيهم الوطيح والسلالم، وكانا آخر حصون خيبر افتتاحاً، فحاصرهم رسول لله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة.

(2/420)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 421
(ذكر صفية)
وقال البكائي، عن ابن إسحاق قال: ويدني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال، يأخذها مالاً مالاً، ويفتحها حصناً حصناً. فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة الأنصاري أخو محمد، ألقيت عليه رحى فقتلته. ثم القموص حصن ابن أبي الحقيق. وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا، منهن صفية بنت حيي بن أخطب، وبنتا عم لها، فأعطاهما دحية الكلبي. وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني ابن لمحمد بن مسلمة الأنصاري عمن أدرك من أهله، وحدثنيه مكنف، قالا: حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر في حصنهم الوطيح والسلالم، حتى إذا أيقنوا بتلهلكة، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسيرهم ويحقن دماءهم، ففعل. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حاز الأموال كلها: الشق والنطاة والكتيبة وجميع حصونهم، إلا ما كان في

(2/421)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 422
ذينك الحصين. فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا، بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يسيرهم ويحقن دماءهم، ويخلون) بينه وبين الأموال، ففعل. فكان ممن مشى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم، في ذلك، محيصة بن مسعود. فلما نزلوا على ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم في الأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم وأعمر لها. فصالحهم على النصف، على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم. وصالحه أهل فدك على مثل ذلك. فكانت أموال خيبر فيئاً بين المسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن المسلمين لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب. وقال حماد بن زيد، عن ثابت. وعبد العزيز بن صهيب، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على أهل خيبر قتل المقاتلة وسبى الذراري. فصارت صفية لدحية الكلبي، ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تزوجها وجعل صداقها عتقها. متفق عليه وقال يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس، قال: ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم جمال صفية، وكانت عروساً وقتل زوجها، فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه. فلما كنا بسد الصهباء

(2/422)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 423
حلت، فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: واتخذ حيساً في نطع صغير، وكانت وليمته. فرأيته يحوي لها بعباءة خلفه، ويجلس عند ناقته، فيضع ركبته فتجيء صفية فتضع رجلها على ركبته ثم تركب. فلما بدا لنا أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا جبل يحبنا ونحبه. أخرجه البخاري، بأطول من هذا، ومسلم. وقال محمد بن جعفر بن أبي كثير: أخبرني حميد، سمع أنساً قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبني عليه بصفية. فدعوت المسلمين إلى وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان إلا أن أمر بلالاً بالأنطاع فبسطت، وألقي عليه التمر والأقط والسمن. فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين هي أو ما ملكت يمينه قالوا: إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي ما ملكت يمينه. فلما ارتحل وطأ لها خلفه، ومد الحجاب بينها وبين الناس. أخرجه البخاري. وقال حماد بن سلمة: عبيد الله بن عمر فيما أحسب عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء، ويخرجون منها.)

(2/423)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 424
واشترط عليهم أن لا يكتموا شيئاً، فإن فعلوه فلا ذمة لهم ولا عهد. فغيبوا مسكاً فيه مال وحلى لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت بنو النضير. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير قال: أذهبته النفقات والحروب. فقال: العهد قريب والمال أكثر من ذلك. فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير، فمسه بعذاب. وقد كان حيي قبل ذلك دخل خربة، فقال عمه: قد رأيت حيياً يطوف في خربة هاهنا: فذهبوا فطافوا. فوجدوا المسك في الخربة. فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي حقيق، وأحدهما زوج صفية. وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا. وأراد أن يجليهم منها. فقالوا: يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها. ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلال يقومون عليها، فأعطاهم على النصف ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر. فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة خرصه، وأرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله تطعموني السحت والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.

(2/424)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 425
قال: ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة، فقال: ما هذه قالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق وأنا نائمة، فرأيت كأن قمراً وقع في حجري فأخبرته بذلك، فلطمني وقال: تمنين ملك يثرب قالت: وكان رسول لله صلى الله عليه وسلم من أبغض الناس إلي، قتل أبي وزوجي. فما زال يعتذر إلي ويقول: إن أباك ألب العرب علي وفعل وفعل، حتى ذهب ذلك من نفسي. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقاً من تمر كل عام، وعشرين وسقاً من شعير من خيبر. فلما كان زمان عمر غشوا المسلمين، وألقوا ابن عمر من فوق بيت، ففدعوا يديه، فقال عمر: من كان له سهم بخيبر فليحضر، حتى قسمها بينهم. وقال رئيسهم: لا تخرجنا، دعنا نكون فيها كما أقرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. فقال له: أتراه سقط عني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف بك إذا وقصت بك راحلتك نحو) الشام يوماً ثم يوماً. وقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية. استشهد به البخاري في كتابه، فقال: ورواه حماد بن سلمة. وقال أبو أحمد المرار بن حمويه: ثنا محمد بن يحيى الكناني، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما فدعت بخيبر قام عمر خطيباً فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أموالها، وقال: نقركم ما أقركم الله، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى خيبر ماله هناك، فعدي عليه من

(2/425)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 426
الليل ففدعت يداه، وليس لنا هناك عدو غيرهم، وهم تهمتنا، وقد رأيت إجلاءهم. فلما أجمع على ذلك أتاه أحد بني أبي الحقيق فقال: يا أمير المؤمنين، تخرجنا وقد أقرنا محمد وعاملنا فقال: أظننت أني نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو قلوصك ليلة بعد ليلة. فأجلاهم وأعطاهم قيمة مالهم من الثمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال وغير ذلك. أخرجه البخاري عن أبي أحمد. وقال ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار عن رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهماً، جمع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك، وعزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس. أخرجه أبو داود. وقال سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم خيبر ستة وثلاثين سهماً، فعزل للمسلمين ثمانية عشر سهماً، فجمع كل سهم مائة، والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وله سهم كسهم أحدهم. وعزل النصف لنوائبه وما ينزل به من أمور المسلمين، فكان ذلك الوطيح

(2/426)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 427
والسلالم والكتيبة وتوابعها، فلما صارت الأموال بيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، لم يكن لهم عمال يكفونهم عملها، فدعا اليهود فعاملهم. قال البيهقي: وهذا لأن بعض خيبر فتح عنوة، وبعضها صلحاً. فقسم ما فتح عنوة بين أله الخمس والغانمين، وعزل ما فتح صلحاً لنوائبه وما يحتاج إليه في مصالح المسلمين. وقال عبد الرزاق ثنا معمر، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن خيبر يوم أشركها النبي صلى الله عليه وسلم كان فيها زرع ونخل فكان يقسم لنسائه كل سنة لكل واحدة منهن مائة وسق تمر، وعشرين وسق شعير لكل امرأة.) رواه الذهلي، عن عبد الرزاق، فأسقط منه: ابن عمر. وقال ابن وهب، وقال يحيى بن أيوب: حدثني إبراهيم بن سعد، عن كثير مولى بني مخزوم، عن عطاء، عن ابن عباس أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قسم لمائتي فرس يوم خيبر سهمين سهمين. قال ابن وهب، وقال لي يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، وصالح بن كيسان مثل ذلك. وقال ابن عيينة: نا يحيى بن سعيد، عن صالح بن كيسان قال: كانوا يوم خيبر ألفاً وأربعمائة، وكانت الخيل مائتي فرس. وقال يونس، عن ابن إسحاق، أخبرني الزهري، عن سعيد بن

(2/427)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 428
المسيب، عن جبير بن مطعم قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب، مشيت أنا وعثمان فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله به منهم. أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة منك. فقال: إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، ثم شبك رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إحداهما في الأخرى. إستشهد به خ. وقال شعبة، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن مغفل قال: دلي جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته، وقلت: هذا لا أعطي أحداً منه شيئاً. فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم، فاستحييت منه. متفق عليه وقال أبو معاوية: نا أبو إسحاق الشيباني، عن محمد بن أبي مجالد، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قلت أكنتم تخمسون الطعام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أصبنا طعاماً يوم خيبر فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف. أخرجه أبو داود. وقال أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي أو عن أبي قلابة قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر قدم والثمرة خضرة، فأشرع

(2/428)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 429
الناس فيها فحموا، فشكوا ذلك إليه فأمرهم أن يقرسوا الماء في الشنان، ثم يحدرون عليهم بين أذاني الفجر، ويذكرون اسم الله عليه، قال: ففعلوا فكأنما نشطوا من عقل. وقال بشر بن المفضل، عن محمد بن زيد، حدثني عمير مولى أبي اللحم، قال: شهدت خيبر،) مع سادتي، فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بي فقلدت سيفاً، فإذا أنا أجره، فأخبر أني مملوك، فأمر لي بشيء من خرثي المتاع أي رديئه. أخرجه أبو داود.
(ذكر من استشهد في خيبر)
على ما ذكر ابن إسحاق قال: من حلفاء بني أمية: ربيعة بن أكثم. وثقف بن عمرو. ورفاعة ابن مسروح. ومن بني أسد بن عبد العزى: عبد الله بن الهبيب. ومن الأنصار. فضيل بن النعمان السلمي، ومسعود بن سعد الزرقي. وأبو الضياح

(2/429)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 430
ابن ثابت، أحد بني عمرو بن عوف. والحارث بن حاطب، وعروة بن مرة. وأوس بن القائد. وأنيف بن حبيب. وثابت بن أثلة. وطلحة. وعمارة بن عقبة الغفاري. وقد تقدم: عامر بن الأكوع. ومحمود بن سلمة. والأسود الراعي. وزاد عبد الملك بن هشام، فقال: مسعود بن ربيعة، حليف بني زهرة وأوس بن قتادة الأنصاري. وزاد بعضهم فقال: ومبشر بن عبد المنذر، وأبو سفيان بن الحارث وليس بالهاشمي.
(قدوم جعفر بن أبي طالب)
ومن معه خ، م قالا: ثنا أبو كريب، ثنا أبو أسامة، حدثني بريد عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري قال:

(2/430)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 431
بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه، أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو رهم، والآخر أبو بردة، إما قال: بضع، وإما قال: في ثلاثة، أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي. فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة. فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده. فقال جعفر. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا وأمرنا يعني بالإقامة فأقيموا معنا، فأقمنا معه، حتى قدمنا جميعاً، فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر. فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئاً إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا، مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم. قال: فكان أناس من الناس يقولون لنا: سبقناكم بالهجرة.) قال: ودخلت أسماء بنت عميس وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة وقد كانت هاجرت إلى النجائشي. فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه قالت: أسماء بنت عميس. قال عمر: الحبشية هذه البحرية هذه فقالت أسماء: نعم. فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، نحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فغضبت، فقالت كلمة: كذبت يا عمر كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار أو أرض البعداء، أو البغضاء، بالحبشة، وذلك في الله تعالى وفي رسوله. وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر له ذلك وأسأله. فلما جاء قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا. قال: ليس بأحق بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان. قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالاً، يسألوني عن هذا الحديث. ما من الدنيا شيء هم به

(2/431)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 432
أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو بردة: قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني. وقال: لكم الهجرة مرتين، هاجرتم إلى النجاشي وهاجرتم إلي. وقال أجلح بن عبد الله، عن الشعبي قال: لما قدم جعفر من الحبشة تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل جبهته، ثم قال: والله ما أرى بأيهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر وبعضهم يقول: عن أجلح، عن الشعبي عن جابر. وقال ابن عيينة: ثنا الزهري، أنه سمع عنبسة

(2/432)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 433
بن سعيد القرشي يحدث عن أبي هريرة، قل: قدمت المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر حين افتتحها، فسألته أن يسهم لي. فتكلم بعض ولد سعيد بن العاص فقال: لا نسهم له يا رسول لله. فقلت: هذا قاتل ابن قوقل. فقال، أظنه ابن سعيد بن العاص: يا عجبي لوبر قد تدلى علينا من قدوم ضال يعيرني بقتل امرئ مسلم أكرمه الله على يدي، ولم يهني على يديه. لفظ د، وأخرجه البخاري، لكن قال: من قدوم ضأن. وقال إسماعيل بن عياش، عن الزبيدي، عن الزهري، أخبرني عنبسة ابن سعيد، أنه سمع أبا هريرة يخبر سعيد بن العاص، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبان على سرية قبل نجد، فقدم أبان وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لخيبر بعد فتحها، وإن حزم) خيلهم لليف، فقلت: يا رسول الله لا تقسم لهم. فقال أبان: أنت بهذا يا وبر تحدر من رأس ضال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبان، إجلس. فلم يقسم لهم. علقه البخاري في صحيحه، فقال: ويذكر عن الزبيدي. وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: كانت بنو فزارة ممن قدم أهل خيبر ليعينوهم. فراسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوهم، وسألهم أن يخرجوا عنهم، ولكم من خيبر كذا وكذا. فأبوا عليه. فلما فتح الله خيبر، أتاه من كان هنالك من بني فزارة، قالوا: اعطنا حظنا الذي وعدتنا. فقال: حظكم أو قال لكم ذو الرقيبة جبل خيبر قالوا: إذاً نقاتلك. فقال: موعدكم جنفاء. فلما سمعوا ذلك هربوا. جنفاء ماء من مياه بني فزارة. وقال خ، ثنا مكي بن إبراهيم، نا يزيد بن أبي عبيد قال: رأيت أثر ضربة في ساق سملة فقلت: يا أبا مسلم، ما هذه الضربة فقال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر، فقال الناس: أصيب سلمة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيها ثلاث نفثات، فما اشتكيتها حتى الساعة.

(2/433)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 434
وقال عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون في بعض مغازيه، فاقتتلوا. فمال كل فريق إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجل لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذة إلا أتبعها يضربها بسيفه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار. فقالوا: أينا من أهل الجنة إن كان من أهل النار فقال رجل: والله لا يموت على هذه الحال أبداً، فاتبعه حتى جرح، فاشتدت جراحته واستعجل الموت، فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فجاء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد إنك لرسول الله، قال: وما ذاك فأخبره. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليعلم بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه من أهل النار، وإنه ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل الجنة. متفق عليه. وأخرج البخاري من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فقال لرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم إن هذا من أهل النار. فلما حضر القتال قاتل الرجل. فذكر نحو حديث سهل بن سعد.)

(2/434)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 435
وقال يحيى القطان وغيره، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى ابن حبان، عن أبي عمرة، عن زيد بن خالد الجهني أن رجلاً توفي يوم خيبر، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: صلوا على صاحبكم. فتغيرت وجوههم: فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله. ففتشنا متاعه، فوجدنا خرزاً من خرز اليهود يساوي درهمين.
(شأن الشاة المسمومة)
وقال ليث بن سعد، عن سعيد، عن أبي هريرة قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمعوا من كان هاهنا من اليهود. فجمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه قالوا: نعم، يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبوكم قالوا: أبونا فلان. قال: كذبتم، بل أبوكم فلان، قالوا: صدقت وبررت. قال لهم: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه قالوا: نعم، يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في آبائنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل النار فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفوننا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسأوا فيها، فوالله لا نخلفنكم فيها أبداً، ثم قال: هل أنتم صادقي في شيء إن سألتكم عنه قالوا: نعم. قال: أجعلتم في هذه الشاة سماً قالوا: نعم، قال: فما حملكم على ذلك قالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك. أخرجه خ.

(2/435)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 436
وقال خالد بن الحارث: ثنا شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك، قالت: أردت لأقتلك. فقال: ما كان الله ليسلطك على ذلك. أو قال: علي، قالوا: ألا نقتلها. قال: لا. فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه من حديث خالد. وقال عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي سلمة وابن المسيب، عن أبي هريرة أن امرأة من اليهود أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة، فقال: أمسكوا فإنها مسمومة، قال: وما حملك على ما صنعت قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبياً فسيطلعك الله، وإن كنت كاذباً أريح الناس منك قال: فما عرض لها رسول الله صلى الله عليه) وسلم. وروي عن جابر نحوه. وقال معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، أن يهودية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاة مصلية بخيبر، فأكل وأكلوا، ثم قال: أمسكوا. وقال لها: هل سميت هذه الشاة قالت: من أخبرك قال: هذا العظم. قالت: نعم. فاحتجم على الكاهل، وأمر أصحابه فاحتجموا، فمات بعضهم. قال الزهري: فأسلمت، وتركها.

(2/436)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 437
وقال أبو داود في سننه: ثنا سليمان المهدي، نا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: كان جابر يحدث أن يهودية سمت شاة أهدتها للنبي صلى الله عليه وسلم. الحديث. وقال خالد الطحاوي، عن محمد بن عمرو، عن بي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدت له يهودية بخيبر شاة، نحو حديث جابر. قال: فمات بشر بن البراء بن معرور، وأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت. ويحتمل أنه لم يقتلها أولاً، ثم لما مات بشر قتلها. وبشر شهد العقبة وبدراً، وأبوه قائد النقباء ليلة العقبة. وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بني سلمة، من سيدكم قالوا: الجد بن قيس، على بخل فيه. فقال: وأي داء أدوى من البخل بل سيدكم الأبيض الجعد بشر بن البراء. وقال موسى بن عقبة، وابن شهاب، وعروة، واللفظ لموسى قالوا: لما فتحت خيبر أهدت زينب بنت الحارث اليهودية وهي ابنة أخي مرحب لصفية شاة مصلية وسمتها وأكثرت في الذراع، لأنه بلغها أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب الذراع. وذكر الحديث.

(2/437)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 438
(حديث الحجاج بن علاط السلمي)
وعن عروة، وموسى بن عقبة قالا: كان بين قريش حين سمعوا بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم تراهن وتبايع، منهم من يقول: يظهر محمد ومنهم من يقول: يظهر الحليفان ويهود خيبر. وكان الحجاج بن علاط السلمي البهزي قد أسلم وشهد فتح خيبر، وكانت تحته أن شيبة العبدرية، وكان الحجاج ذا مال، وله معادن من أرض بني سليم. فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر، قال الحجاج: يا رسول الله، إن لي ذهباً عند امرأتي، وإن تعلم هي وأهلها بإسلامي فلا مال لي، فائذن لي فأسرع السير ولا يسبق الخبر.) وقال محمد بن ثور واللفظ له وعبد الرزاق، عن معمر، سمعت ثابتاً البناني، عن أنس، قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، قال الحجاج ابن علاط: يا رسول الله، إن لي بمكة مالاً، وإن لي بها أهلاً أريد إتيانهم، فأنا في حلٍ إن أنا قلت منك وقلت شيئاً فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لامرأته، وقال لها: أخفي علي واجمعي ما كان عندك لي، فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم. ففشا ذلك بمكة، واشتد على المسلمين وبلغ منهم. وأظهر المشركون فرحاً وسروراً. فبلغ العباس الخبر فعقر وجعل لا يستطيع أن يقوم. قال معمر: فأخبرني عثمان الجزري، عن مقسم قال: فأخذ العباس ابناً له يقال له قثم واستلقى ووضعه على صدره وهو يقول:
(حبي قثم شبيه ذي الأنف الأشم.......... فتى ذي النعم برغم من رغم)

(2/438)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 439
قال معمر في حديث أنس: فأرسل العباس غلاماً له إلى الحجاج أن: ويلك، ما جئت به وما تقول والذي وعد الله خير مما جئت به. قال بيوته فآتيه، فإن الأمر على ما يسره. فلما بلغ العبد باب الدار، قال: أبشر يا أبا الفضل. فوثب العباس فرحاً حتى قبل ما بين عينيه وأعتقه، ثم جاء الحجاج فأخبره بافتتاح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وغنم أموالهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطفى صفية، ولكن جئت لمالي، وأني استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم فأذن لي، فأخف علي يا أبا الفضل ثلاثاً، ثم اذكر ما شئت. قال: وجمعت له امرأته متاعه، ثم استمر، فلما كان بعد ثلاث، أتى العباس امرأة الحجاج فقال: ما فعل زوجك قالت: ذهب، لا يحزنك الله يا أبا الفضل لقد شق علينا الذي بلغك. فقال: أجل، لا يحزنني الله، ولم يكن بحمد الله إلا ما أحب فتح الله على رسوله، وجرت سهام الله في خيبر، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه، فإن كان لك في زوجك حاجة فالحقي به. قالت: أظنك والله صادقاً. ثم أتى مجالس قريش وحدثهم. فرد الله ما كان بالمسلمين من كآبة وجزع على المشركين.

(2/439)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 440

(2/440)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 441
(غزوة وادي القرى)
مالك، عن ثور بن زيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، فلم نغنم ذهباً ولا ورقاً، إلا الثياب) والمتاع. فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى. وقد أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبد يقال له: مدعم. حتى إذا كانوا بوادي القرى، بينما يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء سهم فقتله فقال الناس: هنيئاً له الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً. فلما سمعوا بذلك، جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شراك من نار أو قال: شراكان من نار متفق عليه. وقال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر

(2/441)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 442
إلى وادي القرى. وكان رفاعة بن زيد الجذامي قد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً يقال له مدعم. فلما نزلنا بوادي القرى، انتهينا إلى يهود وقد ثوى إليها ناس من العرب. فبينما مدعم يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استقبلنا يهود بالرمي حيث نزلنا. ولم نكن على تعبئة، وهم يصيحون في طلبهم، فيقبل سهم عائر، فأصاب مدعماً فقتله. فقال الناس: هنيئاً له الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلا، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً. فلما سمع بذلك الناس، جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين، فقال: شراك، أو شراكان، من نار. فعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال وصفهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، ودفع راية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عباد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم، فبرز رجل، فبرز إليه الزبير فقتله، ثم برز آخر، فبرز إليه علي فقتله، ثم برز آخر، فبرز إليه أبو دجانة فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً ثم أعطوا من الغد بأيديهم. وفتحها الله عنوة. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القرى أربعة أيام. فلما بلغ ذلك أهل تيماء صالحوا على الجزية. فلما كان عمر، أخرج يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى لأنهما داخلتان في أرض الشام ويرى أن مادون وادي القرى إلى المدينة حجاز، وما وراء ذلك من الشام.)

(2/442)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 443
وقال ابن وهب: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر، فسار ليله حتى إذا أدركنا الكرى عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لبلال: أكلأ لنا الليل فغلبت بلالاً عيناه فلم يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا بلال إلا بحر الشمس. الحديث. أخرجه مسلم. وروي أن ذلك كان في طريق الحديبية. رواه شعبة، عن جامع بن شداد، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، عن ابن مسعود. ويحتمل أن يكون نومهم مرتين. وقد رواه زافر بن سليمان، عن شبعة، فذكر أن ذلك كان في غزوة تبوك. وقد روى النوم عن الصلاة: عمران بن حصين، وأبو قتادة الأنصاري. والحديثان صحيحان رواهما مسلم، وفيهما طول. وقال ابن وهب: أنا يونس، عن ابن شهاب، عن أنس قال: لما قدم

(2/443)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 444
المهاجرون المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء. وكان الأنصار أهل أرض، فقاسموا المهاجرين على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام، ويكفونهم العمل والمؤونة. وكانت أم أنس، وهي أم سليم، أعطت رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقاً لها، فأعطاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته أم أسامة بن زيد، فأخبرني أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتل أهل خيبر، وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها، وأعطى أم أيمن مكانها من حائطه. قال ابن شهاب: وكان من شأن أم أسامة بن زيد أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب. وكانت من الحبشة. فلما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أم أيمن تحضنه حتى كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها، ثم أنكحها زيد بن حارثة. ثم توفيت بعدما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر. أخرجه مسلم. وقال معتمر: حدثنا أبي، عن أنس، أن الرجل كان يعطي من ماله النخلات أو ما شاء الله من ماله، النبي صلى الله عليه وسلم، حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل يرد بعد ذلك، فأمرني أهلي أن آتيه فأسأله الذي كانوا أعطوه أو بعضه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه أم أيمن، أو كما شاء الله، قال: فسألته، فأعطانيهن. فجاءت أم أيمن فلوت الثوب في) عنقي، وجعلت تقول: كلا والله لا إله إلا هو، لا نعطيكهن وقد أعطانيهن. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا أم أيمن اتركي كذا وكذا. وهي تقول لا والله. حتى أعطاها عشرة أمثال ذلك، أو نحوه. وفي لفظ في الصحيح: وهي تقول:

(2/444)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 445
كلا والله حتى أعطي عشرة أمثاله. أخرجاه. وفي سنة سبع: قدم حاطب بن أبي بلتعة من الرسلية إلى المقوقس ملك ديار مصر، ومعه منه هدية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي مارية القبطية، أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وأختها سيرين التي وهبها لحسان بن ثابت، وبغلة النبي صلى الله عليه وسلم دلدل، وحماره يعفور. وفيها: توفيت ثويبة مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم بلبن ابنها مسروح وكانت مولاة لأبي لهب أعتقها عام الهجرة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إليها من مكة بصلة وكسوة. حتى جاءه موتها سنة سبع مرجعه من خيبر، فقال: ما فعل ابنها مسروح قالوا: مات قبلها وكانت خديجة تكرمها، وطلبت شراءها من أبي لهب فامتنع. رواه الواقدي عن غير واحد. أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل حليمة أياماً، وأرضعت أيضاً حمزة بن عبد المطلب، وأبا سلمة بن عبد الأسد.

(2/445)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 446
(سرية أبي بكر إلى نجد)
وكانت بعد خيبر سنة سبع. وقال عكرمة بن عمار: حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه إلى بني فزارة، وخرجت معه حتى إذا دنونا من الماء عرس بنا أبو بكر، حتى إذا ما صلينا الصبح، أمرنا فشننا الغارة، فوردنا الماء. فقتل أبو بكر من قتل، ونحن معه، فرأيت عنقاً من الناس فيهم الذراري. فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فأدركتهم، فرميت بسهمي. فلما رأوه قاموا، فإذا امرأة عليها قشع من أدم، معها ابنتها من أحسن العرب فجئت أسوقهم إلى أبي بكر، فنفلني أبو بكر ابنتها، فلم أكشف لها ثوباً حتى قدمت المدينة، ثم باتت عندي فلم أكشف لها ثوباً. حتى لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال: يا سلمة، هب لي المرأة قلت: يا نبي الله والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوباً. فسكت حتى كان من الغد فقال: يا سلمة، هب لي المرأة لله أبوك. قلت: هي لك يا رسول الله. فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، ففدى بها أسرى من المسلمين. أخرجه) مسلم. وقيل كان ذلك في شعبان.
(سرية عمر إلى عجز هوازن)
وقال الواقدي: ثنا أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبي بكر بن عمر بن

(2/446)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 447
عبد الرحمن قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر إلى تربة عجز هوازن، في ثلاثين راكباً، فخرج ومعه دليل. فكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار. فأتى الخبر هوازن، فهربوا. وجاء عمر محالهم، فلم يلق منهم أحداً، فانصرف إلى المدينة، حتى سلك النجدية. فلما كانوا بالجدر، قال الدليل لعمر: هل لك في جمع آخر تركته من خثعم جاءوا سائرين، قد أجدبت بلادهم فقال عمر: ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم. ورجع إلى المدينة. وذلك في شعبان.
(سرية بشير بن سعد)
قال الواقدي: حدثني عبد الله بن الحارث بن الفضل، عن أبيه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد في ثلاثين رجلاً إلى بني مرة بفدك. فخرج فلقي رعاء الشاء، فاستاق الشاء والنعم منحدراً إلى المدينة. فأدركه الطلب عند الليل، فباتوا يرامونهم بالنبل حتى فني نبل أصحاب بشير، فأصابوا أصحابه وولى منهم من ولي، وقاتل بشير قتالاً شديداً حتى ضرب كعباه. وقيل قد مات، ورجعوا بنعمهم وشائهم، وتحامل بشير حتى

(2/447)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 448
انتهى إلى فدك، فأقام عند يهودي حتى ارتفع من الجراح، ثم رجع إلى المدينة.
(سرية غالب بن عبد الله الليثي)
قال الواقدي: حدثني أفلح بن سعيد، عن بشير بن محمد بن عبد الله ابن زيد، الذي أري الأذان، قال: كان مع غالب بن عبد الله بن مسعود، عقبة بن عمرو الأنصاري، وكعب بن عجرة، وعلبة بن زيد. فلما دنا غالب منهم ليلاً وقد احتلبوا وهدأوا، قام فحمد الله وأثنى عليه وأمر بالطاعة، قال: وإذا كبرت فكبروا، وجردوا السيوف. فذكر الحديث في إحاطتهم بهم. قال: ووضعنا السيوف حيث شئنا منهم، ونحن نصيح بشعارنا: أمت أمت، وخرج أسامة يحمل على رجل فقال: لا إله إلا الله وذكر الحديث. وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثني شيخ من أسلم، عن رجال من قومه قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي، كلب ليث، إلى أرض بني مرة،) فأصاب بها مرداس بن نهيك،

(2/448)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 449
حليف لهم من الحرقة فقتله أسامة. فحدثني محمد بن أسامة بن محمد بن أسامة، عن أبيه، عن جده أسامة بن زيد قال: أدركته، يعني مرداساً، أنا ورجل من الأنصار، فلما شهرنا عليه السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فلم ننزع عنه حتى قتلناه. فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه خبره، فقال: يا أسامة من لك بلا إله إلا الله فقلت: يا رسول الله، إنما قالها تعوذاً من القتل. قال: فمن لك بلا إله إلا الله. فوالذي بعثه بالحق، ما زال يرددها علي حتى لوددت أن ما مضى من إسلامي لم يكن. وأني أسلمت يومئذ ولم أقتله. وقال هشيم: نا حصين بن عبد الرحمن، ثنا أبو ظبيان، سمعت أسامة ابن زيد يحدث قال: أتينا الحرقة من جهينة. قال: فصبحنا القوم فهزمناهم. ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله. قال: فكف عنه الأنصار، فطعنته أنا برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله، ثلاث مرات. قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذاً، قال: فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل يومئذ. متفق عليه. وقال محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، حدثني يعقوب بن عتبة،

(2/449)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 450
عن مسلم بن عبد الله الجهني، عن جندب بن مكيث الجهني، قال: بعث رسول لله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله إلى بني الملوح بالكديد، وأمره أن يغير عليهم، وكنت في سريته. فمضينا حتى إذا كنا بقديد، لقينا به الحارث بن مالك بن البرصاء الليثي، فأخذناه فقال: إني إنما جئت لأسلم فقال له غالب: إن كنت إنما جئت لتسلم فلا يضرك رباط يوم وليلة، وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك، قال: فأوثقه رباطاً وخلف عليه رويجلاً أسود، قال: امكث عليه حتى نمر عليك، فإن نازعك فاحتز رأسه، وأتينا بطن الكديد فنزلنا بعد العصر. فبعثني أصحابي إليه، فعمدت إلى تل يطلعني على الحاضر، فانبطحت عليه، وذلك قبل الغروب. فخرج رجل فنظر فرآني منبطحاً على التل فقال لامرأته، إني لأرى سواداً على هذا التل ما رأيته في أول النهار، فانظري لا تكون الكلاب اجترت بعض أوعيتك. فنظرت فقالت: والله ما أفقد شيئاً. قال: فناوليني قوسي وسهمين من نبلي. فناولته فرماني بسهم فوضعه في جبيني، أو قال: في جنبي، فنزعته فوضعته ولم أتحرك،) ثم رماني بالآخر، فوضعه في رأس منكبي، فنزعته فوضعته ولم أتحرك. فقال لامرأته: أما والله لقد خالطه سهماي، ولو كان زائلاً لتحرك، فإذا أصبحت فابتغي سهمي فخذيهما، لا تمضغهما علي الكلاب. قال: ومهلنا حتى راحت روائحهم، وحتى إذا احتلبوا وعطفوا وذهب عتمة من الليل شننا عليهم الغارة فقتلنا من قتلنا واستقنا النعم فوجهنا قافلين به، وخرج صريخ القوم إلى قومهم. قال: وخرجنا سراعاً حتى نمر بالحارث

(2/450)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 451
ابن مالك بن البرصاء وصاحبه، فانطلقا به معنا. وأتانا صريخ الناس فجاءنا ما لا قبل لنا به. حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطن الوادي من قديد، بعث الله من حيث شاء ماء ما رأينا قبل ذلك مطراً ولا سحاباً، فجاء بما لا يقدر أحد يقدم عليه، لقد رأيتهم وقوفاً ينظرون إلينا ما يقدر أحد منهم أن يقدم عليه، ونحن نحدوها. فذهبنا سراعاً حتى أسندنا بها في المشلل، ثم حدرنا عنه وأعجزناهم.
(سرية الجناب)
قال الواقدي في مغازيه: حدثني يحيى بن عبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن بشير بن محمد بن عبد الله بن زيد قال: قدم رجل من أشجع يقال له حسيل بن نويره، وكان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فقال له: من أين يا حسيل قال: من يمن وجبار، وما وراءك قال: تركت

(2/451)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 452
جمعاً من يمن وغطفان وجبار وقد بعث إليهم عيينة إما أن تسيروا إلينا وإما أن نسير إليكم، فأرسلوا إليه أن سر إلينا، وهم يريدونك أو بعض أطرافك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر فذكر لهما ذلك فقالا جميعاً: ابعث إليهم بشير بن سعد، فعقد له لواء وبعث معه ثلاثمائة رجل، وأمرهم أن يسروا الليل ويكمنوا النهار، ففعلوا، حتى أتوا أسفل خيبر، فأغاروا وقتلوا عيناً لعيينة. ثم لقوا جمع عيينة فناوشوهم، ثم انكشف جميع عيينة وأسر منهم رجلان، وقدموا بهما على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلما.
(سرية أبي حدرد إلى الغابة)
قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: كان من حديث أبي حدرد الأسلمي ما حدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم، عن أبي حدرد، قال: تزوجت امرأة من قومي، فأصدقتها مائتي درهم. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على نكاحي، فقال: كم أصدقت قلت: مائتا درهم، فقال: سبحان الله، والله لو كنتم تأخذونها من بطن واد ما زدتم، لا والله ما عندي ما أعينك به،) فلبث أياماً، ثم أقبل رجل من جشم بن معاوية يقال له رفاعة ابن قيس أو قيس بن رفاعة، في بطن عظيم من جشم، حتى نزل بقومه

(2/452)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 453
ومن معه بالغابة، يريد أن يجمع قيساً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذا شرف، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم ورجلين من المسلمين، فقال: اخرجوا إليه، حتى تأتوا منه بخبر وعلم، وقدم لنا شارفاً عجفاء، فحمل عليها أحدنا، فوالله ما قامت به ضعفاً، حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم، حتى استقلت وما كادت. وقال: تبلغوا على هذه، فخرجنا، حتى إذا جئنا قريباً من الحاضر مع غروب الشمس، وكمنت في ناحية، وأمرت صاحبي فكمنا في ناحية، وقلت: إذا سمعتماني قد كبرت وشددت في العسكر، فكبروا وشدوا معي، فوالله إنا لكذلك ننتظر أن نرى غرة وقد ذهبت فحمة العشاء، وقد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد فأبطأ عليهم، فقام زعيمهم رفاعة فأخذ سيفه وقال: لأتبعن أثر راعينا، فقالوا: نحن نكفيك، قال: لا، ووالله لا يتبعني أحد منكم، وخرج حتى مر بي، فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده، فوالله ما نطق، فوثبت إليه، فاحتززت رأسه، ثم شددت في ناحية العسكر وكبرت وكبر صاحباي، فوالله ما كان إلا النجاء ممن كان فيه عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خف معهم، واستقنا إبلاً عظيمة وغنماً كثرة، فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجئت برأسه أحمله معي، فأعطاني من تلك الإبل ثلاثة عشر بعيراً في صداقي، فجمعته إلى أهلي.

(2/453)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 454
(سرية ملحم بن جثامة)
قال محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن ابن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه، قال: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى إضم في نفر من المسلمين منهم أبو قتادة، ومحلم بن جثامة بن قيس. حتى إذا كنا ببطن إضم، مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، معه متيع ل، ووطب من لبن، فسلم علينا بتحية الإسلام. فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم فقتله لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتاعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه الخبر. فنزل فينا القرآن: يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً، إلى آخر الآية. رواه حماد بن سلمة، عن ابن إسحاق. وقال حماد بن سلمة، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، سمعت زياد بن) ضميرة بن سعد الضمري يحدث عن أبيه وجده، وقد شهدا حنيناً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى الظهر وجلس في ظل شجرة، فقام إليه عيينة بن بدر يطلب بدم عامر بن الأضبط، سيد قيس، وجاء الأقرع بان حابس يرد على محلم بن جثامة، وهو سيد خندف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2/454)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 455
لقوم عامر: هل لكم أن تأخذوا منا الآن خمسين بعيراً، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة فقال عيينة بن بدر: والله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحر مثل ما أذاق نسائي. فقال رجل من بني ليث يقال له: مكيتل، وهو قصير من الرجال، فقال: يا رسول الله، ما أجد لهذا القتيل مثلاً في غرة الإسلام إلا كغنم وردت فرميت أولاها فنفرت أخرها، أسنن اليوم غير غداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لكم أن تأخذوا خمسين بعيراً الآن وخمسين إذا رجعنا فلم يزل بهم حتى رضوا بالدية. قال قوم محلم: ائتوا به حتى يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجاء رجل طوال ضرب اللحم في حلة قد تهيأ فيها للقتل، فقام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تغفر لمحلم. قالها ثلاثاً. فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه. قال ابن إسحاق: زعم قومه أنه استغفر له بعد. وقال أبو داود في سننه: ثنا موسى بن إسماعيل، نا

(2/455)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 456
حماد، نا محمد بن إسحاق، قال: فحدثني محمد بن جعفر، سمعت زياد ابن ضميرة. ح. قال وثنا أحمد بن سعيد الهمداني، ووهب بن بيان، قالا ثنا ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن محمد بن جعفر، أنه زياد بن سعد بن ضميرة السلمي. وهذا حديث وهب وهو أتم، يحدث عروة بن الزبير، عن أبيه وجده، قال موسى: وجده، وكانا شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً، يعني أباه وجده. ثم رجعنا إلى حديث وهب: أن محلم بن جثامة قتل رجلاً من أشجع في الإسلام. وذلك أول غير قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتكلم عيينة في قتل الأشجعي لأنه من غطفان، وتكلم الأقرع بن حابس. فذكر القصة إلى أن قال: ومحلم رجل طويل آدم، وهو في طرف الناس، فلم يزالوا حتى تخلص فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعيناه تدمعان. فقال: يا رسول الله، إني قد فعلت الذي بلغك، وإني أتوب إلى الله، فاستغفر لي يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقتلته بسلاحك في غرة الإسلام اللهم لا تغفر لمحلم. بصوت عال.) زاد أبو سلمة: فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ردائه.

(2/456)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 457
(سرية عبد الله بن حذافة)
بن قيس ابن عدي السهمي قال ابن جريج: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. نزلت في عبد الله بن حذافة السهمي، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية. أخبرنيه يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. أخرجه في الصحيح. وقال الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار على سرية، ومرهم أن يطيعوه. فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا. وأمرهم فأوقدوه. ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا قالوا: بلى. قال: فادخلوها. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار. فسكن غضبه، وطفئت النار. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا له ذلك. فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها. إنما الطاعة في المعروف. أخرجاه. وفيها كانت غزوة ذات الرقاع. وقد تقدمت سنة أربع، وأوردنا الخلاف فيها.

(2/457)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 458

(2/458)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 459
(عمرة القضاء)
روى نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، عن نافع مولى ابن عمر قال: كانت عمرة القضية في ذي القعدة سنة سبع. وقال معتمر بن سلميان، عن أبيه قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، بعث سرايا وقام بالمدينة حتى استهل ذو القعدة. ثم نادى في الناس أن تجهزوا العمرة فتجهزوا، وخرجوا معه إلى مكة. وقال ابن شهاب: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة حتى بلغ يأجج وضع الأداة كلها: الحجف والمجان والرماح والنبل. ودخلوا بسلاح الراكب: السيوف. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفراً بين يديه إلى ميمونة بنت الحراث بن حزن العامرية فخطبها عليه، فجعلت أمرها إلى العباس

(2/459)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 460
وكانت أختها تحته وهي أم الفضل فزوجها العباس رسول الله) صلى الله عليه وسلم. فلما قدم أمر أصحابه فقال: اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف، ليرى المشركون جلدهم وقوتهم، وكان يكايدهم بكل ما استطاع. فاستكف أهل مكة الرجال والنساء والصبيان ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يطوفون بالبيت. وعبد الله بن رواحة يرتجز بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحاً بالسيف يقول:
(خلوا بني الكفار عن سبيله.......... أنا الشهيد أنه رسوله)

(قد أنزل الرحمن في تنزيله.......... في صحف تتلى على رسوله)

(فاليوم نضربكم على تأويله.......... كما ضربناكم على تنزيله)

(ضرباً يزيل الهام عن مقيله.......... ويذهل الخيل عن خليله)
وتغيب رجال من أشرافهم أن ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيظاً وحنقاً، ونفاسة وحسداً، خرجوا إلى الخندمة. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وأقام ثلاث ليال، وكان ذلك آخر الشرط. فلما أصبح من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وغيره، فصاح حويطب بن عبد العزى: نناشدك الله والعقد لما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث. فقال سعد بن عبادة: كذبت لا أم لك ليس بأرضك ولا بأرض آبائك، والله لا نخرج. ثم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلاً وحويطباً، فقال: إني قد نكحت فيكم امرأة فما يضركم أن أمكث حتى أدخل بها، ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا. قالوا: نناشدك الله والعقد، إلا خرجت عنا. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع فأذن بالرحيل. وركب

(2/460)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 461
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بطن سرف وأقام المسلمون، وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمسي. فأقام بسرف حتى قدمت عليه، وقد لقيت عناء وأذى من سفهاء قريش، فبنى بها. ثم أدلج فسار حتى قدم المدينة. وقدر الله أن يكون موت ميمونة بسرف بعد حين. وقال فليح، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً، فحال كفار قريش بينه وبين البيت. فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية. وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحاً إلا سيوفاً، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا. فاعتمر من العام المقبل فدخلها كما صالحهم. فلما أن أقام بها ثلاثاً أمروه أن يخرج، فخرج. أخرجه البخاري.) وقال الواقدي: ثنا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال: لم تكن هذه العمرة قضاء ولكن شرطاً على المسلمين أن يعتمروا قابل في الشهر الذي صدهم المشركون. وقال محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن ميمون، سمعت أبا حاضر الحضرمي أن ميمون بن مهران قال: خرجت معتمراً سنة حوصر ابن الزبير. وبعث معي رجال من قومي بهدي. فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الحرم فنحرت الهدي مكاني، ثم أحللت ثم رجعت. فلما كان من العام المقبل، خرجت لأقضي عمرتي، فأتيت ابن عباس

(2/461)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 462
فسألته، فقال: أبدل الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء. زاد فيه يونس عن ابن إسحاق قال: فعزت الإبل عليهم، فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في البقر. وقال الواقدي: حدثني غانم بن أبي غانم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قد ساق النبي صلى الله عليه وسلم، في القضية ستين بدنة. قال: ونزل النبي صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقدم السلاح إلى بطن يأجج، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم. وتخوفت قريش، فذهبت في رءوس الجبال وخلوا مكة. وقال معمر، عن الزهري، عن أنس قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم. مكة في عمرة القضاء، مشى ابن رواحة بين يديه وهو يقول:
(خلوا بني الكفار عن سبيله.......... قد أنزل الرحمن في تنزيله)
(بأن خير القتل في سبيله.......... نحن قتلناكم على تأويله)
(كما قتلناكم على تنزيله.......... يا رب إني مؤمن بقيله)
وقال أيوب، عن سعيد بن جبير، حدثه، عن ابن عباس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب. فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شراً. فأطلع الله نبيه على ما قالوه، فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين. فلما رأوهم رملوا، قالوا: هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى وهنتهم؟ هؤلاء أجلد منا. قال ابن عباس: ولم

(2/462)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 463
يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. أخرجاه. وقال يزيد بن هارون: أنا الجرير عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس إن قومك يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمل وأنها سنة. قال: صدقوا وكذبوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة والمشركون على قعيقعان، وكان أهل مكة قوماً حسداً، فجعلوا يتحدثون) بينهم أن أصحاب محمد ضعفاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أروهم ما يكرهون منك. فرمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريهم قوته وقوة أصحابه، وليست بسنة. أخرجه مسلم. وقد بقي الرمل سنة في طواف القدوم وإن كان قد زالت علته فإن جابراً قد حكى في حجة النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمل ورملوا في عمرة الجعرانة. وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن ابن أوفى سمعه يقول: اعتمرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنا نستره حين طاف من صبيان مكة لا يؤذونه. وأرانا ابن أبي أوفى ضربة أصابته مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر. خ.

(2/463)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 464

(2/464)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 465
(زواجه صلى الله عليه وسلم بميمونة)
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق حدثني أبان بن صالح، وعبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، وعطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وكان الذي زوجه العباس. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثاً. فأتاه حويطب بن عبد العزى، في نفر من قريش، فقالوا: قد انقضى أجلك فأخرج عنا. قال: لو تركتموني فعرست بني أظهركم، وصنعنا طعاماً فحضرتموه. قالوا: لا حاجة لنا به. فخرج، وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة، حتى أتاه بها بسرف، فبنى عليها. وقال وهيب: ثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، وبنى بها وهو حلال، وماتت بسرف. رواه البخاري. وقال عبد الرزاق: قال لي الثوري: لا تلتفت إلى قول أهل المدينة. أخبرني عمرو، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج

(2/465)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 466
وهو محرم. وقد رواه الثوري أيضاً عن ابن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهما في الصحيح. وقال الأوزاعي: ثنا عطاء، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم. فقال سعيد بن المسيب: وهل وإن كانت خالته. ما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما أحل. أخرجه البخاري، عن أبي المغيرة، عنه. وقال حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف. رواه أبو داود.) وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن يزيد ابن الأصم. وقال سليمان بن حرب: نا حماد بن زيد، نا مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال. وكنت الرسول بينهما. وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة. فذكر الحديث بطوله. وفيه: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني من مكة، فتبعتهم ابنة حمزة، فنادت: يا عم. فتناولها علي رضي الله عنه، وقال لفاطمة: دونك، فحملتها. قال: فاختصم فيها علي وزيد بن حارثة وجعفر، فقال علي: أنا أخذتها وهي ابنة عمي، وقال جعفر. ابنة عمي،

(2/466)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 467
وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها لخالتها، وقال: الخالة أم وقال لعلي أنت مني وأنا منك، وقال لجعفر: أشبهت خلقي وخلقي، وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا، أخرجه البخاري عن عبيد الله عنه. وقال الواقدي: حدثني ابن أبي خيثمة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن عمارة بنت حمزة، وأمها سلمى بنت عميس كانتا بمكة. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم، كلم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام نترك بنت عمنا يتيمة بين ظهراني المشركين فلم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن إخراجها. فخرج بها، فتكلم زيد بن حارثة، وكان وصي حمزة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بينهما. وذكر الحديث وفيه: فقضى بها لجعفر وقال: تحتك خالتها، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا عمتها. وعن ابن شهاب، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من عمرته في ذي الحجة سنة سبع بعث ابن أبي العوجاء في خمسين إلى بني سليم.

(2/467)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 468

(2/468)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 469
1 (أحداث السنة الثامنة)
قال الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله، عن عمه ابن شهاب قال: سار ابن أبي العوجاء السلمي في خمسين رجلاً إلى بني سليم، وكان عين لبني سليم معه. فلما فصل من المدينة، خرج العين إلى قومه فحذرهم. فجمعوا جمعاً كثيراً. وجاءهم ابن أبي العوجاء وهم معدون. فلما رآهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأوا جمعهم، دعوهم إلى الإسلام. فرشقوهم بالنبل، ولم يسمعوا قولهم، فرموهم ساعة، وجعلت الأمداد تأتي، وأحدقوا بهم. فقاتلوا حتى قتل عامتهم، وأصيب ابن أبي العوجاء جريحاً في القتلى. ثم تحامل حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم المدينة في أول صفر.
(ابن العاص وخالد بن الوليد)
وفيها: أسلم عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد.

(2/469)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 470
قال الواقدي: أنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه قال: قال عمرو بن العاص. كنت للإسلام مجانباً معانداً. حضرت بدراً مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحداً والخندق فنجوت. فقلت في نفسي: كم أوضع، والله ليظهرن محمد على قريش. فلحقت بمالي بالوهط. فلما كان الصلح بالحديبية، جعلت أقول، يدخل محمد قابلاً مكة بأصحابه، ما مكة بمنزل ولا الطائف، وما شيء خير من الخروج. فقدمت مكة فجمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت: تعلموا والله إني لأرى أمر محمد يعلو علواً منكراً، وإني قد رأيت رأياً. قالوا: وما هو قلت: نلحق بالنجاشي فنكون معه، فإن يظهر محمد كنا عند النجاشي، فنكون تحت يد النجاشي، أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد. وإن تظهر قريش فنحن من عرفوا. قالوا: هذا الرأي. قلت: فاجمعوا ما تهدونه له. وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم. فجمعنا له أدماً كثيراً، ثم خرجنا حتى أتيناه، فإنا لعنده إذا جاء عمرو ابن أمية الضمري بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ليزوجه بأم حبيبة بنت أبي

(2/470)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 471
سفيان فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: لو دخلت على النجاشي، وسألته هذا فأعطانيه لقتلته لأسر بذلك قريشاً. فدخلت عليه فسجدت له فقال: مرحباً بصديقي، أهديت لي من بلادك شيئاً قلت: نعم أيها الملك أهديت لك أدماً. وقربته إليه، فأعجبه، ففرق منه أشياء بين بطارقته. ثم قلت: إني رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول عدو لنا قد وترنا وقتل أشرافنا، فأعطنيه فأقتله.) فغضب ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره، فابتدر منخراي فجعلت أتلقى الدم بثيابي. فأصابني من الذل ما لو انشقت لي الأرض دخلت فيها فرقاً منه. ثم قلت: أيها الملك: لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتكه. قال: فاستحى وقال: يا عمرو، تسألني أن أعطيك رسول من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى عليهما السلام لتقتله قال عمرو: وغير الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي: عرف هذا الحق العرب والعجم وتخالف أنت قلت: أتشهد أيها الملك بهذا قال: نعم، أشهد به عند الله يا عمرو، فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون. قلت: أفتبايعني له على الإسلام قال: نعم، فبسط يده فبايعني على الإسلام، ثم جعل بطست، فغسل عني الدم، وكساني ثياباً، وكانت ثيابي قد امتلأت بالدم فألقيتها. وخرجت على أصحابي فلما رأوا كسوة النجاشي سروا بذلك وقالوا: هل أدركت من صاحبك ما أردت فقلت: كرهت أن أكلمه في أول مرة، وقلت أعود إليه ففارقتهم، وكأني أعمد لحاجة، فعمدت إلى موضع السفن

(2/471)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 472
فأجد سفينة قد شحنت تدفع. فركبت معهم، ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعيبة. وخرجت من الشعيبة ومعي نفقة، فابتعت بعيراً، وخرجت أريد المدينة، حتى خرجت على مر الظهران. ثم مضيت حتى إذا كنت بالهدة، فإذا رجلان قد سبقاني بغير كثير، يريدان منزلاً، وأحدهما داخل في خيمة، والآخر قائم يمسك الراحلتين. فنظرت فإذا خالد بن الوليد. فقلت: أبا سليمان قال: نعم. أين تريد قال: محمداً، دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طمع، والله لو أقمت لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها. قلت: وأنا والله قد أردت محمداً وأردت الإسلام. فخرج عثمان بن طلحة، فرحب بي، فنزلنا جميعاً ثم ترافقنا إلى المدينة، فما أنس قول رجل لقينا ببئر أبي عنبة يصيح: يا رباح، يا رباح. فتفاءلنا بقوله، وسرنا ثم نظر إلينا، فاسمعه يقول: قد أعطت مكة المقادة بعد هذين. فظننت أنه يعنيني وخالد بن الوليد. ثم ولى مدبراً إلى المسجد سريعاً فظننت أنه بشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننت. وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا، ونودي بالعصر، فانطلقنا حتى اطلعنا عليه، وإن لوجهه تهللاً، والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا. وتقدم خالد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع، ثم تقدمت فوالله ما هو إلا أن جلست

(2/472)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 473
بين يديه، فما استطعت أن أرفع طرفي إليه حياء منه، فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولم يحضرني ما تأخر. فقال: إن) الإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها. فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد أحداً في أمر حزبه منذ أسلمنا. ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة. ولقد كنت عند عمر بتلك الحال، وكان عمر على خالد كالعاتب. قال عبد الحميد بن جعفر: فذكرت هذا الحديث ليزيد بن أبي حبيب، فقال: أخبرني راشد مولى حبيب بن أوس الثقفي، عن حبيب، عن عمرو نحو ذلك. فقلت ليزيد: ألم يوقت لك متى قدم عمرو وخالد قال: لا، إلا أنه قال قبل الفتح. قلت: فإن أبي أخبرني أن عمراً وخالداً وعثمان قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان. وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى حبيب بن أبي أوس، عن حبيب بن أبي أوس حدثني عمرو بن العاص، قال: لما انصرفنا من الخندق، جمعت رجالاً من قريش، فقلت: والله إني لأرى أمر محمد يعلو علواً منكراً، والله ما يقوم له شيء، وقد رأيت رأياً ما أدري كيف رأيكم فيه قالوا: وما هو قلت: أن نلحق بالنجاشي. فذكر الحديث، لكن فيه: فضرب بيده أنف نفسه حتى ظننت أنه قد كسره. والباقي بمعناه مختصر. وقال الواقدي: حدثني يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن بن

(2/473)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 474
الحارث بن هشام، سمعت أبي يحدث عن خالد بن الوليد، قال: لما أراد الله بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام، وحضرني رشدي، وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد فليس موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء، وأن محمداً سيظهر. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية، خرجت في خيل المشركين، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان، فأقمت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا، فهممنا أن نغير عليه. ثم لم يعزم لنا، وكانت فيه خيرة، فاطلع على ما في أنفسنا من الهموم، فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف. فوقع ذلك منا موقعاً، وقلت: الرجل ممنوع. فافترقنا، وعدل عن سنن خيلنا، وأخذت ذات اليمين. فلما صالح قريشاً قلت: أي شيء بقي أين المذهب إلى النجاشي فقد اتبع محمداً وأصحابه عنده آمنون. فأخرج إلى هرقل فأخرج من ديني إلى النصرانية واليهودية فأقيم مع عجم تابعاً مع عنت ذلك أو أقيم في داري فيمن بقي فأنا على ذلك، إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، فتغيبت.) وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية. فطلبني فلم يجدني، فكتب إلي كتاباً فإذا فيه: أما بعد فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام. وعقلك عقلك، ومثل الإسلام يجهله أحد قد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين خالد فقلت: يأتي الله به. فقال: ما مثله جهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على

(2/474)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 475
المشركين كان خيراً له ولقدمناه على غيره. فاستدرك يا أخي ما قد فاتك. فلما جاءني كتابه، نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام. وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة جدبة، فخرجت إلى بلاد خضراء واسعة قلت: إن هذه لرؤيا. فلما قدمنا المدينة قلت: لأذكرنها لأبي بكر، فذكرتها، فقال: هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق هو الشرك. قال: فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: من أصاحب إلى محمد فلقيت صفوان ابن أمية. فقلت يا أبا وهب. أما ترى إلى ما نحن فيه، إنما كنا كأضراس، وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد فاتبعناه فإن شرفه لنا شرف. فأبى أشد الإباء وقال: لو لم يبق غيري ما اتبعته أبداً. فافترقنا وقت: هذا رجل قتل أخوه ببدر. فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان، فقال لي مثل ما قال صفوان. قلت: فاكتم ذكر ما قلت لك. وخرجت إلى منزلي، فأمرت براحلتي أن تخرج إلي، فخرجت بها إلى أن ألقى عثمان بن طلحة. فقلت: إن هذا لي صديق، فذكرت له، فقال: نعم، إني عمدت اليوم، وإني أريد أن أغدو، وهذه راحلتي بفخ مناخة، قال: فاتعدت أنا وهو بيأجج، وأدلجنا سحراً، فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج، فغدونا حتى أنتهينا إلى الهدة. فنجد عمرو بن العاص بها، فقال: مرحباً بالقوم. فقلنا: وبك.

(2/475)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 476
فذكر الحديث. وقال: كان قدومنا في صفر سنة ثمان. فوالله ما كان رسول اله صلى الله عليه وسلم في يوم أسلمت يعدل بي أحداً من أصحابه فيما حزبه.
(سرية شجاع بن وهب الأسدي)
قال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عمر بن الحكم، قال، قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلاً، إلى جميع من هوازن. وأمره أن يغير عليهم. فخرج يسير الليل ويكمن النهار، حتى صبحهم غارين، فأصابوا نعماً وشاء، فاستاقوا ذلك إلى المدينة. فكانت سهمانهم خمسة عشر بعيراً لكل) رجل منهم. وعدلوا البعير بعشرة من الغنم. وغابت السرية خمس عشرة ليلة. قال ابن أبي سبرة: فحدثت به محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فقال: كذبوا. قد أصابوا في ذلك الحاضر نسوة فاستاقوهن، فكانت فيهن جارية وضيئة، فقدموا بها المدينة، ثم قدم وفدهم مسلمين، فكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبي. فكلم النبي صلى الله عليه وسلم شجاعاً وأصحابه في

(2/476)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 477
ردهن. فردهن. قال ابن أبي سبرة: فأخبرت شيخاً من الأنصار بذلك، فقال: أما الجارية الوضيئة فأخذها بثمن فأصابها. فلما قدم الوفد، خيرها فاختارت شجاعاً. فقتل يوم اليمامة وهي عنده.
(سرية نجد)
قال نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد وأنا فيهم. فغنموا إبلاً كثيرة. فبلغت سهمانهم لكل واحد اثني عشر بعيراً، ثم نفلوا بعيراً بعيراً، فلم يغير رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.
(سرية كعب بن عمير)
قال الواقدي: ثنا محمد بن عبد الله، عن الزهري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري، في خمسة عشر رجلاً حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من الشام. فوجدوا جمعاً من جمعهم كثيراً، فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنبل، فلما رأى ذلك المسلمون قاتلوهم أشد القتال، حتى قتلوا، فأفلت منهم رجل جريح في القتلى، فلما برد عليه الليل، تحامل حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فهم بالبعث إليهم، فبلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر، فتركهم.

(2/477)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 478

(2/478)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 479
(غزوة مؤتة)
قال محمد بن سعد: أنا محمد بن عثمان، حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمر بن الحكم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصرى بكتابه. فلما نزل مؤتة عرض للحارث شرحبيل ابن عمرو الغساني، فقال: أين تريد قال: الشام. قال: لعلك من رسل محمد قال: نعم، فأمر به فضربت عنقه. ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فاشتد عليه، وندب الناس فأسرعوا. وكان ذلك) سبب خروجهم إلى غزوة مؤتة. وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن

(2/479)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 480
الزبير عن عروة قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء في ذي الحجة، فأقام بالمدينة حتى بعث إلى مؤتة في جمادى من سنة ثمان، وأمر على الناس زيد بن حارثة. وقال: إن أصيب فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبد الله ابن رواحة، فإن أصيب فليرتض المسلمون رجلاً. فتهيئوا للخروج، وودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكى ابن رواحة، فقالوا: ما يبكيك فقال: أما والله ما بي حب للدنيا، ولا صبابة إليها، ولكني سمعت الله يقول: وإن منكم إلا واردها، فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود فقال المسلمون: صحبكم الله وردكم إلينا صالحين ودفع عنكم. فقال ابن رواحة.
(لكنني أسأل الرحمن مغفرة.......... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا)

(أو طعنة بيدي حران مجهزة.......... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا)

(حتى يقولوا إذا مروا على جدثي.......... يا أرشد الله من غاز وقد رشدا)
ثم إنه ودع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:
(فثبت الله ما آتاك من حسن.......... تثبيت موسى، ونصراً كالذي نصروا)

(إني تفرست فيك الخير نافلة.......... والله يعلم أن ثابت البصر)

(أنت الرسول فمن يحرم نوافله.......... والوجه منه فقد أزرى به القدر)

(2/480)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 481
ثم خرج القوم حتى نزلوا معان، فبلغهم أن هرقل قد نزل مآب في مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة، فأقاموا بمعان يومين، وقالوا: نبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبره. فشجع الناس عبد الله بن رواحة، فقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم لها تطلبون، الشهادة. ولا نقاتل الناس بعدد ولا كثرة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فإن يظهرنا الله به فربما فعل، وإن تكن الأخرى فهي الشهادة، وليست بشر المنزلتين. فقال الناس: والله لقد صدق فانشمر الناس، وهم ثلاثة آلاف، حتى لقوا جموع الروم بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم انحاز المسلمون إلى مؤتة، قرية فوق الحساء. وكانوا ثلاثة آلاف. وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان عن المقبري، عن أبي هريرة، قال شهدت مؤتة، فلما رأينا المشركين رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة والسلاح والكراع والديباج والذهب. فبرق) بصري، فقال لي ثابت بن

(2/481)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 482
أقرم: مالك يا أبا هريرة، كأنك ترى جموعاً كثيرة قلت: نعم. قال لم تشهد معنا بدراً، إنا لم ننصر بالكثرة. وقال المغيرة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن نافع، عن ابن عمر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فإن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة. قال ابن عمر: كنت معهم، ففتشناه يعني ابن رواحة، فوجدنا فيما أقبل من جسده بضعاً وسبعين، وبين طعنة ورمية. وقال مصعب الزبيري وغيره، عن مغيرة: بضعاً وتسعين. أخرجه البخاري. وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمر بن الحكم، عن أبيه قال: جاء النعمان بن فنحص اليهودي، فوقف مع الناس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: زيد بن حارثة أمير الناس، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل عبد الله فليرتض المسلمون رجلاً فليجعلوه عليهم. فقال النعمان: أبا القاسم، إن كنت نبياً، فسميت من سميت قليلاً أو كثيراً أصيبوا جمعاً. إن الأنبياء في بني إسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم، فقالوا: إن أصيب فلان ففلان، فلو سموا مائة أصيبوا جميعاً. ثم جعل اليهودي يقول لزيد: اعهد، فلا ترجع إن كان محمد نبياً. قال زيد: أشهد أنه نبي بار صادق.

(2/482)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 483
وقال يونس، عن ابن إسحاق: كان على ميمنة المسلمين قطبة ابن قتادة العذري، وعلى الميسرة عباية بن مالك الأنصاري. والتقى الناس. فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، حدثني أبي من الرضاعة، وكان أحد بني مرة بن عوف، قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم تقدم فقاتل حتى قتل. قال ابن إسحاق: فهو أول من عقر في الإسلام. وقال:
(يا حبذا الجنة واقترابها.......... طيبة وباردة شرابها)

(والروم قد دنا عذابها.......... علي إن لا قيتها ضرابها)
فلما قتل أخذ الراية عبد الله. حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة قال: أخذها عبد الله بن رواحة فالتوى بها بعض الالتواء، ثم تقدم على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد. حدثني عبد الله بن أبي بكر، أن ابن رواحة قال عند ذلك:)
(أقسمت يا نفس لتنزلنه.......... طائعة أو لتكرهنه)

(2/483)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 484
(إن أجلب الناس وشدوا الرنة.......... مالي أراك تكرهين الجنة)

(قد طالما قد كنت مطمئنة.......... هل أنت إلا نطفة في شنة)
ثم نزل فقاتل حتى قتل. قال ابن إسحاق: وقال أيضاً:
(يا نفس إن لا تقتلي تموتي.......... هذا حمام الموت قد صليت)

(وما تمنيت فقد أعطيت.......... إن تفعلي فعلهما هديت)
وإن تأخرت فقد شقيت فلما نزل أتى ابن عم له بعرق لحم فقال: أقم بها صلبك، فنهش منها نهشة، ثم سمع الحطمة في ناحية فقال: وأنت في الدنيا فألقاه من يده. ثم قاتل حتى قتل. فحدثني محمد بن جعفر، عن عروة قال: ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم، فقال: اصطلحوا يا معشر المسلمين على رجل. قالوا: أنت لها. فقال: لا. فاصطلحوا، على خالد بن الوليد. فجاش بالناس، فدافع وانحاز وتحيز عنه، ثم انصرف بالناس.

(2/484)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 485
وقال حماد بن زيد، عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن أنس قال: نعى النبي صلى الله عليه وسلم جعفراً وزيد بن حارثة وابن رواحة، نعاهم قبل أن يجيء خبرهم، وعيناه تذرفان. أخرجه البخاري، وزاد فيه: فنعاهم، وقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب. ثم أخذ الراية بعدهم سيف من سيوف الله: خالد بن الوليد. قال: فجعل يحدث الناس وعيناه تذرفان. وقال سليمان بن حرب: ثنا الأسود بن شيبان، عن خالد بن سمير قال: قدم علينا عبد الله بن رباح الأنصاري، وكانت الأنصار تفقهه، فغشيه الناس، فغشيته فيمن غشيته من الناس. فقال: ثنا أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء، وقال: عليكم زيد ابن حارثة، فإن أصيب فجعفر، فإن إصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، فوثب جعفر فقال: يا رسول الله، ما كنت أذهب أن تستعمل زيداً علي. قال: فامض. فإنك لا تدري أي ذلك خير. فانطلقوا، فلبثوا ما شاء الله. فصعد رسول الله المنبر، وأمر فنودي: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس إلى رسول الله صلى الله) عليه وسلم فقال: أخبركم عن جيشكم هذا: إنهم انطلقوا فلقوا العدو، فقتل زيد شهيداً، فاستغفر له. ثم قال: أخذ اللواء جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيداً، شهد له بالشهادة واستغفر له. ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، فأثبت قدميه حتى قتل شهيداً، فاستغفر له ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد، ولم يكن من الأمراء وهو أمر نفسه، ثم قال: اللهم إنه سيف من سيوفك، فأنت تنصره. فمن يومئذ سمي خالد سيف الله.

(2/485)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 486
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: بلغني أن رسول اله صلى الله عليه وسلم قال: أخذ الراية زيد فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم أخذها جعفر فقاتل حتى قتل شهيداً، ثم صمت، حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا قد كان في عبد الله بعض ما يكرهون. فقال: ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم قال: لقد رفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب. فرأيت في سرير عبد الله ازوراراً عن سريري صاحبيه. فقلت: عم هذا فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن الحارث بن فضيل، عن أبيه قال: لما أخذ الراية خالد بن الوليد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن حمي الوطيس. قال: فحدثني العطاف بن خالد قال: لما قتل ابن رواحة مساء، بات خالد، فلما أصبح غدا وقد جعل مقدمته ساقة، وساقته مقدمة، وميمنته ميسرة، وميسرته ميمنة. فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئتهم، وقالوا: قد جاءهم مدد، فرعبوا فانكشفوا منهزمين، فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم. وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد اندق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فمن بقي في يدي إلا صفيحة يمانية. أخرجه البخاري.

(2/486)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 487
وقال الواقدي: حدثني محمد بن صالح التمار، عن عاصم بن عمر ابن قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما قتل زيد أخذ الراية جعفر فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت مناه الدنيا، فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين، تمنيني الدنيا ثم مضى قدماً حتى استشهد، فصلى عليه ودعا له، وقال: استغفروا له، فإنه دخل الجنة وهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث يشاء من الجنة. وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي أن ابن عمر كان إذا سلم على عبد الله بن جعفر، قال:) السلام عليك يا بن ذي الجناحين. رواه خ. وقال عبد الوهاب الثقفي: ثنا يحيى بن سعيد، أخبرتني عمرة، سمعت عائشة تقول: لما جاء قتل جعفر وابن حارثة وابن رواحة، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد يعرف فيه الحزن، وأنا أطلع من شق الباب. فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، إن نساء جعفر وذكر أنهن لم يطعنه. فأمره الثانية أن ينهاهن، فذهب ثم أتى فقال: والله قد غلبنا. فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فاحث في أفواههن التراب. فقلت: أرغم الله أنفك، ما أنت بفاعل، وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء. أخرجاه عن محمد بن المثنى عنه.

(2/487)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 488
وقال يونس، عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أم عيسى الجزار الخزاعية، عن أم جعفر عن جدتها أسماء بنت عميس، قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه، دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عجنت عجيني وغسلت بني ودهنتهم ونطفتهم. فقال: ائتيني ببني جعفر. فأتيته بهم، فشمهم، فدمعت عيناه. فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء فقال: نعم. أصيبوا هذا اليوم. فقمت أصيح، واجتمع النساء. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فقال: لا تغفلوا آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاماً، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم. قال ابن إسحاق: فسمعت عبد الله بن أبي بكر يقول: لقد أدركت الناس بالمدينة إذا مات ميت تكلف جيرانهم يومهم ذلك طعامهم فلكأني أنظر إليهم قد خبزوا خبزاً صغاراً، وصنعوا لحماً، فيجعل في جفنة، ثم يأتون به أهل الميت، وهم يبكون على ميتهم مشتغلين فيأكلونه. ثم إن الناس تركوا ذلك. فائدة: أخرج مسلم في صحيحه، من حديث عوف بن مالك، قال: خرجت في غزوة مؤتة، فرافقني مددي من أهل اليمن، ليس

(2/488)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 489
معه غير سيفه. فنحر رجل جزوراً فسأله المددي طائفة من جلده، فأعطاه فاتخذه كهيئة الدرقة. ومضينا فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له أشقر وعليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل يغري بالمسلمين. وقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه، فخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه. فأخذه منه خالد بن الوليد، فأتيته فقلت: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل قال: بلى،) ولكني استكثرته. قلت: لتردنه أو لأعرفنكما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فاجتمعنا، فقصصت على رسول الله القصة، فقال لخالد: ما حملك على ما صنعت قال: استكثرته. قال: رد عليه ذلك. فقلت: دونك يا خالد، ألم أقل لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ذلك فأخبرته. قال: فغضب وقال: يا خالد لا ترده عليه. هل أنتم تاركو لي أمرائي، لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره. وقال الواقدي: حدثني محمد بن مسلم، عن يحيى بن يعلى، سمعت عبد الله بن جعفر يقول: أنا أحفظ حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمي، فنعى لها أبي، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي، وعيناه تهرقان الدموع ثم قال: اللهم إن جعفراً قد قدم إليك إلى أحسن ثواب، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته. ثم قال: يا أسماء، ألا أبشرك قالت: بلى، بأبي أنت وأمي. قال: إن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة. قالت: فأعلم الناس ذلك. وذكر الحديث.

(2/489)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 490
وقال الواقدي: حدثني سليمان بن بلال حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال: أصيب بها ناس من المسلمين، وغنم المسلمون بعض أمتعة المشركين. فكان مما غنموا خاتم جاء به رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قتلت صاحبه يومئذ، فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه. وقال عوف بن مالك الأشجعي: لقيناهم في جماعة من قضاعة وغيرهم من نصارى العرب، فصافوا، فجعل رجل من الروم يشتد على المسلمين. فجعلت أقول في نفسي: من لهذا وقد وافقني رجل من أمداد حمير، ليس معه إلا السيف، إذ نحر رجل جزوراً فسأله المددي طائفة من جلده، فوهبه منه، فجعله في الشمس وأوتد على أطرافه أوتاداً، فلما جف اتخذ منه مقبضاً وجعله درقة. قال: فلما رأى ذلك المددي فعل الرومي، كمن له خلف صخرة، فلما مر به خرج عليه فعرقب فرسه، فقعد الفرس على رجليه وخر عنه العلج، فشد عليه فعلاه بالسيف فقتله. قال: وحدثني بكير بن مسمار، عن عمارة بن غزية بن ثابت، عن أبيه قال: حضرت مؤتة فبارزني رجل منهم، فأصبته وعليه بيضة له فيها ياقوتة، فأخذتها، فلما انكشفنا فانهزمنا رجعت إلى المدينة، فأتيت بها

(2/490)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 491
رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفلنيها، فبعتها زمن عثمان بمائة دينار، فاشتريت بها حديقة نخل.) وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق حدثني محمد بن جعفر، عن عروة قال: لما أقبل أصحاب مؤتة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه. فجعلوا يحثون عليهم التراب ويقولون: يا فرار، فررتم في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله. فحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، أن أم سلمة قالت لامرأة سلمة بن هشام بن المغيرة: ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: والله ما يستطيع أن يخرج كلما خرج صاح به الناس: يا فرار، فررتم في سبيل الله. وكان في غزوة مؤتة. وقال أبو عبد الله عن زيد بن أرقم قال: كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج بي في سفره ذلك، مردفي على حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير إذ سمعته ينشد أبياته هذه:
(إذا أدنيتني وحملت رحلي.......... مسيرة أربع بعد الحساء)

(فشأنك أنعم وخلاك ذم.......... ولا أرجع إلى أهلي ورائي)

(وآب المسلمون وغادروني.......... بأرض الشام مشتهر الثواء)

(وردك كل ذي نسب قريب.......... إلى الرحمن منقطع الإخاء)

(2/491)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 492
(هنالك لا أبالي طلع بعل.......... ولا نخل، أسافلها رواء)
فلما سمعتهن بكيت، فخفقني بالدرة وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل وقال عبد الملك بن هشام: حدثني من أثق به أن جعفراً أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنته بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. فأثابه الله تعالى بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. وروي أنهم قتلوه بالرماح. قلت: وكان جعفر من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أشبهت خلقي وخلقي. وقال عكرمة عن أبي هريرة قال: إن عبد الله بن جعفر ما احتذى النعال ولا ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكنا نسميه أبا المساكين. وقال مجالد، عن الشعبي، عن عبد الله بن جعفر قال: ما سألت علياً رضي الله عنه شيئاً بحق) جعفر إلا أعطانيه. وعن ابن عمر قال: وجدت في مقدم جسد جعفر يوم مؤتة بضعاً وأربعين ضربة. ولما قدم جعفر من الحبشة عند فتح خيبر، روي أن النبي

(2/492)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 493
صلى الله عليه وسلم اعتنقه وقال: ما أدري أنا أسر بقدوم جعفر أو بفتح خيبر. وقال مهدي بن ميمون، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر، قال: لما نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفراً أتانا فقال: أخرجوا إلي بني أخي. فأخرجتنا أمنا أغيلمة ثلاثة كأنهم أفراخ: عبد الله، وعون، ومحمد. وأما أبو أسامة زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من آمن به من الموالي فإنه من كبار السابقين الأولين وكان من الرماة المذكورين. آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة بن عبد المطلب، وعاش خمساً وخمسين سنة، وهو الذي سمى الله في كتابه في قوله: فلما قضى زيد منها وطراً يعني من زينب بنت جحش: زوجناكها وكان المسلمون يدعونه زيد بن النبي حتى نزلت: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم. وقال تعالى: وما جعل أدعياءكم أبناءكم. وقال: أدعوهم لأبائهم هو أقسط عند الله فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم. روى عن زيد ابنه أسامة وأخوه جبلة. واختلف في سنة. فروى الواقدي أن محمد بن الحسن بن أسامة زيد حدثه عن أبيه قال: كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين زيد بن حارثة عشر

(2/493)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 494
سنين رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر منه، وكان قصيراً شديد الأدمة أفطس. قال محمد بن سعد: كذا صفته في هذه الرواية. وجاءت من وجه آخر أنه كان أبيض وكان ابنه أسود. ولذلك أعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقول مجزز المدلجي القائف: إن هذه الأقدام بعضها من بعض. قلت: وعلى هذه الرواية يكون عمره خمسين سنة أو نحوها. وقال أبو إسحاق السبيعي إن زيد بن حارثة أغارت عليه خيل من تهامة، فوقع إلى خديجة فاشترته، ثم وهبته للنبي صلى الله عليه وسلم. ويروى أنها اشترته بسبعمائة درهم. وقال الزهري: ما علمنا أحداً أسلم قبله.) وقال موسى بن عقبة: ثنا سالم بن عبد الله، عن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيداً إلا زيد بن محمد. فنزلت: أدعوهم لآبائهم. وقال يزيد بن أبي عبيد عن سملة بن الأكوع قال: غزوت مع زيد بن حارثة تسع غزوات، كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمره علينا. كذا رواه الفسوي عن أبي عاصم عن زيد. وقال ابن عيينة: أنا عبد الله بن دينار، سمع ابن عمر يقول: إن

(2/494)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 495
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أسامة على قوم، فطعن الناس في إمارته. فقال: إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه، وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن ابنه هذا لأحب الناس إلي بعده. وقال ابن إسحاق، عن زيد بن عبد الله بن قسيط، عن محمد بن أسامة، عن أبيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي: يا زيد أنت مولاي ومني وإلي وأحب القوم إلي. وقال محمد بن عبيد: ثنا إسماعيل، عن مجالد، عن عامر، عن عائشة أنها كانت تقول: لو أن زيداً كان حياً لاستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه محمد بن عبيد مرة أخرى، فقال: ثنا وائل بن داود، عن البهي، عن عائشة قالت: ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمره عليهم، ولو بقي بعد لاستخلفه.

(2/495)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 496
وقال حسين بن واقد، عن عبيد الله بن بريدة، عن أبيه، أن رسول اله صلى الله عليه وسلم قال: دخلت الجنة فاستقبلتني جارية شابة، فقلت: لمن أنت قلت: لزيد بن حارثة. إسناده حسن، رواه الروياني في مسنده. ورواه حماد بن سملة عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد، يرفعه. وقال حماد بن زيد، عن خالد بن سلمة المخزومي قال: أصيب زيد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم منزله، فجهشت بنت زيد في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى حتى انتحب. فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، ما هذا قال: شوق الحبيب إلى حبيبه. وأما عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري أبو عمرو أحد النقباء ليلة العقبة شهد بدراً والمشاهد، وكان شاعر النبي صلى الله عليه وسلم، وأخا أبي الدرداء لأمه. روى عنه أبو هريرة، وابن أخته النعمان بن بشير، وزيد بن أرقم، وأنس، قوله. وأرسل عنه) جماعة من التابعين. وقال الواقدي: كنيته أبو محمد. وقيل: أبو رواحة. وروت أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم

(2/496)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 497
في السفر في يوم شديد الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة. وقال معمر، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: تزوج رجل امرأة عبد الله بن رواحة فقال لها: هل تدرين لم تزوجتك قالت: لا. قال: لتخبريني عن صنيع عبد الله في بيته. فذكرت له شيئاً لا أحفظه، غير أنها قالت: كان إذا أراد أن يخرج من بيته صلى ركعتين، وإذا دخل بيته صلى ركعتين، لا يدع ذلك أبداً. وقال هشام بن عروة، عن أبيه قال: لما نزلت: والشعراء يتبعهم الغاوون، قال ابن رواحة: قد علم الله أني منهم. فأنزلت: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية. وقيل هذا البيت لعبد الله بن رواحة يخاطب زيد بن أرقم:
(يا زيد زيد اليعملات الذبل.......... تطاول الليل هديت فانزل)
يعني: انزل فسق بالقوم. وعن مصعب بن شيبة قال: لما نزل ابن رواحة للقتال طعن فاستقبل الدم بيده، فدلك به وجهه. ثم صرع بين الصفين يقول: يا معشر المسلمين

(2/497)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 498
ذبوا عن لحم أخيكم. فكانوا يحملون حتى يجوزونه. فلم يزالوا كذالك حتى مات مكانه. وقال ابن وهب: حدثني أسامة بن زيد الليثي، حدثني نافع، قال: كانت لابن رواحة امرأة وكان يتقيها. وكانت له جارية فوقع عليها، فقالت له وفرقت أن يكون قد فعل فقال: سبحان الله. قالت: اقرأ علي إذاً، فإنك جنب. فقال:
(شهدت بإذن الله أن محمداً.......... رسول الذي فوق السموات من عل)

(وإن أبا يحيى ويحيى كلاهما.......... له عمل من ربه متقبل)
وقد رويا لحسان. وقال ابن وهب، عن عبد الرحمن بن سلمان، عن ابن الهاد، أن امرأة عبد الله بن رواحة رأته على جارية له فجحدها. فقالت له: فاقرأ. فقال:
(شهدت بأن وعد الله حق.......... وأن النار مثوى الكافرينا)

(وأن العرش فوق الماء طاف.......... وفوق العرش رب العالمينا)
)
(وتحمله ملائكة كرام.......... ملائكة الإله مقربينا)
فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر. فحدث ابن رواحة النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك. وقال موسى بن جعفر بن أبي كثير: ثنا عبد العزيز الماجشون، عن

(2/498)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 499
الثقة أن ابن رواحة اتهمته امرأته. فذكر القصة. وقال ابن إسحاق: لم يعقب ابن رواحة. واستشهد بمؤتة: عباد بن قيس الخزرجي أحد من شهد بدراً. والحارث بن النعمان بن أساف النجاري. ومسعود بن سويد بن حارثة الأنصاري. ووهب بن سعد ابن أبي سرح العامري. وزيد بن عبيد بن المعلى الخزرجي، الذي قلت أبوه يوم أحد. وعبد الله بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي، وقيل: قتل هذا يوم اليمامة. وأبو كلاب، وجابر ابنا أبي صعصعة الخزرجي.

(2/499)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 500

(2/500)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 501
(رسله صلى الله عليه وسلم)
وفي هذه السنة كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك النواحي يدعوهم إلى الله تعالى. قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب قبل موته: إلى كسرى، وإلى قيصر، وكتب إلى النجاشي، يعني الذي ملك الحبشة بعد النجاشي المسلم، وإلى جبار يدعوهم إلى الله. رواه مسلم. وليس في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي الثاني يدعوه إلى الله في هذه. بل ذلك مسكوت عنه، وإنما كان ذلك بعد موت النجاشي الأول المسلم. وموته كما سيأتي في سنة تسع. والله أعلم. وقال إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام. وبعث بكتابه إليه مع دحية الكلبي، وأمره

(2/501)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 502
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر. فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر، وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس، مشى من حمص إلى إيلياء شكراً لما أبلاه الله. فلما أن جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حين قرأه: التمسوا لي هاهنا أحداً من قومه. قال ابن عباس: فأخبرني أبو سفيان أنه كان بالشام في رجال من قريش قدموا للتجارة، في) المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش. قال أبو سفيان: فوجدنا رسول قيصر ببعض الشام، فانطلق بنا حتى قدمنا إيليا، فأدخلنا عليه، فإذا هو جالس في مجلسه وعليه التاج، وحوله عظماء الروم، فقال لترجمانه: سلهم أيهم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قلت: أنا أقربهم إليه نسباً. قال: ما قرابة ما بينك وبينه قلت: هو ابن عمي. وليس في الركب يومئذ أحد من بني عبد مناف غيري، قال: أدنوه. ثم أمر بأصحابي فجعلهم خلف ظهري، عند كتفي، ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه إني سائله عن هذا الذي يزعم أنه نبي، فإن كذب فكذبوه. قال أبو سفيان: والله لولا الحياء يومئذ أن يأثر عني أصحابي الكذب لكذبته عنه. ثم قال لترجمانه: قل له كيف نسب هذا الرجل فيكم قلت: هو فينا ذو نسب: قال: فهل قال هذا القول أحد منكم قبله قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قلت: لا. قال: فهل من آبائه من ملك قلت: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم

(2/502)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 503
ضعفاؤهم قلت ضعفائهم. قال: فيزيدون أو ينقصون قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه قلت: لا قال: فهل يغدر قلت: لا، ونحن الآن منه في مدة يشير إلى المدة التي قاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم عليها يوم الحديبية وآخرها يوم الفتح ونحن نخاف منه أن يغدر ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئاً أنتقصه بها، لا أخاف أن تؤثر عني غيرها. قال: فهل قاتلتموه وقاتلكم قلت: نعم. قال: فكيف حربكم وحربه قلت: كانت دولاً وسجالاً، يدال علينا المرة ويدال عليه الأخرى قال: فماذا يأمركم به قلت: يأمرنا أن نعبد الله، ولا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. قال: فقال لترجمانه قل له: إني سألتك عن نسبه فيكم، فزعمت أنه ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله، فزعمت أن لا، فقلت: لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتم بقول قد قيل قبله. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فزعمت أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك، فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك آبائه. وسألتك أشراف الناس يتبعونه أو ضعفاؤهم، فزعمت أن ضعفاءهم ابتعوه، وهم أبتاع الرسل.) وسألتك: هل يزيدون أو ينقصون، فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك: هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه

(2/503)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 504
أحد. وسألتك: هل يغدر، فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون. وسألتك: هل قاتلتموه وقتلكم، فزعمت أن قد فعل، وأن حربكم وحربه يكون دولاً، وكذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة. وسألتك: ماذا يأمركم به، فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. وهذه صفة نبي، قد كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أظن أنه منكم وإن يكن ما قتل حقاً فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقيه، ولو كنت عند لغسلت قدميه. قال: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر فقرئ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين. وإن توليت فعليك إثم الأريسيين. و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون

(2/504)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 505
الله. فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون. قال أبو سفيان: فلما أن قضى مقالته علت أصوات الذين حوله من عظماء الروم وكثر لغطهم، فلا أدري ما قالوا وأمر بنا فأخرجنا. فلما أن خرجت مع أصحابي وخلوت بهم قلت لهم: لقد أمر ابن أبي كبشة هذا ملك بني الأصفر يخافه. قال أبو سفيان: والله ما زلت ذليلاً، مستيقناً بأن أمره سيظهر حتى أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره. أخرجاه من حديث إبراهيم. وأخرجاه من حديث معمر، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس أن أبا سفيان حدثه قال: انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا أنا بالشام. فذكر كحديث إبراهيم. ورواه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن الزهري بسنده. وفيه قال أبو سفيان: فلما كانت هدنة الحديبة بيننا وبين النبي صلى الله عليه وسلم خرجت تاجراً إلى الشام. فوالله ما علمت) بمكة امرأة ولا رجلاً إلا قد حملني بضاعة. فقدمت غزة، وذلك حين ظهر قيصر على من كان ببلاده من الفرس، فأخرجهم

(2/505)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 506
منها. ورد عليه صليبه الأعظم، وكان منزله بحمص فخرج منها متنكراً إلى بيت المقدس، تبسط له البسط ويطرح له عليها الرياحين. حتى انتهى إلى إيلياء، فصلى بها. فأصبح ذات غداة مهموماً يقلب طرفه إلى السماء، فقالت له بطارقته: أيها الملك، لقد أصبحت مهموماً. فقال: أجل. قالوا: وما ذاك قال: أريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر. فقالوا: والله ما نعلم أمة من الأمم تختتن إلا يهود، وهم تحت يدك وفي سلطانك، فإن كان قد وقع هذا في نفسك منهم، فابعث في مملكتك كلها فلا يبقى يهودي إلا ضربت عنقه فتستريح من هذا الهم. فبينما هم في ذلك إذ أتاهم رسول صاحب بصرى برجل من العرب قد وقع إليهم. فقال: أيها الملك هذا رجل من العرب من أهل الشاء والإبل، يحدثك عن حدث كان ببلاده، فسله عنه. فلما انتهى إليه قال لترجمانه: سله ما هذا الخبر الذي كان في بلاده فسأله فقال: هو رجل من قريش خرج يزعم أنه نبي، وقد تبعه أقوام وخالفه آخرون، فكانت بينهم ملاحم فقال: جردوه. فإذا هو مختون فقال: هذا والله الذي أريت، لا ما تقولون. ثم دعا صاحب شرطته فقال له: قلب لي الشام ظهراً وبطناً حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه. فوالله إني وأصحابي لبغزة إذ هجم علينا فسألنا: ممن أنتم فأخبرناه. فساقنا إليه جميعاً. فلما انتهينا إليه، قال أبو سفيان: فوالله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من ذلك الأغلف يعني هرقل فلما انتهينا إليه قال: أيكم أمس به رحماً فقلت: أنا. قال: أدنوه. وساق الحديث، ولم يذكر فيه

(2/506)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 507
كتاباً. وفيه كما ترى أشياء عجيبة تفرد بها ابن إسحاق دون معمر وصالح. وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني الزهري، حدثني أسقف من النصارى قد أدرك ذلك الزمان، قال: لما قدم دحية بن خليفة على هرقل بالكتاب، وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فأسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن أبيت فإن إثم الأكارين عليك. فلما قرأه وضعه بين فخذه وخاصرته، ثم كتب إلى رجل من أهل رومية، كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ، يخبره عما جاءه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه أنه النبي الذي ينتظر لا شك فيه فاتبعه. فأمر بعظماء الروم فجمعوا له في دسكرة ملكه، ثم أمر بها فأشرجت) عليهم، واطلع عليهم من علية له، وهو منهم خائف فقال: يا معشر الروم إنه قد جاءني كتاب أحمد، وإنه والله للنبي الذي كنا ننتظر ونجد ذكره في كتابنا، نعرفه بعلاماته وزمانه. فأسلموا واتبعوه تسلم لكم دنياكم وأخرتكم. فنخروا نخرة رجل واحد، وابتدروا أبواب الدسكرة، فوجدوها مغلقة عليهم، فخافهم، فقال: ردوهم علي. فكروهم عليه، فقال: إنما قلت لكم هذه المقالة أغمزكم بها لأنظر كيف صلابتكم في دينكم، فقد رأيت منكم ما سرني. فوقعوا له سجداً، ثم

(2/507)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 508
فتحت لهم الأبواب فخرجوا. وقال ابن لهيعة: ثنا أبو الأسود، عن عروة قال: خرج أبو سفيان تاجراً وبلغ هرقل شأن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فأدخل عليه أبو سفيان في ثلاثين رجلاً، وهو في كنيسة إيلياء. فسألهم فقالوا: ساحر كذاب. فقال: أخبروني بأعلمكم به وأقربكم منه. قالوا: هذا ابن عمه. وذكر شبيهاً بحديث الزهري. وقال خ: ثنا يحيى بن أبي بكير، نا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، حدثني عبيد الله، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين ليدفعه إلى كسرى. فلما قرأه كسرى مزقه. فحسبت ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق. وقال الذهلي محمد بن يحيى: ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عبد الرحمن بن عبد القاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ذات يوم على المنبر خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وتشهد، ثم قال: أما بعد، فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم، فلا تختلفوا علي كما اختلفت بنو إسرائيل على عيسى. فقال المهاجرون: والله لا نختلف عليك في شيء، فمرنا وابعثنا. فبعث شجاع

(2/508)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 509
ابن وهب إلى كسرى. فخرج حتى قدم على كسرى، وهو بالمدائن، واستأذن عليه. فأمر كسرى بإيوانه أن يزين، ثم أذن لعظماء فارس، ثم أذن لشجاع بن وهب. فلما دخل عليه أمر بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبض منه. قال شجاع: لا، حتى أدفعه أنا كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال كسرى: أدنه، فدنا فناوله الكتاب ثم دعا كاتباً له من أهل الحيرة فقرأه، فإذا فيه: محمد عبد الله ورسوله إلى كسرى عظيم فارس. فأغضبه حين بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وصاح وغضب ومزق الكتاب قبل أن) يعلم ما فيه، وأمر بشجاع فأخرج، فركب راحلته وذهب، فلما سكن غضب كسرى، طلب شجاعاً فلم يجده. وأتى شجاع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: اللهم مزق ملكه. وقال أبو عوانة، عن سماك، عن جابر بن سمرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتفتحن عصابة من المسلمين كنوز كسرى التي في القصر الأبيض. أخرجه مسلم. ورواه أسباط بن نصر، عن سماك، عن جابر فزاد قال: فكنت أنا وأبي فيهم، فأصابنا من ذلك ألف درهم. وقال أحمد بن الوليد الفحام: ثنا أسود بن عامر، أنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن أبي بكرة، أن رجلاً من أهل فارس أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ربي قد قتل ربك، يعني كسرى.

(2/509)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 510
قال: وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم إنه قد استخلف بنته فقال: لا يفلح قوم تملكهم امرأة. ويروى أن كسرى كتب إلى باذام عامله باليمن يتوعده ويقول: ألا تكفيني رجلاً خرج بأرضك يدعوني إلى دينه لتكفنيه أو لأفعلن بك. فبعث العامل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسلاً وكتاباً، فتركهم النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، ثم قال: اذهبوا إلى صاحبكم فقولوا: إن ربي قد قتل ربكم الليلة. وروى أبو بكر بن عياش، عن داود بن أبي هند، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: أقبل سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلك أو قال: قتل كسرى. فقال: لعن الله كسرى، أول الناس هلاكاً فارس ثم العرب. وقال محمد بن يحيى: ثنا يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح قال: قال ابن شهاب. وقد رواه الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، كلاهما يقول عن أبي سلمة، واللفظ لصالح قال: بلغني أن كسرى بينما هو في دسكرة ملكه، بعث له أو قيض له عارض فعرض عليه الحق، فلم يفجأ كسرى إلا الرجل يمشي وفي يده عصا فقال: يا كسرى هل لك في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا قال كسرى: نعم فلا تكسرها فولى الرجل. فلما ذهب أرسل كسرى إلى حجابه فقال من أذن لهذا قالوا: ما دخل عليك أحد. قال: كذبتم. وغضب عليهم وعنفهم، ثم تركهم. فلما كان رأس الحول أتاه ذلك الرجل بالعصا فقال كمقالته. فدعا كسرى الحجاب وعنفهم. فلما كان الحول المستقبل، أتاه ومعه العصا

(2/510)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 511
فقال: هل لك يا كسرى في الإسلام قبل أن أكسر) العصا قال: لا تكسرها. فكسرها فأهلك الله كسرى عند ذلك. وقال الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده. وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده. والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزها في سبيل الله. أخرجه مسلم. وروى يونس بن بكير، عن ابن عون، عن عمير بن إسحاق قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر. فأما قيصر فوضعه، وأما كسرى فمزقه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أما هؤلاء فيمزقون، وأما هؤلاء فسيكون لهم بقية. وقال الربيع: أنا الشافعي قال: حفظنا أن قيصر أكرم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ووضعه في مسك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثبت ملكه. قال الشافعي: وقطع الله الأكاسرة عن العراق وفارس، وقطع قيصر ومن قام بالأمر بعده عن الشام. وقال في كسرى: مزق ملكه، فلم يبق للأكاسرة ملك، وقال في قيصر ثبت ملكه فثبت له ملك بلاد الروم إلى اليوم. وقال يونس، عن ابن إسحاق: ثنا الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد القاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، فمضى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل الكتاب وأكرم حاطباً وأحسن نزله، وأهدى معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة وكسوة وجاريتين إحداهما أم

(2/511)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 512
إبراهيم، والأخرى وهبها النبي صلى الله عليه وسلم لجهم بن قثم العبدي، فهي أم زكريا ابن جهم، خليفة عمرو بن العاص على مصر. وقال أبو بشر الدولابي: ثنا أبو الحارث أحمد بن سعيد الفهري، ثنا هارون بن يحيى الحاطبي، ثنا إبراهيم بن عبد الرحمن، حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه، عن جده حاطب بن أبي بلتعة قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك الإسكندرية، فجئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزلني في منزله، وأقمت عنده. ثم بعث إلي وقد جمع بطارقته فقال: إني سأكلمك بكلام وأحب أن تفهمه مني. قلت: نعم، هلم. قال: أخبرني عن صاحبك، أليس هو نبي قلت: بلى، هو رسول الله. قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه. قلت: عيسى أليس تشهد أنه) رسول الله، فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه أن لا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حتى رفعه الله إليه إلى السماء الدنيا قال: أنت حكيم جاء من عند حكيم. هذه هدايا أبعث معك إليه. فأهدى ثلاث جوار، منهن أم إبراهيم وواحدة وهبها رسول الله لأبي جهم بن حذيفة العدوي، وواحدة وهبها لحسان بن ثابت. وأرسل بطرف من طرفهم.

(2/512)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 513
(غزوة ذات السلاسل)
قيل إنه ماء بأرض جذام. قال ابن لهيعة: نا أبو الأسود، عن عروة. ورواه موسى بن عقبة، واللفظ له، قالا: غزوة ذات السلاسل من مشارف الشام في بلي وسعد الله ومن يليهم من قضاعة. وفي رواية عروة: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في بلي، وهم أخوال العاص بن وائل، وبعثه فيمن يليهم من قضاعة وأمره عليهم. قال ابن عقبة: فخاف عمرو من جانبه الذي هو به، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده. فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين، فانتدب فيهم أبو بكر وعمر

(2/513)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 514
وجماعة، أمر عليهم أبا عبيدة. فأمد بهم عمراً. فلما قدموا عليه قال: أنا أميركم، وأنا أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستمده بكم. فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين. قال: إنما أنتم مدد أمددته. فلما رأى ذلك أبو عبيدة، وكان رجلاً حسن الخلق لين الشيمة، سعى لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، قال: تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا، وإنك إن عصيتني لأطيعنك. فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي، عن غزوة ذات السلاسل من أرض بلي وعذرة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص ليستنفر العرب إلى الإسلام. وذلك أن أم العاص بن وائل كانت من بلي، فبعثه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتألفهم بذلك. حتى إذا كان بأرض جذام، على ماء يقال له السلاسل، خاف فبعث يستمد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال علي بن عاصم: أنا خالد الحذاء، عن أبي عثمان النهدي، سمعت عمرو بن العاص يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش ذي السلاسل، وفي القوم أبو بكر وعمر.) فحدثت نفسي أنه لم يبعثني عليها إلا لمنزلة لي عنده، فأتيته حتى قعدت بين يديه فقلت: يا رسول الله، من أحب الناس إليك قال: عائشة قلت: إني لم أسألك عن أهلك. قال: فأبوها قلت: ثم من قال: عمر قلت: ثم من حتى عد رهطاً،

(2/514)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 515
قال: قلت في نفسي لا أعود أسأل عن هذا. رواه غيره عن خالد وهو في الصحيحين مختصراً. وكيع، وغيره، ثنا موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، سمع عمرو بن العاص: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمرو أشدد عليك سلاحك وائتني. ففعلت، فجئته وهو يتوضأ، فصعد في البصر وصوبه وقال: يا عمرو إني أريد أن أبعثك وجهاً فيسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك رغبة في المال صالحة. قلت: إني لم أسلم رغبة في المال إنما أسلمت رغبة في الجهاد والكينونة معك. قال: يا عمرو نعماً بالمال الصالح للمرء الصالح. أنبأ ابن عون وغيره، عن محمد: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمراً على جيش ذات السلاسل وفيهم أبو بكر وعمر. رواه إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم النخعي بنحوه. وكيع، عن المنذر بن ثعلبة، عن ابن بريدة، قال أبو بكر: إنما ولاه النبي صلى الله عليه وسلم يعين عمراً علينا لعلمه بالحرب. قلت: ولهذا استعمل أبو بكر عمراً على غزو الشام.

(2/515)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 516
وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن يزيد بن رومان: أن أبا عبيدة لما أتى عمراً صاروا خمسمائة، وسار الليل والنهار حتى وطئ بلاد بلي ودوخها، وكلما انتهى إلى موضع بلغه أنه كان بذلك الموضع جمع، فلما سمعوا به تفرقوا حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلي وعذرة وبلقين. ولقي في آخر ذلك جمعاً، فاقتتلوا ساعة وتراموا بالنيل. ورمي يومئذ عامر بن ربيعة، فأصيب ذراعه. وحمل المسلمون عليهم فهربوا وأعجزوا هرباً في البلاد. ودوخ عمرو ما هناك. وأقام أياماً بغير أصحابه على المواشي. وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل، فأصابهم برد فقال لهم عمرو: لا يوقدن أحد ناراً. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوه، فقال: يا نبي الله، كان في أصحابي قلة فخشيت أن يرى العدو قلتهم، ونهيتهم أن يتبعوا العدو مخافة أن يكون لهم كمين. فأعجب ذلك رسول الله) صلى الله عليه وسلم. وقال جرير بن حازم: ثنا يحيى بن أيوب، عن يزيد بن حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبي، عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح. فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب. فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان

(2/516)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 517
بكم رحيماً. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئاً. وقال عمرو بن الحارث. وغيره، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران ابن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص أن عمراً كان على سرية فذكر نحوه. قال: فغسل مغابنه، وتوضأ وضوءه للصلاة ثم صلى بهم. لم يذكر التيمم. أخرجهما أبو داود.
(غزوة سيف البحر)
قال ابن عيينة، عن عمرو عن جابر: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة راكب، وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح، نرصد عيراً لقريش. فأصابنا جوع شديد، حتى أكلنا الخبط فسمي جيش الخبط. قال: ونحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر. ثم إن أبا عبيدة نهاه. قال: فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر، فأكلنا منه نصف شهر وادهنا منه، حتى ثابت منه أجسامنا وصلحت، فأخذ أبو عبيدة ضلعاً من أضلاعه، فنظر إلى رجل في الجيش وأطول جمل

(2/517)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 518
فحمله عليه ومر تحته. متفق عليه. زاد البخاري في حديث عمرو عن جابر: قال جابر: وكان رجل في القوم نحر ثلاث جزائر، ثم ثلاثاً، ثم ثلاثاً. ثم إن أبا عبيدة نهاه. قال: وكان عمرو يقول: نا أبو صالح أن قيس بن سعد قال لأبيه: كنت في الجيش فجاعوا قال أبوه: انحر. قال: نحرت، قال: ثم جاعوا. قال: انحر قال: نحرت، قال: ثم جاعوا. قال: انحر. قال: نهيت. وقال مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً قبل الساحل، وأمر عليهم أبا عبيدة وهم ثلاثمائة وأنا فيهم. حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد. فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كله. فكان مزودي تمر، فكان يقوتنا كل يوم قليلاً) قليلاً، حتى فني. ولم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة. قال فقلت: وما تغني تمرة قال: لقد وجدنا فقدنا حين فنيت. ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظرب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة. ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت، ثم مرت تحتهما فلم تصبهما. أخرجاه. وقال زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، عن جابر قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نتلقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر. فكان أبو عبيدة

(2/518)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 519
يعطينا تمرة تمرة. وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم ببله بالماء فنأكله. فانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا كهيئة الكثيب فأتيناه فإذا دابة تدعى العنبر. فقال أبو عبيدة: ميتة ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا. فأقمنا عليها شهراً ونحن ثلاثمائة حتى سمنا. ولقد كنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن ونقتطع من الفدر كالثور. ولقد أخذ أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في عينه، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها ثم رحل أعظم بعير منها فمر تحتها. وتزودنا من لحمه وشائق فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعموننا قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكل. أخرجه مسلم. قلت: زعم بعض الناس أن هذه السرية كانت في رجب سنة ثمان.
(سرية أبي قتادة إلى خضرة.)
قال الواقدي في مغازيه: قالوا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة بن ربعي الأنصاري إلى غطفان في خمسة عشر رجلاً. وأمره أن يشن عليهم الغارة.

(2/519)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 520
فسار وهجم على حاضر منهم عظيم فأحاط به. فصرخ رجل منهم: يا خضرة وقاتل منهم رجال فقتلوا من أشرف لهم. واستاقوا النعم، فكانت مائتي بعير وألفي شاة. وسبوا سبياً كثيراً. وغابوا خمس عشرة ليلة. وذلك في شعبان من السنة. ثم كنت سريته إلى إضم على أثر ذلك في رمضان.
(وفاة زينب)
بنت النبي صلى الله عليه وسلم وكانت أكبر بناته. توفيت في هذه السنة وغسلتها أم عطية الأنصارية وغيرها. وأعطاهن النبي) صلى الله عليه وسلم حقوة فقال: أشعرنها إياه. وبنتها أمامة بنت أبي العاص، هي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها في الصلاة.

(2/520)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 521
(فتح مكة)
زادها الله شرفاً قال البكائي، عن ابن إسحاق: ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة، وهم على ماء بأسفل مكة يقال له الوتير. وكان الذي هاج ما بين بكر وخزاعة رجلاً من بني الحضرمي خرج تاجراً، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله. فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على سلمى وكلثوم وذؤيب

(2/521)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 522
بني الأسود بن رزن الديلي، وهم منخر بني كنانة وأشرافهم، فقتلوهم بعرفة. فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل الناس به. فلما كان صلح الحديبية بين رسول لله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، كان فيما شرطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرط لهم أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله وعهده فليدخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. فدخلت بنو بكر في عقد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنها وكافرها. فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل أحد بني بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأراً بأولئك الإخوة. فخرج نوفل بن معاوية الديلي في قومه حتى بيت خزاعة على الوتير، فاقتتلوا. وردفت قريش بني الديل بالسلاح، وقوم من قريش أعانت خزاعة بأنفسهم، مستخفين بذلك، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم. فقال قوم نوفل: اتق إلهك ولا تستحل الحرم. فقال: لا إله لي اليوم، والله يا بني كنانة إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون فيه ثأركم فقتلوا رجلاً من خزاعة. ولجأت خزاعة إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ودار رافع مولى خزاعة. فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة، كان ذلك نقضاً للهدنة التي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخرج عمرو بن سالم الخزاعي فقدم على النبي

(2/522)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 523
صلى الله عليه وسلم في طائفة مستغيثين به، فوقف عمرو عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهري الناس فقال:
(يا رب إني ناشد محمداً.......... حلف أبينا وأبيه الأتلدا)

(قد كنتم ولداً وكنا والداً.......... ثمت أسلمنا فلم ننزع يداً)
)
(فانصر هداك الله نصراً أعتدا.......... وادع عباد الله يأتوا مدداً)

(فيهم رسول الله قد تجردا.......... إن سيم خسفاً وجهه تربداً)

(في فيلق كالبحر يجري مزبداً.......... إن قريشاً أخلفوك الموعداً)

(ونقضوا ميثاقك المؤكدا.......... وجعلوا لي في كداء رصداً)

(وزعموا أن لست أدعو أحداً.......... وهم أذل وأقل عدداً)

(هم بيتونا بالوتير هجداً.......... وقتلونا ركعاً وسجداً)
فانصر، هداك الله، نصراً أيداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصرت يا عمرو بن سالم. ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء، فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب يعني خزاعة. ثم قدم بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة. ومضى بديل وأصحابه فلقوا أبا سفيان ابن حرب بعسفان، قد جاء ليشد العقد ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذي

(2/523)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 524
صنعوا. فلما لقى بديل بن ورقاء قال: من أين أقبلت يا بديل وظن أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سرت في خزاعة على الساحل. قال: أو ما جئت محمداً قال: لا. فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء إلى المدينة لقد علف بها النوى. فأتى مبرك راحلته ففته فرأى فيه النوى فقال: أحلف بالله لقد أتى محمداً. ثم قدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة أم المؤمنين. فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك، نجس. قال: والله قد أصابك يا بنية بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه شيئاً. فذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتى إلى عمر فكلمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لو لم أجد إلا الذر لجالدتكم عليه. ثم خرج حتى أتى علياً وعنده فاطمة وابنها الحسن وهو غلام يدب، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائباً، فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله) عليه وسلم فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال: يا ابنة محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر قالت: والله ما بلغ بني ذلك، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا أبا حسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني. قال: والله ما أعلم شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنياً عني قال: لا والله ما أظنه،

(2/524)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 525
ولكن لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس. ثم ركب بعيره وانطلق. فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك فقص شأنه، وأنه أجار بين الناس. قالوا: فهل أجاز ذلك محمد قال: لا. قالوا: والله إن زاد الرجل على أن لعب بك. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه. ثم أعلم الناس بأنه يريد مكة، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتهم في بلادهم. فعن عروة وغيره قالوا: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش بذلك مع امرأة، فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها ثم خرجت به. وأتى النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بفعله. فأرسل في طلبها علياً والزبير. وذكر الحديث. أخبرنا محمد بن أبي الحرم القرشي وجماعة، قالوا: ثنا الحسن بن يحيى المخزومي، ثنا عبد الله بن رفاعة، أنا علي بن الحسن الشافعي، أنا عبد الرحمن بن عمر بن النحاس، أنبأ عثمان بن محمد السمرقندي، ثنا أحمد بن شعبان، ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن حسن بن محمد، أخبرني عبيد الله بن أبي رافع وهو كاتب علي قال: سمعت علياً يقول: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها.

(2/525)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 526
فانطلقنا تعادي بنا خليلنا حتى انتهينا إلى الروضة. قلنا: أخرجي الكتاب قالت: ما معي كتاب، قلنا: لتخرجن الكتاب أو لنقلعن الثياب. فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا قال: يا رسول الله لا تعجل،) إني كنت امرؤاً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من كان من المهاجرين معك لهم قرابات يحمون بها أهليهم بمكة، ولم يكن لي قرابة، فأحببت أن أتخذ فيهم يداً إذا فاتني ذلك يحمون بها قرابتي، وما فعلته كفراً ولا ارتداداً ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم. فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. قال: إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. أخرجه البخاري عن قتيبة ومسلم عن ابن أبي شيبة وأبو داود عن مسدد كلهم عن سفيان.

(2/526)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 527
أبو حذيفة النهدي: ثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، عن ابن عباس قال: قال عمر: كتب حاطب إلى المشركين بكتاب فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا حاطب ما دعاك إلى هذا قال: كان أهلي فيهم وخشيت أن يصرموا عليهم، فقلت أكتب كتاباً لا يضر الله ورسوله. فاخترطت السيف فقلت: يا رسول الله، أضرب عنقه فقد كفر. فقال: وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. هذا حديث حسن. وعن ابن إسحاق نحوه، وزاد: فنزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء. وعن ابن إسحاق، قال: عن ابن عباس قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره، واستعمل على المدينة أبا رهم الغفاري. وخرج لعشر مضين من رمضان. فصام وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد، بين عسفان وأمج أفطر. اسم أبي رهم: كلثوم بن حصين. وقال سعيد بن بشير، عن قتادة: إن خزاعة أسلمت في دارهم، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامها، وجعل إسلامها في دارها. وقال سعيد بن عبد العزيز، وغيره: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل في عهده يوم الحديبية خزاعة.

(2/527)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 528
وقال الوليد بن مسلم: أخبرني من سمع عمرو بن دينار، عن ابن عمر قال: كانت خزاعة حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفاثة حلف أبي سفيان فعدت نفاثة على خزاعة، فأمدتها قريش. فلم يغز رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً حتى بعث إليهم ضمرة، فخيرهم بين إحدى ثلاث: أن يدوا قتلى خزاعة، وبين أن يبرأوا من حلف نفاثة، أو ينبذ إليهم على سواء. قالوا: ننبذ على سواء. فلما سار ندمت قريش، وأرسلت أبا سفيان يسأل تجديد العهد.) وقال: ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قال: كانت بين نفاثة من بني الديل، وبين بني كعب، حرب. فأعانت قريش وبنو كنانة بني نفاثة على بني كعب. فنكثوا العهد إلا بنو مدلج، فإنهم وفوا بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر القصة، وشعر عمرو بن سالم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي. فأنشأت سحابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه السحابة تستهل بنصر بني كعب، أبصروا أبا سفيان فإنه قادم عليكم يلتمس تجديد العهد والزيادة في المدة. فأقبل أبو سفيان فقال: يا محمد جدد العهد وزدنا في المدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو لذلك قدمت هل كان من حدث قبلكم قال: معاذ الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن على عهدنا وصلحنا. ثم ذكر ذهابه إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وأنه قال له: أنت أكبر قريش فأجر بينها. قال: صدقت إني كذلك فصاح: ألا إني قد أجرت بين الناس، وما أظن أن يرد جواري ولا يحقر بي. قال: أنت تقول ذاك يا أبا حنظلة؟ ثم خرج.

(2/528)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 529
فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين أدبر: اللهم سد على أبصارهم وأسماعهم فلا يروني إلا بغتة. فانطلق أبو سفيان حتى قدم مكة فحدث قومه، فقالوا: أرضيت بالباطل وجئتنا بما لا يغني عنا شيئاً، وإنما لعب بك علي. وأغبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاز، مخيفاً لذلك. فدخل أبو بكر على ابنته، فرأى شيئاً من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر وقال: أين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة: تجهز، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم غاز قومك، قد غضب لبني كعب. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشفقت عائشة أن يسقط أبوها بما أخبرته قبل أن يذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشارت إلى أبيها بعينها، فسكت. فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة يتحدث مع أبي بكر ثم قال: هل تجهزت يا أبا بكر قال: لماذا يا رسول الله قال: لغزو قريش، فإنهم قد غدروا ونقضوا العهد، وإنا غازون إن شاء الله. وأذن في الناس بالغزو، فكتب حاطب إلى قريش فذكر حديثه. وقال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفاً من المهاجرين، والأنصار، وأسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وبني سليم. وقادوا الخيول حتى نزلوا بمر الظهران، ولم تعلم بهم قريش. قال: فبعثوا حكيم بن حزام وأبا سفيان وقالوا: خذوا لنا جواراً أو آذنوا بالحرب. فخرجا فلقيا بديل بن ورقاء) فاستصحباه، فخرج معهما حتى إذا كانوا بالأراك بمكة، وذلك عشاء، رأوا الفساطيط والعسكر، وسمعوا صهيل الخيل ففزعوا. فقال:

(2/529)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 530
هؤلاء بنو كعب جاءت بهم الحرب. قال بديل: هؤلاء أكثر من بني كعب، ما بلغ تأليبها هذا. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث بين يديه خيلاً لا يتركون أحداً يمضي. فلما دخل أبو سفيان وأصحابه عسكر المسلمين أخذتهم الخيل تحت الليل وأتوا بهم. فقام عمر إلى أبي سفيان فوجأ عنقه، والتزمه القوم وخرجوا به ليدخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم به، فحبسه الحرس أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاف القتل، وكان العباس بن عبد المطلب خالصة له في الجاهلية، فنادى بأعلى صوته: ألا تأمر بي عباس فأتاه فدفع عنه، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبضه إليه. فركب به تحت الليل، فسار به في عسكر القوم حتى أبصره أجمع. وكان عمر قال له حين وجأه: لا تدن من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تموت. فاستغاث بالعباس وقال: إني مقتول. فمنعه من الناس. فلما رأى كثرة الجيش قال: لم أر كالليلة جمعاً لقوم. فخلصه عباس من أيديهم، وقال: إنك مقتول إن لم تسلم وتشهد أن محمداً رسول الله. فجعل يريد أن يقول الذي يأمره عباس، ولا ينطلق به لسانه وبات معه. وأما حكيم وبديل فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما. وجعل يستخبرهما عن أهل مكة. فلما نودي بالفجر تجسس القوم، ففزع أبو سفيان وقال: يا

(2/530)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 531
عباس، ما يريدون قال: سمعوا النداء بالصلاة فتبشروا بحضور النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم أبو سفيان يمرون إلى الصلاة، وأبصرهم يركعون ويسجدون إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا عباس، ما يأمرهم بشيء إلا فعلوه فقال: هل عنده من عفو عنهم فانطلق عباس بأبي سفيان حتى أدخله على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان. فقال أبو سفيان: يا محمد قد اسنتصرت بإلهي واستنصرت بإلهك، فوالله ما لقيتك من مر إلا ظهرت علي، فلو كان إليهم محقاً وإلهك باطلاً ظهرت عليك، فأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وقال عباس: يا رسول الله إني أحب أن تأذن لي إلى قومك فأنذرهم ما نزل بهم، وأدعوهم إلى الله ورسوله. فأذن له. قال: كيف أقول لهم قال: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وشهد أن محمداً عبده ورسوله، وكف يده، فهو آمن. ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه فهو) آمن. ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. قال: يا رسول الله، أبو سفيان ابن عمنا، فأحب أن يرجع معي، وقد خصصته بمعروف. فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فجعل أبو سفيان يستفهمه. ودار أبي سفيان بأعلى مكة. وقال: من دخل دارك يا حكيم فهو آمن. ودار حكيم في أسفل مكة. وحمل النبي صلى الله عليه وسلم العباس على بغلته البيضاء التي أهداها إليه دحية الكلبي، فانطلق العباس وأبو سفيان قد أردفه. ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم في أثره، فقال: أدركوا العباس فردوه علي. وحدثهم بالذي خاف عليه. فأدركه

(2/531)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 532
الرسول، فكره عباس الرجوع، وقال: أترهب يا رسول الله أن يرجع أبو سفيان راغباً في قلة الناس فيكفر بعد إسلامه فقال: احبسه فحبسه. فقال أبو سفيان: غدراً يا بني هاشم فقال عباس: إنا لسنا نغدر، ولكن بي إليك بعض الحاجة. فقال: وما هي، فأقضيها لك قال: إنما نفاذها حين يقدم عليك خالد بن الوليد والزبير بن العوام. فوقف عباس بالمضيق دون الأراك، وقد وعى منه أبو سفيان حديثه. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل بعضها على أثر بعض، وقسم الخيل شطرين، فبعث الزبير في خيل عظيمة. فلما مروا بأبي سفيان قال للعباس: من هذا قال: الزبير. وردفه خالد بن الوليد بالجيش من أسلم وغفار وقضاعة، فقال أبو سفيان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا يا عباس قال: لا، ولكن هذا خالد بن الوليد. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة بين يديه في كتيبة الأنصار، فقال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة الإيمان من المهاجرين والأنصار. فلما رأى أبو سفيان وجوهاً كثيرة لا يعرفها قال: يا رسول الله، اخترت هذه الوجوه على قومك قال: أنت فعلت ذلك وقومك. إن هؤلاء صدقوني إذ كذبتموني، ونصروني إذ أخرتموني، ومع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ الأقرع بن حابس، وعباس بن مرادس السلمي، وعيينة بن بدر، فلما أبصرهم حول النبي صلى الله عليه وسلم قال: من هؤلاء يا عباس قال: هذه كتيبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذه الموت الأحمر، هؤلاء المهاجرون والأنصار. قال: امض يا عباس، فلم أر كاليوم جنوداً قط ولا جماعة، وسار الزبير بالناس حتى إذا وقف بالحجون، واندفع خالد حتى دخل من أسفل مكة. فلقيته بنو بكر فقاتلهم

(2/532)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 533
فهزمهم، وقتل منهم قريباً من عشرين، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وهزموا وقتلوا بالحزورة، حتى دخلوا) الدور، وارتفعت طائفة منه على الجبل على الخندمة، واتبعهم المسلمون بالسيوف. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس، وندى مناد: من أغلق عليه داره وكف يده فهو آمن. وكان النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً بذي طوى، فقال: كيف قال حسان فقال رجل من أصحابه: قال:
(عدمت بنيتي إن لم تروها.......... تثير النقع من كتفي كداء)
فأمرهم فأدخلوا الخيل من حيث قال حسان فأدخلت من ذي طوى من أسفل مكة. واستحر القتل ببني بكر. فأحل الله له مكة ساعة من نهار، وذلك قوله تعالى لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحلت الحرمة لأحد قبلي ولا بعدي، ولا أحلت لي إلا ساعة من نهار. ونادى أبو سفيان بمكة: أسلموا تسلموا. وكفهم الله عن عباس. فأقبلت هند فأخذت بلحية أبي سفيان، ثم نادت: يا آل غالب اقتلوا الشيخ الأحمق. قال: أرسلي لحيتي، فأقسم لئن أنت لم تسلمي ليضربن

(2/533)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 534
عنقك، ويلك جاءنا بالحق ادخلي بيتك واسكني. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف سبعاً على راحلته. وفر صفوان بن أمية عامداً للبحر، وفر عكرمة عامداً لليمن. وأقبل عمير بن وهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أمن صفوان فقد هرب، وقد خشيت أن تهلك نفسه فأرسلني إليه بأمان قد أمنت الأحمر والأسود، فقال: أدركه فهو آمن. فطلبه عمير فأدركه ودعاه فقال: قد أمنك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال صفوان: والله لا أوقن لك حتى أرى علامة بأماني أعرفها. فرجع فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم برد حبرة كان معتجراً به حين دخل مكة، فأقبل عمير، فقال صفوان: يا رسول الله، أعطيتني ما يقول هذا من الأمان قال: نعم. قال: أجعل لي شهراً قال: لك شهران، لعل الله أن يهديك. واستأذنت أم حكيم بنت الحارث بن هشام وهي يومئذ مسلمة، وهي تحت عكرمة بن أبي جهل. فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب زوجها، فأذن لها وأمنه، فخرجت بعبد لها رومي فأرادها عن نفسها، فلم تزل تمنيه وتقرب له حتى قدمت على ناس من عك فاستغاثتهم عليه فأوثقوه، فأدركت زوجها ببعض تهامة وقد ركب في السفينة، فلما جلس فيها نادى باللات والعزى. فقال أصحاب السفينة: لا يجوز هاهنا من دعاء بشيء إلا الله وحده مخلصاً، فقال) عكرمة: والله لئن كان في البحر، إنه لفي البر وحده، وأقسم بالله

(2/534)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 535
لأرجعن إلى محمد، فرجع عكرمة مع امرأته، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه، وقبل منه. ودخل رجل من هذيل على امرأته، فلامته وعيرته بالفرار، فقال:
(وأنت لو رايتنا بالخندمه.......... إذ فر صفوان وفي عكرمه)

(قد لحقتهم السيوف المسلمة.......... يقطعن كل ساعد وجمجمه)
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة. وكان دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة في رمضان. واستعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان فيما زعموا مائة درع وأداتها، وكان أكثر شيء سلاحاً. وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بضع عشرة ليلة. وقال ابن إسحاق: مضى النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف. فسبعت سليم، وبعضهم يقول: ألفت سليم، وألفت مزينة. ولم يتخلف أحد من المهاجرين والأنصار. وقد كان العباس لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق. قال عبد الملك ابن هشام: لقيه بالجحفة مهاجراً بعياله.

(2/535)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 536
وقال ابن إسحاق: وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنبق العقاب فيما بين مكة والمدينة فالتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سملة فيهما، فقالت: يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك. قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال. فلما بلغهما قوله قال أبو سفيان: والله لتأذنن لي أو لأخذن بيد بني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما، وأذن لهما فدخلا وأسلما وقال أبو سفيان:
(لعمرك إني يوم أحمل راية.......... لتغلب خيل اللات خيل محمد)

(لكالمدلج الحيران أظلم ليله.......... فهذا أواني حين أهدي وأهتدي)

(هداني هاد غير نفسي ونالني.......... إلى الله من طردت كل مطرد)

(أصد وأنأى جاهداً عن محمد.......... وأدعى وإن لم أنتسب من محمد)
) فذكروا أنه حين أنشد النبي صلى الله عليه وسلم هذه ضرب في صدره وقال: أنت طردتني كل مطرد. وقال سعيد بن عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا لغزوة فتح مكة لليلتين خلتا من شهر رمضان صواماً. فلما كنا بالكديد، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفطر.

(2/536)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 537
وقال الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام في مخرجه ذلك حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطر الناس. أخرجه البخاري. وقال الأوزاعي: ثنا يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة قال: دخل أبو بكر وعمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، وهو يتغدى فقال: الغداء فقالا: إنا صائمان، فقال: اعملوا لصاحبيكم، ارحلوا لصاحبيكم، كلا، كلا. مرسل وقوله: هذا مقدار بالقول يعني يقال هذا لكونكما صائمين. وقال معمر: سمعت الزهري يقول: أخبرني عبيد الله، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف، وذلك على راس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة، يصوم ويصومون. حتى بلغ الكديد وهو بين عسفان وقديد فأفطر، وأفطر الناس. قال الزهري: وكان الفطر آخر الأمرين. وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الزهري: فصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان. أخرجه خ وم دون قول الزهري. وكذا ورخه يونس عن الزهري.

(2/537)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 538
وقال عبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق، عن ابن شهاب، ومحمد ابن علي بن الحسين، وعمرو بن شعيب، وعاصم بن عمر وغيرهم قالوا: كان فتح مكة في عشر بقين من رمضان. وقال الواقدي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان بعد العصر. فما حل عقده حتى انتهى إلى الصلصل. وخرج المسلمون وقادوا الخيل وامتطوا الإبل، وكانوا عشرة آلاف. وذكر عروة وموسى بن عقبة أنه صلى الله عليه وسلم خرج في اثني عشر ألفاً.) وقال ابن إدريس، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه العباس بأبي سفيان فأسلم بمر الظهران. فقال: يا رسول الله، إن سفيان رجل يحب الفخر، فلو جعلت له شيئاً قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، من أغلق بابه فهو آمن. زاد فيه الثقة، عن ابن إسحاق بإسناده: فقال أبو سفيان: وما تسع داري قال: من دخل الكعبة فهو آمن قال: وما تسع الكعبة قال: من دخل المسجد فهو آمن. قال: وما يسع المسجد قال: من أغلق بابه فهو آمن. فقال: هذه واسعة. وقال حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة قال: فلما نزل رسول الله

(2/538)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 539
صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، قال العباس وقد خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة: يا صباح قريش، والله لئن بغتها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عنوة، إنه لهلاك قريش آخر الدهر. فجلس على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وقال أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطاباً أو صاحب لبن، أو داخلاً يدخل مكة. فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتوه فيستأمنوه، فخرجت فوالله إني لأطوف بالأراك إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء وقد خرجوا يتجسسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعت صوت أبي سفيان وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط نيراناً، فقال بديل: هذه نيران خزاعة حمشتها الحرب، فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك وأذل. فعرف صوته فقلت: يا أبا حنظلة، فقال: أبو الفضل قلت: نعم. فقال: لبيك، فداك أبي وأمي، ما وراءك قلت: هذا رسول الله في الناس قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به في عشرة آلاف من المسلمين. قال: فكيف الحيلة فداك أبي وأمي. فقلت: تركب في عجز هذه البغلة، فأستأمن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك. فردفني فخرجت أركض به نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين نظروا إلي وقالوا: عم رسول الله على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى مررت بنار عمر فقال لأبي سفيان: الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد. ثم اشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وركضت البغلة حتى اقتحمت باب القبة وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطيء. ودخل عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله، قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد،) فدعني أضرب عنقه فقلت: يا رسول الله، إني قد

(2/539)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 540
أمنته. ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه وقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني. فلما أكثر فيه عمر، قلت: مهلاً يا عمر، فوالله ما تصنع هذا إلا لأنه رجل من بني عبد مناف. ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا. فقال: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم. وما ذاك إلا لأني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب به فقد أمناه، حتى تغدو به علي الغداة، فرجع به العباس إلى منزله. فلما أصبح غدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله فقال: بأبي وأمي ما أوصلك وأكرمك، والله ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً بعد. فقال: ويحك أو لم يأن أن تعلم أني رسول الله قال: بأبي وأمي ما أوصلك وأكرمك، أما هذه فإن في النفس منها شيئاً. فقال العباس فقلت: ويلك تشهد شهادة الحق قبل، والله، أن تضرب عنقك. فتشهد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تشهد: انصرف به يا عباس فاحبسه عند حطم الجبل بمضيق الوادي، حتى تمر عليه جنود الله. فقلت له: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً يكون له في قومك فقال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. فخرجت به حتى حبسته عند حطم الجبل بمضيق الوادي. فمرت عليه القبائل، فيقول: من

(2/540)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 541
هؤلاء يا عباس فأقول: سليم. فيقول: مالي ولسليم. وتمر به القبيلة فيقول: من هذه فأقول: أسلم. فيقول مالي ولأسلم. وتمر جهينة. حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار، في الحديد، لا يرى منهم إلا الحدق. فقال يا أبا الفضل، من هؤلاء فقلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. فقال: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً. فقلت: ويحك، إنها النبوة. قال: فنعم إذن. قلت: الحق الآن بقومك فحذرهم. فخرج سريعاً حتى جاء مكة، فصرخ في المسجد: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به. فقالوا: فمه قال: من دخل داري فهو آمن. فقالوا: وما دارك، وما تغني عنا قال: من دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق داره عليه فهو آمن.) هكذا رواه بهذا اللفظ ابن إسحاق، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس موصولاً، وأما أبو أيوب السختياني فأرسله. وقد رواه ابن إدريس، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس بمعناه. وقال عروة: أخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير: يا أبا عبد الله، هاهنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية. قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يدخل مكة من كداء. ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كدى، فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان: حبيش بن الأشعر، وكرز بن جابر الفهري.

(2/541)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 542
وقال الزهري، وغيره: أخفى الله تعالى مسير النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة، حتى نزل بمر الظهران. وفي مغازي موسى بن عقبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد: لم قاتلت، وقد نهيتك عن القتال قال: هم بدأونا بالقتال ووضعوا فينا السلاح وأشعرونا بالنبل، وقد كففت يدي ما استطعت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قضاء الله خير. ويقال: قال أبو بكر يومئذ: يا رسول الله أراني في المنام وأراك دنونا من مكة، فخرجت إلينا كلبة تهر. فلما دنونا منها استلقت على ظهرها، فإذا هي تشخب لبناً. فقال: ذهب كلبهم وأقبل درهم، وهم سائلوكم بأرحامكم وإنكم لاقون بعضهم، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه. فلقوا أبا سفيان وحكيماً بمر الظهران. وقال حسان:
(عدمت بنيتي إن لم تروها.......... تثير النقع موعدها كداء)

(ينازعن الأعنة مصحبات.......... يلطمهن بالخمر النساء)

(فإن أعرضتم عنا اعتمرنا.......... وكان الفتح وانكشف الغطاء)

(2/542)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 543
(وإلا فاصبروا لجلاد يوم.......... يعز الله فيه من يشاء)

(وجبريل رسول الله فينا.......... وروح القدس ليس له كفاء)

(هجوت محمداً فأجبت عنه.......... وعند الله في ذاك الجزاء)

(فمن يهجو رسول الله منكم.......... ويمدحه وينصره سواء)
)
(لساني صارم لا عيب فيه.......... وبحري ما تكدره الدلاء)
فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم إلى أبي بكر حين رأى النساء يلطمن الخيل بالخمر أي ينفضن الغبار عن الخيل. وقال الليث: حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اهجوا قريشاً فإنه أشد عليها من رشق النبل. وأرسل إلى ابن رواحة فقال: اهجهم. فهجاهم فلم يرض، فأرسل إلى كعب ابن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت. فلما دخل قال: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه. ثم أدلع لسانه فجعل يحركه، فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم فري الأديم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها وإن لي فيهم نسباً، حتى يخلص لي نسبي. فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول الله قد أخلص لي نسبك، فوالذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين.

(2/543)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 544
قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله. وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هجاهم حسان فشفى واشتفى. وذكر الأبيات، وزاد فيها:
(هجوت محمداً براً حنيفاً.......... رسول الله شيمته الوفاء)

(فإن أبي ووالده وعرضي.......... لعرض محمد منكم وقاء)

(فإن أعرضتم عنا اعتمرنا.......... وكان الفتح وانكشف الغطاء)

(وقال الله: قد أرسلت عبداً.......... يقول الحق ليس به خفاء)

(وقال الله: قد سيرت جنداً.......... هم الأنصار عرضتها اللقاء)

(لنا في كل يوم من معد.......... سباب أو قتال أو هجاء)
أخرجه مسلم. وقال سليمان بن المغيرة وغيره: نا ثابت البناني، عن عبد الله بن رباح قال: وفدنا إلى معاوية ومعنا أبو هريرة، وكان بعضنا يصنع لبعض الطعام. وكان أبو هريرة ممن يصنع لنا فيكثر، فيدعو إلى رحله. قلت: لو أمرت بطعام فصنع ودعوتهم إلى رحلي، ففعلت. ولقيت أبا هريرة بالعشي فقلت: الدعوة عندي الليلة. فقال: سبقتني يا أخا الأنصار. قال: فإنهم لعندي إذ قال أبو) هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار؟ فذكر فتح

(2/544)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 545
مكة. وقال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد على إحدى المجنبتين، وبعث الزبير على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر. ثم رآني فقال: يا أبا هريرة. قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله. قال: اهتف لي بالأنصار ولا تأتني إلا بأنصاري. قال: ففعلته. ثم قال: انظروا قريشاً وأوباشهم فاحصدوهم حصداً. فانطلقنا فما أحد منهم يوجه إلينا شيئاً، وما منا أحد يريد أحداً منهم إلا أخذه. وجاء أبو سفيان. فقال: يا رسول الله: أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم. فقال: يا رسول الله: أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن فألقوا سلاحهم. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ بالحجر فاستلمه، ثم طاف سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين. ثم جاء ومعه القوس وهو آخذ بسيتها، فجعل يطعن بها في عين صنم من أصنامهم، وهو يقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً. ثم انطلق حتى أتى الصفا، فعلا منه حتى يرى البيت، وجعل يحمد الله ويدعوه، والأنصار عنده يقولون: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته. وجاء الوحي، وكان الوحي إذا جاء لم يخف علينا. فلما أن رفع الوحي قال: يا معشر الأنصار قلتم كذا وكذا، كلا فما اسمي إذاً كلا، إني عبد الله ورسوله. المحيا محياكم

(2/545)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 546
والممات مماتكم. فأقبلوا يبكون وقالوا: يا رسول الله ما قلنا إلا الضن بالله وبرسوله. فقال: إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم. أخرجه مسلم. وعنده: كلا إني عبد الله ورسوله، وهاجرت إلى الله وإليكم. وفي الحديث دلالة على الإذن بالقتل قبل عقد الأمان. وقال سلام بن مسكين: حدثني ثابت البناني، عن عبد الله بن رباح، عن أبي هريرة قال: ما قتل يوم الفتح إلا أربعة. ثم دخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم. ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب فقال: ما تقولون وما تصنعون قالوا: نقول ابن أخ وابن عم حليم رحيم. فقال: أقول كما قال يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم. قال: فخرجوا كما نشروا من القبور. فدخلوا في الإسلام.) وقال عروة عن عائشة: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من كداء من أعلى مكة. وقال عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح رأى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وقال: كيف قال حسان فأنشده أبو بكر:

(2/546)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 547
(عدمت بنيتي إن لم تروها.......... تثير النقع من كنفي كداء)

(ينازعن الأعنة مسرجات.......... يلطمهن بالخمر النساء)
فقال: ادخلوها من حيث قال حسان. وقال الزهري، عن أنس، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح مكة وعلى رأسه المغفر، فلما وضعه جاء رجل فقال: هذا ابن خطل متعلق بأستار الكعبة. فقال: اقتلوه. متفق عليه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دم ابن خطل وثلاثة غيره. وقال منصور بن أبي مزاحم: ثنا أبو معشر، عن يوسف بن يعقوب، عن السائب بن يزيد. قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قتل عبد الله بن خطل يوم أخرجوه من تحت الأستار. فضرب عنقه بين زمزم والمقام. ثم قال: لا يقتل قرشي بعدها صبراً. وقال معاوية بن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن

(2/547)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 548
جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام. أخرجه مسلم. وفي مسند الطيالسي حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء. وقال مساور الوراق: سمعت جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه. قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء خرقانية، قد أرخى طرفها بين كتفيه. أخرجه مسلم. وقال ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن عائشة قالت: كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أبيض، ورايته سوداء قطعة من مرط لي مرجل، وكانت الراية تسمى العقاب.) قال عبد الله بن أبي بكر: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى ورأى ما أكرمه الله به من الفتح جعل يتواضع لله حتى إنك لتقول قد كاد عثنونه أن يصيب واسطة الرحل. وقال ثابت، عن أنس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وذقنه على رحله متخشعاً. حديث صحيح. وقال شعبة، عن معاوية بن قرة، سمع عبد الله بن مغفل، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح سورة الفتح وهو على بعير، فرجع فيها. ثم قرأ معاوية يحكي قراءة ابن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه، ولفظه للبخاري.

(2/548)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 549
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصباً، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاء الحق وما يبديء الباطل وما يعيد. جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً. متفق عليه. وقال ابن إسحاق: ثنا عبد الله بن أبي بكر، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وعلى الكعبة ثلاثمائة صنم، فأخذ قضيبه فجعل يهوي به إلى صنم صنم، وهو يهوي حتى مر عليها كلها. حديث حسن. وقال القاسم بن عبد الله العمري هو ضعيف عن عبد الله بن

(2/549)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 550
دينار، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة وجد بها ثلاثمائة وستين صنماً. فأشار إلى كل صنم بعصاً من غير أن يمسها. وقال: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، فكان لا يشير إلى صنم إلا سقط. وقال عبد الوارث، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة، أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت. فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل وفي أيديهما الأزلام، فقال: قاتلهم الله، أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط. ودخل البيت وكبر في نواحيه. أخرجه البخاري. وقال معمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخله حتى أمر بها فحميت. ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام،) فقال: قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط. صحيح. وقال أبو الزبير، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدخل البيت حتى محيت الصور. صحيح.

(2/550)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 551
وقال هوذة: ثنا عوف الأعرابي، عن رجل، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، شيبة بن عثمان فأعطاه المفتاح، وقال له: دونك هذا، فأنت أمين الله على بيته. قال الواقدي: هذا غلط، إنما أعطى المفتاح عثمان بن طلحة ابن عم شيبة يوم الفتح، وشيبة يومئذ كافر. ولم يزل عثمان على البيت حتى مات ثم ولي شيبة. قلت: قول الواقدي لم يزل عثمان على البيت حتى مات، فيه نظر. فإن أراد لم يزل منفرداً بالحجابة، فلا نسلم. وإن أراد مشاركاً لشيبة، فقريب. فإن شيبة كان حاجباً في خلافة عمر. ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم وفي الحجابة لشيبة لما أسلم. وكان إسلامه عام الفتح، لا يوم الفتح. وقال محمد بن حمران، أنا أبو بشرن عن مسافع بن شيبة، عن أبيه، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فصلى، فإذا فيها تصاوير، فقال: يا شيبة، اكفني هذه. فاشتد ذلك عليه. فقال له رجل: طينها ثم الطخها بزعفران. ففعل. تفرد به محمد، وهو مقارب للأمر. وقال يونس، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفاً أسامة، ومعه بلال وعثمان بن طلحة، من الحجبة، حتى أناخ في المسجد. فأمر عثمان أن يأتي بمفتاح البيت، ففتح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسامة وبلال وعثمان. فمكث فيها نهاراً طويلاً. ثم خرج فاستبق الناس، وكان عبد الله بن عمر أول من دخل، فوجد بلالاً وراء الباب، فسأله: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلى المكان الذي صلى فيه.

(2/551)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 552
قال ابن عمر: فنسيت أن أسأله: كم صلى من سجدة. صحيح. علقه البخاري محتجاً به. وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة قالت: لما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، طاف على بعيره، ويستلم الحجر بالمحجن. ثم دخل الكعبة وأنا أنظر فرمى بها.) وذكر أسباط، عن السدي، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: لما كان يوم فتح مكة، أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: اقتلوهم، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح. فأما ابن خطل فأدرك وهو متعلق بالأستار، فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عماراً، فقتله. وأما مقيس فقتلوه في السوق. وأما عكرمة فركب البحر، وذكر قصته، ثم أسلم. وأما ابن أبي سرح فاختبأ عند عثمان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، جاء به عثمان حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، بايع عبد الله. فرفع رأسه فنظر إليه

(2/552)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 553
ثلاثاً، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث. ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا، رآني كففت، فيقتله. قالوا: ما يدرينا، يا رسول الله، ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك قال: إنه لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة الأعين. وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: قدم مقيس بن صبابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد أظهر الإسلام، يطلب بدم أخيه هشام. وكان قتله رجل من المسلمين يوم بني المصطلق ولا يحسبه إلا مشركاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما قتل أخوك خطأ. وأمر له بديته، فأخذها، فمكث مع المسلمين شيئاً، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ولحق بمكة كافراً. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح بقتله، فقتله رجل من قومه يقال له نميلة بن عبد الله بين الصفا والمروة. وحدثني عبد الله بن أبي بكر، وأبو عبيدة بن محمد بن عمار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر بقتل ابن أبي سرح لأنه كان قد أسلم، وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي. فرجع مشركاً ولحق بمكة. قال ابن إسحاق: وإنما أمر بقتل عبد الله بن خطل أحد بني تيم بن غالب لأنه كان مسلماً، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً، وبعث معه رجلاً من

(2/553)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 554
الأنصار، وكان معه مولى يخدمه وكان مسلماً. فنزل منزلاً، فأمر المولى أن يذبح تيساً ويصنع له طعاماً، ونام فاستيقظ ولم يصنع له شيئاً فقتله وارتد. وكان له قينة وصاحبتها تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتلهما معه. وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.) وقال يعقوب القمي: ثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى، قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، جاءت عجوز حبشية شمطاء تخمش وجهها وتدعو بالويل. فقيل: يا رسول الله، رأينا كذا وكذا. فقال: تلك نائلة أيست أن تعبد ببلدكم هذا أبداً. كأنه منقطع. وقال يونس بن بكير، عن زكريا، عن الشعبي، عن الحارث بن مالك هو ابن برصاء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يقول: لا تغزى مكة بعد اليوم أبداً إلى يوم القيامة. وقال محمد بن فضيل: ثنا الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل، قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى. فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات. فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره. فقال: ارجع، فإنك لم تصنع شيئاً. فرجع خالد. فلما نظرت إليه السدنة وهم حجابها أمعنوا في الجبل وهم

(2/554)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 555
يقولون: يا عزى خبليه، يا عزى عوريه، وإلا فموتي برغم. فأتاها خالد، فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها. فعممها بالسيف حتى قتلها. ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره. فقال: تلك العزى. أبو الطفيل له رؤية. وقال ابن إسحاق: حدثني أبي قال: حدثني بعض آل جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة، أمر بلالاً فعلا على ظهر الكعبة، فأذن عليها. فقال بعض بني سعيد بن العاص: لقد أكرم الله سعيداً إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة. وقال عروة: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً يوم الفتح فأذن على الكعبة. وقال الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعيد بن أبي هند: أن أبا مرة مولى عقيل حدثه، أن أم هانئ بنت أبي طالب حدثته لما كان عام الفتح فر إليها رجلان من بني مخزوم، فأجارتهما. قالت: فدخل علي علي فقال: أقتلهما. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بأعلى مكة، فلما رآني رحب فقال: أقتلهما. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بأعلى مكة، فلما رآني رحب فقال: ما جاء بك يا أم هانئ قالت: يا نبي الله، كنت قد أمنت رجلين من أحمائي فأراد علي قتلهما. فقال: قد أجرنا من أجزت. ثم قام إلى غسله،

(2/555)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 556
فسترت عليه فاطمة. ثم أخذ ثوباً فالتحف به ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى. أخرجه مسلم. وقال الليث، عن المقبر، عن أبي شريح العدوي، أنه قال لعمرو بن سعيد، وهو يبعث البعوث) إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير، أحدث قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، ولا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقولوا له إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار. وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس. فليبلغ الشاهد الغائب. فقيل لأبي شريح: ماذا قال لك عمرو قال: قال أنا أعلم بذاك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة متفق عليه. وقال ابن عيينة، عن علي بن زيد، عمن حدثه عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو على درجة الكعبة: الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط أو العصا فيه مائة من الإبل، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها. ألا إن كل مأثرة في الجاهلية ودم ومال تحت قدمي هاتين إلا ما كان من سدانة البيت

(2/556)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 557
وسقاية الحاج، فقد أمضيتها لأهلها. ضعيف الإسناد. وقال ابن إسحاق حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عام الفتح، ثم قال: أيها الناس ألا إنه لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لا يزيده إلا شدة. والمؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، يرد سراياهم على قعيدتهم. لا يقتل مؤمن بكافر. دية الكافر نصف دية المسلم. لا جلب ولا جنب. ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم. وقال أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: منزلنا، إن شاء الله إذا فتح الله، الخيف حيث تقاسموا على الكفر. أخرجه البخاري. وقال أبو الأزهر النيسابوري، ثنا محمد بن شرحبيل الأنباري، أنا ابن جريج، أخبرنا عبد الله بن عثمان، أن محمد بن الأسود بن خلف، أخبره أن أباه الأسود حضر النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس يوم الفتح، وجلس عند قرن

(2/557)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 558
مسقلة، فجاءه الصغار والكبار والرجال والنساء فبايعوه على الإسلام والشهادة. وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي) بكر، قالت: لما كان عام الفتح ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا طوى، قال أبو قحافة لابنة له كانت من أصغر ولده: أي بنية: أشرفي بي على أبي قبيس، وقد كف بصره. فأشرفت به عليه. فقال: ماذا ترين قالت: أرى سواداً مجتمعاً، وأرى رجلاً يشتد بين ذلك السواد مقبلاً ومدبراً. فقال: تلك الخيل يا بنية، وذلك الرجل الوازع. ثم قال: ماذا ترين قالت: أرى السواد انتشر. فقال: فقد والله إذن دفعت الخيل، فأسرعي بي إلى بيتي. فخرجت سريعاً، حتى إذا هبطت به الأبطح، لقيتها الخيل، وفي عنقها طوق لها من ورق، فاقتطعه إنسان من عنقها. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هلا تركت الشيخ في بيته حتى أجيئه فقال: يمشي هو إليك يا رسول الله أحق من أن تمشي إليه. فأجلسه بين يديه ثم مسح صدره وقال: أسلم تسلم. فأسلم. ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته فقال: أنشد بالله والإسلام طوق أختي. فوالله ما أجابه أحد. ثم قال الثانية، فما أجابه أحد. فقال: يا أخية، احتسبي طوقك،

(2/558)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 559
فوالله إن الأمانة اليوم في الناس لقليل. وقال أبو الزبير، عن جابر: أن عمر أخذ بيد أبي قحافة فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: غيروا هذا الشيب ولا تقربوه سواداً. وقال زيد بن أسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هنأ أبا بكر بإسلام أبيه. مرسل. وقال مالك، عن ابن شهاب: أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على عهده نساء يسلمن بأرضهن، منهن ابنة الوليد بن المغيرة، وكانت تحت صفوان بن أمية، فأسلمت يوم الفتح وهرب صفوان. فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه عمير بن وهب برداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أماناً لصفوان، ودعاه إلى الإسلام، وأن يقدم عليه، فإن رضي أمراً قبله، وإلا سيره شهرين. فقدم فنادى على رؤوس الناس: يا محمد، هذا عمير بن وهب جاءني بردائك وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمراً قبلته، وإلا سيرتني شهرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنزل أبا وهب. فقال: لا والله، لا أنزل حتى تبين لي. فقال: بل لك تسيير أربعة أشهر. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هوازن، فأرسل إلى صفوان يستعيره أداة وسلاحاً. فقال صفوان: أطوعاً أو كرهاً فقال: بل طوعاً. فأعاره الأداة والسلاح. وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر، فشهد حينناً والطائف، وهو كافر وامرأته مسلمة. فلم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما حتى) أسلم، واستقرت عنده بذلك النكاح. وكان بين إسلامهما نحو من شهر.

(2/559)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 560
وكانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل، فأسلمت يوم الفتح، وهرب عكرمة حتى قدم اليمن. فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن ودعته إلى الإسلام فأسلم، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه وثب فرحاً به، ورمى عليه رداءه حتى بايعه. فثبتا على نكاحهما ذلك. وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن يزيد الهذلي، عن أبي حصين الهذلي قال: استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية خمسين ألف درهم، ومن عبد الله بن أبي ربيعة أربعين ألفاً، ومن حويطب بن عبد العزى أربعين ألفاً، فقسمها بين أصحابه من أهل الضعف. ومن ذلك المال بعث إلى جذيمة. وقال يونس، عن ابن شهاب، حدثني عروة، قالت عائشة: إن هنداً بنت عتبة بن ربيعة، قالت: يا رسول الله، ما كان مما على ظهر الأرض أهل أخباء، أو خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأيضاً، والذي نفس محمد بيده. قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل ممسك أو قالت: مسيك فهل علي من حرج أن أطعم من الذي له قال: لا، بالمعروف. أخرجه البخاري.

(2/560)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 561
وأخرجاه، من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري. وعنده: فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا. قال: لا عليك أن تطعميهم بالمعروف. وقال الفريابي: ثنا يونس، عن ابن إسحاق، عن أبي السفر، عن ابن عباس، قال: رأى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي والناس يطأون عقبه. فقال في نفسه: لو عاودت هذا الرجل القتال. فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضرب بيده في صدره، فقال: إذاً يخزيك الله. قال: أتوب إلى الله وأستغفر الله. وروى نحوه، مرسلاً، أبو إسحاق السبيعي، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم. وقال موسى بن أعين، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: لما كان ليلة دخل الناس مكة، لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا. فقال أبو سفيان لهند: أترى هذا من الله ثم اصبح فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: قلت لهند) أتري هذا من الله، نعم، هذا من الله. فقال: أشهد أنك عبد الله ورسوله. والذي يحلف به أبو سفيان، ما سمع قولي هذا أحد من الناس إلا الله وهند. وقال ابن المبارك، أنا عاصم الأحول، عن عكرمة، عن ابن عباس:

(2/561)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 562
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوماً، يصلي ركعتين. أخرجه البخاري. وقال حفص بن غياث، عن عاصم الأحول: سبعة عشر يوماً. صحيح. وقال ابن علية، أنا علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، يقول: يا أهل البلد صلوا أربعة، فإنا سفر. أخرجه أبو داود. علي ضعيف. وقال ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة. ثم روى ابن إسحاق، عن جماعة، مثل هذا. قال البيهقي: الأصح رواية ابن المبارك التي اعتمدها البخاري.

(2/562)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 563
وقال الواقدي: وفي رمضان بعث خالد بن الوليد إلى العزى، فهدمها. وبعث عمرو بن العاص إلى سواع في رمضان، وهو صنم هذيل، فهدمه. وقال قلت للسادن: كيف رأيت قال: أسلمت لله. قال: وفي رمضان بعث سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة، وكانت بالمشلل، للأوس والخزرج وغسان. فلما كان يوم الفتح بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارساً حتى انتهى إليها. وتخرج إلى سعد امرأة سوداء عريانة ثائرة الرأس تدعو بالويل، فقال لها السادن: مناة، دونك بعض غضباتك. وسعد يضربها، فقتلها. وأقبل إلى الصنم، فهدموه لست بقين من رمضان. وقال منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإن استنفرتم فانفروا. قاله يوم الفتح. متفق عليه.

(2/563)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 564
وقال عمرو بن مرة: سمعت أبا البختري يحدث عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت إذا جاء نصر الله والفتح قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: إني وأصحابي حيز، والناس حيز، لا هجرة بعد الفتح. فحدثت به مروان ابن الحكم وكان على المدينة فقال: كذبت.) وعنده زيد بن ثابت، ورافع ابن خديج، وكانا معه على السرير. فقلت: إن هذين لو شاءا لحدثاك، ولكن هذا يعني زيداً يخاف أن تنزعه عن الصدقة، والآخر يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه. قال: فشد عليه بالدرة، فلما رأيا ذلك قالا: صدق. وقال حماد بن زيد، عن أيوب، حدثني أبو قلابة، عن عمرو بن سلمة، ثم قال: هو حي، ألا تلقاه فتسمع منه فلقيت عمراً فحدثني بالحديث، قال: كنا بممر الناس، فتمر بنا الركبان فنسألهم: ما هذا الأمر وما للناس فيقولون: نبي يزعم أن الله قد أرسله، وأن الله أوحى إليه كذا وكذا. وكانت العرب تلوم بإسلامها الفتح، ويقولون: أنظروه، فإن ظهر فهو نبي فصدقوه. فلما كان وقعة الفتح، بادر كل قوم بإسلامهم. فانطلق أبي بإسلام حوائنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم فأقام عنده كذا وكذا، وصلاة كذا وكذا. وإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرأناً. فنظروا في أهل حوائنا فلم يجدوا أكثر قرآناً مني فقدموني، وأنا ابن سبع سنين، أو ست سنين.

(2/564)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 565
فكنت أصلي بهم، فإذا سجدت تقلصت بردة علي. تقول امرأة من الحي: غطوا عنا است قارئكم هذا. قال: فكسيت معقدة من معقد البحرين بستة دراهم أو سبعة، فما فرحت بشيء كفرحي بذلك. أخرجه البخاري، عن سليمان بن حرب، عنه.

(2/565)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 566

(2/566)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 567
(غزوة بني حذيمة)
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم السرايا فيما حول مكة يدعون إلى الله تعالى، ولم يأمرهم بقتال. فكان ممن بعث، خالد بن الوليد، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعياً، ولم يبعثه مقاتلاً. فوطئ بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فأصاب منهم. وقال معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى رجل أحسبه قال بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام. فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا. وجعل خالد يأمر بهم قتلاً وأسراً، ودلع إلى كل رجل منا أسيراً. حتى إذا أصبح يوماً أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره. فقال ابن عمر: فقلت والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره. قال: فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2/567)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 568
فذكر له صنيع خالد. فقال ورفع يديه صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد. مرتين. أخرجه البخاري.) وقال ابن إسحاق: حدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر محمد بن علي، قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد، فخرج حتى نزل ببني جذيمة، وهم على مائهم، وكانوا قد أصابوا في الجاهلية عمه الفاكه بن المغيرة، ووالد عبد الرحمن بن عوف فذكر الحديث، وفيه: فأمر خالد برجال منهم فأسروا وضربت أعناقهم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما عمل خالد بن الوليد. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فقال: أخرج إلى هؤلاء القوم، فأد دماءهم وأموالهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. فخرج علي، وقد أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مالاً، فودى لهم دماءهم وأموالهم، حتى إنه ليعطيهم ثمن ميلغة الكلب. فبقي مع علي بقية من مال، فقال: أعطيكم هذا احتياطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما لا يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما لا تعلمون. فأعطاهم إياه. ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فقال: أحسنت وأصبت. وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة، عن الزهري، حدثني ابن أبي حدرد، عن أبيه، قال: كنت في الخيل التي أصاب فيها خالد بني جذيمة، إذا فتى منهم مجموعة يده إلى عنقه

(2/568)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 569
برمة يقول: بحبل فقال: يا فتى، هل أنت آخذ بهذه الرمة فمقدمي إلى هذه النسوة، حتى أقضي إليهن حاجة، ثم تصنعون بي ما بدا لكم، فقلت: ليسير ما سألت. ثم أخذت برمته فقدمته إليهن، فقال: اسلمي حبيش، على نفد العيش. ثم قال:
(أريتك إن طالبتكم فوجدتكم.......... بحلية أو أدركتكم بالخوانق)

(ألم يك حقاً أن ينول عاشق.......... تكلف إدلاج السرى والودائق)

(فلا ذنب لي، قد قلت، إذ أهلنا معاً.......... أثيبي بود قبل إحدى الصفائق)

(فإني لا سراً لذي أضعته.......... ولا راق عيني بعد وجهك رائق)

(على أن ما بي للعشيرة شاغل.......... عن اللهو إلا أن تكون بوائق)
فقالت: وأنت حييت عشراً، وسبعاً وتراً، وثمانياً تترى. ثم قدمناه فضربنا عنقه.

(2/569)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 570
قال ابن إسحاق: فحدثنا أبو فراس الأسلمي، عن أشياخ من قومه قد شهدوا هذا مع خالد قالوا: فلما قتل قامت إليه، فما زالت ترشفه حتى ماتت عليه.

(2/570)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 571
(غزوة حنين)
) قال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر، عن عبد الله ابن جابر بن عبد الله، عن أبيه. وحدثني عمرو بن شعيب، والزهري، وعبد الله بن أبي بكر، عن حديث حنين، حين سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساروا إليه. فبعضهم يحدث بما لا يحدث به بعض. وقد اجتمع حديثهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من فتح مكة، جمع عوف بن مالك النصري بني نصر وبني جشم وبني سعد بن بكر، وأوزاعاً من بني هلال وهم قليل وناساً من بني عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، وأوعبت معه ثقيف الأحلاف، وبنو مالك. ثم سار بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساق معه الأموال والنساء والأبناء.

(2/571)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 572
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، فقال: اذهب فادخل في القوم حتى تعلم لنا من علمهم. فدخل فيهم، فمكث فيهم يوماً أو اثنين. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد فقال عمر: كذب. فقال ابن أبي حدرد: والله لئن كذبتني يا عمر لربما كذبت بالحق. فقال عمر: ألا تسمع يا رسول الله ما يقول ابن أبي حدرد فقال: قد كنت يا عمر ضالاً فهداك الله. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوان بن أمية فسأله أدراعاً عنده مائة درع، وما يصلحها من عدتها. فقال: أغصباً يا محمد قال: بل عارية مضمونة. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً. قال ابن إسحاق: ثنا الزهري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين في ألفين من مكة، وعشرة آلاف كانوا معه، فسار بهم. وقال ابن إسحاق: واستعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص ابن أمية. وبالإسناد الأول: أن عوف بن مالك أقبل فيمن معه ممن جمع من قبائل قيس وثقيف، ومعه دريد بن الصمة شيخ كبير في شجار له يقاد به، حتى

(2/572)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 573
نزل الناس بأوطاس. فقال دريد حين نزلوها فسمع رغاء البعير ونهيق الحمير ويعار الشاء وبكاء الصغيرة: بأي واد أنتم فقالوا: بأوطاس. فقال: نعم مجال الخيل لا حزن ضرس، ولا سهل دهس. مالي أسمع رغاء البعير وبكاء الصغير ويعار لشاء قالوا: ساق مالك مع الناس أموالهم وذراريهم قال: فأين هو فدعي مالك. فقال: يا مالك، إنك أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، فما) دعاك إلى أن تسوق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. فأنقض به دريد وقال: راعي ضأن والله وهل يرد وجه المنهزم شيء إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. فارفع الأموال والنساء والذراري إلى علياً قومهم وممتنع بلادهم. ثم قال دريد: وما فعلت كعب وكلاب فقالوا: لم يحضرها منهم أحد. فقال: غاب الحد والجد، فمن حضرها قالوا: عمرو ابن عامر، وعوف بن عامر فقال: ذانك الجذعان لا يضران ولا ينفعان. فكره مالك أن يكون لدريد فيها رأي، فقال: إنك قد كبرت وكبر علمك، والله لتطيعنني يا معشر هوازن، أو لأتكئن على هذا السيف حتى

(2/573)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 574
يخرج من ظهري. فقالوا: أطعناك. ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد. وقال الواقدي: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة لست خلون من شوال، في اثني عشر ألفاً. فقال أبو بكر: لا نغلب اليوم من قلة. فانتهوا إلى حنين، لعشر خلون من شوال. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتعبئة ووضع الألوية والرايات في أهلها. وركب بغلته ولبس درعين والمغفر والبيضة. فاستقبلهم من هوازن شيء لم يروا مثله من السواد والكثرة، وذلك في غبش الصبح. وخرجت الكتائب من مضيق الوادي وشعبة. فحملوا حملة واحدة، فانكشفت خيل بني سليم موليه، وتبعهم أهل مكة، وتبعهم الناس. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أنصار الله، وأنصار رسوله، أنا عبد الله ورسوله. وثبت معه يومئذ: عمه العباس وابنه الفضل، وعلي بن أبي طالب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأخوه ربيعة، وأبو بكر، وعمر، وأسامة بن زيد، وجماعة. وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، أنه حدث أن مالك بن عوف بعث عيوناً، فأتوه وقد تقطعت أوصالهم. فقال: ويلكم، ما شأنكم فقالوا: أتانا رجال بيض على خيل بلق، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى. فما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد. منقطع.

(2/574)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 575
وعن الربيع بن أنس، أن رجلاً قال: لن نغلب من قلة. فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم. وقال معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، سمع أبا سلام يقول: حدثني السلولي، أنه حدثه سهل) بن الحنظلية، أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فأطنبوا السير حتى كان عشية، فحضرت صلاة الظهر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فارس فقال: يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا فإذ أنا بهوازن على بكرة أبيهم، بظعنهم ونعمهم وشائهم، اجتمعوا إلى حنين. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله ثم قال: من يحرسنا الليلة قال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله. قال. فركب. فركب فرساً له، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا تغرن من قبلك الليلة. فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين، ثم قال: أحسستم فارسكم قالوا: يا رسول الله، لا. فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى صلاته وسلم قال: أبشروا، فقد جاء فارسكم. فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني كنت انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم. هل نزلت الليلة قال: لا، إلا مصلياً أو قاضي حاجة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد

(2/575)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 576
أوجبت، فلا عليك أن لا تعمل بعدها. أخرجه أبو داود. وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه، قال: خرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، فأعدوا وتهيأوا في مضايق الوادي وأحناثه. وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانحط بهم في الوادي في عماية الصبح. فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل فشدت عليهم، وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد. وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين يقول: أيها الناس، هلموا، إني أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله. فلا ينثني أحد. وركبت الإبل بعضها بعضاً. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس، ومعه رهط من أهل بيته ورهط من المهاجرين، والعباس آخذ بحكمة بغلته البيضاء، وثبت معه علي، وأبو سفيان، وربيعة ابنا الحارث، والفضل بن عباس، وأيمن بن أم أيمن، وأسامة، ومن المهاجرين أبو بكر وعمر. قال: ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء أمام هوازن، إذا أدرك الناس طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فيتبعوه. فلما) انهزم من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضعن. فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحور. وإن الأزلام لمعه في كنانته. قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر قال: سار أبو سفيان إلى حنين، وإنه ليظهر الإسلام، وإن الأزلام التي يستقسم بها في كنانته.

(2/576)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 577
قال شيبة بن عثمان العبدري: اليوم أدرك ثأري وكان أبوه قتل يوم أحد اليوم أقتل محمداً. قال: فأدرت برسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي، فلم أطق، فعرفت أنه ممنوع. وحدثني عاصم، عن عبد الرحمن، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى من الناس ما رأى قال: يا عباس، اصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة: فأجابوه: لبيك لبيك. فجعل الرجل منهم يذهب ليعطف بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيقذف درعه من عنقه، ويوم الصوت، حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة. فاستعرضوا الناس، فاقتتلوا. وكانت الدعوة أول ما كانت للأنصار، ثم جعلت آخراً بالخزرج، وكانوا صبراً عند الرحب، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم فقال: الآن حمي الوطيس. قال: فوالله ما رجعت راجعة الناس إلا والأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقتل الله من قتل منهم، وانهزم من انهزم منهم، وأفاء الله على رسوله أموالهم ونسائهم وأبناءهم. وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة. وقال موسى بن عقبة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى حنين، فخرج معه أهل مكة، لم يتغادر منهم أحد، ركباناً ومشاة حتى خرج النساء مشاة ينظرون ويرجون الغنائم، ولا يكرهون الصدمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقال ابن عقبة: جعل أبو سفيان كلما سقط ترس أو سيف من الصحابة،

(2/577)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 578
نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطونيه أحمله، حتى أوقر جمله. قالا: فلما أصبح القوم، اعتزل أبو سفيان، وابنه معاوية، وصفوان بن أمية، وحكيم بن حزام، وراءتل، ينظرون لمن تكون الدبرة. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل الصفوف فأمرهم، وحضهم على القتال. فبينا هم على ذلك حمل المشركون عليهم حملة رجل واحد،) فولوا مدبرين. فقال حارثة بن النعمان: لقد حزرت من بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أدبر الناس فقلت مائة رجل: ومر رجل من قريش على صفوان فقال: أبشر بهزيمة محمد وأصحابه، فوالله لا يجتبرونها أبداً. فقال: أتبشرني بظهور الأعراب فوالله لرب من قريش أحب إلي من رب من الأعراب. ثم بعث غلاماً له فقال: اسمع لمن الشعار فجاءه الغلام فقال: سمعتهم يقولون: يا بني عبد الرحمن، يا بني عبد الله، يا بني عبيد الله. فقال: ظهر محمد. وكان ذلك شعارهم في الحرب. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غشيه القتال قام في الركابين، ويقولون رفع يديه إلى الله تعالى يدعوه، يقول: اللهم إني أنشدك ما وعدتني، اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا. ونادى أصحابه: يا أصحاب البيعة يوم الحديبية، الله الله، الكرة على نبيكم. ويقال قال: يا أنصار الله وأنصار رسوله، يا بني الخزرج. وأمر من يناديهم بذلك. وقبض قبضة من الحصباء فحصب بها وجوه المشركين، ونواصيهم كلها. وقال: شاهت الوجوه. وأقبل إليه أصحابه سراعاً، وهزم الله المشركين. وفر مالك بن عوف

(2/578)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 579
حتى دخل حصن الطائف في ناس من قومه. وأسلم حينئذ ناس كثير من أهل مكة، حين رأوا نصر الله رسوله. مختصر من حديث ابن عقبة. وليس عند عروة قيام النبي صلى الله عليه وسلم في الركابين، ولا قوله: يا أنصار الله. وقال شعبة: عن أبي إسحاق، سمع البراء، وقال له رجل: يا أبا عمارة، أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قال: لكن رسول الله لم يفر. إن هوازن كانوا رماة، فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا، فأقبل الناس على الغنائم، فاستقبلوا بالسهام، فانهزم الناس. فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(أنا النبي لا كذب.......... أنا ابن عبد المطلب)
متفق عليه. وأخرجه البخاري ومسلم. من حديث زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق. وفيه: ولكن خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسراً ليس عليهم كثير سلاح، فلقوا قوماً رماة لا يكاد يسقط لهم سهم. وزاد فيه مسلم، من حديث زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق: اللهم نزل نصرك. قال: وكنا) إذا

(2/579)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 580
حمي البأس نتقي به صلى الله عليه وسلم. وقال هشيم، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن سعيد بن العاص، أخبرني سيابة بن عاصم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: أنا ابن الغواتك. وقال أبو عوانة، عن قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بعض مغازيه: أنا ابن العواتك. وقال يونس، عن ابن شهاب: حدثني كثير بن العباس بن عبد المطلب، قال: قال العباس: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث. ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، أهداها له فروة ابن نفاثة الجذامي. فلما التقى المسلمون والكفار، ولى المسلمون مدبرين. فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، وآنا آخذ بلجامها، أكفها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركابه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أي عباس، ناد أصحاب السمرة. فقال عباس وكان رجلاً صيتاً فقلت بأعلى صوتي: أي أصحاب السمرة. قال: فوالله، لكأنما عطفتهم حين سمعوا صوتي، عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيكاه، يا لبيكاه. فاقتتلوا هم والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار. ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج، فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج، يا بني الحارث بن الخزرج. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته، كالمتطاول

(2/580)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 581
عليها إلى قتالهم فقال: هذا حين حمي الوطيس، ثم أخذ حصيات فرمى بهن في وجوه الكفار. ثم قال: انهزموا ورب محمد. فذهبت أنظر، فإذا القتال على هيئته فيما أرى، فوالله ما هو إلا أن رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلاً وأمرهم مدبراً. أخرجه مسلم. وروى معمر، عن الزهري، عن كثير، نحوه، لكن قال: فروة بن نعامة الجذامي، وقال: انهزموا ورب الكعبة. وقال عكرمة بن عمار: حدثني إياس بن سلمة، حدثني أبي، قال: غزونا مع رسول الله حنيناً، فلما واجهنا العدو، تقدمت فأعلوا ثنية فأستقبل رجلاً من العدو فأرميه بسهم، وتوارى عني، فما دريت ما صنع. ثم نظرت إلى القوم، فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا هم والمسلمون، فولى المسلمون، فأرجع منهزماً، وعلي بردتان مؤتزراً بإحداهما، مرتدياً بالأخرى. ومررت) على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزماً وهو على بغلته الشهباء، فقال: لقد رأى ابن الأكوع فزعاً. فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب. ثم استقبل به وجوههم، فقال: شاهت الوجوه. فما خل الله منهم إنساناً إلا ملأ عينه تراباً من تلك القبضة. فولوا مدبرين. وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين. أخرجه مسلم. وقال أبو داود في مسنده: ثنا حماد بن سلمة، عن يعلى ين عطاء، عن

(2/581)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 582
عبد الله بن يسار، عن أبي عبد الرحمن الفهري، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين. فذكر الحديث، وفيه: فحدثني من كان أقرب إليه مني أنه أخذ حفنة من تراب، فحثا بها في وجوه القوم، وقال: شاهت الوجوه. قال يعلى ابن عطاء: فأخبرنا أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: ما بقي منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه من التراب. وسمعنا صلصلة من السماء كمر الحديد على الطست، فهزمهم الله. وقال عبد الواحد بن زياد، ثنا الحارث بن حصيرة، ثنا القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال ابن مسعود: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فولى عنه الناس، وبقيت معه في ثمانين رجلاً من المهاجرين والأنصار، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة. قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته يمضي قدماً، فحادت البغلة فمال عن السرج، فشده نحوه، فقلت: ارتفع، رفعك الله. قال: ناولني كفاً من تراب. فناولته، فضرب به وجوههم، فامتلأت أعينهم تراباً. قال: أين المهاجرون والأنصار قلت: هم هاهنا. قال: اهتف بهم. فهتفت بهم، فجاؤوا وسيوفهم بأيمانهم كأنهم الشهب وولى المشركون أدبارهم. وقال البخاري في تاريخه: ثنا أبو عاصم، ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، أخبرني عبد الله بن عياض بن الحارث، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى هوازن في اثني عشر ألفاً، فقتل من أهل الطائف يوم حنين مثل من قتل يوم بدر. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاً من حصباء فرمى به وجوهنا، فانهزمنا.

(2/582)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 583
وقال جعفر بن سليمان: ثنا عوف، ثنا عبد الرحمن مولى أم برثن، عمن شهد حنيناً كافراً، قال: لما التقينا والمسلمون لم يقوموا لنا حلب شاة، فجئنا نهش سيوفنا بني يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا غشيناه إذا بيننا وبينه رجال حسان الوجوه، فقالوا: شاهت الوجوه،) فارجعوا. فهزمنا من ذلك الكلام. إسناده جيد. وقال الوليد بن مسلم، وغيره، حدثني ابن المبارك، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة، عن شيبة بن عثمان، قال: لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قد عري، ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما. فقلت: اليوم أدرك ثأري من محمد. فذهبت لأجيئه عن يمينه، فإذا أنا بالعباس قائم، عليه درع بيضاء كأنها فضة يكشف عنها العجاج، فقلت عمه ولن يخذله. قال: ثم جئته عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث، فقلت: ابن عمه ولن يخذله. قال: ثم جئته من خلفه فلم يبق إلا أن أسوره سورة بالسيف، إذ رفع لي شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق، فخفت يمحشني، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى. والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا شيب، يا شيب، ادن مني، اللهم أذهب عنه الشيطان. فرجعت إليه بصري، فلهوا أحب إلي من سمعي وبصري. وقال: يا شيب، قاتل الكفار. غريب جداً. وقال أيوب بن جابر، عن صدقه بن سعيد، عن مصعب بن شيبة، عن

(2/583)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 584
أبيه، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما أخرجني إسلام، ولكن أنفت أن تظهر هوازن على قريش. فقلت وأنا واقف معه: يا رسول الله، إني أرى خيلاً بلقاً. قال: يا شيبة، إنه لا يراها إلا كافر. فضرب يده على صدري، ثم قال: اللهم اهد شيبة فعل ذلك ثلاثاً، حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إلي منه. وذكر الحديث. وقال ابن إسحاق: وقال مالك بن عوف، يذكر مسيرهم بعد إسلامه:
(اذكر مسيرهم للناس إذ جمعوا.......... ومالك فوقه الرايات تختفق)

(ومالك مالك ما فوقه أحد.......... يومي حنين عليه التاج يأتلق)

(حتى لقوا الناس خير الناس يقدمهم.......... عليهم البيض والأبدان والدرق)

(فضاربوا الناس حتى لم يروا أحداً.......... حول النبي وحتى جنه الغسق)

(حتى تنزل جبريل نصرهم.......... فالقوم منهزم منهم ومعتنق)

(منا ولو غير جبريل يقاتلنا.......... لمنعتنا إذاً أسيافنا الغلق)

(وقد وفى عمر الفاروق إذ هزموا.......... بطعنة بل منها سرجه العلق)
وقال مالك، في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن عمر بن كثير بن أفلح، عن أبي محمد مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين، فلما التقينا) كان للمسلمين جولة. قال: فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فاستدرت له فضربته بالسيف على حبل عاتقه، فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت. ثم أدركه الموت فأرسلني. فأدركت عمر فقلت: ما بال الناس قال: أمر الله. ثم إن الناس رجعوا. وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من قتل قتيلاً له عليه بينة

(2/584)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 585
فله سلبه. فقمت ثم قلت: من يشهد لي ثم جلست. ثم قال: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه. فقمت ثم قلت: من يشهد لي. ثم الثالثة، فقمت، فقال: مالك يا أبا قتادة فاقتصصت عليه القصة. فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله، وسلب ذلك القتيل عندي، فأرضه منه. فقال أبو بكر الصديق: لاها الله ذا، يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله، فيعطيك سلبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق، فأعطه إياه. فأعطانيه. فبعث الدرع، فابتعت به مخرفاً في بني سلمة. فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام. أخرجه البخاري، وأبو داود عن القعنبي، ومسلم. وقال حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: من قتل قتيلاً فله سلبه. فقتل يومئذ أبو طلحة عشرين رجلاً وأخذ أسلابهم. صحيح. وبه عن أنس، قال: لقي أبو طلحة أم سليم يوم حنين ومعها خنجر، فقال: يا أم سليم، ما هذا قالت: أردت إن دنا مني بعضهم أن أبعج به بطنه. فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم.

(2/585)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 586

(2/586)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 587
(غزوة أوطاس)
وقال شيخنا الدمياطي في السيرة له: كان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمراً قد أرخوها بين أكتافهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه. وأمر بطلب العدو. فانتهى بعضهم إلى الطائف، وبعضهم نحو نخلة، ووجه قوم منهم إلى أوطاس. فعقد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عامر الأشعري لواء ووجهه في طلبهم، وكان معه سلمة بن الأكوع، فانتهى إلى عسكرهم، فإذا هم ممتنعون. فقتل أبو عامر منهم تسعة مبارزة. ثم برز له العاشر معلماً بعمامة صفراء، فضرب أبو عامر منهم تسعة مبارزة. ثم برز له العاشر معلماً بعمامة صفراء، فضرب أبا عامر فقتله. واستخلف أبو عامر أبا موسى الأشعري،

(2/587)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 588
فقاتلهم. حتى فتح الله عليه.) وقال أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين، بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دريد ابن الصمة، فقتل دريد، وهزم الله أصحابه، ورمي أبو عامر في ركبته، رماه رجل من بني جشم، فأثبته في ركبته، فانتهيت إليه، فقلت: يا عم، من رماك فأشار إلي أن ذاك قاتلي تراه. فقصدت له، فاعتمدته، فلحقته. فلما رآني ولى عني ذاهباً، فاتبعته، وجعلت أقول له: ألا تستحي ألست عربياً ألا تثبت فكف، فالتقينا، فاختلفنا ضربتين، أنا وهو، فقتلته. ثم رجعت إلى أبي عامر فقلت: قد قتل الله صاحبك. قال: فانتزع هذا السهم. فنزعته، فنزا منه الماء. فقال: يا بن أخي، انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقره مني السلام، ثم قل له يستغفر لي. قال: واستخلفني أبو عامر على الناس فمكث يسيراً ومات. وذكر الحديث متفق عليه. وقال ابن إسحاق: وقتل يوم حنين من ثقيف سبعون رجلاً تحت رايتهم. وانهزم المشركون، فأتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف. وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نخلة. وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم، فأدرك ربيعة بن رفيع ويقال ابن الدغنة دريد بن الصمة فأخذ بخطام جمله، وهو يظن أنه امرأة، فإذا شيخ كبير ولم يعرفه الغلام. فقال له

(2/588)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 589
دريد: ماذا تريد بي قال: أقتلك. قال: ومن أنت قال: ربيعة بن رفيع السلمي. ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئاً. فقال: بئس ما سلحتك أمك. خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل، ثم اضرب به، وارفع عن العظام، واخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أضرب الرجال. ثم إذا أتبعت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب يوم والله قد منعت فيه نساءك. فقتله. فقيل: لما ضربه ووقع تكشف، فإذا عجانه وبطون فخذيه أبيض كالقرطاس من ركوب الخيل أعراء. فلما رجع إلى أمه أخبرها بقتله، فقالت: أما والله لقد أعتق أمهات لك. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثار من توجه إلى أوطاس، أبا عامر الأشعري فرمي بسهم فقتل. فأخذ الراية أبو موسى فهزمهم. وزعموا أن سلمة بن دريد هو الذي رمى أبا عامر بسهم. واستشهد يوم حنين: أيمن بن عبيد، ولد أم أيمن مولى بني هاشم. ويزيد بن زمعة بن الأسود الأسدي القرشي. وسراقة بن حباب بن عدي العجلاني الأنصاري. وأبو عامر عبيد الأشعري. ثم جمعت الغنائم، فكان عليها مسعود بن عمرو. وإنما تقسم بعد الطائف.)

(2/589)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 590

(2/590)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 591
(غزوة الطائف)
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين يريد الطائف في شوال. وقدم خالد بن الوليد على مقدمته. وقد كانت ثقيف رموا حصنهم وأدخلوا فيه ما يكفيهم سنة، فلما انهزموا من أوطاس دخلوا الحصن وتهيأوا للقتال. قال محمد بن شعيب، عن عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الطائف فحاصرهم، ونادى مناديه: من خرج منهم من عبيدهم فهو حر. فاقتحم إليه من حصنهم نفر، منهم أبو بكرة ابن مسروح أخو زياد من أبيه، فأعتقهم. ودفع كل رجل منهم إلى رجل من أصحابه ليحمله. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى على الجعرانة. فقال: إني معتمر.

(2/591)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 592
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة. وقال إسماعيل بن إبراهيم ابن عقبة، عن عمه موسى، قالا: ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وترك السبي بالجعرانة، وملئت عرش مكة منهم. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكمة عند حصن الطائف بضع عشرة ليلة، يقاتلهم. وثقيف ترمي بالنبل، وكثرت الجراح، وقطعوا طائفة من أعنابهم ليغيظوهم بها. فقالت ثقيف: لا تفسدوا الأموال فإنها لنا أو لكم. واستأذنه المسلمون في مناهضة الحصن فقال: ما أرى أن نفتحه، وما أذن لنا فيه. وزاد عروة قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يقطع كل رجل من المسلمين خمس نخلات أو حبلات من كرومهم. فأتاه عمر فقال: يا رسول الله، إنها عفاء لم تؤكل ثمارها. فأمرهم أن يقطعوا ما أكلت ثمرته، الأول فالأول. وبعث منادياً ينادي: من خرج إلينا فهو حر. وقال ابن إسحاق: لم يشهد حنيناً ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة، كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق. ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم على نخلة إلى الطائف، وابتنى بها مسجداً وصلى فيه. وقتل ناس من أصحابه بالنبل. ولم يقدر المسلمون أن يدخلوا حائطهم، أغلقوه دونهم. وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم بضعاً وعشرين ليلة، ومعه

(2/592)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 593
امرأتان من نسائه إحداهما أم سلمة بنت أبي أمية. فلما أسلمت ثقيف بني على مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو) أمية بن عمرو بن وهب مسجداً. وكان في ذلك المسجد سارية لا تطلع عليها الشمس يوماً من الدهر فيما يذكرون، إلا سمع لها نقيض. والنقيض صوت المحامل. وقال يونس بن بكير، عن هشام بن سنبر، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي نجيح السلمي، قال: حاصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الطائف. فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من بلغ بسهم فله درجة في الجنة. فبلغت يومئذ ستة عشر سهماً. وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رمى بسهم في سبيل الله فهو له عدل محرر. وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أمها، قالت: كان عندي مخنث، فقال لأخي عبد الله: إن فتح الله عليكم الطائف غداً، فإني أدلك على ابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله فقال: لا يدخلن هذا عليكم. متفق عليه بمعناه.

(2/593)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 594
وقال الواقدي عن شيوخه، أن سلمان الفارسي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم يعني الطائف فإنا كنا بأرض فارس ننصبه على الحصون، فإن لم يكن منجنيق طال الثواء. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمل منجنيقاً بيده، فنصبه على حصن الطائف. ويقال: قدم بالمنجنيق يزيد بن زمعة، ودبابتين. ويقال: الطفيل بن عمرو قدم بذلك. قال: فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فحرقت الدبابة. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعنابهم وتحريقها. فنادى سفيان بن عبد الله الثقفي: لم تقطع أموالنا فإنما هي لنا أو لكم. فتركها. وقال أبو الأسود، عن عروة، من طريق ابن لهيعة: أقبل عيينة بن حصن حتى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ايذن لي أن أكلمهم، لعل الله أن يهديهم. فأذن له. فانطلق حتى دخل الحصن، فقال: بأبي أنتم، تمسكوا بمكانكم، والله لنحن أذل من العبيد، وأقسم بالله لئن حدث به حدث ليملكن العرب عزاً ومنعة، فتمسكوا بحصنكم. ثم خرج فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا قلت قال: دعوتهم إلى الإسلام، وحذرتهم النار وفعلت. فقال: كذبت، بل قلت كذا وكذا. قال: صدقت يا رسول الله، أتوب إلي الله وإليك. أخبرنا محمد بن عبد العزيز المقرئ سنة اثنتين وتسعين وستمائة ومحمد بن أبي الحزم،) وحسن بن علي، ومحمد بن أبي الفتح الشيباني،

(2/594)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 595
ومحمد بن أحمد العقيلي، ومحمد بن يوسف الذهبي. وآخرون، قالوا: أنا أبو الحسن بن علي بن محمد السخاوي. ح وأنا عبد المعطي بن عبد الرحمن بالإسكندرية، أنا عبد الرحمن ابن مكي. ح وأنا لؤلؤ المحسني بمصر، وعلي بن أحمد، وعلي بن محمد، الحنبليان، وآخرون، قالوا: أنا أبو الحسن عيل بن هبة الله الفقيه، قال: أنا أبو طاهر أحمد بن أحمد بن سلفة الحافظ، أنا أبو الحسن مكي بن منصور الكرجي. وقرأت على سنقر القضائي بحلب، أخبرك عبد اللطيف بن يوسف. وسمعته، سنة اثنتين وتسعين على عائشة بنت عيسى بن الموفق، أنا جدي أبو محمد قدامة، وسنة أربع عشرة وستمائة حضوراً، قالا: أنا أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي، أنا محمد بن أحمد الساوي سنة سبع وثمانين وأربعمائة، قالا: أنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا زكريا بن يحيى المروزي ببغداد، ثنا سفيان ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي العباس، عن عبد الله بن عمر، قال: حاصر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، فلم ينل منهم شيئاً. قال: إنا قافلون غداً إن شاء الله. فقال المسلمون: أنرجع ولم نفتحه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغدوا على القتال غداً. فأصابهم جراح. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قافلون غداً إن شاء الله. فأعجبهم ذلك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم.

(2/595)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 596
أخرجه مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان هكذا. وعنده: عبد الله بن عمرو، في بعض النسخ بمسلم. وأخرجه البخاري عن ابن المديني، عن سفيان، فقال عبد الله بن عمر. وقال البخاري: قال الحميدي، ثنا سفيان، نا عمرو، سمعت أبا العباس الأعمى يقول: سمعت عبد الله بن عمر بن الخطاب. وقال أبو القاسم البغوي: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا ابن عيينة، فذكره وقال فيه: عبد الله بن عمرو. ثم قال أبو بكر: وسمعت ابن عيينة يحدث به، مرة أخرى، عن ابن عمر. وقال المفضل بن غسان الغلابي، أظنه عن ابن معين، قال أبو العباس الشاعر، عن عبد الله بن) عمرو، وابن عمر في فتح الطائف: الصحيح ابن عمر. قال: واسم أبي العباس: السائب بن فروخ مولى بني كنانة. وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ارتحل عن الطائف بأصحابه ودعا حين ركب قائلاً: اللهم اهدهم واكفنا مؤنتهم. وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، وعبد الله بن المكدم، عمن أدركوا، قالوا: حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف ثلاثين ليلة أو قريباً

(2/596)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 597
من ذلك. ثم انصرف عنهم، فقدم المدينة، فجاءه وفدهم في رمضان فأسلموا. وقال ابن إسحاق: واستشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف: سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية. وعرفطة بن حباب وعبد الله بن أبي بكر الصديق، رمي بسهم فمات بالمدينة في خلافة أبيه. وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي أخو أم سلمة. وأمه عاتكة بنت عبد المطلب. وكان يقال لأبي أمية واسمه حذيفة: زاد الراكب. وكان عبد الله شديداً على المسلمين، قيل هو الذي قال: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً وما بعدها. ثم أسلم قبل فتح مكة بيسير، وحسن إٍ سلامه. وهو الذي قال له هيت المخنث: يا عبد الله، إن فتح الله عليكم الطائف، فإني أدلك على ابنه غيلان الحديث. وعبد الله بن عامر بن ربيعة. والسائب بن الحارث. وأخوه: عبد الله. وجليحة بن عبد الله.

(2/597)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 598
ومن الأنصار: ثابت بن الجذع. والحارث بن سهل بن أبي صعصعة. والمنذر بن عبد الله. ورقيم بن ثابت. فذلك اثنا عشر رجلاً، رضي الله عنهم. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار نوفل بن معاوية الديلي في أهل الطائف فقال: ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك.

(2/598)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 599
(قسم غنائم حنين وغير ذلك)
قال ابن إسحاق ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، على رحيل، حتى نزل بالناس بالجعرانة. وكان معه) من سبي هوازن ستة آلاف من الذرية، ومن الإبل والشاء ما لا يدرى عدته. وقال معتمر بن سليمان، عن أبيه، ثنا السمط، عن أنس، قال: افتتحنا مكة، ثم إنا غزونا حنيناً، فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت. قال: فصف الخيل، ثم صفت المقاتلة، ثم صف النساء من وراء ذلك، ثم صف الغنم ثم صف النعم. قال: ونحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف أظنه يريد الأنصار. قال: وعلى مجنبة خيلنا خالد بن الوليد. فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا. فلم نلبث أن انكشفت خيلنا وفرت الأعراب. فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا للمهاجرين يا للمهاجرين، يا للأنصار يا للأنصار. قال أنس: هذا حديث عمية.

(2/599)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 600
قلنا: لبيك، يا رسول الله. فتقدم، فأيم الله ما أتيناهم حتى هزمهم الله. قال فقبضنا ذلك المال، ثم انطلقنا إلى الطائف. قال: فحاصرناهم أربعين ليلة. ثم رجعنا إلى مكة ونزلنا. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل أربعين ليلة. ثم رجعنا إلى مكة ونزلنا. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل المائة، ويعطي الرجل المائة. فتحدثت الأنصار بينهم: أما من قاتله فيعطيه، وأما من لم يقاتله فلا يعطيه. قال: ثم أمر بسراة المهاجرين والأنصار لما بلغه الحديث أن يدخلوا عليه. فدخلنا القبة حتى ملأناها. فقال: يا معشر الأنصار ثلاث مرات، أو كما قال ما حديث أتاني قالوا: ما أتاك يا رسول الله. قال: أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبوا برسول الله حتى تدخلوه بيوتكم قالوا: رضينا. فقال: لو أخذ الناس شعباً وأخذت الأنصار شعباً أخذت شعب الأنصار. قالوا: رضينا يا رسول الله. قال: فارضوا. أخرجه مسلم. وقال ابن عون، عن هشام، عن زيد، عن أنس، قال: لما كان يوم حنين فذكر القصة، إلى أن قال: وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ غنائم كثيرة، فقسم في المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار شيئاً. فقالت الأنصار: إذا كانت الشدة فنحن ندعى، ويعطى الغنيمة غيرنا. قال: فبلغه ذلك، فجمعهم في قبة وقال: أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا، وتذهبوا برسول الله صلى الله تحوزونه إلى بيوتكم قالوا: بلى، يا رسول الله، رضينا. فقال: لو سلك الناس وادياً، وسلكت الأنصار شعباً، لأخذت شعب الأنصار. متفق عليه.

(2/600)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 601
وقال شعيب، وغيره، عن الزهري، حدثني أنس، أن ناساً من الأنصار قالوا: يا رسول الله حين أفاء الله عليهم من أموال هوازن ما أفاءه، فطفق يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل،) فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشاً ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمعهم في قبة من أدم، ولم يدع معهم أحداً غيرهم. فلما اجتمعوا قال: ما حديث بلغني عنكم فقال له فقهاؤهم: أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئاً. فقال: فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم. أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به. قالوا: قد رضينا. فقال: إنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله، ورسوله على الحوض. قال أنس: فلم نصبر. متفق عليه. وقال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد، قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتألفين من قريش، وفي سائر العرب، ولم يكن في الأنصار منها قليل ولا كثير، وجدوا في أنفسهم. وذكر نحو حديث أنس. وقال ابن عيينة، عن عمر بن سعيد بن مسروق، عن أبيه، عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة

(2/601)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 602
قلوبهم من سبي حنين، كل رجل منهم مائة من الإبل. فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة، وأعطى صفوان بن أمية مائة. وأعطى عيينة بن حصن مائة، وأعطى الأقرع بن حابس مائة، وأعطى علقمة بن علاثة مائة، وأعطى مالك بن عوف النصري مائة، وأعطى العباس بن مرداس دون المائة. فأنشأ العباس يقول:
(أتجعل نهبي ونهب العبي.......... يد بين عيينة والأقرع)

(وما كن حصن ولا حابس.......... يفوقان مرداس في المجمع)

(وقد كنت في الحرب ذا تدرأ.......... فلم أعط شيئاً ولم أمنع)

(وما كنت دون امرئ منهما.......... ومن تضع اليوم لا يرفع)
فأتم له مائة. أخرجه مسلم، دون ذكر مالك بن عوف، وعلقمة، ودون البيت الثالث. وقال عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم: أبا سفيان، وحكيم بن جزام، والحارث بن هشام المخزومي، وصفوان بن أمية الجمحي، وحويطب ابن عبد العزى العامري أعطى كل واحد مائة ناقة. وأعطى قيس بن عدي السهمي خمسين ناقة، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين.) فهؤلاء من أعطى من قريش.

(2/602)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 603
وأعطى العلاء بن حارثة مائة ناقة، وأعطى مالك بن عوف مائة ناقة، ورد إليه أهله، وأعطى عيينة بن بدر الفزاري مائة ناقة، وأعطى عباس بن مرداس كسوة. فقال عبد الله بن أبي بن سلول للأنصار: قد كنت أخبركم أنكم ستلون حرها ويلي بردها غيركم. فتكلمت الأنصار فقالوا: يا رسول الله، عم هذه الأثرة فقال: يا معشر الأنصار، ألم أجدكم مفترقين فجمعكم الله، وضلالاً فهداكم الله، ومخذولين فنصركم الله. ثم قال: والذي نفسي بيده، لو تشاؤون لقلتم ثم لصدقتم ولصدقتم: ألم نجدك مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، ومحتاجاً فواسيناك. قالوا: لا نقول ذلك، إنما الفضل من الله ورسوله والنصر من الله ورسوله. ولكنا أحببنا أن نعلم فيم هذا الأثرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوم حديثو عهد بعز وملك، فأصابتهم نكبة فضعضعتهم ولم يفقهوا كيف الإيمان، فأتألفهم. حتى إذا علموا كيف الإيمان وفقهوا ليه علمتهم كيف القسم وأين موضعه. وساق باقي الحديث. وقال جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً في القسمة، فأعطى الأقرع مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى ناساً من أشراف العرب وآثرهم يومئذ، فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله. فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتيته فأخبرته، فتغير وجهه حتى صار كالصرف، وقال: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ ثم قال:

(2/603)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 604
يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر. فقلت: لا جرم لا أرفع إليه بعد هذا حديثاً. متفق عليه. وقال الليث، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أتى رجل بالجعرانة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم غنائم منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها يعطي الناس. فقال: يا محمد، اعدل. فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل. فقال عمر: دعني أقتل هذا المنافق. قال: معاذ الله، أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. أخرجه مسلم. وقال شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري، قال: بينا نحن عند رسول) الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً، إذ أتاه ذو الخويصرة التميمي فقال: يا رسول الله اعدل. فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، لقد خبت وخسرت إن لم أعدل. فقال عمر: إيذن لي فيه يا رسول الله أضرب عنقه. قال: دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاه مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية وذكر الحديث. أخرجه البخاري. وقال عقيل، عن ابن شهاب، قال عروة: أخبرني مروان، والمسور بن

(2/604)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 605
مخزمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم ونساءهم. فقال: معي من ترون، وأحب الحديث إلي أصدقه. فاختاروا إما السبي، وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرهم تسع عشرة ليلة حين قفل من الطائف. فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: إنا نختار سبينا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإن إخوانكم هؤلاء قد جاؤونا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم. فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل. فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله لهم. فقال: إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم. فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم. ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه الخبر بأنهم قد طيبوا وأذنوا. أخرجه خ. وقال موسى بن عقبة: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى الجعرانة وبها السبي، وقدمت عليه وفود هوازن مسلمين، فيهم تسعة من أشرافهم فأسلموا وبايعوا. ثم كلموه فيمن أصيب قالوا: يا رسول الله. إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمات والخالات، وهن مخازي الأقوام. ونرغب إلى الله وإليك. وكان صلى الله عليه وسلم رحيماً جواداً كريماً.

(2/605)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 606
فقال: سأطلب لكم ذلك. قال: في القصة. وقال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب، وعروة: أن سبي هوازن كانوا ستة آلاف. وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين، فلما أصاب من هوازن ما أصاب من أموالهم) وسباياهم، أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا. فقالوا: يا رسول الله، إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا، من الله عليك. وقام خطيبهم زهير بن صرد. فقال: يا رسول الله: إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وعماتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، فلو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر، أو النعمان بن المنذر، ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك، رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت خير المكفولين. ثم أنشده أبياتاً قالها:
(أمنن علينا رسول الله في كرم.......... فإنك المرء نرجوه وندخر)

(امنن على بيضة اعتاقها حزن.......... ممزق شملها في دهرها غير)

(أبقت لها الحرب هتافاً على حزن.......... على قلوبهم الغماء والغمر)

(2/606)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 607
(إن لم تداركهم نعماء تنشرها.......... يا أرجح الناس حلماً حين يختبر)

(امنن على نسوة قد كنت ترضعها.......... وإذ يزينك ما تأتي وما تذر)

(لا تجعلنا كمن شالت نعامته.......... واستبق منا، فإنا معشر زهر)

(إنا لنشكر آلاء وإن كفرت.......... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نساؤكم أحب إليكم أم أموالكم فقالوا: خيرتنا بني أحسابنا وأموالنا، أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا. فقال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صليت بالناس فقوموا وقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله، في أبنائنا ونسائنا، سأعينكم عند ذلك وأسأل لكم. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر، قاموا فقالوا ما أمرهم به، فقال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله. قالت الأنصار كذلك. فقال الأقزع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا. فقال العابس بن مرداس السلمي: أما أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عيينة بن بدر: أما أنا وبنو فزارة فلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فيء نصيبه.

(2/607)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 608
فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعه الناس يقولون: يا رسول الله، اقسم علينا فيئنا، حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت عنه رداءه فقال: ردوا علي ردائي، فوالذي نفسي بيده لو كان لكم عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ما) لقيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً. ثم قام إلى جنب بعير وأخذ من سنامه وبرة فجعلها بين إصبعيه وقال: أيها الناس، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم. فأدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة. فجاء رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر فقال: أخذت هذه لأخيط بها برذعة بعير لي دبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما حقي منها فلك. فقال الرجل: أما إذا بلغ الأمر هذا فلا حاجة لي بها. فرمى بها. وقال أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة. فقال: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام. قال: اذهب فاعتكف. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه جارية من الخمس. فلما أن أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس، قال عمر: يا عبد الله، اذهب إلى تلك الجارية فخل سبيلها. أخرجه مسلم.

(2/608)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 609
وقال ابن إسحاق: حدثني أبو وجزة السعدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى من سبي هوازن علي بن أبي طالب جارية، وأعطى عثمان وعمر، فوهبها عمر لابنه. قال ابن إسحاق: فحدثني نافع، عن ابن عمر، قال: بعثت بجاريتي إلى أخوالي من بني جمح ليصحلوا لي منها حتى أطوف بالبيت ثم آتيهم. فخرجت من المسجد فإذا الناس يشتدون، فقلت: ما شأنكم فقالوا: رد علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءنا وأبناءنا. فقلت: دونكم صاحبتكم فهي في بني جمح فانطلقوا فأخذوها. قال ابن إسحاق: وحدثني أبو وجزة يزيد بن عبيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوفد هوازن: ما فعل مالك بن عوف قالوا: هو بالطائف. فقال: أخبروه أنه إن أتاني مسلماً رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل. فأتي مالك بذلك، فخرج إليه من الطائف. وقد كان مالك خاف من ثقيف على نفسه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمر براحلة فهيئت، وأمر بفرس له فأتي به، فخرج ليلاً ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركه بالجعرانة أو بمكة، فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل. فقال:
(ما إن رأيت ولا سمعت بمثله.......... وفي الناس كلهم بمثل محمد)
)
(أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدي.......... وإذا تشا يخبرك عما في غد)

(وإذا الكتيبة عردت أنيابها.......... أم العدى فيها بكل مهند)

(فكأنه ليث لدي أشباله.......... وسط المباءة خادر في مرصد)

(2/609)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 610
فاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وتلك القبائل من ثمالة وسلمة وفهم، كان يقاتل بهم ثقيفاً، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى يصيبه. قال ابن عساكر: شهد مالك بن عوف فتح دمشق. وله بها دار. وقال أبو عاصم: ثنا جعفر بن يحيى بن ثوبان، أخبرني عمي عمارة بن ثوبان، أن أبا الطفيل أخبره قال: كنت غلاماً أحمل عضو البعير، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لحماً بالجعرانة، فجاءته امرأة فبسط لها رداءه. فقلت: من هذه قالوا: أمه التي أرضعته. وروى الحكم بن عبد الملك، عن قتادة قال: لما كان يوم فتح هوازن جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أنا أختك شيماء بنت الحارث. قال: إن تكوني صادقة فإن بك مني أثراً لن يبلى. قال: فكشفت عن عضدها. ثم قالت: نعم يا رسول الله، حملتك وأنت صغير فعضضتني هذه العضة. فبسط لها رداءه ثم قال: سلي تعطي، واشفعي تشفعي. الحكم ضعفه ابن معين.

(2/610)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 611
(عمرة الجعرانة)
قال همام، عن قتادة، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة، إلا التي مع حجته: عمرة زمن الحديبية أو من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة أظنه قال العام المقبل، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته. متفق عليه. وقال موسى بن عقبة، وهو في مغازي عروة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالعمرة من الجعرانة في ذي القعدة، فقدم مكة فقضى عمرته. وكان حين خرج إلى حنين استخلف معاذاً على مكة، وأمره أن يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين. ثم صدر إلى المدينة وخلف معاذاً على أهل مكة.

(2/611)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 612
وقال ابن إسحاق: ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة معتمراً. وأمر ببقايا الفيء فحبس بمجنة. فلما فرغ من عمرته انصرف إلى المدينة، واستخلف عتاب بن أسيد على) مكة، وخلف معه معاذاً يفقه الناس. قلت: ولم يزل عتاب على مكة إلى أن مات بها يوم وفاة أبي بكر. وهو عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية الأموي. فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا عتاب، تدري على من استعملتك استعملتك على أهل الله، ولو أعلم لهم خيراً منك استعملته عليهم. وكان عمره إذ ذاك نيفاً وعشرين سنة، وكان رجلاً صالحاً روي عنه أنه قال: أصبت في عملي هذا بردين معقدين كسوتهما غلامي، فلا يقولن أحدكم أخذ مني عتاب كذا، فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم درهمين، فلا أشبع الله بطناً لا يشبعه كل يوم درهمان.

(2/612)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 613
وحج الناس في تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه.

(2/613)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 614

(2/614)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 615
(قصة كعب بن زهير)
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من منصرفه، كتب بجير بن زهير يعني إلى أخيه كعب بن زهير، يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالاً بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقي من شعراء قريش ابن الزبعرى، وهبيرة بن أبي وهب، قد هربوا في كل وجه. فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحداً جاءه تائباً، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الأرض. وكان كعب قد قال:
(ألا أبلغا عني بجيراً رسالة.......... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا)

(2/615)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 616
(فبين لنا إن كنت لست بفاعل.......... على أي شيء غير ذلك دلكا)

(على خلق لم ألف أماً ولا أباً.......... عليه وما تلفي عليه أخاً لكا)

(فإن أنت لم تفعل فلست بآسف.......... ولا قائل إما عثرت: لعاً لكا)

(سقاك بها المأمون كأساً ورية.......... فأنهلك المأمون منها وعلكا)
فلما أتيت بجيراً كره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده إياها. فقال لما سمع سقاك بها المأمون: صدق وإنه لكذوب. ولما سمع: على خلق لم تلف أماً ولا أباً عليه. قال: أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه. ثم قال بجير لكعب:
(من مبلغ كعباً فهل لك في التي.......... تلوم عليها باطلاً وهي أحزم)
) إلى اللهالعزى ولا اللاتوحدهفتنجو إذا كان النجاء وتسلم
(لدى يوم لا ينجو ولست بمفلت.......... من الناس إلا طاهر القلب مسلم)

(فدين زهير وهو لا شيء دينه.......... ودين أبي سلمى علي محرم)
فلما بلغ كعباً الكتاب ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان في حاضره من عدوه فقالوا: هو مقتول. فلما لم يجد من شيء بداً قال قصيدته، وقدم المدينة. وقال إبراهيم بن ديزيل، وغيره، ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير بن أبي سلمى

(2/616)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 617
المزني، عن أبيه، عن جده قال: خرج كعب وبجير ابنا زهير حتى أتيا أبرق العزاف فقال بجير لكعب: اثبت هنا حتى آتي هذا الرجل فأسمع ما يقول. قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإٍ سلام فأسلم، فبلغ ذلك كعباً فقال:
(ألا أبلغا عني بجيراً رسالة.......... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا)

(سقاك بها المأمون كأساً روية.......... وأنهلك المأمون منها وعلكا)
ويروى سقاك أبو بكر بكأس روية
(ففارقت أسباب الهدى وتبعته.......... على أي شيء ويب غيرك دلكا)

(على مذهب لم تلف أماً ولا أباً.......... عليه، ولم تعرف عليه أخاً لكا)
فاتصل الشعر بالنبي صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه. فكتب بجير إليه بذلك، ويقول له: النجاء، وما أراك تفلت. ثم كتب إليه: إعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتيه أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا قبل ذلك منه، وأسقط ما كان قبل ذلك. فأسلم كعب، وقال القصيدة التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه مكان المائدة من القوم، والقوم متحلقون معه حلقة دون حلقة، يلتفت إلى هؤلاء مرة فيحدثهم، وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم. قال كعب: فأنخت راحلتي، ودخلت، فعرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفة،

(2/617)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 618
فتخطيت حتى جلست إليه فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. الأمان يا رسول الله. قال ومن أنت قلت: أنا كعب بن زهير. قال: الذي يقول: ثم التفت إلى أبي بكر فقال: كيف قال) يا أبا بكر فأنشده.
(سقاك أبو بكر بكأس روية.......... وأنهلك المأمور منها وعلكا)
قلت: يا رسول الله، ما قلت هكذا. قال: فكيف قلت قلت إنما قلت: وأنهلك المأمون منها وعلكا فقال: مأمون، والله. قال: ثم أنشده:
(بانت سعاد فقلبي اليوم متبول.......... ميتم إثرها لم يلف مكبول)

(وما سعاد غداة البين إذ رحلوا.......... إلا أغن غضيض الطرف مكحول)

(تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت.......... كأنه منهل بالراح معلول)

(شجت بذي شبم من ماء محنية.......... صاد بأبطح أضحى وهو مشمول)

(تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه.......... من صوب سارية بيض يعاليل)

(أكرم بها خلة لو أنها صدقت.......... موعودها، أو لو أن النصح مقبول)

(لكنها خلة قد سيط من دمها.......... فجع وولع وإخلاف وتبديل)

(2/618)


تاريخ الإسلام للذهبي الجزء الثاني الصفحة 619
(فما تدوم على حال تكون بها.......... كما تلون في أثوابها الغول)

(ولا تمسك بالعهد الذي زعمت.......... إلا كما يمسك الماء الغرابيل)

(فلا يغرنك ما منت وما وعدت.......... إن الأماني والأحلام تضليل)

(كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً.......... وما مواعيدها إلا الأباطيل)

(أرجو وآمل أن تدنو مودتها.......... وما إخال لدينا منك تنويل)

(أمست سعاد بأرض لا يبلغها.......... إلا العتاق النجيبات المراسيل)

(ولن يبلغها إلا عذافرة.......... فيها على الأين إرقال وتبغيل)

(من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت.......... عرضتها طامس الأعلام مجهول)

(ترى الغيوب بعيني مفرد لهق.......... إذا توقدت الحزان والميل)

(ضخم مقلدها، فعم مقيدها.......... في خلقها عن بنات الفحل تفضيل)

(غلباء وجناء علكوم مذكرة.......... في دفها سعة قدامها ميل)

(وجلدها من أطوم ما يؤيسه.......... طلح بضاحية المتنين مهزول)
)
(حرف أبوها أخوها من مهجنة.......... وعمها خالها قوداء شمليل)

(يسعى الوشاة بدفيها وقيلهم.......... إنك يا بن أبي سلمى لمقتول)

(2/619)


(2/123)


=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المستدرك للحاكم فيه8803 كل احاديثه كلها صحيح ما عدا 160.حديث بعد تعقب الذهبي فضعف100 حديث وابن الجوزي60. حديث يصبح كل الصحيح في المستدرك 8743.حديثا

تعريف المستدركات وبيان كم حال أحاديث  مستدرك الحاكم النيسابوري إذ كل الضعيف 160 .حديثا وقد احصاها الذهبي فقال 100 حديث وذكر ابن الجوزي ...